اقتصاد السعادة
يبدو أن السياسيين قد أُخذوا بسراب النمو الاقتصادي ووقعوا في خطأ جسيم، إذ يعتقدون أن ازدياد الثروة يرفع من مستوى السعادة والرفاهة في المجتمع. بيد أن الأدلة الإحصائية والتجارب المخبرية في عصرنا هذا تشير إلى حقيقة مغايرة. فبمجرد أن تُشبع الدولة حاجاتها وتُملأ مخازنها، لا طائل من جمع المزيد من الثروات. وهنا تظهر لنا جماعات مثل الهيبيز وحركة الخُضر والمحتجين على الطرق، ودعاة الحياة البسيطة وحركة الأغذية البطيئة، الذين لم يكن لهم صدى في الماضي إلا في سياق السخرية والاستهزاء من الفلاسفة والاقتصاديين. هؤلاء الجماعات الآن، وبعد مرور الزمن، يثبتون صحة مقولاتهم بصمتٍ وانتقام هادئ. أما الأفكار التي كانت محط سخرية في المجالس الفكرية، فقد تأكدت اليوم من خلال الأبحاث العلمية والاقتصادية الجديدة.
__ أندرو أوزوالد في مقاله "الهيبيز كانوا على حق دائمًا بشأن السعادة"
أندرو أوزوالد رجل ذو ذكاء وفطنة. قد أخبرتك مرارًا أنه ينبغي علينا أن نقيس السعادة
ولم أقل لك قط إنه لا ينبغي عليك القيام بذلك، بل كنت أتساءل عما إذا كان هذا القياس سيعينك حقًا على اتخاذ قرارات أكثر حكمة. والحق أن هناك العديد من الدول التي بدأت بالفعل بجمع بيانات رسمية حول مستوى السعادة. وهذا ليس بالأمر الصعب؛ كل ما يتطلبه هو إضافة بضعة أسئلة إلى استبيانات كانت ستُجرى على كل حال. بل وفي بعض البلدان التي لا تجمع مثل هذه البيانات، تقوم بذلك شركات خاصة مثل "جالوب" لاستطلاعات الرأي. بل ولعلك تتذكر أنه عندما تولى ديفيد كاميرون رئاسة الوزراء في بريطانيا، وعد بإنشاء مؤشرات جديدة لقياس رفاهية الشعب. وفي فرنسا، كان الرئيس نيكولا ساركوزي قد اتخذ خطوات مماثلة. أما في الولايات المتحدة، فقد عين باراك أوباما عددًا من الباحثين المرموقين في مجال السعادة، مثل بيتسي ستيفنسون وآلان كروجر وكاس سنستين، في مناصب حكومية عليا. وإذا عدنا إلى مملكة بوتان النائية، نجد أنها قد تبنت مفهوم "إجمالي السعادة الوطنية" منذ سنوات طويلة. فما دام الأمر كذلك، فإن من يهتم بهذا التوجه نحو "اقتصاد السعادة" ينضم إلى حشدٍ عالمي في تطور هذه المفاهيم.
ولكنني أشعر أنك ما زلت متشككًا في هذا الطرح.
نعم ولا. فلا أنكر أن جمع هذا النوع من البيانات أمر جيد ومفيد، ولكنني أرى أن ثمة مبالغة في الترويج له لعدة أسباب. دعنا نراجع سويًا كيفية قياس السعادة وما توصلنا إليه حتى الآن، ثم يمكنك أن تقرر بنفسك.
في المجمل، هنالك ثلاث طرق لقياس رفاهية أي بلد. الطريقة الأولى هي تعديل الحسابات الوطنية لتعكس تكلفة استنزاف الموارد، والازدحامات المرورية، والعمل غير المدفوع. هذه الطريقة قد اقترحها سيمون كوزنتس، وقد ناقشناها في مقال سابق. الطريقة الثانية هي جمع مجموعة متنوعة من البيانات ذات الصلة، مثل متوسط العمر المتوقع، ونسبة الجرائم، وتفاوت الدخل، ومدى انتشار الاكتئاب. وتتوفر هذه البيانات في معظم الدول المتحضرة، وإن كانت جودتها تختلف من بلد إلى آخر.
أما الطريقة الثالثة، فهي الخروج إلى الناس وسؤالهم مباشرة عن مشاعرهم، أي محاولة قياس السعادة بشكل مباشر، أو ما يُطلق عليه الاقتصاديون وعلماء النفس "الرفاهية الذاتية". والطريقة الأكثر شيوعًا والأبسط في هذا المجال هي سؤال الناس عن مدى رضاهم عن حياتهم. وهذا هو السؤال الأساسي الذي يسخر منه الصحفي مايكل بلاست لاند بقوله: "عندما يتم الإنتهاء من كل شيء، يقولون لك في نهاية اليوم، وبعد أن تأخذ في الحسبان الجيد والسيء، قيم رفاهك على مقياس من 1 إلى 10."
هل يسألون فعلًا بهذه الطريقة؟
بالطبع، لا يستخدمون هذه العبارات تحديدًا، ولكن "مايكل بلاست" اختزل الفكرة ببلاغة. ففي الماضي، كانت الاستفسارات عن السعادة تُطرح بشكل مباشر: "كيف تصف شعورك بشكل عام في هذه الأيام؟ سعيد جدًا، أم إلى حد ما، أم غير سعيد؟" ومن خلال الإجابات المسجلة على مقياس من 1 إلى 3، يمكن قياس مدى سعادة الأفراد، ولكن هذا السؤال الذي يبدو بسيطًا يخفي وراءه تحديات كبيرة.
إذ إن العلماء أثبتوا أن تقييماتنا الذاتية للرضا عن الحياة تتأثر بعوامل بسيطة وغير متوقعة. فالتجارب النفسية التي أجراها نوربرت شوارتز في جامعة ميشيغان تكشف بوضوح عن مدى تأثير العوامل العارضة -مثل الطقس أو حدث عابر- على نظرتنا للسعادة. ففي تجربة ذكية، طلب شوارتز من المشاركين في بيئة مكتبية إكمال استبيان حول رضاهم عن حياتهم، ولكنه وضع عملة صغيرة بقيمة عشرة سنتات على زجاج آلة النسخ. والنتيجة كانت أن أولئك الذين لاحظوا العملة قبل ملء الاستبيان أبدوا رضاهم عن حياتهم أكثر من غيرهم. هذه الدراسة تشير إلى أن مزاجنا وإجاباتنا ليست مجرد انعكاس لحقيقة موضوعية، بل تتأثر بتفاصيل صغيرة غير متوقعة.
من ناحية أخرى، وجد الخبير الاقتصادي أنجوس ديتون ارتباطًا وثيقًا بين سعادة الناس وحركة سوق الأوراق المالية، لا سيما في أحلك أيام الأزمة من 2008 إلى 2010. ربما يكون السبب في ذلك هو تأثير العوامل المشتركة التي تدفع السعادة وسوق الأسهم، مثل الآفاق المستقبلية للاقتصاد - أو ربما بسبب الطقس-. وهناك تفسير آخر معقول، وهو أن الناس يشاهدون أسعار الأسهم في الأخبار الصباحية، فيتأثر مزاجهم طوال اليوم.
ورغم أن هذه الدراسات ليست كاملة، فإنها تشكل أساس معظم الأبحاث حول السعادة. من بين هذه الأبحاث، تأتي الورقة البحثية لريتشارد إيسترلين عام 1974، التي تعتبر الأكثر تأثيرًا في مجال اقتصاديات السعادة، إذ تحمل عنوان "هل يؤدي النمو الاقتصادي إلى تحسين نصيب الإنسان؟". في هذه الورقة، تم تحليل البيانات على نطاق واسع، وكانت النتائج تشير إلى أن معظم الأميركيين يعبرون عن درجة عالية من الرضا عن حياتهم. ففي استطلاع للرأي، قال نصف المشاركين إنهم "سعداء للغاية"، وهو أعلى مستوى على مقياس من ثلاث نقاط. ومن ثم، يمكن القول إن الأميركيين عمومًا كانوا سعداء بالحياة، ولم يزدادوا سعادة رغم النمو الاقتصادي منذ الخمسينيات. فإذا كان نصفهم قد أبدى أقصى درجات السعادة في ذلك الوقت، وكان متوسط التقييم يقارب 2.5 على مقياس من 1 إلى 3، فإلى أي حد يمكن أن نتوقع زيادة سعادتهم؟ ربما يكون استنتاج إيسترلين أكثر دقة مما نعتقد، وهو أن النمو الاقتصادي قد لا يجلب مزيدًا من السعادة، لكنه بالتأكيد يقلل من البؤس.
وفي هذه الأيام، أصبحت مقاييس السعادة تتراوح من 1 إلى 7، أو في بعض الأحيان من 0 إلى 10، مما يتيح تنوعًا أكبر في الإجابات. ولكن حتى مع هذه التوسعات، تظل هناك حدود؛ فلا يمكن للولايات المتحدة، التي هي أغنى بكثير من ليبيريا، أن تكون أكثر سعادة بمائة مرة على هذه المقاييس، رغم التفاوت الاقتصادي الكبير بين البلدين. هذه حقيقة بسيطة حول طبيعة قياس السعادة، لكنها غالبًا ما يتم تجاهلها.
هل مفارقة ريتشارد إيسترلين هي المسئولة عن فكرة أن المال لا يشتري السعادة؟
يمكن القول إن الفكرة لا تنبع من اكتشاف إيسترلين نفسه، بل ربما تعود إلى تعاليم البوذية. غير أن إيسترلين اكتشف شيئًا أكثر دقة وأصعب في الفهم، ولهذا السبب أُطلق على اكتشافه اسم "مفارقة إيسترلين". فقد أظهرت أبحاثه أن المال بالفعل يشتري السعادة إلى حد ما، ولكن داخل مجتمع معين. فالأغنياء يميلون إلى أن يكونوا أكثر سعادة من الفقراء، وهذا استنتاج قوي. ومع ذلك، هناك عوامل أخرى، مثل الطلاق أو البطالة أو سوء الصحة، لها تأثير أكبر بكثير على السعادة من مجرد الافتقار إلى المال.
وتكمن مفارقة إيسترلين في أنه رغم أن الأفراد الأكثر ثراءً هم عمومًا أكثر سعادة من الفقراء، فإن المجتمعات الأكثر ثراءً ليست بالضرورة أكثر سعادة من المجتمعات الفقيرة. بعبارة أخرى، حصولك على زيادة في الراتب بنسبة 10% سيجعلك أكثر سعادة، لكن النمو الاقتصادي بنسبة 10% لن يجعل المجتمع ككل أكثر سعادة. هذه هي جوهر المفارقة التي ما زالت تثير الكثير من النقاشات.
لعل سبب تسميتها "مفارقة" يتضح من تعمقنا في التفسير. فما هو تفسير هذه المفارقة؟
تتعدد التفسيرات الممكنة لهذه المسألة، فهناك ثلاث احتمالات رئيسية.
أحد الاحتمالات هو أن هذه الأسئلة، رغم بساطتها الظاهرة، لا تقدم لنا معلومات ذات قيمة مع مرور الوقت. فلو سألت بحارًا برتغاليًا في عام 1955 عن مدى سعادته بمقياس من 1 إلى 3، وسألت عاملًا يابانيًا في السبعينيات نفس السؤال، ثم سألت ربة منزل ألمانية في التسعينيات السؤال ذاته — هل ستكون مقارنة إجاباتهم ذات مغزى؟ بالطبع، المقارنة معقولة ضمن المجتمع الواحد، في نفس الوقت وبنفس اللغة، ولكن يبقى التساؤل مطروحًا حول إمكانية التعلم من مقارنة مجتمعات مختلفة عبر فترات زمنية متفاوتة.
ففي دراسة إيسترلين الأصلية نجد هذه النقطة المثيرة: استنادًا إلى استطلاع أجري عام 1965، أشار 53٪ من البريطانيين إلى أنهم "سعداء جدًا"، بينما كان 20٪ فقط من الألمان الغربيين و12٪ من الفرنسيين يشاركونهم هذا الشعور، رغم أن مستوى دخل الفرد كان متشابهًا في تلك الفترة. وفي استطلاع حديث ليوروباروميتر، أفاد 64٪ من الدنماركيين بأنهم "راضون جدًا"، مقابل 16٪ فقط من الفرنسيين. فهل نستنتج من ذلك أن الفرنسيين غير سعداء؟ الأمر يستدعي الحذر. فخبراء اللغة يحذرون من التسرع في افتراض أن كل لغة تحمل نفس دلالات كلمة "سعيد".
والتجربة الذهنية التي تطرحها هذه المفارقة تزيد من عمق السؤال. ماذا لو أننا بدلاً من حساب النمو الاقتصادي استندنا إلى استطلاعات الرأي التي تسأل الناس: "ما مدى غناك هذه الأيام؟" سيكون من الصعب اعتبار مثل هذه البيانات موثوقة. فالتغير في تقديراتنا للثراء قد يحدث بمجرد مشاهدة فيلم وثائقي عن بيل غيتس، فهل يعني هذا أن ثروتنا الحقيقية قد تغيرت؟ بالطبع لا. ربما تكون السعادة شبيهة بذلك، فقد نشعر بأننا أسعد من آبائنا، ولكن معاييرنا قد تغيرت دون وعي.
أما الاحتمال الثاني فهو أن هذه الاستطلاعات تكشف لنا بعض الحقائق، ولكن بسبب محدودية البيانات المتاحة لإيسترلين في السبعينيات، فإن استنتاجاته قد تكون قد فقدت دقتها. فاليابان مثلًا، رغم نموها الاقتصادي، لم تشهد زيادة في معدلات السعادة. وعندما أعيدت ترجمة الاستبيانات، اكتُشف أن الأسئلة كانت تتغير باستمرار، مما رفع سقف التوقعات للسعادة.
نشر عدد من الاقتصاديين، من بينهم بيتسي ستيفنسون، دراسات تدعم فكرة أن المال يجلب السعادة بنفس الطريقة للمجتمع كما يفعل للفرد. ويؤكد جاستن ولفرز، المؤلف المشارك، أن العلاقة بين الدخل والرضا عن الحياة تُعد واحدة من أقوى العلاقات الإحصائية في العلوم الاجتماعية.
لكن إيسترلين وآخرين ردوا بتحليلهم الخاص، وما يزال الجدل مستمرًا حول صحة المفارقة.
أما التفسير الثالث لمفارقة إيسترلين فهو قبولها كما هي: ليس المهم هو الدخل المطلق، بل الدخل النسبي. بعبارة أخرى، ما يجعل الناس سعداء ليس مقدار المال الذي يملكونه بحد ذاته، بل مكانتهم النسبية في المجتمع. فالمكانة، التي ترتبط بالدخل، وهو ما يُعتبر لعبة محصلتها صفر، بمعنى أنه إذا صعد شخص في ترتيب المجتمع، فعلى شخص آخر أن ينخفض. والمكانة، بالطبع، ترتبط بشكل وثيق بالدخل. لذا، ربما المال لا يجلب السعادة، لكن أن تكون أغنى من الآخرين قد يجلبها.
هذه الفرضية الأخيرة تبدو معقولة للغاية.
وهناك استطلاع شهير يُجرى كثيرًا حول هذا الموضوع. فعندما سُئل الناس عما إذا كانوا يفضلون الحصول على 50,000 دولار في عالم يحصل فيه الجميع على 25,000 دولار، أو 100,000 دولار في عالم يحصل فيه الجميع على 200,000 دولار، فضّل الأغلبية الخيار الأول — أي أن يكونوا أغنياء نسبيًا بدلًا من أن يكونوا أغنياء بشكل مطلق. لكن يجب التعامل بحذر مع هذه النتائج، فمعظم المشاركين في الاستطلاع كانوا طلابًا في جامعة هارفارد، الذين قد يكونون مجموعة تنافسية بشكل خاص — وعندما سُئل موظفو هارفارد، وافق ثلثهم فقط على هذا الطرح
ومع ذلك، تبدو فكرة أن الناس يهتمون بدخلهم النسبي مقارنة بأقرانهم معقولة للغاية، لدرجة أن من الصعب إقناع الناس بأن إيسترلين قد أخطأ في تحليله.
إنني لأجد استنتاجات إيسترلين مقنعة إلى حد بعيد، وهذا لا يعني سوى أننا ينبغي أن نكرس المزيد من الموارد لقياس السعادة على الوجه الصحيح. ولا أرغب في أن ينفرد بوتان بهذا الأمر، كونه البلد الوحيد في العالم الذي يقدر "إجمالي السعادة الوطنية."
أجل، إنها بوتان. تلك المملكة الجبلية في الهيمالايا تقدم لنا أوضح مثال على التمييز الواضح بين جمع الإحصاءات حول السعادة وبين إسعاد الناس حقًا. وإن بوتان تبجلها فئة من خبراء السعادة الذين أفرطوا في سذاجتهم.
ما أوقحني!
كما كنت أقول، تُبجل بوتان من أولئك الذين أفرطوا في سذاجتهم بين خبراء السعادة، ويبدو أن بعضهم يغضون الطرف عن سجلها الغامض في حقوق الإنسان. فحسب تقارير منظمة "هيومن رايتس ووتش"، فقد تم تجريد الكثير من أبناء الأقلية النيبالية في بوتان من جنسيتهم، وتعرضوا لمضايقات دفعتهم إلى مغادرة البلاد. وإن كان النيباليون قد عاشوا في البؤس من البداية، فقد يكون التطهير العرقي وطردهم من البلاد قد رفع من متوسط مستويات السعادة في بوتان نفسها، إن لم يكن في مخيمات اللاجئين عبر الحدود في نيبال.
والمثير للسخرية أن مفهوم "إجمالي السعادة الوطنية" نشأ كرد فعل دفاعي — ففي عام 1986، وأثناء مقابلة مع صحيفة فايننشال تايمز، أعلن ملك بوتان آنذاك، جيغمي سينغي وانغشوك، أن "إجمالي السعادة الوطنية أهم من إجمالي الناتج المحلي" عندما تعرض للسؤال حول ضعف التقدم الاقتصادي في بلاده. ولم يكن جلالته الوحيد الذي يلجأ إلى مقاييس بديلة للتقدم بحثًا عن العزاء. فقد عهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى ثلاثة اقتصاديين مرموقين — جوزيف ستيغليتز (الحائز على جائزة نوبل)، وأمارتيا سن (الحائز على جائزة نوبل أيضًا)، وجان بول فيتوسي — بمهمة دراسة البدائل الممكنة للناتج المحلي الإجمالي. ولعل أحد الأسباب وراء حماسة الرئيس ساركوزي لهذا الموضوع هو أن الفرنسيين يقضون معظم وقتهم بعيدًا عن العمل، وهذا بالطبع ينعكس سلبًا على الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا. ولكن فرنسا، على العكس، قد تبدو في صورة أفضل في معظم المؤشرات البديلة. وليس من الخطأ أن نلتفت إلى تلك المؤشرات، ولكن ينبغي ألا نخدع أنفسنا: فالساسة دومًا يبحثون عن المقاييس الإحصائية التي تظهرهم في صورة حسنة.
ذكرت أن الرئيس أوباما قد عيّن عدة خبراء في اقتصاديات السعادة. هل ينطبق الأمر نفسه هنا؟
ليس بالقدر ذاته ربما، لأن أياً من المعينين — ألان كروجر، بيتسي ستيفنسون، وكاس سنستين — لم يكن تركيزهم اليومي منصبًا على اقتصاديات السعادة. ولكن البروفيسور كروجر كان منهمكًا في أبحاث مثيرة حول الرفاهية الذاتية بالتعاون مع علماء النفس نوربرت شوارز ودانييل كانيمان — وكانيمان، بالطبع، هو الحائز على جائزة نوبل الذي تطرقنا إلى عمله سابقًا في سياق الأسعار اللاصقة.
وقد أشار كانيمان إلى أن مفهوم السعادة يفتقر إلى الوضوح. وذكر لي في مقابلة أجريتها معه في خريف عام 2010 أن "مفهوم السعادة بحاجة إلى إعادة تنظيم." فنحن في الحقيقة أمام ثلاثة مفاهيم هنا: الأول هو الملخص الذاتي الذي يتم قياسه في أعمال إيسترلين (وفي معظم اقتصاديات السعادة الأخرى)، حيث نسأل الناس عن مدى رضاهم عن حياتهم؛ الثاني هو ذلك التدفق المستمر من المشاعر — تارة تشعر بالتعب، ثم تضحك، ثم تشعر بالقلق، ثم بالفرح، ثم بالحماس — الذي قد يُعتبر أنه يتراكم ليشكل حياة سعيدة (أو غير سعيدة)؛ والثالث هو محاولة موضوعية لقياس رفاهية الفرد وفقًا لمعايير خارجية (هل يواجه مشاكل في النوم؟ هل يعاني من مشاكل صحية؟). إن الكثير من التفكير الكسول يجمع بين هذه المفاهيم الثلاثة ويطلق عليها اسم السعادة. ولكنها ليست ذات الشيء، بل إن السعادة نفسها، هذا المصطلح الذي يتسم بالمرونة الرائعة، قد تعني ما هو أكثر من هذه المفاهيم.
يحاول كانيمان وزملاؤه قياس تدفق الحالات العاطفية — أو بدقة أكثر، تتبع مقدار الوقت الذي يقضيه الشخص يوميًا وهو يعاني من مشاعر سلبية مثل الخوف، الغضب، أو الحزن. وتستند "طريقة إعادة بناء اليوم" إلى طلب استرجاع الناس، حدثًا بعد حدث، لوقائع اليوم السابق والمشاعر التي صاحبت تلك الوقائع — كالحماس، الملل، الفرح، أو الانزعاج.
وقد نشر كانيمان، بالمناسبة، ورقة بحثية مع أنغوس ديتون تسلط الضوء على العلاقة بين المال والسعادة. ووجد كانيمان وديتون أن الدخل الأعلى يرتبط بمستويات أعلى من الرضا عن الحياة، ولكن بعد دخل يبلغ نحو 75,000 دولار سنويًا، لا يؤثر المال الزائد في تحسين المزاج كما يُقاس بطريقة إعادة بناء اليوم.
إذن، فإن العلاقة بين المال والسعادة تعتمد اعتمادًا جوهريًا على مفهوم السعادة نفسه كما تفهمه.
لا شك في ذلك. إن طريقة إعادة بناء اليوم تُظهر لنا نتائج تختلف اختلافًا بيِّنًا عن الاستطلاعات التقليدية التي تقيس مدى الرضا عن الحياة. ففي إحدى الدراسات التي عقدت مقارنة بين النساء في فرنسا وأوهايو، كانت النساء الأمريكيات أكثر ميلًا بمعدل الضعف للتعبير عن رضا تام بحياتهن. غير أن النساء الفرنسيات كنَّ يقضين وقتًا أطول في حالة مزاجية جيدة على مدار اليوم. فالحياة ليست في النهاية حكمًا عامًا يتوقف على الرضا النهائي، بل هي سلسلة من اللحظات التي تتشكل من شعور المتعة أو القلق لحظة بلحظة.
فإن كنت تنوي قياس السعادة، بل وتوظيفها في صنع السياسة، فإنك بلا شك بحاجة إلى أخذ هذا التمييز على محمل الجد.
وهل لذلك تأثيرات مختلفة على السياسات العامة؟
هذا بالفعل تساؤل وجيه للغاية.
إذا كنت تتفق مع تفسير ريتشارد إيسترلين لمفارقته الشهيرة — التي تقول بأن الناس لا يهتمون بالدخل المطلق، بل بالدخل النسبي مقارنة بغيرهم — فإن ذلك يُعد بلا شك حجة قوية تدعو إلى فرض الضرائب التوزيعية. فبمجرد سحب المال من الأثرياء، يُصبح عامة الناس أكثر سعادة حتى قبل أن تُنفق الأموال فعليًا. لكن الحقيقة أننا نملك بالفعل نظامًا للضرائب التوزيعية؛ وما إذا كان ينبغي لنا أن نزيد من هذه الضرائب أو نقلل منها، فذلك ليس واضحًا على الإطلاق. كما أن أحد الأوجه السياسية الأخرى التي قد نستشفها من دراسات الرضا عن الحياة، هو أن على الدولة أن تضع في أولوياتها تقليل نسبة البطالة، لما تمثله من تجربة بائسة ومحبطة للغاية — رغم أنني آمل أن تكون تلك النقطة مدرجة بالفعل ضمن سياسات الدولة.
وهناك وجه آخر ممكن، يتمثل في استخدام بيانات الرضا عن الحياة في تقدير التعويضات المناسبة للأفراد الذين تعرضوا لحوادث أو فقدوا أحبائهم. فالأستاذ الاقتصادي البريطاني أندرو أوسوالد يمتلك بيانات عن أثر مثل تلك المصائب على شعور الناس، بالإضافة إلى مبلغ المال الذي يمكن توقعه للتخفيف من الأثر النفسي الناتج عن تلك الحوادث المؤلمة. ومع أن هذه الطريقة قد تكون مفيدة في بعض الحالات، إلا أنها ليست بالأمر الذي يصلح لتكوين سياسة اقتصادية على مستوى الاقتصاد الكلي.
وكأنك تشير إلى أن كل هذا بلا فائدة؟
ليس بلا فائدة، لكنه لا يُعد ثوريًا كذلك. تذكر أن العديد من الدول تجمع بالفعل بيانات حول الرضا عن الحياة، وجمع المزيد منها لا يتطلب جهدًا كبيرًا؛ إنها مجرد إضافة بضعة أسئلة إلى الاستطلاعات الموجودة مسبقاً.
أما البيانات التي تعتمد على طريقة إعادة بناء اليوم، التي يستخدمها كانيمان وكروجر، فهي أكثر تكلفة في جمعها، لكنها قد تكون ذات فائدة أكبر في رسم السياسات. وقد دعا كانيمان وكروجر إلى نشر مقاييس "حساب الوقت" إلى جانب الحسابات الوطنية التقليدية. وتُضاف هذه الحسابات الزمنية إلى جزء راسخ من الجهاز الإحصائي في الولايات المتحدة، وهو مسح استخدام الوقت، الذي يسأل الناس عن كيفية قضائهم لوقتهم — سواء في التنقل، أو الصلاة، أو مشاهدة التلفاز، أو تناول الغداء. والابتكار هنا يكمن في الجمع بين هذه الاستطلاعات وطريقة إعادة بناء اليوم لإنتاج مقياس يُظهر مقدار الوقت الذي يقضيه الأفراد في حالة مزاجية سيئة على مدار اليوم، إلى جانب تسجيل ما كانوا يفعلونه أثناء تلك الحالة.
أشعر بالفضول...
حسنًا. من أكثر الأنشطة التي تميل إلى إحداث حالة مزاجية سيئة: التنقل والعمل. أما الغداء أو العشاء أو ممارسة الجنس، فهي نادرًا ما تُعتبر مزعجة، إلا إذا اختار الشخص الشريك الخطأ، فحينها قد تصبح كل تلك الأنشطة مخيبة للآمال.
هل تعني أن عليَّ أن أحظر العمل وأدعم ممارسة الجنس؟
ألن يكون ذلك رائعًا؟ ولكن بجدية، يمكنك أن ترى كيف يمكن أن تساعد هذه الحسابات الزمنية الوطنية في تقييم مشاريع مثل الاستثمارات التي تقلل من وقت التنقل (طرق جديدة أو سكك حديدية فائقة السرعة)، أو تقديم خدمات مثل الحدائق والملاعب والمتاحف. بالطبع، لا يمكننا الهروب تمامًا من مشكلة مقارنة تقدير شخصي لـ 6 من 10 بتقدير آخر لـ 5 من 10 — ولكن طريقة إعادة بناء اليوم، التي تقيس مدى الوقت الذي نقضيه في أنشطة تؤدي إلى تعكير مزاجنا، قد تكون أكثر موضوعية قليلًا.
وقد طورت مجموعة كانيمان-كروجر نسخة مبسطة من طريقة إعادة بناء اليوم، والتي يمكن إجراؤها عبر استطلاع هاتفي منتظم، وقد أجرى مكتب إحصاءات العمل بالفعل أول استطلاع له باستخدام هذه الطريقة الجديدة. سنرى ما سينتج عن ذلك — ربما يمكنك استخدام هذه التقنية بنفسك.
ربما. حسنًا، شكرًا على الحديث معي حول هذا الأمر.
على الرحب والسعة. هل أنت سعيد الآن؟
لقراءة مقالات التعريف بالإقتصاد الكلي بالترتيب:
كيف يمكن أن تساهم سياسات التحفيز الإقتصادي فى تعافي أو تراجع الإقتصاد ؟
ماذا يمكن أن تعلمنا معسكرات أسرى الحرب عن المدرسة الكلاسيكية فى الإقتصاد ؟
مترجم من كتاب The Undercover Economist strikes again