البحث عن الزمن المفقود
وُلدت فكرة رواية "الجبل السحري" لتوماس مان قبل أن تندلع نيران الحرب في ذلك العالم الآيل إلى الدمار. كتبت معظمها بعد أن وضعت الحرب أوزارها. وعلى الرغم من أنها تطرقت إلى موضوعات شتى، حتى كادت تشمل كل شيء، فإنها كانت في جوهرها كتاباً عن الحرب، ولو أن مشاهد الحرب لم تظهر إلا في صفحاتها الأخيرة. وكذلك كانت روايات "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست و"يوليسيس" لجيمس جويس، وهما عملان ضخمان لا يقلان أهمية عن رواية مان؛ إذ اكتمل نضجهما في مطلع عشرينيات القرن الماضي، وأحرزا جمهوراً عالمياً سريعاً. فقد وُلدت فكرتهما قبل الحرب، ولكن الحرب غيرتهما، أعادت كتابتهما، وأدخلت عليهما ما لم يكن يخطر للمؤلفين على بال. والحقيقة أن الحرب، بما جلبته من كارثة، أعطت لهذه الأعمال الأدبية مكانتها العظيمة وإلحاحها الذي شعر به القراء عقب الحرب. فهذه ليست روايات حرب، ولكن مع رواية مان، يصح القول إن الحرب هي من كتبتها.
وُلد مارسيل بروست قبل توماس مان ببضع سنوات، سنة 1871. كان ابناً لوريثة يهودية وطبيب مرموق في ميدان الصحة العامة. نشأ واسع الاطلاع، واسع العلاقات، شغوفاً بوجه خاص بالأدب الإنجليزي، وبدأ منذ صغره يحلم بإبداع عمل عظيم، لكنه لم يفلح بدايةً. حاول أن يكتب رواية سير ذاتية، فلم يوفق. فانتقل إلى أعمال صغيرة متكلفة: ترجمات وتعليقات على كتاب روسكن عن كاتدرائية أميان، ومجموعة من المحاكاة الذكية لكتّاب فرنسيين كبار. وعُرف في أوساط الناس كشخصية اجتماعية خفيفة الظل.
وقد ظهر بروست لفترة وجيزة في رواية كوليت "كلودين المتزوجة"، حيث وصفته بأنه "شاب أدبي جذاب (عيون جميلة... لمسة خفيفة من التهاب الجفن)"، كان يقارن بطلة الرواية قصيرة الشعر ذات المظهر الصبياني بحماسة بـ"ميرتوكليا، هيرميس الشاب، إيروس لبرودون"، وكان يبالغ في مدحه حتى كاد يفسد شهيتها عن العشاء الفاخر الذي قدمته مضيفتهم الثرية.
ولم يكن بروست في أعين الناس سوى شخص متملق، متسلق اجتماعي، مريض، مكبوت جنسياً، رغم ميوله الجنسية المثلية الواضحة، وقد عُرف بإعجابه المستميت بالرجال والنساء معاً. كان يبدو تافهاً كل التفاهة إلى أن توفي والده المخيف وأمه المحبوبة أكثر من اللازم. حينها فقط، تخلى عن طرقه الدنيوية، وأخذ الكتابة على محمل الجد.
لكنه لم يبدأ برواية، بل شرع في كتابة مقالة عن شارل أوغستان سانت بوف، الناقد الأدبي الفرنسي الكبير، الذي كان يزعم أن حياة المؤلف هي المفتاح لفهم أدبه، وهي فكرة عارضها بروست بشدة. وأخذت مقالته، التي أسماها "ضد سانت بوف"، تتضخم، وتخرج عن مسارها؛ فتحول اهتمامه من سانت بوف إلى معاصره بودلير، الشاعر فاسد القلب، صاحب الرغبات المدمرة، الذي ظلمه سانت بوف وخانه، ثم اتجه بروست إلى كتابة مقاطع سير ذاتية وجهها إلى أمه.
وهكذا، ومن رحم هذه الفوضى، ولدت رواية كان بروست يعمل عليها بثقة وحماس مع حلول عام 1910.
كانت الرواية مشروعاً ضخماً عن شاب، ذو روح حساسة، وقارئ نهم، وطامح لأن يكون روائياً، أضاع عمره في السعي وراء المكانة الاجتماعية، والحب، وفي مماطلة لا تنتهي. وكان سيُسجل هذا كله بتفاصيل مملة، ليبين كيف تحول هذا الهدر اليائس إلى شرط لا غنى عنه لتحقيق النصر النهائي للراوي الذي، وبعمل أدبي جبار، سيحتوي هذا الضياع كله، ثم يحوله، عبر نوع من الخيمياء الأدبية، إلى ذهب صافٍ.
كانت الرواية ستصاغ على هيئة شريط موبيوس، كأنها خط ملتوٍ واحد، يضم في داخله قصة نضج داخلي تتكشف في إطار أوسع لعمل فني، يقدم صورة شاملة للمجتمع الفرنسي، بكل عواطفه وأهوائه العامة والخاصة، عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وكان من المقرر أن تكون رواية عن آليات الذاكرة، عن كل ما عرفه بروست، أو شعر به، أو قرأه، أو فكر فيه، أو فعله.
وعلى الحقيقة، بدا المشروع، لا طموحاً، بل ساذجاً بشكل يبعث على اليأس. فهذا هو الكتاب الذي يحلم كل شاب بكتابته، ذلك الكتاب المستحيل بطبيعته. غير أن بروست، بدءاً من تأملاته ومسوداته في "ضد سانت بوف"، وجد طريقته. تخلص من الحبكة، كتب أجزاءً وقصاصات، كان يحركها حسب رغبته، يعيد ترتيبها، حتى تجد أماكنها في القصة التى تتبلور يوماً بعد يوم.
والأهم من هذا كله، أنه وجد صوته. نبرة تقع بين الحميمية واللامبالاة. وروايته، بكل سردها الوصفي، وأحكامها المباغتة، واستطراداتها النقدية في الموسيقى والفن والأسلوب، وتحليلاتها الحادة للإحساس والعاطفة، لم تفقد يوماً أثر المقال الذي انبثقت منه.
هذه النبرة بالذات، كما الأسلوب، صارت روح العمل. وهذه النبرة، أكثر من أي شيء آخر، جعلت من رواية بروست عملاً ممكناً. ظل بروست يعيد صياغة كتابه حتى آخر أيام حياته. وإذا اشتهر العمل ليس فقط لحجمه الضخم، بل أيضاً لطول جمله المفردة، فذلك لأن كل جملة فيه تعمل كأنها نسخة مصغرة من الكتاب كله.
وقد قال لي الشاعر ريتشارد هوارد ذات مرة إن كتاب بروست كسوري، تتوالى أجزاؤه كما تتوالى طبقات الصورة. الجملة الواحدة قد تستطيل حتى تكاد تضيع، ويتوه القارئ منتظراً نهايتها، كما كان راوي بروست نفسه ييأس من أن تجد حياته اتجاهاً أو غاية. لكنها، في النهاية، تهبط إلى مكانها الصحيح.
وفي مرحلة مبكرة نسبياً من الرواية، وصف بروست مقدمات شوبان الموسيقية قائلاً إنها "بطولها المتعرج المفرط لأعناقها الرشيقة، سلسة ومرنة وملموسة، تبدو وكأنها تتعرج بعيداً عن مسارها، في بحثٍ متاهٍ عن غايتها، ثم تعود أخيراً، أكثر عزماً، وأكثر دقة، وأشد قرباً إلى القلب".
وهكذا، يدرك القارئ أن بروست لم يكن يصف موسيقى شوبان فحسب، بل كان يصف أسلوبه الخاص وجمله الطويلة الشبيهة بمتاهات الزمن ذاته.
كان بروست، بحلول سنة 1912، قد أنجز كتابة ألف صفحة من عمله الضخم. ومع أنه كان يتخيل أن كتابه الكامل سيحتاج على الأقل إلى مثل هذا العدد مرة أخرى، فإنه كان متعجلًا في نشر ما كتب، راغبًا في أن يكشف مشروعه العظيم للناس. أما عنوان العمل كله، "البحث عن الزمن المفقود"، فقد جمع بين الجفاف العلمي والمغامرة المستحيلة؛ فلفظة recherche تعني البحث والتحري معًا، كأنما نحن أمام مغامرة دون كيشوتية عابثة وجادة في آن. بل إن العنوان يحمل سخرية خفية، إذ يمكن أن يُقرأ أيضًا: "البحث عن الوقت الضائع". أما المجلد الأول من عمله، فعنوانه كان "طريق سووان"، عنوان متواضع وعابر إلى درجة أن بعض أصدقاء بروست نصحوه بأنه بلا معنى تقريبًا، إذ كان الأدق أن يُترجم بـ"من خلال طريق سووان"، إشارة إلى السؤال اليومي البسيط: أي طريق نسلك؟ هذا الطريق الذي يبدأ به الكتاب الضخم.
وكان بروست يأمل أن تنشره دار NRF، الدار الجريئة ذات المكانة، ولكن غاستون غاليمار، الناشر، على اهتمامه، خضع لرأي لجنة تحريرية يرأسها آندريه جيد، فرفضت الكتاب دون أن توليه اهتمام كثير. فلجأ بروست إلى دار برنار غراسيه، الناشر الفتي الذي ابتكر أساليب جديدة في الدعاية والترويج الأدبي، فأغرى هذا بروست الذي كان مؤمنًا دومًا بأن كتابه يمكن أن يجد له جمهورًا واسعًا.
صدر "طريق سووان" سنة 1913. وقدّم في مقدمته بيانًا عن الأجزاء القادمة. وكان هذا المجلد نصف حجم الألف صفحة الأصلية، إذ أشار غراسيه إلى أن المطابع لا تحتمل أكثر من ذلك. ولكن الكتاب، مع هذا الاختصار، قد وضع أسس المشروع كله. ففيه نرى الراوي الهزيل، الطفل الذي يطوي ليله ساهرًا متلهفًا إلى قبلة أمه التي يمنعها أبوه، كرمز لكل إنسان أرقه الشوق أو عذبته الحسرة. والسرير الذي يتمرغ فيه هو مهد الميلاد، وسرير الحب، وسرير المرض، وسرير الموت، وسرير الحالمين. وتحفّز الذاكرة حين يتذوق الراوي كعكة المادلين المغمسة في الشاي، فتتدفق الذكريات عن مشيي العائلة صيفًا في الريف: أحدهما عبر ملكية سووان، والآخر نحو قصر آل غيرمونتس الأرستقراطيين، رمزين لمسارين في الحياة سيحاول أن يبلغهما حين يكبر: طريق الفن وطريق الطموح الدنيوي. ثم تأتي قصة تشارلز سووان، ذلك الرجل الذكي والأنيق، الذي أهلكه حبه الغيور لبغي صغيرة تسمى أوديت دي كريسي تسلقت على كتفيه إلى أعالي المجتمع. تلك القصة تقف كعبرة ونذير عن الحب الغيور ودناءة العالم الاجتماعي. وكانت الكلمة الأولى في الكتاب "لونغتوم"، "لفترة طويلة"، وقد كان بروست يعرف أن ختام الرواية سيعود إلى كلمة الزمن "توم"، لتكتمل الدائرة.
وقد لقي الكتاب فور صدوره التقدير، ونُشرت مقتطفات منه في الصحف الكبرى، وتدفقت المراجعات معظمها مشيد. وكانت المبيعات مشجعة، وأعيد طبع الكتاب سريعًا، ومؤلفه يعد العدة للمجلد الثاني.
تم الاعتراف بالكتاب على الفور كعمل رئيسي. ظهرت مقتطفات في الصحف اليومية. كانت هناك مراجعات كثيرة، معظمها تقديرية. كانت المبيعات جيدة أيضًا. أُعيد طبع الكتاب، والناشر يعمل على المجلد الثاني.
ثم جاءت الحرب.
ولكن، قبل أن تهب كارثة الحرب، وقع ما غير مجرى حياة بروست وروايته معًا: وقع بروست في الحب.
في ربيع ما قبل نشر "طريق سووان"، زاره شاب كان قد عمل عنده سابقًا سائقًا: ألفريد أغوستينيلي، وجاء ومعه صديقته التي قال إنها زوجته. كان بروست، الذي اقتصرت حياته الجنسية في أغلبها على المغازلة والاستمناء والتلصص، والذي كان يصر دومًا على أنه لا يمارس الجنس مع الرجال، مع ذلك منفتحًا تمامًا على انجذابه إليهم. وكان هذا الانجذاب غالبًا ما يأخذ صورة تقديم هدايا قهرية مع شعور بالغيرة الشرسة. و قبل ذلك، سنة 1908، قد تعرف إلى شاب ابن مصرفي يُدعى ألبرت نعمياس، وأسره حبه له، وإن كانت حرارة هذه المشاعر قد بردت مع الوقت، وظل نعمياس سكرتيرًا له منذ 1910.
أما الآن، وقد سُحر فجأة بأغوستينيلي، فقد استبقاه سكرتيرًا أيضًا، رغم أنه لم يكن جديرًا بهذا المنصب. ولعل أغوستينيلي وصديقته كانا سعيدين بالعثور على مأوى كريم. وأصبح بروست مهووسًا به، يريد أن يراه طوال الوقت، وأغرقه بالمال ضمانًا لذلك. مكث العاشقان معه طوال الصيف والخريف. وخلال هذه الأشهر، تولدت لدى أغوستينيلي رغبة في أن يصبح طيارًا. وهذا المشروع الحديث قد استهوى بروست، فشجعه ودفع له نفقات دروس الطيران.
ولكن، في ديسمبر، بينما كانت رواية بروست تشق طريقها إلى النور، غادر أغوستينيلي وصديقته فجأة. أصيب بروست بالذهول واليأس، وأخذ يرسل المال إلى عائلة أغوستينيلي، يتوسل إليهم أن يعيدوه إليه. وعلم بعد ذلك أنه يقيم بجنوب فرنسا، يتابع دروس الطيران تحت اسم مستعار: مارسيل سووان. فأمل بروست أن يغريه بالعودة عبر شراء طائرة له، بل وربما رولز رويس أيضًا. غير أن أغوستينيلي رفض هذه الهدايا. وبقيت الطائرة حبيسة الحظيرة، حيث راود بروست خاطر أن يكتب عليها بيتًا شهيرًا من شعر مالارميه: "العفيف، الحيوي والجميل اليوم"
ذلك المطلع لسونيتة تصف بجعة جليدية ظلت سجينة جمودها، تطارد حلم الرحلات التي لم تجرؤ على خوضها قط.
ولم تكد تشرق شمس أبريل من سنة 1914، حتى كان ألفريد أغوستينيلي قد انطلق في رحلته الجوية الثانية منفردًا، فسقط وتحطمت طائرته في البحر. ولم تلبث أسرته أن كتبت إلى بروست تنعاه إليه وتطلب منه أن يتحمل نفقات البحث عن جثته. وبعد أيام قليلة، وُجدت الجثة. أما بروست، فقد غمره الحزن واكتسحه الندم. أليس هو الذي، يوماً ما، قاده إلى مطارات باريس، وأثار في نفسه حب الطيران؟ أما كان ذلك الخطأ خطأه؟
وكان بروست قد قرر منذ زمن بعيد أن يجعل بطله يعاني الغيرة والحب العنيف، كما عانى سووان من قبله؛ فلابد للراوي أن يمر بتجربة الخيبة والخذلان، وأن يغرق في الحب حتى يغدو أكثر حكمة من ذلك القدوة البائس. ذلك أن الفقدان المتكرر للحب كان في نظر بروست من جوهر الحياة، كزوال الزمن نفسه. بل إن الكتاب كله، على نحو من الأنحاء، درس في تعلم الوحدة، ألا تحتاج إلى أم أو حبيب لتخفيف وحدتك، أن تمتلكها، وهو ما يعني امتلاك موتك الخاص.
ولكن، وإن يكن بروست قد عرف نهاية طريقه يوم نشر «طريق سووان»، فإن مأساة أغوستينيلي جاءت فأضفت على رؤيته طابعًا جديدًا من التركيز والحرارة. فقد خُلد الشاب المفقود من الطائرة في رواية بروست، إذ ظهر مجسدًا في شخصية ألبيرتين؛ الفتاة التي تلتقي بالراوي على شاطئ البحر في المجلد الثاني، ثم تملأ وحدها مجلدين كاملين من «البحث عن الزمن المفقود»، يتردد اسمها في كل صفحة، حتى أحصاه جان-إيف تادييه فبلغ 2360 مرة.
ولم تكن ألبيرتين لتوجد لولا أغوستينيلي، ولا لولا الحرب كذلك. فقد كانت الحرب هي التي منحت بروست الزمن ليصوغ صورتها. وكان غراسيه قد أعد بالفعل نسخ التصحيح لمجلد «في ظلال ربيع الفتيات»، وهو المجلد التالي لـ«طريق سووان»، حين اندلعت نيران الحرب. ولم تمض أيام حتى أُغلقت مطبعة غراسيه، إذ كان الرصاص المستخدم للطباعة أحوج به إلى البنادق من الكتب.
ألبيرتين فتاة غريبة الشأن. تدخل الرواية دخول الطيف؛ واحدة من مجموعة فتيات متشابهات تمر سريعًا، ولكن عيني الراوي تقعان عليها فلا تنصرفان. لا يوثق بها، وهي بعيدة عنه قريبة من غيره، خداعها واضح، وسطحيتها كذلك. ومع ذلك، فهي تبقى في الرواية، تظهر وتختفي، من دون أن نعرف عنها الكثير، كما لم نعرف شيئًا محددًا عن الراوي نفسه.
وفي «السجينة»، وهو المجلد الخامس من ملحمة بروست، نقترب من ألبيرتين أكثر مما نقترب في أي موضع آخر. فهي تعيش مع الراوي، محجوبة عن العالم كله، في غرفة نهاية الرواق، بشقو فى باريس كانت يومًا لوالده. حيث "كل مساء، متأخرًا جدًا، قبل أن تتركني، كانت تدس لسانها في فمي، مثل الخبز اليومي، مثل الطعام المغذي وبطابع شبه مقدس لأي لحم تحملنا معاناة من أجله في النهاية تمنحه نوعًا من الحلاوة الأخلاقية"
وقد صار الراوي، في حرصه على الاحتفاظ بها، أسيرًا لها كما كانت أسيرة له، وساعدته في ذلك الخادمة القديمة فرانسواز، التي كانت تتولى حراسة ألبيرتين بحذر ومراقبة لا تغفل. وكان الراوي، كلما أوصد الأبواب، ازدادت ظنونه بها، فبات يعتقد أنها، إذا خرجت، فإنما لتخونه مع نساء أخريات. وقد كانت تفعل.
وفيما كانت ألبيرتين تخرج وتعود، كانت تسأل الراوي عن كتابه، الذي كان عزمه على تأليفه سبب انعزاله وابتعاده عن العالم. وكان هو يزداد بطئًا وترددًا، فلا يتقدم.
أما أيام «السجينة» الثلاثة، فقد بسطها بروست على صفحات لا تكاد تنتهي، أيام ملأها المرض، وملأها الشك، وملأها حبًا محمومًا، حتى انفجرت غيرة الراوي كما تنفجر زهرة استوائية حلوة المذاق مريضة القلب.
كانت "السجينة" مركز الجحيم في رحلة بروست الطويلة بحثًا عن الزمن المفقود، وقد بناها كما يبني الفنان لوحته من مشاهد ثابتة، حادة الرؤية ولكن ملبدة بالضباب في آن واحد. بداية "السجينة" نجد الراوي في السرير - نحن بمعنى ما عائدون إلى بداية الكتاب ككل، وهو يقارن صراحةً بين قبلات ألبيرتين وقبلة أمه التي أعطته إياها تلك الليلة الوحيدة منذ زمن بعيد عندما لم يستطع النوم كطفل - كان مستيقظًا تمامًا، رأسه إلى الجدار، يسمع العالم يتنفس من وراء نافذته. منذ أول ضوء للفجر، كان يقيس طقس اليوم بأصوات الشارع. "لقد أدركت الحياة من غرفتي هذه فى هذه الفترة من حياتى"، يقولها، ولا يتراجع عنها، حتى وإن خرج كثيرًا في الصفحات التالية.
تلك الغرفة الضيقة، التي كانت له سجنًا، تعيدنا إلى جحر إنسان القبو، وتمتد بنا إلى عوالم صامويل بيكيت حيث الغرف تزداد ضيقًا والأسِرّة تصغر والقبور تتكاثر. هناك، في ذلك المكان العقيم الذي لا يلد إلا الخوف والكراهية، تكمن حقيقة "السجينة" الحزينة: ليست الغيرة، ولا الحب، بل الذات نفسها، وجحيم الوعي الذي لا حد له. الذات جحيم، وهى أيضاً الصديق أو الحبيب الذي يُفترض أن يكون عونًا، لكنه لا يزيد إلا الطين بلة.
إن ألبيرتين ليست كتاب حب، بل كتاب الوحشية التي لا تُطاق، والتي لا عزاء لها.
وكان الراوي يعلم منذ البداية أن النهاية ستكون وخيمة. "كنت أشعر بالعدم الذي أمثله لها، والذي تمثله لي"، يقولها وكأنه يوقع عقد الهلاك بيده. هو رجل الشك الذي لا يهدأ ولا يشفى، عاجز عن الالتزام، غير قادر على أن يحب حبًا نقيًا، فكيف يثق بألبيرتين أو يأمل في ولائها؟
ومع ذلك، يبدأ حديثه ناعمًا، فيصف القبلات الكثيرة، والمحادثات الحميمية، و فتحه لثوب ألبيرتين الصباحي للتأمل في ثدييها الصغيرين، وبطنها، وانحدار فخذيها.
ثم تأخذ الأمور منعطفًا أغرب، إذ نجده يدخل إلى غرفتها، يتأملها نائمة كما يحوم التنين فوق كنزه. يرى في ملامحها كل الأجناس والرذائل والسمات. يستكشف جسدها النائم. يصعد إلى سريرها، ويلف ذراعه حولها، ويضغط شفتيه على خدها وقلبها، بينما تظل يده الأخرى تجوس خلال جسدها، يتذوق لذة التلاحم والتنفس المشترك.
وكان يفعل ذلك مرارًا، لا مرة واحدة، مستمتعًا أحيانًا بلذة أقل صفاءً، عندما يضع ساقه القاسية على ساقها.
وكل هذا، كما نرى، كان يتم دون وعي منها، فهي غارقة في نومها. ولكن لذة تأملها نائمة لا تقارن بمتعة رؤيتها تستيقظ، تمد جسدها، تلتفت لتناديه "عزيزي" ويقول مارسيل بروست " - ألبيرتين تنادي الراوي باسمه الآن، كأمه. واحدة من المرات القليلة التي يُسمى فيها في الكتاب - اسماً لو كان نفس الاسم الأول لمؤلف هذا الكتاب، لكان 'مارسيلى الصغير'."
وفي اليوم الثاني، أيقظته أصوات الباعة المتجولين تحت نافذته. ينقل لنا بروست هذه الصيحات، خليطًا من الفرح والقسوة، لكنها كانت تصل إلى أذنيه كأنها أنين حيوان يحتضر. ألبيرتين تحب هذه الأصوات، والراوي أيضًا، وإن كانت تلك الأصوات تظل رمزا لعالم الخارج، الخارج الذي تحن إليه ألبيرتين، والخارج الذي يكرهه الراوي لأنه يعرف أن الخارج سوق صاخبة، يعرض فيها كل شيء للبيع، حتى الحب نفسه.
وحين تتغير نغمة الصيحات، يتخيل الراوي نفسه يضيع عمره وماله على امرأة هناك، في ذلك السوق البعيد.
ويمضي بنا بروست عبر هذا الصراع الحاد بين يقظة ونوم، متعة وألم، بنغمة موسوسة يكرر فيها كلمتي douceur وdouleur، اللذة والألم. في عالم بروست، اللذة لا تعني شيئًا إلا أنها راحة عابرة من الألم، وألمها عائد لا محالة، لأن اللذة لا تدوم. والحب؟ الحب عنده "في القلق الحزين كما في الرغبة السعيدة، هو طلب الكل"، لكنه لا يقود إلا إلى اليأس والوحدة.
كل لذة، وكل ألم، وكل رغبة، وكل قلق، هي مجرد أشكال مختلفة لنفس التوق المحموم إلى الراحة، إلى apaisement، الكلمة التي تتكرر في صفحات البحث عن الزمن المفقود، وهي راحة لا تتحقق إلا بالموت.
وإن كانت قصة ألبيرتين تستمد معالمها من مأساة أغوستينيلي - إذ تهرب ألبيرتين في نهاية فصل "السجينة"، وتموت في بداية فصل "ألبيرتين المختفية" إثر سقوط غريب من الحصان - إلا أن العلاقة بين الراوي وألبيرتين كانت شبيهة بشيء آخر: كحرب الخنادق، التي كانت تغلي في أوروبا حين كان بروست يكتب، حرب لا تسفر عن نصر ولا هزيمة، بل تستمر وتستمر.
كان الراوي وألبيرتين يخوضان معركة "يعتمد عليها كل شيء"، لكنها لم تكن كمعارك الأمس التي تُحسم في ساعات، بل كانت كمعارك العصر الحديث: لا تنتهي في يوم أو أسبوع، بل تمتد، رغم أن المحارب يلقي بكل قواه على أمل أن تكون هذه الضربة الأخيرة.
وقد يمر عام وأكثر، بلا نتيجة.
فبؤس الراوي وألبيرتين لم يكن إلا مصنعًا -مثل الحرب الحديثة- لإنتاج الألم اللامتناهي.
لقد كانت ألبيرتين منجذبة بشدة إلى النساء، وكان هذا الانجذاب من أسباب اضطراب علاقتها بالراوي. ومن الحق أن نعلم أن حكاية الراوي مع ألبيرتين لم تكن إلا جزءاً من ذلك التأمل العميق الذي أراده بروست في المثلية الجنسية، وجعله ركناً ثابتاً في عمله الكبير "البحث عن الزمن المفقود"، في ذلك الجزء الذي أسماه "سدوم وعمورة".
وفي هذا الكتاب الطويل، كانت شخصية البارون دي شارلوس صورة واضحة لما كان بروست يريد أن يقوله عن المثلية. فهذا البارون، الذي رآه الراوي طفلاً، بدا له أول الأمر رجلاً مهيباً، وجاداً، وأرستقراطياً مغروراً، يمشي كأشد الرجال رجولة. ولكنه ما لبث أن شكّ في هذا الانطباع، حتى رأى بعينيه البارون ذات ظهيرة، وهو يظن نفسه بعيداً عن العيون، يغازل تاجرًا بسيطاً. عندئذٍ ألقى بروست علينا تأملاً طويلاً عميقاً:
لقد صوّر السيد دي شارلوس على أنه من ذلك الجنس العجيب الذي يبدو ظاهره رجولياً شديد الرجولة، ولكن طبعه من أعماقه أنثوي النزعة... وهو جنس ملعون، قد كتب عليه أن يعيش في الكذب والحنث، إذ إن رغبته التي تمنحه أعظم لذة في الحياة، تُعدّ عند الناس خطيئةً تُستحق عليها العقوبة والخزي شيئًا غير مقبول... فهم أبناء بلا أمهات، يضطرون أن يكذبوا على أمهاتهم طوال حياتهم، بل حتى في اللحظات الأخيرة قبل الموت. وهم أصدقاء بلا صداقات حقيقية، وعشاق بلا أمل، يعشقون رجالاً كاملين لا يعرفون في أنفسهم أثراً للأنوثة ولا يبادلونهم حباً بمثله، فتظل رغباتهم محرومةً غير مشبعة. ولو لم يشتروا بالمال هؤلاء الرجال، لما بلغوا منهم شيئاً، حتى إذا استبد بهم الحرمان، تخيلوا أن هؤلاء المنحرفين الذين سقطوا في أحضانهم رجالٌ حقيقيون.
ولم يكن هذا التصور للمثلية الجنسية - باعتبارها انقلاباً داخلياً يجعل المثلي رجلاً ظاهراً وامرأة باطناً - مما أراح آندريه جيد، بل كان يرى فيه كراهيةً للنفس ونظرةً مقيدة لا تصف رغبته التي كانت أوضح تجاه الفتيان المراهقين. غير أن نظرية بروست عن "الكذب والحنث باليمين" في المثلية الجنسية، لم تكن تختلف كثيراً عن نظرته للحب كله: فكل حب في عالمه كذب، وكل حب مصيره الفشل. وكانت المثلية، في هذا التصور، أشد صور هذا البؤس الإنساني نقاءً لأنها أكثرها يأسا.
وإذا كانت رواية بروست تخنقها كراهية الذات، وإذا كان الراوي يمثل نفسه مغايراً جنسياً ويراقب المثلية من بعيد، فإنه، مع ذلك، لم يخدعنا بل زاد صدقه حين كشف عن هذا القناع. بل حتى في الأسماء، كان يلبس النساء أسماءً مستعارة تخفي أسماء رجال؛ فألبيرتين، وجيلبرت، لم تكونا سوى وجوه مموهة لحب للرجال خفي. وكان الراوي، على حبه لألبيرتين، يعاني المأزق نفسه الذي وقع فيه البارون: يحب شخصًا ليست شهواته ملكه.
وجاء الزمن المستعاد، وهو المجلد الأخير من "البحث عن الزمن المفقود"، فجاءت الحرب الضروس. كان الراوي قد انسحب إلى مصحة، أنهكته المحن العاطفية وأوهنت جسمه العلل. ولكن في سنة 1916 عاد إلى باريس، فوجد الحرب تملأ الأحاديث والصالونات، وتعلو الصحافة بصيحات وطنية جوفاء، تصخب بها المجالس.
وكانت مدام فردوران، تلك البرجوازية التي طالما كانت مقياساً لتغير الأذواق والمكانة، تدعو الناس إلى بيتها ليحدثوها عن الحرب. أما عباراتهم فكانت جوفاء، تردد الشعارات بلا روح، وتحاكي مصطلحات الوطنية والشوفينية والمليئة بالمصطلحات وكانت تلك المصطلحات هي سيدة الموقف. وبينما تستمر المذبحة، ينظر بعض الناس إلى الأمام: غير أن بعض العقول الطموحة، كمصممي الأزياء، اتخذت من الحرب فرصة للبحث عن الجديد، عن صيغة جمالية تليق بجيل ما بعد الحرب.
أما السيد دي شارلوس، فكان له رأي آخر، رأي ينم عن استقلال وفطنة. فقد سخر من دعاية الصحف ورفض عسكرة الروح الوطنية. ورأى أن الحرب في جوهرها أمر مبتذل، يلهث الناس خلفه لا حباً في الفن أو البطولة، بل اتباعاً للموضة ولضعف العقول أمام الضخامة لا أمام الجمال.
وكان البارون، بحكم نسبه، أوفى للنبلاء الألمان من ولائه للجنسية الفرنسية، غير خائف من اتهامه بـ"الإنهزامية" فلم يخف إعجابه ببراعة الجيش الألماني وانتصاراته. وكان يزعم أن هدف الألمان هو السلام، وأن الإنجليز والفرنسيين هم الذين يخربون هذا السلام. ومع ذلك، حول قصره إلى مستشفى عسكري، ويُقال إنه إنما فعل ذلك ليظل محاطاً بالشبان الذين يحبهم.
ولم تخلُ أحاديث البارون من هذه المعاني، وهو يسير مع الراوي في أمسية صيفية، والشبان الخشنين من الطبقة العاملة يتسكعون حولهم أملاً في لفت نظره. ولما طال المسير واشتد الحر، أحس الراوي بالعطش، فإذا به يلمح باباً مضاءً في شارع مظلم، فدخل ظناً منه أن صديقاً له هناك. لكنه فوجئ بأنه دخل بيت دعارة خاص بالمثليين، يديره جوبيان، التي كانت فيما مضى سمسار البارون وحارسه. "الجو المزعج" للمكان، الذي يرتاده سياسيون وشخصيات مرموقة، يثير "فضولاً هائلاً".
طلب الراوي من جوبيان كأسًا يشربه وغرفة يرتاح فيها، غير أن اضطرابه لم يلبث أن اشتد حين سمع صرخات مروعة تنبعث من الغرفة المجاورة. كانت الأصوات ترجوه:
ـ أترجاك، ارحمني! دعني أذهب، لا تضربني بقوة! أنا أقبل قدميك، أنظر، أنا أزحف على بطني، لن أكرر ما فعلت.
لكن الصوت الآخر أجابه بخشونة وقسوة:
ـ لا، أيها الوضيع! ازحف وواصل النحيب على ركبتيك. لهذا سنقيدك بهذا السرير، ولا رحمة لك.
خرج الراوي من غرفته يتبع حيرته، فعثر على نافذة صغيرة مكشوفة، ومن خلالها لمح مشهدًا صدمه: البارون دي شارلوس، مقيدًا إلى السرير كبروميثيوس في أسطورته، مضرجًا بالدماء والكدمات، يجلده شاب بسوط ذي تسعة أذناب.
وكان ذاك صيف عام 1916، صيف معركة السوم، حيث تجاوز عدد القتلى والمصابين المليون، وحيث لم تتقدم الجيوش البريطانية والفرنسية ضد الألمانية إلا بمقدار ستة أميال بعد خمسة أشهر من الذبح. لم يكن هذا المشهد الدموي للبارون منفصلًا عن تلك الكارثة الكبرى، بل كان انعكاسًا صغيرًا ومروعًا لها. ذلك الرجل العجوز، وهو يتوسل خادمه أن يكف عن ضربه، فقط ليجلد بقوة أكبر، كان يعبر بصورة بشعة عن حال العجائز الآخرين الذين أرسلوا الشباب إلى ميادين الموت. ومع ذلك، حتى وهو في موقع التبعية، يظل مثلهم في السلطة، حيث تجلب شخصيته المثيرة للشفقة والمروعة والطفولية، إراقة دماء أكبر بكثير تحدث في مكان آخر.
ولم تكن مدام فردوران وحدها من رأت أن الحرب غيّرت كل شيء، فقد شاركها البارون هذا الرأي، لكنه كان يأسف على ذلك، من زاويته الخاصة، لأن الخدم الأقوياء الذين كانوا يصطفون على السلالم الرائعة للقصور العظيمة في عصر البيل إيبوك قد ذهبوا إلى الجبهة ولم يعودوا. اعترف الراوي بسطحيته، لكنه أيضاً يلاحظ بجفاف لا يخلو من سخرية، "استمرت الحياة أكثر أو أقل كالعادة بالنسبة للعديد من الشخصيات التي ظهرت في هذا السرد"، مما يعني أن سطحيتها الأساسية لم تتغير. "كل شيء كان في الحقيقة كما هو."
وفي المشهد الأخير من "الزمن المستعاد"، بعد أعوام طويلة من انتهاء الحرب، وجد الراوي نفسه مدعوًّا إلى حفلة عند الأمير دي غيرمانت، ذلك الأمير الذي أفقدته الحربُ ثروته وعزّته، فلم يجد مفرًّا من الزواج بمدام فردوران، تلك المرأة البرجوازية الطامعة في الصعود إلى عالم النبلاء. وهناك، بين زحام الوجوه البالية وأصداء الماضي، انسكب اليأسُ في نفس الراوي، فبدت له حياته سدىً، وكأنما أضاع عمره دون طائل.
غير أن القدر كان يخبئ له مفاجأةً، كتلك الرسالة التي تصل في اللحظة الأخيرة من المعركة، حين يظن الجميع أن كل شيء قد ضاع. فهناك، بينما كان يسير في الحديقة، تعثرت قدمه بحجرٍ من الرصيف، فإذا به، كالسحر، يعود إلى الماضي بكل تفاصيله، كما حدث يوم ذاق قطعة المادلين مع الشاي. لكن الفرق هذه المرة أنه لم يعد مجرد مسترجعٍ للذكريات، بل صار قادرًا على صياغتها بكلماتٍ تُخلّدها. وكأنما انكشفت الغمة فجأة، فتلاشت شكوكه كلها، وأدرك أن الفن وحده هو الذي يستطيع أن ينتزع اللحظات من براثن النسيان، ويحوّلها إلى شيءٍ باقٍ.
ولم يدخل الراوي الحفلة على الفور، بل توقف أولاً في مكتبة الأمير، يتأمل المعجزة التي جرت له وما لا تزال تجري. ولم تكن المكتبة عنده مجرد مكان عرضي، بل كانت موضعاً اجتمع فيه عشقه القديم للقراءة، الذي عُرف به منذ بداية الحكاية، مع الكتابة، ذلك الفن الذي سيحتله كتابه المقبل. هناك، في حضرة الكتب، راح يتأمل قائلاً: "في القراءة يسعى الإنسان للرجوع إلى وطنه الأم". أما الكاتب، فهو الذي يستطيع أن يقرأ العلامات الغامضة للكتاب الداخلي، ويعيد خلقه من جديد.
كانت الكتب، بجميع أنواعها ومن كل أصقاع الأرض، مصطفة في مكتبة الأمير، فدفعته هذه الرؤية إلى أن يرى الكتابة نفسها ضرباً من الترجمة. ولعله أول من عبر عن هذه الفكرة في رواية، فكرة أخذت لاحقاً طابعاً خاصاً عند والتر بنيامين في مقالته الشهيرة "مهمة المترجم". كانت هذه الملاحظة غريبة، لأن الروايات طوال القرن التاسع عشر كانت تزداد عدداً، وكان كثير منها مترجماً، لكن لم يسبق أن عبّر أحد عن هذه الحقيقة بهذه الصورة.
ولم يكن وقوف الراوي بين رفوف المكتبة أمراً عابراً؛ لقد كانت المكتبة صورة لما يدور الآن في خياله: كتاب يتخلق، كتاب يحوي بين دفتيه عالماً من الكتب، بعضها من خياله، وبعضها الآخر ــ مثل دوستويفسكي ــ مستقى من عالم الأدب الواقعي. وببساطة، كانت كثرة الكتب في المكتبة دليلاً على أن الترجمة قد زادت الأدب غنىً وانتشاراً.
غير أن قول الراوي إن الرواية ضرب من الترجمة أمر أعجب؛ إذ معناه أن الرواية عمل مشتق دائماً، ليس لها لسان خاص بها، وأنها، بانتشارها في كل اللغات، قد تجاوزت حدود الكلام لتصبح شيئاً عالمياً. فنجد أن هذه الشخصية التي تعبر عن العجز والانكسار، هي نفسها شخصية المصالحة والانتصار. فأي الوجهين أصدق؟ بين هذين الاحتمالين يلوح قول لوكاتش عن الرواية بأنها "تشرد متعالٍ".
ولم نكن بعيدين عن هذا، حين رأينا بروست يعيد صدى أفلاطون، خاصة حين نقل عن أريستوفانيس في "المأدبة"، قوله إن الحب سعي دائم إلى الكمال، وإن كان الحب عند بروست لا ينتهي إلا بكارثة. ومع ذلك، ففي الرواية قد يلتقي اليأس بالخلاص. وقد لمح جوبيان ساخرًا إلى بيت الدعارة الذي كان يملكه السيد دي شارلوس، ذلك المكان الذي غص بالزوار من كل مكان، فوصفه بأنه "بيت الأمم جميعاً"، و"بيت الألم"، وكأنه أعادنا بذلك إلى جزيرة الدكتور مورو، حيث كان الألم ملجأ مشوهاً في عالم يمزقه القتال. غير أن الراوي، وقد عاد إلى رشده بعد الحرب، أدرك في المكتبة دعوته الحقيقية، ورأى في الرواية بشارة بالسلام.
ثم جاءت الحفلة الكبرى الأخيرة، تلك الحفلة التي طالما حلم بها الراوي، وآخر ما سيشهده من حفلات قبل أن ينصرف إلى الكتابة. وكان قد وصف هذه الحفلة بأنها "باليه الرؤوس"، حفل تنكري غريب، ولكن الأقنعة التي ارتداها الناس لم تكن إلا وجوههم الحقيقية وقد شحب لونها وتغيرت ملامحها مع مرور الزمن، حتى غدت شبه مجهولة. وكأن الزمن، في انتقامه، كشف عن الوجوه الخفية التي خبأها الشباب يوماً ما.
وكانت هذه الحفلة الأخيرة تقابل أول حفلة وصفها الكتاب، تلك التي أقيمت في منزل مدام دي سانت-أوفيرت، حيث حضرها بديل الراوي، سوان. كانت مدام دي سانت-أوفيرت سيدة المجتمع المسيطرة في عصر الإمبراطورية الثانية، لكن تلك الإمبراطورية ذهبت، ومعها ذهب مجدها، خاصة بعد أن محتها الحرب الكبرى، كما محا السيل آثار الممالك القديمة.
ولما دعانا بروست للعودة إلى ذلك المشهد المبكر، أرادنا أن نتذكر أولئك الخدم الأقوياء الذين فقدهم دي شارلوس وحن إليهم، ولكنه أرادنا أيضاً أن نرى من خلال عيون سوان، كيف كان الناس آنذاك غرباء قساة، وكيف كان القبح يتخفى تحت أضواء الحفلات البراقة:
فها هو سوان يلاحظ الجنرال، وقد علق مونوكله بين جفنيه، كأنما هو شظية قذيفة مغروسة في وجهه المتغطرس المبتذل المليء بالندوب. هذا المونوكل، وقد هيمن على جبهته كعين السيكلوب الوحيدة، بدا لسوان كجرح وحشي، قد يكون جديراً بالتمجد به في زمن الحرب، ولكنه لا يليق أبداً بالعرض في حفل من حفلات المجتمع الارستقراطي.
بعبارة أخرى، رأى سوان أمامه عالماً اجتماعياً مشوهاً، مملوءاً بكائنات شوهها الزمن والعادات، وكان المونوكل (النظارة الأحادية) رمزاً صارخاً لهذا التشوه، رمزاً لرؤية ضيقة لا تبصر إلا جانباً واحداً. والمونوكل، الذي لا يليق عرضه، كان كذلك رمزاً لجرح الحب والجنس، حتى بدا كما لو أن سوان قد لمح، دون أن يعلم، شبح الحرب العظمى المقبلة، رغم أن أجله قد وافاه قبل أن تندلع بوقت طويل، وقبل أن يخط بروست هذا المشهد.
بيد أن الحرب كانت دائماً تحتل مركزاً في رؤية بروست للعالم. فقد كان يؤمن أن الإنسان أسير طبيعة لا ترحم، وأن الزمن يسحبه من خلال رغباته الخاطئة وعاداته السيئة نحو الهلاك والدمار. فما الرغبة في عرف بروست إلا شوق إلى الشيء الخطأ، وما العادة إلا استسلام مضلل. وهكذا، كان البارون الملطخ بدماءه من أثر الجلد من خادمه، كما كان الفتى الصغير الراقد في سريره يترقب قبلة من أمه، واحداً في النهاية؛ كلاهما يسعى، وكلاهما يهلك.
ومع ذلك، كان في مقابل هذا المصير المحتوم شيء آخر: لحظات نجاة، تأتي فجأة بلا مقدمات، عبر طعم المادلين، أو صدمة حجر مرصوف، أو سماع قطعة موسيقية، أو مشاهدة عمل فني، لحظات تحرر الرغبة أو تحررنا منها، لحظات نعمة لا نتحكم فيها، ولكنها، حين تأتي، لا يمكن إنكارها. وهكذا، كانت رواية بروست، المليئة بالأحداث العرضية، تسعى وراء ذلك الشعور بالارتقاء الذي يبرق فجأة وسط الحياة اليومية.
وهذا الصراع الحاد بين الحتمية القاتلة والصدفة المضيئة، بين تفسيرين للعالم لا يمكن الجمع بينهما، أنجب ذلك العمل العظيم، الذي ظل أجمل ما كُتب في القرن العشرين، أكثره فضولاً وتعاطفاً. والذي، ربما بشكل يفاجئنا، وبالنظر إلى عزلة مؤلفه الاجتماعية والشخصية، يحتوي على أكثر التجارب المعاشة ولم يكن للكتاب أن يبلغ هذا المدى لو لم تقع الحرب. فلولاها، لبقيت استعارات الحرب في وصف حفلة مدام دي سانت-أوفيرت مجرد صور بلاغية، جزءاً من زخرفة أدبية لما قبل الكارثة. أما الحرب، فقد نزعت عن الكتاب زينته، وأطلقت بروست من زمنه، تماماً كما أطلقت المادلين الذكريات الغارقة.
لقد قبل بروست الحرب كحدث مأساوي لكنه ضروري للفن، مدركاً، كما أدرك ماركس، أن "الناس يصنعون تاريخهم، ولكن لا يصنعونه كما يريدون". ولذا كتب بروست في "الزمن المستعاد": "الكتاب مقبرة عظيمة حيث أسماء معظم القبور مهترئة جدًا بحيث لا يمكن قراءتها".
ماذا فعلت الحرب؟ أطاحت بالإمبراطوريات الروسية والنمساوية-المجرية والألمانية والعثمانية، وأضعفت الإمبراطورية البريطانية حتى أفقرتها. فجرت الثورة الروسية، وأسفرت عن قيام جمهوريات وأمم جديدة كـ بولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا، وحتى دول كانت مجرد محميات لم يُسمع بها من قبل حول العالم صارت أمماً قائمة، كالعراق. منحت النساء حق التصويت في بريطانيا والولايات المتحدة. وخلال اشتعالها، كان كثيرون يعتقدون أنها قد لا تنتهي أبداً، وأنه إذا انتهت، فستتبعها حرب أخرى. وقد أطلق عليها الكاتب أتش. جي. ويلز اسم "الحرب التي ستنهي جميع الحروب".
دامت أربع سنوات، قتلت وجرحت نحو أربعين مليون إنسان. والحقيقة، مهما بدت مبتذلة، أنها غيرت كل شيء.
أما توماس مان، الذي كان يكتب في أمة مهزومة، فلم يتردد في الاعتراف بذلك. وبروست، وإن رفض العبارة المبتذلة، فقد آمن أن الحرب لم تفعل سوى كشف الجوهر التدميري الكامن أصلاً في الحياة. كانت تجربة لا سابقة لها، صاغت وعينا وأدبنا.
وكان بروست ومان يشتركان في كثير: شغف بالمرض، وبالجنس، وبالطبقات الاجتماعية، وبالزمن. وكل منهما امتلك ذلك المزيج الغريب من الوصف والتحليل، المولود من شعور عميق بأزمة الرواية، التي منحتها الحرب طارئاً جديداً لكنها وضعتها أيضاً في حجمها الصحيح.
لم يكن بروست ومان صبورين على بساطة رواية مطلع القرن كما صنعها جيد وويلز، بل كانا حنونين على شمول الرواية في القرن التاسع عشر. فبروست، حين كان صبياً يقرأ الروايات، كان يملأه الإعجاب بالكاتب الخيالي بيرجوت؛ لكنه، مع نضوجه، أصبح يقدّر فردانية هذا الكاتب، حتى لو أدرك حدودها.
وها هو بيرجوت يموت بعدما خرج، وهو مريض، ليرى لوحة "منظر دلفت" لفيرمير، مبهوراً بلمسة طلاء صفراء أحس أنها تختصر عبقرية الفنان، لمسة أشبه بكعكة مادلين قاتلة. أما مان، فقد كتب ينتقد مفهوم أخيه هاينريش السطحي عن الرواية، ذاك المفهوم الساخر الناشط.
ظل بروست ينظر بإعجاب إلى كوميديا بلزاك الإنسانية، كما كان مان ينظر إلى غوته، يقدّره لذكائه، وحكمته، بل شهيته وطاقته الجنسية. لم يكونا يريدان تقليد هؤلاء العمالقة، بل كانا يتطلعان إلى مجاراتهم. ومع هذا، كان كلاهما يحتقر الرواية الأخلاقية المتكلفة التي كتبها رومان رولان، داعية السلام الذي فاز بجائزة نوبل عام 1915، والذي استمر فيما بعد داعماً للستالينية.
رواية رولان الضخمة "جان كريستوف"، التي تتبعت مسيرة موسيقي عبقري منذ ولادته حتى نضوجه الكامل، بدت لكل من بروست ومان عملاً متكلفاً، وباهتاً، ومزيفاً تماماً.
يوليسيس
وثمة كتاب آخر، لا يقل شأنًا عن كتب ذلك العصر، هو "يوليسيس"، الذي يملأه الزمن والجنس كما تملؤه أنغام الموسيقى وأحلام الحياة. كتاب حرٌّ رحب، يفسح المجال لكل شيء، بل يزيد عليه، فلا يقصي شيئًا مهما كان تافهًا. كتاب لا يكتفي بالنظر إلى القرن المنصرم وحده، بل يمد بصره إلى بدايات الحضارة في بلاد اليونان، ليزن بها الحياة الحديثة، وليثبت نفسه رواية لم يرَ الناس مثلها من قبل.
وهذا الكتاب، كغيره من روائع زمانه، يصور شابًا يتوق أن يكون كاتبًا، لكنه لا يسلم من التفسخ العقلي والجسدي؛ إنه ستيفن ديدالوس، الذي يصور جويس من خلاله نفسه كما صور بروست نفسه في مارسيل. ويقدم "يوليسيس" رجلًا آخر، ليوبولد بلوم، هذا اليهودي البسيط، العامل في الإعلانات، والديوث، والأيرلندي الشارد، الذي تُجسد تجاربه وتأملاته المعنى العميق للإنسان، كما جسد هانز كاستورب ذلك في رواية مان.
وهذا الكتاب أيضًا وُلد من رحم الحرب. كانت أولى بوادر فكرته في عام 1906، حين كان جويس منصرفًا إلى قصص "أهل دبلن"، فرأى أن يجعل من دبلني معاصر نظيرًا لأوديسيوس الهوميري، موازيًا له في مغامراته. ولكنه لم يشرع في الكتابة الجدية إلا سنة 1914، ولم يفرغ منه إلا سنة 1921. لقد تَشَكَّل "يوليسيس" إذن في ظلال الحرب، وإن كان موقف جويس من هذه الحرب غير موقف مان ولا بروست؛ فلم يكن جويس كاثوليكيًا أيرلنديًا يدين بالولاء للبريطانيين، ولا كان مؤيدًا للإمبراطوريات الأخرى التي تنازعهم (وكشاب، قارئ متعاطف لماركس وباكونين)، وإن كان يدين للإمبراطورية النمساوية المجرية بشيء من الامتنان لطريقتها اللطيفة في نفيه من ترييستي حيث كان يعيش هو وعائلته في ذلك الوقت. ولطالما كان يتمنى لو كانت في الدنيا إمبراطوريات أخرى شبيهة بها!
وما إن استقر جويس في زيورخ المحايدة، حتى غدا - كما قال ريتشارد إيلمان - غير مكترث بمن يكسب الحرب أو يخسرها، طالما لم يبلغ إلى أذنه صوت الرصاص.
سنوات طويلة قضاها جيمس جويس في صراع لا يهدأ. فقد خاصم أهله، وهجر الكنيسة التي نشأ فيها، ونبذ وطنه أيرلندا، لا حبًّا في بريطانيا ولا انحيازًا للقوميين الأيرلنديين، بل نزوعًا إلى عزلة لا يعرفها إلا الفنانون الكبار. عاش مغتربًا عن وطنه بإرادته، يقاسي الفقر، ويصارع لجمع لقمة العيش، ولا يجد الوقت إلا لمامًا ليكتب. حتى حين كتب، اصطدم بالناشرين والطابعين الذين رأوا في أعماله مجازفة أو خطرًا سياسيًا لا يُؤمَن جانبه.
ومع ذلك، فإن القدر قد ابتسم له أخيرًا. ففي عام 1914، وبعد عشر سنوات من الانتظار، نُشرت مجموعته القصصية "أهل دبلن"، ثم تبعتها روايته تصنيف سير ذاتية "صورة الفنان في شبابه"، التي رُفض نشرها في إنجلترا لكنها وجدت دار نشر أمريكية تؤمن بها عام 1915. أُعجب الكاتب الكبير ويلز بالرواية، واحتضنها عزرا باوند، ذلك الذي لا يعرف الكلل في دعم الأدباء.
سنوات الحرب الكبرى جاءت بما لم يحلم به جويس؛ فقد ظفِر برعاية سخية من السيدة هارييت ويفر، محررة مجلة "ذا إيجويست"، التي نشرت روايته في حلقات. وأخيرًا، ولأول مرة في حياته، صار جويس حرًا؛ حرًا ليكتب كما يشاء، دون أن تقطع عليه الحاجة طريق الخيال والإبداع. لكنه لم يغفل عن بشاعة ما يحيط به؛ فقد قال يومًا: "أنا، كفنان، عدو لكل دولة... الدولة تتمحور حول ذاتها، والإنسان يبقى على هامشها، ومن هنا ينشأ الصراع الأبدي. لا أبارك من يلقي قنبلة في مسرح، لكن، هل كانت الدول أقل عنفًا حين أغرقت العالم في بحور الدم؟"
رواية "يوليسيس" التي رفعته إلى مصاف الخالدين لا تدور أحداثها في زمن الحرب، بل في 16 يونيو عام 1904، اليوم الذي التقى فيه جويس بحبيبته نورا بارناكل، مرأة من الطبقة العاملة استقر معها وتزوجها في النهاية. واختار هذا التاريخ، لا لشيء إلا لأنه بداية حياته الحقيقية.
ولـ"الأوديسة" القديمة حضور قوي في الرواية؛ فهي قصة رجل يعود من الحرب ليجد سبيله إلى زوجته. لكن جويس رأى أوديسيوس بعين مختلفة؛ حدث صديقه فرانك بودجن قائلاً: "صحيح أن أوديسيوس عاش محاربًا، لكنه بالأصل كان رجلاً يهرب من الحرب، يتظاهر بالجنون كي لا يحمل السلاح. كان أول سيد حقيقي في أوروبا؛ رجلاً كاملاً، وطيبًا، وذكيًا. هذا ما أريده لبطل روايتي."
لم ينسَ جويس براعة أوديسيوس في الحيلة؛ أضاف إليه اختراع الدبابة، مستنتجًا أن صندوقًا معدنيًا مليئًا بالجنود ليس بعيدًا عن فكرة الحصان الخشبي الأسطوري. فكرة كان يمكن أن تتبادر إلى ذهن ليوبولد بلوم، بطل "يوليسيس"، بكل بساطة.
بلوم ليس بطلاً ملحميًا كما ألفنا في الكتب القديمة. إنه رجل عادي بكل ما تحمل الكلمة من معنى؛ عقل فضولي فيتساءل، في إحدى اللحظات مثلًا: "هل يصاب السمك بدوار البحر؟"، وقلب مفعم بحب زوجته، رغم خيانتها له. غير أنه، في لحظات الحسم، يظهر شجاعة متواضعة ولكن حقيقية.
في "يوليسيس"، نرى بلوم يتخذ موقفين أساسيين، وسط سلسلة من الأحداث اليومية العادية مثل: يعد الفطور، ويشتري صابونًا، ويحضر جنازة، ويستمني، ثم يعود إلى بيته وينام. لكن عندما تدعو الحاجة، يتدخل بلطفه لإنقاذ الموقف و منع صراع محتمل.
الحدث الأبرز في الرواية هو لقاؤه بستيفن، الشاب التائه الذي يحتاج إلى أب بعدما ضل أبوه طريقه بين أقداح الخمر. وبلوم، الذي فقد ابنه صغيرًا، يرى فيه الابن الذي كان يتمناه. يجتمع الاثنان في حي الضوء الأحمر، بعد أن كاد ستيفن أن يتعرض للضرب أو الاعتقال عقب مشاجرة في حالة سكر مع جنديين إنجليزيين.
في تلك اللحظة الحرجة، حين يفقد ستيفن وعيه بضربة في وجهه، يظهر بلوم، لا كمنقذ بطولي، بل كإنسان رؤوف؛ يحمل الشاب الملقى، ويرعاه، ويواسيه، ويتحدث معه حديثًا عابرًا، ويتبولان معًا في ودّ، قبل أن يفترقا. عندما يهم الأمر، يتصرف بلوم، ويتصرف بطريقته المتواضعة كرجل.
لقد كان التعصب الوطني وقودًا يشعل القتال الذي حاول بلوم عبثًا أن يتجنبه بين ستيفن والجنود. ستيفن لم يترك فرصة للسخرية من الملك تمر دون أن يغتنمها، مما أثار حفيظة الجندي كار، الذي صاح مهددًا: «سأعتنق عنق كل وغد لعين ابن عاهرة يتفوه بكلمة ضد مليكي العزيز الدميم!». وكان التعصب نفسه يلاحق بلوم منذ ساعات الصباح الأولى، يحاول أن ينأى بنفسه عنه، بالكاد يفلح في ذلك. ولما دخل الحانة باحثًا عن صديق، صادف هناك الرجل الذي أطلق عليه اسم "الوطني"، جندي عريض الكتفين، عميق الصدر، قوي الأطراف، واسع العينين، أحمر الشعر، كثير النمش، كث اللحية، واسع الفم، ضخم الأنف، طويل الرأس، غليظ الصوت، ضخم الركبتين واليدين، كثيف شعر الساقين، أحمر الوجه، شديد الذراعين. كان بطلًا غارقًا في حبه لكل ما هو أيرلندي.
وما إن دار الحديث نحو السياسة، حتى وجد بلوم، المعتدل بطبعه والذي لا يشرب، نفسه هدفًا لسخرية الوطني المتعصبة. لم يتزحزح عن هدوئه، بل قال بصبر:
لا فائدة. القوة والكره والتاريخ، كل هذا ليس حياة حقيقية للرجال والنساء. فالحياة الحقة بعيدة عن الإهانة والضغينة. الكل يعلم أن الحياة الحقة عكس ذلك تمامًا.
سأله ألف بدهشة: «وماذا يكون ذلك؟»
أجاب بلوم ببساطة وعفوية: «الحب... أعني عكس الكره.»
وفي نهاية الأمر، حين أغضب بلوم الوطني المتعصب بعبارته: «إلهك كان يهوديًا، مثلي»، اشتعل الغضب الأعمى في صدر الرجل، مما أتاح لبلوم فرصة الفرار. لقد نفد بجلده، وأثبت في الوقت نفسه أنه شجاع وذكي، وأنه يقاتل لا بالحقد بل بالسلام.
إن إلمان يصف "يوليسيس" بأنها ملحمة سلمية، رغم أن هذا الوصف يبدو في ظاهره متناقضًا، فالملاحم تقليديًا قصص محاربين لا صناع سلام. كانت رواية جويس تهدف إلى إعادة صياغة الرواية نفسها، وإلى إعادة النظر في كل تراثنا الأدبي، بعناد لا يقل عن عناد مان وبروست في مؤلفيهما الضخمين. وكما كانت أعمالهما نوعًا من الترياق لسموم الحرب، كانت "يوليسيس" بدورها دعوة إلى الحب، إلى النقاء الذي يتخفى وراء فوضى الكلمات.
لكن "يوليسيس" تختلف عن "الجبل السحري" و"البحث عن الزمن المفقود" في علاقتها باللغة. فمان وبروست، وإن كانا فنانين عظيمين في تطويع اللغة، فإن عظمتهما تنبع من سعيهما لجعل اللغة شفافة، تفيض سلاسةً وخداعًا في آن. أما جويس، فقد وضع اللغة في صدارة المشهد، جعلها بطلة روايته. "يوليسيس" كتاب لا يعرف التحليل ولا التأمل التقليدي، ولا يسعى إلى التهذيب أو التعليم، بل يمضي قُدمًا يرسم مسار يوم واحد بكل تأثيراته الحية.
كانت رؤية جويس لتدفق الوعي رؤية مدهشة: كما لو أن عددًا لا يحصى من الأجراس الصغيرة ترن في عقله. وكانت الأهم من ذلك علاقته المبتكرة بالكلمات: كلمات مبتكرة، وكلمات قديمة، وكلمات أجنبية، وكلمات تقنية، وكلمات عامية، مزيج لا ينضب من اللعب اللغوي.
وكانت النتيجة أن القارئ لا ينسى أبدًا أنه يقرأ كلمات موضوعة بعناية، يسمع نغمتها، ويرى ميل جويس للمحاكاة الساخرة والتقليد الأدبي. قد يُتعب هذا بعض القراء، وقد يبدو أحيانًا أقرب إلى الهوس منه إلى الفن، لا سيما مع غياب الإحساس الدائم بالتناسب عند جويس. لكن دقة ملاحظاته وإحساسه العميق بالكلمة تعيد جذبنا دائمًا.
لقد وصفه باوند بأنه "مؤلف جمل"، وقد كان هذا الوصف في محله. كان إنجازه مكملا لإنجاز ستاين، رغم أن جويس كان خاليًا تمامًا من ميل ستاين للنظرية ورغبتها في جعل نفسها نموذجًا للآخرين. "يوليسيس" بتفاصيله الضخمة هو عمل يجعل الجزء يغمر الكل. لم يكن مجرد وصف حين كتب بلوم عن إبريق الشاي: «كان يجلس هناك، بليدًا قصيرًا، فمه البارز متمددًا»، بل كان يرسم بالحروف طبعة حية لا تمحى. يزور غرفة أخبار مزدحمة، ويخترع جويس كلمة - كلمة مناسبة لغرفة أخبار لأنها قد تُعتبر خطأ مطبعي - لوصف ما يسمعه: "ذلك الباب أيضًا يصدر صوتًا، يطلب أن يُغلق. كل شيء يتكلم بطريقته الخاصة. صرير."
كل شيء في هذا العمل يُعبر عن نفسه بطريقته الخاصة. ففي جزء «سيرس»، الذي تدور أحداثه في بيت دعارة ويُكتب بأسلوب مسرحي مُبالغ فيه، تطالعنا مجموعة من الشلالات المتجسدة، تصرخ وهي تدخل قائلة: «فوكافوكافوكا»، في مشهدٍ يذكرنا بالجندي كار.
أما مصطلح «تدفق الوعي»، الذي أصبح مألوفًا في زماننا، فقد أُخذ من كتاب «مبادئ علم النفس» لوِليام جيمس، واستعانَت به الروائية ماي سينكلير لوصف ما كان جيمس جويس يفعله في عمله رواية «صورة الفنان فى شبابه»، حين كان ينقل الفكر الخام نقلاً ظاهرًا خاليًا من التصنُّع. وقد خدمه هذا النقل في إطلاق ذاته وكلماتها من رقابة الضمير، ذلك الضمير الذي تغذيه الكنيسة والعائلة والأمة.
وكان وصف تدفق الوعي آنذاك مسألة تتعلق بالصدق والدقة، غير أنها، في جوهرها العميق، كانت أيضًا مسألة حرية: هذا هو الواقع كما هو، ولا مبرر للادعاء بغيره (بل إن كل الأسباب كانت تحث على الابتعاد عن الزيف).
ولكن جويس، في «يوليسيس»، مضى إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فقد تناول تدفق وعي اللغة نفسها، ولم يكتف بتدفق الأفكار. وهو نفسه قال لشارحه ستيوارت جيلبرت: «من جهتي، لا يهم كثيرًا إن كانت التقنية (صادقة) أو لا؛ لقد خدمتني كجسر أعبر به حلقاتي الثماني عشرة، وبمجرد أن أعبر بقواتي، يمكن للقوات المعادية، فيما يخصني، أن تفجر الجسر».
لقد استُقبل أسلوب "تدفق الوعي" بترحاب واسع بين النخبة من القرّاء، غير أن هذا الاتجاه الجديد أربك حتى أولئك الذين دافعوا عن جويس طوال الوقت، ومنهم هارييت ويفر، التي نشرت فصولًا من "يوليسيس" في مجلتها "ذا إيجويست". أما عزرا باوند، فقد اقترح على جويس أن يركّز على شخصية ستيفن، فما كان من جويس إلا أن أجابه بقوله: "ستيفن لم يعد يهمني. له شكل لا يتغير." لقد رأى فيه شخصية مضطربة، و راكدة، وتخذل نفسها بنفسها، وهذا ما لم يعد يغريه، لا على مستوى الشخصية فحسب، بل على مستوى مكانة "الشخصية" في الأدب، تلك المكانة التي أخذت تتضاءل في نظره.
في فصل "ثيران الشمس"، الذي يثير تحدي للأدباء حتى اليوم، بلغ جويس أقصى درجات المغامرة. كان المشهد في مستشفى ولادة، حيث يحتفل ستيفن ورفاقه بصخب وضجيج، فيما يولد طفل في الغرفة المجاورة. مشهد يعرض فيه جويس مفارقة صادمة بين الفوضى البشرية وبين عملية الخلق النقي، مستخدمًا محاكاة ساخرة للغة الإنجليزية وتطورها، فيها من الغموض والثراء ما لا يُحصى. كتب يقول: "في رحم المرأة تصبح الكلمة جسدًا، لكن في روح الصانع يصبح كل جسد عابرًا للكلمة التي لا تزول." لقد أعاد ترديد إنجيل يوحنا، وأبرز مفهوم "ما بعد الخلق"، أي أن العالم يتجسد في صور لا نهائية من الكلمات، وهي عند جويس، أحيانًا، أهم من الخلق نفسه، كأنما يبحث دائمًا عن العودة إلى رحم الكلمة الأولى.
وبهذا الانسياب، ترك جويس وراءه تقنيات "تدفق الوعي" ليندفع في نهرٍ لغويٍّ متلألئ، منساب كجريان النهر بعد آدم وحواء، من ضفة إلى خليج، حتى بلغ قمة التجريب في "يقظة فينيجن".
قال جويس مرة لصديقه: "لا أستطيع أن أعبّر عن نفسي بالإنجليزية دون أن أكون سجين تقليد ما. أريد لغة تعلو على جميع اللغات وتخدمها جميعًا." لقد حلم بلغة تتجاوز كل اللغات، كما رأى بروست أن الروايات ليست سوى ترجمات. وفي الحالتين، يتضح أن جويس كان يقاوم كل أشكال الهيمنة، حتى هيمنة اللغة ذاتها. فلغته كانت متحررة، ومشاكسة، ومسرفة، وفاسقة، ومقززة و موجودة لمقاومة الهيمنة من الآخرين.
وقد قال الناقد إدموند جوس، رغم أنه دعم جويس أحيانًا، إن "يوليسيس" عمل فوضوي، مشين في ذوقه وأسلوبه. لكنه اعترف أيضًا بأن شهرة جويس كانت جزئيًا سياسية. لقد منح "يوليسيس" كل الأشكال اللغوية حقّ الوجود، فجعل اللغة حرّة وبريئة، كهمهمات الطفل حديث الولادة. ولذا، لم يكن مطلوبًا من القارئ أن يفهم الكتاب أو يفكّ شفراته، بل أن يمرّ عبره كما يمر بلوم بشوارع دبلن، يلاحظ ما يلفت نظره فحسب (على الرغم من أن جويس استمتع بالشائعات بأنه كان جاسوسًا للألمان خلال الحرب وأن الكتاب بأكمله كان شفرة).
"يوليسيس"، شأنه شأن المدينة أو اللغة أو اليوم نفسه، لا يحمل معنًى محددًا، بل يحتفي باليومي، وينشد الأبدية وسط العادي، تأثرًا برؤية جويس الدينية في طفولته.
ولكن، ماذا عن ذلك الإطار المعقّد الذي بنى عليه جويس روايته: المرايا الأسطورية مع "الأوديسة"، والتقسيمات الزمنية، والألوان، والرموز، والفنون، والتقنيات التي خصصها لكل فصل؟ قال عنها جويس ببساطة: "هذه طريقتي في العمل." كان يُنتج بهذه الكثافة لأنه يفكّر بهذه الكثافة. وعندما التقى نابوكوف بجويس في الثلاثينيات، ذُهل حين سمعه يقلل من شأن البنية الأسطورية للرواية. بل إن جويس رأى أن كتاب ستيوارت جيلبرت الذي شرح "يوليسيس" قد نجح دعايةً أكثر من اللازم.
في الحقيقة، لم يكن ذلك الإطار إلا وسيلة تنظيم، خزّانًا يضع فيه جويس عناصر عمله. وليس مهمًا أن يفسّر القارئ كل شيء، فالتفسير، كالرغبة أو كالتبرز، أمر إنساني، لكنه ليس جوهر العمل. جويس، الذي نشأ على طاعة الأساتذة، قرر أن يفجّر مدرستهم. وكما قال مازحًا: "أتركهم يدرسون ما كنت أفعله."
في زمن طغت فيه المنشورات والكتيبات والدعايات بعد الحرب، لاحظ والتر بنيامين أنه لم يعد هناك مكان لـ"الإيماءة العالمية للكتاب". وربما شَعَّر جويس، كما شَعَّر بروست وتوماس مان، أن تلك الإيماءة على وشك الزوال، فقاموا بمحاولة أخيرة لصياغتها. الحرب جعلت هذه المحاولة أكثر إلحاحًا. لقد كانت هناك حاجة إلى كتابة تعيد تجميع ما تمزّق، وتجعل القارئ يؤمن بإمكانية البناء من جديد.
كان توماس مان، ومارسيل بروست، وجيمس جويس يعملون بوحي من قناعة قديمة في نفوسهم، لكنّ الحرب جعلت هذه القناعة أكثر إلحاحًا وأشدَّ ضرورة. وقد وجد القرّاء في أعمالهم ما يستحق المتابعة، رغم ما فيها من صعوبة وطموح. أما جويس على وجه الخصوص، فقد جوبه عمله بمنع قانوني، لكنه لم يُهمَل، بل العكس تمامًا، فقد نال مكانة مركزية في المشهد الأدبي بسرعة، وعلى مستوى عالمي. هذا القبول لم يكن بالرغم من التحديات التي فرضها عمله على الترجمة، بل كان بسبب تلك التحديات نفسها. لقد بدا التفرّد الصارخ في تلك الكتب، ومنها كتاب جويس، كأنه دعوة للعالم كله كي يصغي، دعوة تطلب العالمية بلغة لا يشبهها شيء.
والمثير للدهشة، أن القرّاء بعد الحرب لم يكونوا يبحثون عن مزيد من الأدب الذي يصف الحروب. فقد نُشر كتاب "تحت النار" لهنري باربوس أثناء الحرب، وظهرت نسخة مبكرة من "عاصفة الصلب" ليونغر بعد انتهائها مباشرة، لكنّ الروايات التي أصبحت لاحقًا من أشهر ما كُتب عن الحرب العالمية الأولى، مثل "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" لإريك ماريا ريمارك، لم تصدر إلا في أواخر العشرينيات والثلاثينيات. فالناس حينها لم يكونوا يريدون وصف ما حدث بقدر ما أرادوا هدم كل ما كان سببًا في المأساة، ثم البحث عن رؤية جديدة لبناء عالم مختلف.
وقد كانت كتب "يوليسيس" لجيمس جويس، و"البحث عن الزمن المفقود" لبروست، و"الجبل السحري" لمان، تجارب أدبية سجّلت بوضوح عجيب ما تعرض له الإنسان من جراح القلب، وآلام الجسد، وانكسارات الروح. لكنها، رغم كل ذلك، أصبحت مركزية فى عالم الأدب.
نعم، لقد أثبت هؤلاء الثلاثة أن بإمكان الأدب أن يلمس العالم كله. غير أن هذه "اللمسة العالمية" في كتبهم بقيت غامضة، ملتبسة. فهي أعمال تحفل بالحياة الواقعية، لكنها في الوقت نفسه كتب أحلام وخيال. تحاول أن تفسّر العالم ثم تنسحب من التفسير. تمدّ القارئ بطرق للحرية، لكنها طرق ضيقة، مغلقة تقريبًا. تتحدث بصوت البشرية كلّها، لكنها لا تكفّ عن الانشغال بنفسها. هي أعمال حديثة، ولكنها غريبة في قِدمها. تحمل الواقع كله، لكنها مكرسة للفن وحده.
وقد بدا كتاب "يوليسيس" وكأنه ضربة من أجل الحرية، وقد فهمه الناس هكذا. وصفه جورج برنارد شو بأنه "سجل مقزز لحضارة مقززة، لكنه صادق." أما تي. إس. إليوت، الذي أُعجب به بعمق، فقد سأل بصوت عالٍ أمام فرجينيا وولف: هل ستقضي هذه الرواية على الكتابة؟! فـ"يوليسيس" تشبه كبسولة زمن تحفظ الحياة كما كانت قبل الحرب، تمامًا كما فعل "الجبل السحري" و"البحث عن الزمن المفقود". وكلها كتب موسوعية، ضخمة في حجمها، هائلة في طموحها، تمثل نصبًا تذكاريًا لحضارة إنسانية يُعاد النظر في وجودها أصلًا.
لكنّ "يوليسيس" تظلّ تملك خصوصية نادرة؛ فهي أكثر الكتب جرأة من حيث اللغة والاختراع، كتاب يغامر دومًا، يتقدّم وهو يعلم أنه قد يفشل، بل ربما لم يكن يعترف أصلًا بإمكانية الفشل. وهذا التجاهل، أو قٌل هذا التمرّد الأناني على الخوف من السقوط، كان كفيلًا بتقويض اللغة كلها، لو لم يكن فنيًّا محضًا. قال جويس في ذلك: "الأفكار، والتصنيفات، والمصطلحات السياسية لا تهمّني؛ لقد تجاوزتها." وحين سأله أحد معارفه القدامى عندما عاد إلى ترييست: "وكيف قضيت سنوات الحرب، يا أستاذ؟" أجاب ساخرًا: "آه، نعم... قيل لي إن هناك حربًا كانت تدور."
مترجم بتصرف من كتاب Stranger than fiction
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي