اختلال التوازن بين الأغنياء والفقراء هو أقدم وأشد الأمراض فتكًا بكل الجمهوريات.
ـــ بلوتارخ
لم نتحدث كثيرًا عن الفقر وعدم المساواة بعد.
بالفعل، وهذا لأن الفقر وعدم المساواة لا يشكلان محورًا رئيسيًا في النماذج الاقتصادية الكلية التقليدية. فالاقتصاديون غالبًا ما يتعاملون مع المؤشرات الكبرى في الاقتصاد كما لو كانت سوائل تتحرك داخل خزانات "MONIAC" التي اخترعها بيل فيليبس. تلك القضايا المتعلقة بالعرض الكلي والطلب الكلي والإنتاج والأسعار الجامدة، لا تتيح لنا رؤية واضحة عن الكيفية التي يتم بها توزيع الثروة. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أهمية التساؤل: هل يتسم الاقتصاد بطبقة وسطى عريضة تنعم براحة نسبية، أم أنه يقتصر على نخبة ثرية تعزل نفسها عن بؤس الفقراء؟
يبدو أن قياس الفقر والثروة أمر صعب عندما نحاول المقارنة بين البلدان أو عبر الزمن. حتى الأسئلة التي تبدو بسيطة، مثل تحديد أغنى شخص عاش على الإطلاق، تصبح معقدة عند فحصها بتمعن. على سبيل المثال، إذا حاولنا مقارنة بيل غيتس بماركوس كراسوس، أشهر أثرياء الجمهورية الرومانية، سنجد أنفسنا في مواجهة مقارنة غير مألوفة: الطائرات الخاصة مقابل أقبية مليئة بالنبيذ وزيت الزيتون.
أعتقد أنني أهتم أكثر بمعالجة الفقر بدلاً من تصنيف الأثرياء عبر التاريخ.
لا خلاف على ذلك، ولكن يجب أن نواجه صعوبات مشابهة عند النظر إلى الطرف الآخر من السلم الدخل الاقتصادي. كيف نحدد الفقر؟
بالتأكيد، الفقر هو عدم القدرة على توفير الأساسيات مثل الطعام والملبس والمأوى.
إذًا، هذا تعريف مطلق للفقر، يعتمد على مقياس موضوعي للقوة الشرائية. وهناك تقليد طويل لهذا النوع من التعريف. من أبرز رواده "سيبوم رونتري"، الذي ينتمي لعائلة ثرية تعمل في صناعة الشوكولاتة. ففي أواخر القرن التاسع عشر، قرر رونتري قياس مستوى الفقر في مدينته "يورك"، فحدد خطًا للفقر بناءً على تكلفة الأساسيات، مثل مكونات وجبة من "بودنغ البازلاء" مع اللحم المقدد يوم العطلة. من لم يستطع تأمين تلك الأساسيات، كان يُعتبر فقيرًا وفق خط الفقر الخاص برونتري.
ما زالت خطوط الفقر المطلقة تحمل جاذبية خاصة. على سبيل المثال، البنك الدولي لديه خطوط فقر متعددة، أشهرها مؤشر "دولار واحد يوميًا". هذا المفهوم ابتكره الاقتصادي مارتن رافاليون في الثمانينيات عندما لاحظ أن العديد من الدول لديها خطوط فقر تقارب 370 دولارًا سنويًا. لكن هذا "الدولار" ليس بسيطًا كما يبدو؛ فهو معدل حسب التضخم، ليعبر عما كان يمكن لدولار واحد شراؤه قبل خمسة وعشرين عامًا. كذلك، يُعدل حسب تكاليف المعيشة، بحيث يتماشى مع مفهوم خط فقر عالمي. على سبيل المثال، فإن "الدولار" في دلهي ليس ما ستحصل عليه إذا قمت بتحويل عملتك إلى دولار بسعر الصرف الدولي. إنه أقل بكثير. الفكرة هي أن الشخص الذي يعيش على معيار "دولار يوميًا" في الهند سيتمكن من شراء ما يعادل ما يمكنك شراؤه بدولار يوميًا في أمريكا—ربما بعض الأرز أو العدس، بعيداً عن المأوى.
هذا رقم صادم للغاية. لا يمكن العيش بدولار يوميًا في الولايات المتحدة.
هذا صحيح بالنسبة للولايات المتحدة، ولكن ملايين الناس في الدول الفقيرة يعيشون فعليًا على هذا المستوى. مع ذلك، فإن استخدام "دولار يوميًا" كمرجع وحيد لتعريف الفقر في الولايات المتحدة يبدو غير منطقي. للولايات المتحدة تعريفها الخاص للفقر، وهو تعريف مطلق يعتمد على حجم الأسرة. في عام 2012، كان خط الفقر للفرد الواحد حوالي 30.52 دولارًا يوميًا، وهو ما يفوق بكثير معايير البنك الدولي.
تعريف الفقر في الولايات المتحدة يعود إلى خمسين عامًا. تم وضع هذا التعريف في عام 1963 بواسطة الباحثة مولي أورشانسكي، التي استخدمت منهجية مشابهة لمنهجية سيبوم رونتري، مع التركيز على تكلفة توفير نظام غذائي معقول لعائلة. لكنها وضعت افتراضات قاسية: أن تكون ربة المنزل متسوقة ماهرة، وطاهية بارعة، ومديرة جيدة تعد جميع وجبات الأسرة في المنزل. كان هذا التقدير ملائمًا للموارد المتاحة آنذاك، ولكنه ظل منذ اعتماده عام 1969 لا يتغير إلا لأخذ معدلات التضخم فى الإعتبار.
يبدو ذلك منطقيًا، لكنه ليس بالكثير من المال.
بالتأكيد، هذا ليس بالكثير. فلا يمكن لخط الفقر أن يمثل مستوى مريحًا من المال. ومع ذلك، فإن الاعتماد فقط على خط فقر مطلق قد يكون مضللاً. تصور لو كان سيبوم رونتري يعمل في حكومة الولايات المتحدة، لربما كنا لا نزال نستخدم خط فقر قائمًا على تكلفة وجبة "بودنج البازلاء".
ما هو بودنج البازلاء؟
سؤال وجيه. حتى بعد قراءة وصفه على ويكيبيديا، لا يزال غير واضح تمامًا حول تفاصيله. ومع ذلك، لو كان خط الفقر المطلق قائمًا منذ عام 1899 ومعدلًا حسب التضخم، لكانت هذه الوجبة الفيكتورية جزءًا من إحصائيات الفقر اليوم، تعكس عادات غذائية من الماضي. بالطبع، لم يفكر رونتري في تكلفة الكهرباء أو السباكة الداخلية، التي كانت كماليات في عصره، وبالتالي لا علاقة له بشكل واضح بمسألة من هو الفقير، فضلًا عن التلفزيون أو الإنترنت.
لكن الناس لا يحتاجون إلى التلفزيون أو الإنترنت. إنها كماليات.
ربما، ولكن هل نضع هذه الأشياء في نفس الفئة مع الطعام الفاخر أو الحقائب المصممة والشمبانيا؟ إذا عاد ابنك من المدرسة ليخبرك عن زميل لا تستطيع عائلته شراء تلفزيون، هل ستقول له: "لا تكن سخيفًا، تلك العائلة ليست فقيرة"؟
هل تقصد أن علينا قياس الفقر وفق معايير نسبية وليس مطلقة؟
إن الأمر ليس بالبساطة التي قد يتصورها البعض. فالتعريفات التقليدية للفقر النسبي، كتلك التي تطبقها أوروبا، تبدو غريبة في طبيعتها. فوكالة الإحصاء الأوروبية "يوروستات"، على سبيل المثال، تُعرف خط الفقر بأنه 60% من متوسط الدخل في كل دولة. والمتوسط هنا يشير إلى دخل الشخص الذي يقع في منتصف توزيع الدخل، بحيث يكون أفقر من نصف السكان وأغنى من النصف الآخر.
ولكن، ينتج عن هذا التعريف نتيجة غريبة: يصبح الفقر حالة دائمة ما لم تحدث تغييرات في تفاوت الدخل. فإذا استيقظ الجميع في أوروبا ذات صباح ليجدوا أنفسهم قد تضاعفت ثرواتهم، فإن معدلات الفقر الأوروبية لن تتغير. وعلى العكس من ذلك، انخفضت معدلات الفقر في المملكة المتحدة خلال فترة الركود فى 2008، ليس لأن الفقراء أصبحوا أكثر رخاءً، ولكن لأن خط الفقر نفسه انخفض نتيجة انخفاض متوسط الدخل العام. وهكذا، قد تحتفظ عائلة بنفس دخلها، لكنها تُعتبر قد خرجت من الفقر بسبب هذا الانخفاض.
هذا الوضع غير معقول. فخط الفقر الذي تعتمده "يوروستات" يقارن الفقراء بالطبقة المتوسطة، متجاهلًا ما يجري للأثرياء. ويبدو لي أننا يجب أن نكون صادقين، وأن نعترف بأن "يوروستات" يقيس في الحقيقة التفاوت داخل النصف الأدنى من الدخل.
أنت غير راضٍ، أليس كذلك؟ رفضت فكرة خط الفقر المطلق، والآن ترفض فكرة خط الفقر النسبي.
آدم سميث، في كتابه ثروة الأمم عام 1776، قد أوضح هذه المشكلة بعبارة بليغة. قال: "إن القميص الكتاني، على سبيل المثال، ليس من الضرورات الأساسية للحياة. فالإغريق والرومان عاشوا بشكل مريح بدون الكتان. لكن في أوروبا الحديثة، سيشعر عامل اليومية بالخجل من الظهور في الأماكن العامة دون قميص كتاني."
ما يريد سميث قوله هنا ليس أن الفقر مسألة نسبية، بل هو حالة اجتماعية. فالناس لا يصبحون فقراء لمجرد أن المواطنين المتوسطين يحصلون على زيادة في رواتبهم. لكنهم يصبحون فقراء إذا أصبحت أشياء، مثل التلفاز أو الهاتف المحمول، تُعتبر ضرورية اجتماعيًا، ولم يستطيعوا تحمل تكاليفها. إن الفقر، في جوهره، هو فقدان القدرة على المشاركة الكاملة في المجتمع.
بالنسبة لي، أكثر خطوط الفقر منطقية هي الخطوط المطلقة التي تتغير بمرور الوقت لتعكس التحولات الاجتماعية. ولعل من المناسب أن إحدى المحاولات الجادة لتطبيق ذلك جاءت من مؤسسة جوزيف رونتري، التي تعمل على تحديد ما يعتبره الناس ضرورياً للمشاركة في المجتمع. وتشمل قائمتها أشياء مثل عطلة سنوية، وهاتف محمول بسيط، وبدلة جديدة كل عامين أو ثلاثة. بالطبع، هذا التقييم ذاتي، لكن الفقر ذاته مفهوم ذاتي. ومن غير المجدي أن نتوقع من خبير، مهما بلغت حكمته، أن يحدد معنى الفقر بدقة مطلقة ودائمة.
لكن حتى إذا قبلنا خط فقر مطلق يعتمد على أساسيات التغذية، تبقى التعقيدات. من هذه التعقيدات، مثلاً، اختلاف تكلفة المعيشة بين الأماكن، فهي أقل في ألاباما مقارنةً بنيويورك. ومن الناحية النظرية، يجب أن تراعي خطوط الفقر هذه الفروقات، لكن خط الفقر الأمريكي لا يفعل ذلك. كما أن هناك قضية فقدان الدخل على المدى القصير. فالشخص الذي يفقد وظيفته لفترة قصيرة قبل الحصول على أخرى قد يقع مؤقتًا تحت خط الفقر، لكن ذلك لا يعكس حالته الحقيقية لأنه يمتلك مدخرات أو مصادر ائتمانية تمكنه من الاستمرار. لذلك لن يضطر إلى العيش كفقير—ومن المحتمل أن يحافظ على نمط إنفاقه السابق للفقر. ولهذا السبب، يفضل بعض الاقتصاديين قياس الفقر ليس بما تكسبه الأسرة في أسبوع أو شهر أو سنة معينة، ولكن بما تنفقه تلك الأسرة من المال.
إذن، كم عدد الفقراء؟
وفقاً لتعريف الحكومة الأمريكية، كان 15% من السكان يعيشون تحت خط الفقر في عام 2011. وهذه النسبة كانت الأعلى منذ التسعينيات، وارتفعت عن نسبة 12.3% في عام 2006. ورغم كل عيوب هذا التعريف، إلا أنه يعكس ميزة واحدة واضحة: إذا زادت معدلات الفقر خلال فترات الركود، فهذا يعني أنك تقيس ظاهرة واقعية.
لكن الاتحاد الأوروبي لم يستخدم خطًا مشابهًا. في عام 2000، حاول باحثون في جامعة يورك تقدير معدلات الفقر في الاتحاد الأوروبي وفقًا للمعايير الأمريكية، ووجدوا تفاوتات مذهلة: 48% في البرتغال، و6% فقط في الدنمارك. وتعكس هذه الأرقام بوضوح تأثير الدخل القومي وتوزيع الثروة على معدلات الفقر المطلقة.
وعلى الصعيد العالمي، فالبنك الدولي يعتمد معيار دولار واحد يوميًا للفقر المدقع، ووفقاً له، انخفضت نسبة السكان الذين يعيشون بهذا الدخل بشكل ملحوظ بفضل النمو في دول مثل الصين. ففي عام 1990، كانت النسبة 31%، لكنها انخفضت إلى 14% بحلول 2008.
أما في الولايات المتحدة، فالنتائج أقل تشجيعاً. تراجعت معدلات الفقر بشكل ملحوظ خلال الستينيات، من 22% في الخمسينيات إلى 11.1% في عام 1973، وهو أدنى مستوى في تاريخ البلاد. ومع ذلك، لم تحقق البلاد تقدمًا يُذكر منذ ذلك الحين، رغم عقود من النمو الاقتصادي.
ما الحل إذن؟
هناك ثلاث استراتيجيات عامة. الأولى، والتي يمكن تلخيصها في عبارة مستوحاة من رواية "Bonfire of the Vanities" لتوم وولف، هي "العزل، العزل، العزل"—التعامل مع الفقراء على أنهم حالة يجب عزلها.
هذا أمر طبقي مشين.
أنا سعيد لأنك تعتقد ذلك. وأنا متأكد أنك ستعيد النظر في سياسات الهجرة الخاصة بك وفقاً لذلك. يبدو أن الكثير من الناس لديهم آراء مختلفة تماماً حول الفقر عندما يتعلق الأمر بالمواطنين مقارنة بالأجانب.
وما الحلول الحقيقية؟
السؤال بين النهجين المتبقيين هو ما إذا كنت ترغب في تخصيص الموارد للتحويلات النقدية المباشرة، أم لتحسين الفرص—مثل تحسين المدارس، ومحاربة الجريمة، ومحاولة خلق وظائف لائقة. بعبارة أخرى، هل يجب عليك مساعدة الفقراء مباشرة، أم جعل الأمر أسهل لهم لمساعدة أنفسهم؟
إن هناك فريقًا من المفكرين يرى أن تقديم المساعدات النقدية قد لا يكون خيرًا محضًا، بل قد ينطوي على خطر تشجيع الأفراد على التراخي في مسؤولياتهم، والاعتماد المفرط على الغير، وربما السقوط في براثن الإدمان. ولكن، هل يمكننا أن نُسَلِّم بهذا الادعاء تسليمًا مطلقًا؟ يبدو أن الإجابة تستدعي التروي، إذ إن السياسيين عبر الأجيال عمدوا، بوعي أو بغير وعي، إلى خلط المفاهيم وتشويهها. تجدهم يستخدمون مصطلحات "الفقر" و"عدم المسؤولية" أو "المشكلات الاجتماعية" وكأنها مترادفات. خذ مثلًا ما أعلنته الحكومة البريطانية في إحدى المناسبات القريبة، حين قدرت وجود ما يربو على مائة وعشرين ألف أسرة "مضطربة". وقد ذهب رئيس وزرائها آنذاك، السيد ديفيد كاميرون، إلى وصف هذه الأسر بأنها غارقة في مستنقع الإدمان على المخدرات، وتعاطي الكحول، والجريمة. لكن حين تتأمل المعايير التي بُنِيَ عليها هذا التوصيف، تكتشف أنها ترتبط في الغالب بالفقر والعجز والبطالة، لا بالجريمة ولا بالإدمان.
غير أن الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن ذهنك هي أن تقديم المال للفقراء لا يعني بأي حال إلقاءه في أيدي عصابات الجريمة. لكنه أيضًا ليس الحل السحري. فالفقر، كما يعلم الجميع، يبدأ مبكرًا جدًا في حياة الإنسان، ويتغلغل في جذور وجوده. ولذا، فإن هذه المساعدات النقدية، مهما بلغت، قد تعجز عن توفير الأساس اللازم للخلاص منه. فما الحل إذن؟ لقد بات جليًا، من خلال دراسات وتجارب عشوائية مضبوطة، أن التعليم المبكر للأطفال المحرومين يُعد من أنجع السبل لمواجهة هذا الداء.
ولعل أكثر التجارب شهرة في هذا المضمار هي تلك التي عُرِفَت بمشروع "بيري بريسكول"، الذي شرع في منتصف ستينيات القرن الماضي في تقديم تعليم عالي الجودة في مرحلة ما قبل المدرسة لمجموعة من الأطفال الأمريكيين من أصل إفريقي، اختيروا عشوائيًا من بين أسر فقيرة. بلغت تكلفة هذا المشروع، وفق حسابات اليوم، حوالي أحد عشر ألف دولار لكل طفل.
وقد أثمرت هذه التجربة نتائج مبهرة، إذ أتمّ هؤلاء الأطفال عامًا إضافيًا من التعليم مقارنة بنظرائهم، وزادت فرصهم في التخرج من المدرسة الثانوية بنسبة 45%. أما نسب الإنجاب المبكر أو الوقوع في مشكلات اجتماعية فقد تراجعت بوضوح. وبحلول الأربعين من عمرهم، كانت دخولهم تفوق نظراءهم بأكثر من 40%. ولا يغيب عنا أن نسب دخول السجن كانت أقل بكثير في صفوف هؤلاء الذين شاركوا في المشروع.
أليس هذا مذهلًا؟ أن يتحقق كل هذا بفضل تعليم جيد في مرحلة الطفولة المبكرة!
ورغم أن هذه التجربة كانت محدودة النطاق، ومقصورة على فئة معينة وفي سياق تاريخي معين، إلا أن دراسات أخرى أكدت أن التعليم عالي الجودة في المراحل المبكرة قد يُحدِث أثرًا إيجابيًا مماثلًا، خاصة بين أبناء الأسر الفقيرة. ومن اللافت للنظر أن العائد المادي على المدى البعيد يفوق تكلفة الاستثمار في هذه البرامج. فإذا أضفنا الضرائب التي يدفعها هؤلاء الأفراد نتيجة تحسن دخولهم، وقللنا من تكاليف السجن التي تم تفاديها، وجدنا أن هذا الاستثمار قد أثبت جدواه على أكثر من صعيد.
إننا مدعوون، بلا شك، إلى استغلال هذه الأدلة الموثوقة من التجارب العشوائية المضبوطة المتاحة بين أيدينا، بل وإجراء المزيد منها، للبحث عن أفضل السبل لتوفير فرص عادلة لأبناء العائلات المحرومة. ولعلنا نجد ضالتنا في دعم مراحل ما بعد الولادة، وإصلاح أنظمة التعليم، وتحسين السياسات الجنائية والشرطية. ولما كان من العسير تقييم بعض السياسات الاقتصادية الكبرى كالحوافز والسياسات النقدية تجريبيًا، فإن علينا اغتنام هذه الفرص عندما تتاح.
ومن بين النماذج التي تسترعي الانتباه في هذا السياق نظام التحويلات النقدية المشروطة، الذي برز في دول أمريكا اللاتينية. تقوم فكرته على تقديم مساعدات مالية مشروطة للأسر الفقيرة، شريطة التزامهم بإرسال أطفالهم إلى المدارس أو تلقيحهم. وهنا يجتمع نفع المساعدة المباشرة مع تعزيز سلوكيات اجتماعية إيجابية. غير أن هذا النظام ليس مثاليًا؛ إذ قد يُحْرَم منه الأطفال المنتمون إلى أسر شديدة الاضطراب، وهم الأحوج ما يكونون إليه. لذا، ربما يكون النهج الأمثل هو تطبيق هذه البرامج كاختبارات عملية، ثم تقييم نتائجها بدقة.
لنعد إلى قضية أكبر وأوسع نطاقًا: قضية عدم المساواة. هل يتزايد عدم المساواة حقًا في عالمنا؟
ذلك يعتمد على كيفية قياسنا له. فمن المؤكد أن الدول الغنية تزداد غنى، بينما يتفاقم فقر بعض الدول الفقيرة. لكن هذا المعيار يظل قاصرًا؛ إذ يغفل التحولات الجارية في الدول الواقعة بين هذين الطرفين. خذ الصين مثلًا، تلك الدولة التي شهدت انخفاضًا مذهلًا في معدلات الفقر. وإذا تعاملنا مع الدول الصغيرة الفقيرة مثل بوروندي بنفس الوزن مع الدول الكبيرة كالصين، فسنرى أن عدم المساواة قد تزايد بين عامي 1950 و2000، لكنه ظل مستقرًا منذ ذلك الحين. أما إذا اعتمدنا معيارًا أكثر دقة يأخذ في الحسبان عدد السكان، فسنجد أن عدم المساواة قد انخفض تدريجيًا بين عامي 1950 و1990، ثم تراجع بشكل حاد منذ ذلك الحين.
أليس في هذا خبر سار؟ بيد أننى أشعر أن لهذا التحسن جانبًا مظلمًا. ما هو؟
إن هناك مسألة تفرض نفسها بقوة حين نتناول قضية عدم المساواة بين الدول، وهي أنها تتجاهل بُعدًا بالغ الأهمية: ما يحدث لعدم المساواة داخل الدول ذاتها. وقد أوردنا تقديرات أعدها برانكو ميلانوفيتش من البنك الدولي، وهي تقديرات تقارن متوسطات الدخل لكل دولة، لكنها تغفل عن تفاصيل أعمق. تأمل، على سبيل المثال، لو أن الولايات المتحدة تحولت إلى مجتمع اشتراكي مثالي، حيث تُعاد الثروات من بيل غيتس ووارن بافيت وأقرانهم من أصحاب الملايين، ليصبح الجميع متساوين في الدخل. هل سيغير ذلك شيئًا من قياسات عدم المساواة العالمية؟ لا، لأن المتوسط الوطني سيبقى كما هو.
وحين حاول ميلانوفيتش أن يُدخل في حساباته الفوارق الداخلية داخل الدول، وجد أن عدم المساواة العالمي كان في ارتفاع مستمر حتى نهاية القرن العشرين. لكنه اكتشف أن هذا الاتجاه بدأ يتراجع في الوقت الحالي—ربما للمرة الأولى منذ الثورة الصناعية. غير أن هذا التراجع يظل محدودًا للغاية. ولما كان التفاوت بين الدول يتضاءل بسرعة، فمن الطبيعي أن نتوقع أن التفاوت داخل الدول في ازدياد. وهذا ما تؤكده الحقائق؛ إذ يبدو أن الأثر الإجمالي لهذين الاتجاهين يكاد يُلغي بعضه بعضًا.
هل ينبغي أن يكون قلقنا الأكبر منصبًا على عدم المساواة بين الدول أم داخلهن؟
سؤال يستحق التأمل. فقد يجادل البعض بأن التفاوت بين الدول هو الأشد خطورة، لأنه ينفي فكرة الجدارة تمامًا. من يولد في أسرة متواضعة في زيمبابوي أو إريتريا يجد نفسه محاصرًا بالفقر، إلا إذا استطاع الهجرة، مهما بلغت عبقريته. أما من يولد فقيرًا في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، فإن لديه—إن توفرت له الذكاء والشخصية المناسبة—فرصة للتغلب على هذا الواقع. في المقابل، قد يرى آخرون أن التفاوت داخل الدول أكثر ضررًا للنسيج الاجتماعي وأيسر للإصلاح.
دعنا نُمعن النظر في هذا الجانب من عدم المساواة داخل الدول، خاصة وأنه يشهد اتجاهًا متزايدًا. فما القصة وراء ذلك؟
القصة تعتمد على المكان الذي نبحث فيه وكيف نُجري قياساتنا. من بين النماذج المثيرة للاهتمام نجد الدول الثلاث الكبرى النامية: البرازيل، الصين، والهند. ورغم أن هذه الدول غالبًا ما تُوضع في تصنيف مشترك، فإن الفوارق بينها هائلة، خاصة في ما يتعلق بعدم المساواة.
لنبدأ بالبرازيل، تلك الدولة التي عُرفت منذ زمن بأنها رمز لعدم المساواة. ففي عام 1998، كان معامل جيني فيها—وهو مؤشر معروف لقياس التفاوت—يبلغ 61%. وللمقارنة، كان هذا المعامل 33% في فرنسا، و27% في فنلندا، و34% في المملكة المتحدة، و45% في الولايات المتحدة.
لكن المثير للاهتمام أن هذا الرقم في البرازيل تراجع إلى 52% في السنوات الأخيرة. نعم، لا يزال مرتفعًا، لكنه يمثل انخفاضًا كبيرًا، حيث قُطعت ربع المسافة نحو تحقيق المساواة التي تتمتع بها فنلندا، وذلك خلال خمسة عشر عامًا فقط. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن عدم المساواة يمكن أن يُعالج إذا توفرت الظروف المناسبة. والفضل في ذلك يعود إلى الرئيس لولا دا سيلفا، الذي تولى الحكم بين عامي 2003 و2010. فعلى الرغم من أنه وُصف في البداية بالثورية، إلا أنه أظهر براغماتية لافتة، حيث اجتذب الاستثمارات الدولية وسعى في الوقت نفسه إلى إعادة توزيع ثمار طفرة البرازيل في السلع الأساسية.
أما الهند، فقصتها مختلفة. إذ ظل معامل جيني فيها مستقرًا عند مستويات مرتفعة في الثلاثينيات منذ أواخر التسعينيات وحتى الآن. ورغم وجود بعض رواد الأعمال الناجحين جدًا، مثل موكيش أمباني الذي بنى قصرًا بقيمة مليار دولار بارتفاع أربعين طابقًا في مومباي، فإن الثروة في الهند لم تتكدس بعد بما يكفي لجعل التفاوت بارزًا كما هو الحال في الصين.
وأما الصين، تلك الدولة التي لا تزال تحمل شعار الاشتراكية، فهي قصة معقدة للتفاوت في الدخل. وفقًا لكتاب حقائق وكالة الاستخبارات المركزية، يبلغ معامل جيني فيها 48%، وهو أعلى من نظيره في الولايات المتحدة. وبالنظر إلى أن الصين أفقر بكثير من الولايات المتحدة، فإن هذا التفاوت يشير إلى مشقة بالغة للأسر الفقيرة. وتشير دراسات أحدث إلى أن معامل جيني قد بلغ 61%، وهو رقم مثير للقلق إذا صحت هذه التقديرات. ولهذا، ليس غريبًا أن يشعر قادة الصين بالقلق من الاضطرابات الاجتماعية، رغم أن الاقتصاد الصيني لا يزال ينمو بوتيرة سريعة جدًا.
ولكن كيف وصل هذا التفاوت إلى هذه الدرجة في بلد يُفترض أنه اشتراكي؟
هناك سببان لذلك. الأول يتصل بعقلية دنغ شياو بينغ، أول مصلح عظيم للصين بعد انتهاء حقبة ماو. إذ كان يردد: "دع بعض الناس يصبحون أغنياء أولًا." وهذه العبارة تُلخص نهجًا يعتمد على التجريب، حيث خُففت القيود على صناعات ومناطق بعينها، خاصة على الساحل، لدعم العولمة. وكان من الطبيعي أن تُنتج هذه التجارب فائزين وخاسرين. ومع ذلك، فإن المناطق الداخلية شهدت معدلات نمو مرتفعة، لكنها لم تكن بنفس سرعة واستدامة النمو في المناطق الساحلية.
أما السبب الثاني، فهو أكثر إثارة للقلق. إذ إن واحدًا من كل عشرة من أغنى ألف شخص في الصين يشغلون مقاعد في مؤتمر الشعب الوطني، حيث يبلغ متوسط ثرواتهم أربعة أضعاف متوسط ثروات أغنى السياسيين في الكونغرس الأمريكي، رغم أن الولايات المتحدة أغنى بكثير. وإذا كان البعض يرى أن السياسة الأمريكية تخضع لنفوذ كبير من الأثرياء، فإن الوضع في الصين يبدو أكثر سوءًا بكثير.
ولكن هذا يثير تساؤلًا: ما حال عدم المساواة في الدول الغنية؟
لقد مضت عقود كانت فيها المساواة تسود أو على الأقل تستقر عند مستويات مقبولة في أرجاء الدول الغنية، لكن رياح التغيير أتت بما لم يكن متوقعًا؛ إذ شهدت الدول الناطقة بالإنجليزية ارتفاعًا مطردًا في معدلات عدم المساواة خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية. وأبرز ما يشهد على ذلك هو الزيادة الهائلة في نصيب الأثرياء من الدخل الوطني، ولا سيما أولئك الذين ينتمون إلى أعلى 1%، بل حتى أعلى 0.1%. قد يبدو للبعض أن الالتفات إلى هذه الفئة القليلة من أصحاب الملايين أمر سطحي أو رمزي لا أكثر، لكنه في الحقيقة يحمل أبعادًا أعمق.
خذ الولايات المتحدة مثلًا، حيث ارتفع متوسط الدخل بنسبة 13.1% بين عامي 1993 و2011، وهو معدل نمو ضئيل إذا ما نظرنا إلى امتداد هذه الفترة الزمنية الطويلة. ولكن ما يدعو إلى القلق حقًا هو أن نمو متوسط الدخل لأفقر 99% من السكان - بدءًا من المعدمين وحتى الأسر التي يقل دخلها عن 370,000 دولار - لم يتجاوز 5.8% خلال ثمانية عشر عامًا. إنه رقم متدنٍّ للغاية. والفرق بين نسبة 13.1% (نمو متوسط الدخل العام) و5.8% (نمو متوسط الدخل دون الأغنياء) يُبرز فجوة واسعة لا يمكن تجاهلها. إن دخول الأعلى أجرًا باتت تُشكِّل ضغطًا فعليًا على هيكلة الاقتصاد، بحيث لم تعد مجرد مسألة رمزية بل واقعًا ملموسًا.
وهناك قصة مشابهة تتعلق بنمو دخول أعلى 0.1%، لكنها ليست حكرًا على أمريكا وحدها. رغم أن الولايات المتحدة تتصدر المشهد من حيث ارتفاع مستويات عدم المساواة بوتيرة أسرع مقارنة بالاقتصادات الكبرى الأخرى، فإن هذه الظاهرة ليست أمريكية خالصة. فما إن نلقي نظرة على المملكة المتحدة وكندا، نجد أن حصة أعلى 1% من الدخل الوطني قد شهدت زيادات كبيرة هناك أيضًا، وإن كان ذلك بدرجات أقل وضوحًا في نيوزيلندا وأستراليا. وعلى النقيض، حين ننظر إلى فرنسا أو ألمانيا أو هولندا أو سويسرا أو اليابان، فإننا بالكاد نجد أثرًا يُذكر لهذه الزيادة. يبدو أن هناك قوى ثقافية أو سياسية فريدة تؤثر على الدول الناطقة بالإنجليزية، أو ربما أن التفسيرات الاقتصادية البحتة لا تكفي وحدها.
لكن لماذا تتزايد معدلات عدم المساواة في تلك الدول بالذات؟
قبل سنوات قليلة، انكب الصحفي تيموثي نواه على استقصاء شامل للأسباب المحتملة، متناولًا موضوعات شتى: العرق، والجنس، وتفكك الأسرة، والهجرة، والثورة التكنولوجية، والسياسات الحكومية، وتراجع النقابات العمالية، والتجارة الدولية، وحتى تأثير التعليم الابتدائي والثانوي. بدا الأمر أشبه بلغز متعدد الأوجه. وإذا سلَّمنا بأن البيئة السياسية في الدول الناطقة بالإنجليزية أصبحت أقل حفاوة بالنقابات العمالية، وأن الشركات باتت أكثر استعدادًا لدفع أجور خيالية لكبار التنفيذيين، فإن السؤال التالي يُفرض نفسه: لماذا اتخذت هذه التغيرات هذا الأثر العميق تحديدًا في تلك الدول؟
وأظن أن الخيط الأكثر أهمية هنا هو التقاء المدارس المتعثرة بالتغير التكنولوجي. يعكف الاقتصاديون على دراسة مفهوم "التغير التكنولوجي المنحاز للمهارات" (SBTC)، وهو فكرة بسيطة لكنها عميقة. قبل ستين عامًا، كان المطلوب من العامل هو القدرة على الحفر يدويًا؛ قبل ثلاثين عامًا، صار التحكم في الآلات مطلبًا أساسيًا؛ واليوم، يتعين عليك أن تكون قادرًا على إصلاح تلك الآلات إذا تعطلت. التكنولوجيا المتطورة تمنح العامل الماهر قوة إنتاجية لم تكن ممكنة في الماضي، لكنها تجعل العامل غير الماهر عبئًا. ومن هنا تأتي أهمية التعليم. ولكن إذا نظرنا إلى تصنيفات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في العلوم والقراءة، نجد أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تقبعان خارج قائمة أفضل 15 دولة، وخارج قائمة أفضل 25 في الرياضيات.
ومع ذلك، فإن الجامعات البريطانية والأمريكية تهيمن على تصنيفات مؤسسات التعليم العالي عالميًا. من السهل أن نفهم كيف يمكن لمثل هذا التناقض أن يفاقم عدم المساواة: فهذان الاقتصادان اللذان يعانيان من التفاوت الأكبر يقدمان تعليمًا مدرسيًا متواضعًا للجماهير، وتعليمًا جامعيًا على مستوى عالمي للنخبة.
إذا كان هذا صحيحًا، فإن التغير التكنولوجي المتسارع سيؤدي إلى تصاعد أكبر في عدم المساواة.
لكن يظل هناك بصيص أمل، إذ إن التغيرات التكنولوجية المستقبلية قد تنحاز، ولو نظريًا، لصالح العمال الأقل مهارة مرة أخرى. كل ذلك يعيدنا إلى معضلة سبق أن ناقشناها: هل يمكن لاقتصاد بلا نمو، لكنه مفعم بالتطور التكنولوجي، أن يتجنب البطالة الجماعية؟
وأخيرًا، يجب ألا نبالغ في مخاوفنا من التكنولوجيا. التكنولوجيا دمرت بالفعل العديد من الوظائف (مثل ميكنة الزراعة)، لكنها أوجدت أيضًا وظائف جديدة (مثل تصميم المواقع الإلكترونية). الاتجاه العام يوحي باستمرارية هذه الدورة. لكن المستقبل قد يحمل لنا احتمالًا أكثر قتامة: أن يصبح كثير من الناس بلا قيمة اقتصادية حقيقية، لأن الآلات و الروبوتات ستتفوق عليهم في كل شيء تقريبًا، وستذهب جميع العوائد الاقتصادية إلى أصحاب رأس المال.
من غير المحتمل أن يكون هذا هو العالم الذي يرغب معظمنا في العيش فيه. عندها، قد يتطلب الأمر إعادة هيكلة شاملة للمؤسسات الاقتصادية التي عهدناها. ربما يتعين علينا تنظيم المجتمع بحيث يُمنح الجميع عند الولادة محفظة غير قابلة للتصرف من الأسهم في شركات تصنيع الروبوتات.
ولكن حتى ذلك الحين، يبدو أن حلم العيش برفقة خدمنا الآليين لا يزال بعيد المنال. فلنتأمل معًا كيف يمكن أن يتشكل المستقبل القريب لاقتصادنا.
لقراءة مقالات التعريف بالإقتصاد الكلي بالترتيب:
كيف يمكن أن تساهم سياسات التحفيز الإقتصادي فى تعافي أو تراجع الإقتصاد ؟
ماذا يمكن أن تعلمنا معسكرات أسرى الحرب عن المدرسة الكلاسيكية فى الإقتصاد ؟
مترجم من كتاب The Undercover Economist strikes again
Share
PreviousNext
هل توافقون على إعادة نشر المقال مع الاشارة للمصدر