كانت الرواية، ولا تزال، ملاذ الشباب ومتنفسهم. هم يجدون فيها عزاءً لقلوبهم الحائرة، ورفقة لأحلامهم المتوثبة، ومرآةً تعكس ما يعتمل في نفوسهم وهم على عتبة الحياة، مترددين بين طرق كثيرة لا يعرفون أيها يفضي إلى النور. أمّا الكبار، فإنهم لا ينظرون إلى الرواية كما ينظر إليها الشباب. فهم، وقد أدركوا أن كل الطرق تؤدي إلى نهاية واحدة، لا يستهويهم التفرع في الحكايات كما يستهوي الفتيان. إن الانتقال من ربيع الشباب إلى صرامة النضج قصة قائمة بذاتها، بل لعلها قصة القصص كلها، لأنها تصيب الجميع ولا ينجو منها أحد. وكذلك حال كل شيء يبدأ نضرًا يانعًا، ثم يذبل رويدًا رويدًا: الزيجات الحديثة، والدول الناشئة، والتجارب الأولى، والثياب الجديدة… جميعها تفقد سحرها مع الزمن، فلا أحد يستطيع الإفلات من قبضته.
لكن الرواية في القرن العشرين لم تكتفِ بأن تكون رفيقة الشباب، بل أغرمت بهم، وتعلّقت بهم تعلقًا جعلها تحلم بأن تظل شابة مثلهم، وأن تؤجل النضج ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا. في مطلع ذلك القرن، ظهرت حركة الكشافة على يد السير روبرت بادن باول، وازدهرت الحياة في المستعمرات الريفية، وخرج الشباب الألمان في البراري ينشدون الحرية من صخب المصانع وأغلال الحياة الصناعية، تأثرًا بأفكار "فاندرفوغل". ورافق ذلك انتشار طراز "يوجيندستيل"، فغدا الشباب رمزًا للتجدد والتمرّد على الموروث والتقاليد. وكان الأدب، شأنه شأن الفنون كلها، ترجمان هذه الروح الجديدة، فرأيناه يُصوّر شبابًا يرفضون أن يكبروا، ويتمرّدون على كل ما يرمز إلى الرصانة والاتزان.
ومن هنا، لم تكن مغامرات أليس في بلاد العجائب، التي نُشرت عام 1865، مجرد حكاية مسلية تُقرأ قبل النوم، بل كانت تمرّدًا صريحًا على عالم الكبار، ورغبةً في النظر إلى الوجود بعيون مختلفة. وكذلك كانت حكاية بينوكيو عام 1883، فهي لا تقتصر على قصة دمية خشبية تحلم بأن تصبح صبيًا صالحًا، بل تعبّر عن روح رافضة، غاضبة، ترفض الانقياد والامتثال. وليس من المستغرب إذن أن تتحول أليس وبينوكيو إلى رمزين من رموز العصر الحديث، كما فعل بيتر بان، ذلك الفتى العجيب الذي سحر الناس على المسرح ثم سكن قلوب القراء بفضل الكاتب جيمس باري.
حتى تيدي روزفلت، وهو في سدة الحكم، لم يُخفِ إعجابه الشديد برواية الريح في الصفصاف (1908)، حيث يظهر السيد تود بطلًا مشاغبًا لا يعترف بسلطان النضج ولا يأبه له. أما شخصية جاكوب فون غونتين، بطل رواية روبرت فالزر عام 1909، فقد كانت أكثر غرابة: شاب بسيط يلتحق بمدرسة للخدم لا ليتعلم مهنة فقط، بل ليتعلم أن يفقد إرادته تمامًا. لقد كانت المدرسة معملًا لإنتاج النضج، لكن جاكوب لم يخرج منها إلا وقد أتقن فن الطاعة العمياء. وهنا نتساءل: هل كان ذلك إخلاصًا ونكرانًا للذات؟ أم هروبًا من المسؤولية وخوفًا من أن يصنع لنفسه مصيرًا؟
غير أن الأمر ليس بهذه البساطة. فمن يتأمل في هذه الروايات بعين فاحصة، يرى أن أكثر أبطالها كانوا من الذكور، باستثناء أليس، التي كانت نموذجًا فريدًا. وكان الغالب على هذه الحكايات أنها تعبّر عن ضيقٍ دفين بحياة البرجوازية الخانقة: أمّ تحكم البيت، وأبٌ غائب في العمل. واللافت أن الهروب من هذه القيود لا ينتهي غالبًا بالتحرر منها، بل بتكرارها! فها هي ويندي، بطلة بيتر بان، تعود إلى البيت في النهاية لتصبح أمًّا، كما فعلت "جو" في نساء صغيرات. هي وعود زائفة بالحرية، ولكنها تتجاهل عالمًا جديدًا كان يتشكّل آنذاك، عالمًا يتخطى الأسرة التقليدية، وينفتح على صخب المدن الصناعية حيث تعمل النساء جنبًا إلى جنب مع الرجال، وتتحرر المشاعر من قوالبها القديمة، وتمتلئ الشوارع بنساء تحطّمن قيود العصر الفيكتوري. ذلك العالم الصاخب الذي وصفه إميل زولا حين كتب محلاظات عن روايته نانا، فقال ساخرًا: "تخيل مجتمعًا بأكمله يندفع نحو المهبل."
وما أسخف أن نظن أن هذه القصص لم تكن إلا تسلية، أو أن نضعها في خانة الأدب الطفولي الساذج. لقد كانت هذه الروايات، رغم ظاهرها البريء، تعج بأسئلة وجودية ثقيلة، وتقدّم نقدًا عميقًا للمجتمع. فليست الطفولة فيها جهلًا، ولا سذاجة، بل تساؤل مستمر ونظرة نقية لا يشوبها تصنّع ولا تكلف. بل لعلّ هذه النظرة البريئة أنفذ وأعمق من نظرة الكبار، وربما كانت أكثر صدقًا من رضاهم الباهت عن أنفسهم.
وقد تبدأ الرحلة بالهرب، لكنها قد تنتهي بالتحرر. كيم، رواية روديارد كيبلنغ التي ظهرت عام 1901، تبدأ بصبيّ يتسكع على الطرقات، لكنها تنتهي بنظرة سياسية وروحية غاية في العمق. ورواية كوليت كلودين في المدرسة، التي قد تبدو أول الأمر حكاية مشاكسة بين مراهقات، تتحول تدريجيًا إلى تأمل شفيف في طبيعة الجسد والرغبة، بعيدًا عن العظة المكررة والعاطفة المصطنعة.
ما إن تشرع في قراءة الصفحات الأولى من هذا الكتاب، حتى تشعر أنك أمام فتاة لا تشبه الأخريات، فتاة اسمها كلودين، تحمل في طيّاتها طاقة لا يُستهان بها:
اسمي كلودين. أعيش في مونتيني. وُلدت هناك عام 1884. أراهن أنني لن أموت هناك.
أسلوبها هذا، بنبرته القاطعة الجريئة، قد يذكّرك برجل ديستويفسكي الذي خرج يتكلم من تحت الأرض، أو بذلك الغريب اللامبالي. غير أن كلودين تختلف. فهي ليست يائسة، ولا غارقة في الأنانية، بل حيوية، مليئة بثقة لا تعرف الخوف، لا تتردّد في قول لا، ولا تطيق أن تُملَى عليها الأوامر.
كتابي المدرسي عن الجغرافيا الإدارية يقول: مونتيني-إن-فريسوا، بلدة صغيرة جميلة مبنية على التلال، يبلغ عدد سكانها 1950 نسمة، تقع فوق نهر التايز، وتشتهر ببرج ساراسين محفوظ جيدًا... هذا لا معنى له بالنسبة لي على الإطلاق. أولًا، لا يوجد نهر التايز...
تتحدث كما ترى، لا كما يُقال لها أن ترى. بلدتها ليست جميلة كما يدّعون، لكنها تحبها رغم ذلك، حبًّا لا تملك له تفسيرًا. إنها من بنات الأرض، تمشي حافية القدمين، تتلمّس التراب، لا تهاب الأشواك ولا تشكو من الحشرات. طفلة بلا أم، يتيمة العناية، وأبها غارق في دراسة الرخويات، حين تحدثه لا يرفع عينيه عن كتبه ليراها. لم تجد من يقودها، فشقّت لنفسها طريقًا. صَنعت ثقتها بيديها، واعتادت أن تعتمد على نفسها منذ صغرها.
لكن ما تكتبه كلودين ليس مجرد مذكرات فتاة مراهقة، بل هو شهادة على التحول الاجتماعي. حين بلغت الخامسة عشرة، ورأت ثوبها يلامس كعبيها، لم يكن هذا مجرد نمو جسدي، بل إعلان بأن الحياة بدأت تأخذ منحًى جديدًا. وفي العام ذاته، هُدمت المدرسة القديمة، وبُنيت مدرسة حديثة، ومديرة جديدة أمسكت بالمقاليد. في هذا العام، عام 1899، جلست كلودين في الصف الأخير من مدرستها العامة، وسط فتيات من بنات المزارعين والعمّال وأصحاب المتاجر. وحدها كانت من الطبقة المتوسطة. وكان من المفترض أن يرسلها والدها إلى مدرسة دينية، لكنه كان أكثر انشغالًا بالرخويات من مستقبل ابنته.
ذكاؤها وحده ما ميّزها، فدخلت مع مجموعة صغيرة تستعد لامتحان القبول في كلية تدريب المعلمات. لكنها لم تروي قصتها فقط، بل عن فتيات جيلها، عن منافساتهن وهمساتهن، عن العلاقات الخفية والشدّ والجذب، عن التغيّر الذي طرأ على الدولة، عن المدرسة الجديدة التي كانت رمزًا لعصر يتبدّل، حيث أخذت النساء مكانًا على مسرح السلطة، يشغلن وظائف كانت حكرًا على الرجال. لكن مناصب السلطة، وإن بدت في ظاهرها متاحة للجميع، فإنها لم تكن إلا غطاءً لحقيقة مرة، حقيقة أن النساء لم يزلن خاضعات، لا لسطوة الرجال فحسب، بل لسطوة المصالح التي لا ترى فيهن إلا أدوات.
المديرة الجديدة، الآنسة سارجان، لم تكن امرأة عادية. حضورها كان ثقيلًا، وسلطتها قائمة لا على الكفاءة وحدها، بل على علاقات متشابكة. جاءت معها والدتها العجوز، فلاحة صامتة لا تنطق، كأنها ظل صامت لتاريخ طويل من النساء اللواتي لهنّ صوت. أما راعيها في الخفاء، فكان الدكتور دوتيرتر، المشرف التربوي الطامح إلى مقعد في البرلمان، والذي كانت سارجان تعلم جيدًا أن صعودها لا يتم إلا بصعوده. ومثلما كانت السياسة تُحاك في الخفاء، كان للخضوع الجنسي دوره في رسم مصير نساء الرواية.
ورأت كلودين، وفهمت، لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من الانجذاب إلى آيمي، تلك الفتاة الوديعة، التي كانت تَعملُ إلى جانب المديرة، لا لتدير شؤون المدرسة كما يظهر للناس، بل لتُرضي رغبات السيدة سارجان، وتُسكِّن نزواتها. وكانت آيمي تعرف هذا، وتؤديه في صمت لا يخلو من دهاء. والعمال في موقع البناء لم تخفَ عنهم هذه الألاعيب، كانوا يتهامسون بما تبصره أعينهم من خلال النافذة، يرون ما لا يُقال، ويتحدثون عمّا لا يُصرّح به. ومع ذلك، بقيت آيمي فاتنة، تجذب أنظار الرجال، وتثير الهمسات، حتى جاء من طلب يدها للزواج، فظنت أن باب النجاة قد فُتح، وأنها أخيرًا قد تهرب. لكن الباب لم يكن إلا فخًا، إذ سرعان ما انكشف أن آيمي لم تكن فقط أداة في يد السيدة سارجان، بل كانت أيضًا مُلبّية لنزوات الدكتور دوتيرتر، الرجل الذي لا يشبع من التحديق. يتحكم بها من خلال أداته السيدة سارجان.
وكلودين، وهي ترى كل هذا، لم تكن بعيدة عنه، بل كانت تفكر هي الأخرى في الجنس، في أجساد الرجال الذين يرقبونها من بعيد، كما ترقبهم هي من قريب. وكانت تعجب بآيمي، بجمالها، وذكائها، وطريقتها في التملّص والمراوغة. ولم يكن هذا غائبًا عن معلميها، فهمسوا بأحاديث جانبية عن هذه الفتاة التي يبدو أنها تعرف من الحياة أكثر مما ينبغي فى الجغرافيا (مجال دراستها). وكانت هي تعرف ذلك أيضًا، لكنها لم تكن تخجل. بل كانت فخورة بما تفهم، وتجد في هذه المغازلات الصغيرة، حتى تلك التي تتبادلها مع لوس، أخت آيمي الصغرى، شيئًا من المتعة، وشيئًا من السيطرة، فقد كانت تقود الفتاة ثم تتركها، تشدها ثم تبتعد، وتكتب عن كل هذا في مذكراتها بلهجة مرحة، وكأنما كانت تروي يومًا من أيام اللعب في الساحة.
وفي شهر مايو، اقترب موعد الامتحان، وكانت السيدة سارجان ترى أن من واجبها أن ترافق الفتيات إلى المدينة، حيث سيؤدين امتحان التأهيل، امتحانًا لا يُحدّد فقط مصيرهن الدراسي، بل يرسم أيضًا معالم مستقبلهن الاجتماعي. ولما جلست كلودين تتأمل في الأمر، ابتسمت تلك الابتسامة الساخرة التي ألفها القرّاء منها، وقالت في نفسها:
"أكل هذا العناء، لكي نصبح معلمات؟ نقف طوال اليوم، وننحني على الطاولات، ونرتعد من نظرة المديرة، وفي آخر الشهر نحصل على سبعين فرنكًا أو يزيد قليلًا؟! ثم إن هؤلاء الفتيات الستين، أما كان في وسع أكثرهن أن يخترن طريقًا آخر غير التدريس؟ خمس وأربعون منهن من بنات الفلاحين والعمال، يفررن من الكد في الحقول ومن الجلوس خلف آلات النسيج، ليواجهن شحوب الوجه، وانحناء الأكتاف، وتعب الجسد... لكن ما يعزيهن، أنهن سيرتدين القبعات، وسيرفعن أنوفهن فخرًا، وينظرن إلى آبائهن من علٍ، وهن يرددن في أنفسهن أنهن لسن كأخواتهن اللواتي بقين في الحقول والمطابخ، يرقعن الثياب، ويرعين البهائم، ويملأن الجرار من الآبار."
وقد نجحت كلودين، كما نجحت أغلب رفيقاتها، وافتُتحت المدرسة الجديدة في وسط البلدة، قرب مبنى البلدية، في احتفال باذخ أشبه ما يكون باحتفال باريس في معرضها الشهير سنة 1900. وجاء الوزير بنفسه، وزير الزراعة، ليترأس الحفل، وقد استطاع الدكتور دوتيرتر بدهائه أن يجذبه إلى هذا الحدث. واختيرت كلودين مع فتاتين أخريين لاستقبال الوزير، وارتدين ثيابًا تموج بألوان العلم: الأحمر، والأبيض، والأزرق. وغنّت الفتيات نشيد الطبيعة، ثم جلسن صامتات، يصفقن للخطباء، ويُكمّلن المشهد كما يُكمّل الإطار صورة جميلة.
وجاء وقت الرقص، وامتلأت القاعة بحركات الأجساد الفاتنة، وانسابت أجسادهن في الفالس بمرح، ضاحكة، غير آبهة بشيء. وفجأة دوّى صوت غريب، صراخ مفزع أوقف الموسيقى، وأجمد الأرجل في أماكنها، وأسكَت الهمسات في لحظتها! فإذ بالحضور يلتفتون، فإذا بامرأة عجوز، تندفع كالعاصفة، وهي تهوي على الأرض بحذائها، تصرخ وتشتعل كأنما النار قد أكلت قلبها. كانت أم السيدة سارجان، تلك الفلاحة الصامتة، قد رأت ما لا يُحتمل، وقبضت عينُها على ما لم تصبر عليه: ابنتها في فراشٍ واحدٍ مع الدكتور دوتيرتر. صعدت الدرج تهوي، وهبطت تهتف، ووسط دهشة الجميع، ترك الدكتور القاعة هاربًا، واكتفت سارجان بالصمت، كأنها تعلم أن هذا اليوم سيأتي، وكأنها لا تجد مفرًا من غضب أمها، ولا مهربًا من ماضيها.
وكان هذا الفصل الأخير، مسك الختام، ومربط الفرس، في كتابٍ امتلأ بالتناقضات، وزخر بالحكايات الجريئة، والضحكات الساخرة، والمواقف الصارخة التي لم تخجل أن تمزج بين العبث والجد، وبين الحياء والمجون، وبين التلميح والتصريح. كتابٌ لا يُقرأ ببرود، ولا يُنسى بسهولة، فهو كما لو كان رقصة أدبية، تترنّح بين الرغبة والانضباط.
أما كلودين، بطلتنا، فهي فتاة لا تُشبه أحدًا، لا تُشبه إلا نفسها. فتاة ذكية، ساخرة، صريحة، جسورة إلى حدٍ يكاد يكون فاحشًا أحيانًا، لكنها فوق ذلك كله، واعية، فضولية، لا تخاف من الحياة، ولا تتردّد في التجربة. وربما تساءل القارئ في النهاية: هل كلودين شخصية حقيقية؟ أم أنها شبح صنعه خيال كاتبة أرادت أن تستفز القراء؟ ثم إنها، بدلًا من أن تلتحق بكلية المعلمات، تغادر إلى باريس مع والدها لـ"دخول العالم"! فماذا يعني ذلك؟ أي عالم هذا الذي ستدخله؟ وأي دروب ستسلك؟ لكن كلودين، كما عرفناها، لا تخشى الغموض، ولا تهتم بالأسئلة، بل تبتسم بثقة، وتقول في سخرية: «أراهن أنني لن أموت هناك!»
ما إن صدر هذا الكتاب حتى أحدث دويًّا واسعًا في أوساط القرّاء، فأقبل عليه الناس كما يُقبلون على كل جديد مثير، حتى صار أكثر الكتب مبيعًا في فرنسا سنة 1900. غير أن المفاجأة لم تكن في مضمون الكتاب وحده، بل في الاسم الذي كُتب على غلافه! فلم يكن اسم كوليت، تلك الفتاة التي كتبت السطور بصدق وجرأة، بل كان اسمًا مستعارًا لرجل يُدعى "ويلي". رجلٌ عُرف في الأوساط الأدبية بأنه صانع النجوم، وناشر المواهب، ومهندس الكلمات الذي لا يكتب بيده، بل يُمسك الأقلام بأيدي غيره!
وكان هذا الرجل، واسمه الحقيقي هنري غوتييه-فيلار، قد تربّى في بيت كاثوليكي محافظ، تملكه عائلة ذات نفوذ في عالم النشر، لكنه خرج من هذا الجو المحافظ ليغدو مغامرًا، جريئًا، لا يشبع من الشهرة، ولا يرتوي من النجاح. اتخذ لنفسه هيئة الناقد الموسيقي، لكنه ما لبث أن انصرف عن النغمات ليهتم بالحروف، فصار يُشرف على تأليف الروايات، لا بالمعنى المألوف، بل بأسلوب خفيّ، إذ كان يستأجر من يكتب له في الخفاء، أولئك الذين يُلقّبون في فرنسا بـ"الزنوج"، ينسجون له القصص، ويخطّون له الحوارات، ثم يضيف لمسته الأخيرة، فيصبّ عليها شيئًا من خفته، وشيئًا من فوضاه الباريسية، ممزوجة بذكائه وسخريته، فتخرج الرواية كأنها من صنعه، وهي ليست كذلك!
وفي عام 1893، تزوّج هذا الرجل فتاة تصغره بعشر سنوات، قادمة من الريف، اسمها سيدوني-غابرييل كوليت. كانت في العشرين، من أسرة بورجوازية، لكنها ضاقت ذات يد، فجاءت إلى باريس تفتّش عن فرصة، فوجدت نفسها في قبضة رجل يعرف كيف يستثمر المواهب، ويحوّل المرأة إلى مشروع أدبي. فدخلت كوليت عالم الصالونات، وجلست إلى طاولات الأدباء والفنانين، ترتدي ثياب الرجال، وتتكلم كما يتكلم الكبار، حتى وصلت إلى صالون مدام أرمان دي كايلافيه، تلك السيدة التي ألهمت بروست في رواياته، والتي كانت من ألمع نساء الأدب في عصرها.
ولم يكن خفيًّا على أحد أن قصة كلودين كانت انعكاسًا دقيقًا لحياة كوليت نفسها، حتى وإن كُتب اسم ويلي على الغلاف. فحين نال الجزء الأول من الرواية ما ناله من شهرة، طالب الناشر بالمزيد، فكتبت كوليت الجزء الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع، حتى أصبحت السلسلة كأنها شريط طويل من الاعترافات الممزوجة بالمغامرات الجريئة و المغلفة بالأدب.
وكان الجزء الثاني من السلسلة، "كلودين في باريس"، أكثر جرأة من سابقه، فقد حمل القارئ إلى قلب المدينة، حيث الأضواء تُخفي الكثير، وحيث المظاهر لا تعكس الباطن. هناك، دخلت كلودين سوق الحب والجنس، حيث كل شيء متاح، حيث التجربة لا تخضع لقواعد، حيث الممنوع يصبح مباحًا!. تعرّفت على شخصيات جديدة، لكل منها سرّ، ولكل منها ألم. رأت ابن عمها مارسيل، الشاب الرقيق، المثلي، المازوخي، وترى صديقتها لوس التي سرعان ما تنغمس في علاقات محرمة، وترى ذلك الصحفي الدبلوماسي، الرجل الأنيق، المتلاعب، الذي يملأ حياتها بالإغواء، فتقع في حبه، ثم تتزوجه، وتبدأ رحلة جديدة من الاكتشاف!
وإن كانت رواية "كلودين في المدرسة" قد سبقت زمنيًّا أعمالًا جريئة كـ"الحارس في حقل الشوفان"، فإن الأجزاء التالية منها سبقت عصرها أيضًا، إذ رسمت عالمًا جديدًا، لم يكن قد تبلور بعد، عالمًا فيه تختلط الحياة الخاصة بعروض الترفيه، ويُصبح السر مادة للإعلان و التسويق، وتُقدَّم التجربة العاطفية على أنها سلعة قابلة للترويج.
ولم يكن غريبًا أن يستغل ويلي حياة زوجته ويحوّلها إلى استعراض مسرحي، إذ كانت الفضيحة بالنسبة إليه فرصة، وكانت الضجة العامة ثروة. فحوّل "كلودين في باريس" إلى عرضٍ مسرحي صاخب، لعبت بطولته المغنية بولير، وأُبهر به الجمهور خمسة أشهر متواصلة. ولم يكتفِ بذلك، بل أحال كلودين إلى اسم تجاري، يُطبع على كل شيء: من الأوشحة والعطور إلى السجائر وأوراق التصوير، حتى صارت رمزًا للرغبة، وعلامة على المتعة.
ثم تمادى، فنشر بطاقات بريدية تُظهر كوليت شبه عارية، ترقص إلى جانبه، كأنما يتباهى بها كما يتباهى القائد بغنائمه. يسير في شوارع باريس ومعه كوليت وبولير، كما لو كان موكبًا انتصاريًا في ميدان مغلق على عشاق اللذة. وما هي إلا أشهر، حتى خرجت "كلودين" من بين دفّتي الكتاب، وصارت شخصية حقيقية تُقلَّد وتُباع وتُشترى. تقول جوديث ثورمان إن بيوت الدعارة في باريس باتت تُطلق على إحدى العاملات فيها اسم "كلودين"، وكأن هذا الاسم صار رمزًا للفتنة و علامة تجارية للرغبة، لا مجرد بطلة في قصة.
أما كوليت، الكاتبة الحقيقية، فقد وجدت نفسها غارقة في هذا السيل الجارف، تتلقى الرسائل من صانعي الأزياء، يعرضون عليها ملابس مستوحاة من بطلتها: أطواق للرقبة تعكس مزاج كل جزء من الرواية، واحد يُجسّد براءة المدرسة، وآخر يعكس صخب المدينة، وثالث يعبّر عن الحرية والتمرد، كما في رحلات الصيف ونداءات البرّ.
ولمّا اشتدّ لهيب الشهرة، ضاقت الدائرة على كوليت داخل بيتها، وكأن المجد الذي أضاء حياتها قد ألقى بظلاله الكثيفة على زواجها. فقد أصبحت الأيام تمضي في بيتها لا كما تمضي عند عامة الناس، بل كما تمضي على خشبة مسرح يعرض فصولًا من التوتر، من الغيرة، من الغضب المكتوم، ومن الانفصال الذي يزحف في صمت. وفي روايتها كلودين المتزوجة التي صدرت عام 1902، لم تكن البطلة راضية بعلاقة نمطية، أو حياة زوجية كما يريدها المجتمع، بل كانت تندفع في مسار مختلف، تذوق فيه لذة المغامرة، وتسير طائعة بزوجها إلى حضن ريزي، تلك المرأة الباريسية الأنيقة، التي تتشح بالسواد المخملي، وتخفي تحته قلبًا يضطرم بالرغبة.
وكانت كلودين تعيش مثلثًا لا يُطاق: هي، وزوجها، وعشيقته الجديدة. وكأن الرواية لم تكن خيالًا، بل تنبؤًا بما سيقع، إذ لم يطل الوقت حتى قررت كوليت أن تنتزع حريتها، أن تخرج من عباءة الرجل الذي أخذ كل شيء، حتى عرقها، حتى حقها في مكسبها، يوم أقنعها بخبث أن تتنازل له عن الأرباح، في لحظة وهن.
لكن الحرية، كما علمتنا الحياة، لا تأتي وحدها، بل تحمل في طياتها تجارب تمتحن النفس. ومن تلك التجارب علاقة كوليت بتلك السيدة التي عُرفت في أوساط النخبة باسم ميسي، الماركيزة بيلبوف، امرأة لها حضور لا يُقاوم، وسحر لا يُنسى. لم تكن كوليت تراها مجرد صديقة، بل رفيقة حقيقية، تشاركها المسرح كما تشاركها الحياة، حتى إذا مثلتا معًا، ختمتا أحد المشاهد بقبلة طويلة، قبلة هزّت باريس كلها، وأشعلت الألسنة، وأثارت الضجيج.
لقد أظهرت تلك القبلة وجهًا آخر من وجوه كوليت: امرأة لا ترى في التقاليد سوى قيدًا زائفًا، لا تعرف للحدود معنى، ولا تُؤمن بأن هناك نمطًا واحدًا للحياة. كانت تكتب كلودين، ولكنها في الحقيقة كانت تكتب نفسها، تبحث عن صوتها وسط صخب الرجال، وسط قسوة العيون التي تراقبها.
وحين رأت الناس تحاصرها بصورة كلودين، جاءتها كلمات الشاعر كاتول مينديس كحقيقة صارخة: "لا يمكنك الهروب منها، لقد خلقتِ نموذجًا." ولكن كوليت لم تكن مجرد مبدعة لشخصية أدبية، بل كانت تكتب نفسها من خلال كلودين، كانت تكتشف صوتها الخاص وسط الضوضاء، تتعلّم كيف تكتب الجملة كما يتعلّم المرء كيف يرى وجهه أول مرة في مرآة الحقيقة، منحرفة عن العادة، قريبة من الجسد، ولكن بعيدة عن الابتذال، ناعمة كقطة تراقب العالم من علٍ، لا تنزل إليه إلا حين تشاء، تضحك من جنونه، لكنها لا تشاركه إلا بقدر ما يلائم مزاجها.
وانظر إلى هذا المشهد العجيب:
كنت أرقب عطش عينيه ، وكان هو يرمق عينيّ كأنما يريد أن يبتلع نورهما في عينيه، ولم أدرِ كيف وجدت نفسي أسيرة لهذا التيه الغريب، أضطرب بين ما أعلم وما أجهل، بين ما ألفت وما كنت أتهيّب. ولأقول الحق، فإن هذه الهيبة لم تفارقني بعد، بل لا تزال تسكنني كما تسكن الرهبةُ قلبَ متسلّقٍ صعد أول جبل في حياته. فهل كان هذا خوفًا؟ أم ترددًا؟ أم ذاك الذي سُمّي ذات يوم "الواجب الزوجي"؟! ... هذا الرينو القوي جعلني أعود بذاكرتي إلى أنيس، تلك المرأة التي كانت تعاني وهي تحاول إدخال كفّيها العريضتين في قفاز ضيق. ومن العجيب أن يبدأ الإنسان هذه المغامرة في ظلمة الجهل، ثم لا يلبث أن يعرف كيف تصير ضحكته عصبية، وصيحاته لا إرادية، وجسده يتلوّى كأن صاعقة قد أصابته!
هذه كلودين تصف المراحل الأولى من حياتها الجنسية مع رينو. ثم تأمل هذا المشهد الآخر:
عينان باردتين بهما قسوة لا تلين، تنهض، تخطو ثلاث خطوات، ثم تجلس كما كانت. ولكنها لا تلبث أن تثب وثبةً لا رجوع فيها، تنطلق نحو صندوقها، تبحث فيه كأنها تنقّب عن سر دفين، تخدش بنهم، ثم تتراجع وقد استبدّ بها الخذلان، فلا شيء هناك! يعود وجهها إلى اللامبالاة، ولكنها ليست سوى استراحة قصيرة، سرعان ما تتقلص حاجباها، وتشرع أصابعها في الحفر بنشارة الخشب، تدوس عليها بعنف، تبحث في غير هدى عن موضع ملائم، وتظل هكذا، ثلاث دقائق متصلة، غارقة في تفكير عميق مرير، قد زاغت عيناها في محجريهما، لأنها، عن قصدٍ منها، تحتمل عناء الإمساك. ولكن ما تلبث أن تنهض، متأنيةً، متحفظةً، تلقي نظرة أخيرة على الجثة التي وارتها بعناية، وقد استعاد وجهها ذلك الجلال الذي يليق بمراسم الوداع. ثم، وكأنها تطوي صفحة الحزن، تنفض الغبار، وتندفع في رقصة مجنونة شيطانية، تلمّ بها خفة الماعز ونزقه، تنطّ، تلتوي، تتمايل، كأنها تعلن للحياة أنها تحررت أخيرًا! وهنا أجدني أضحك وأصيح: "ميلي! تعالي بسرعة وغيري صندوق القطة!"
هاتان الحكايتان، وإن اختلفت موضوعاتهما، تتحدان في شيء واحد: نظرة دقيقة إلى الإنسان، كما لو كان موضوعًا تحت المجهر، يُرى في الحب والجنس كما يُرى في الحزن والبهجة. وكان هذا هو سرّ كوليت: أنها لم تكن تروي فحسب، بل كانت تُشرّح، تُراقب، ترى في قطّتها فانشيت صديقةً أقرب من البشر، بل ترى فيها انعكاسًا لنظرتها كلها إلى الحياة. كانت تنظر إلينا بعين القطة: فيها سخرية، وفيها حكمة، وفيها إعراض النبلاء عن التفاهة!
تأمل الرحلة التي صنعت كوليت، لا كما يتأمل المرء سيرة عادية، بل كما يتأمل أسطورة خُلقت من لحم ودم. فإن كوليت لم تكتب اسمها على ورقة، بل نحتته نحتًا عميقًا في ذاكرة العالم، كما تُنقش الحروف على الحجر. لم تكن كلماتها مجرد أدب يُقرأ، بل كانت موقفًا من الحياة، صراعًا خاضته بكل ما فيها من دقة وشجاعة، امرأة أرادت أن تكون سيدة نفسها، فحملت القلم كما يحمل المحارب سيفه، لا تكتب حكاية فحسب، بل تنتزع بها اعتراف العالم بأنها هي، وحدها، صاحبة الحق في قصّ الحكاية.
كانت تنظر إلى الكتابة كما ينظر النجار إلى مهنته، أو كما ينظر الصائغ إلى تفاصيل خاتم دقيق: عملٌ شريف، يتطلّب إتقانًا، وحرفة، وصبرًا. لم تكن تكتب عبثًا، بل كانت تكتب كما تُؤدّى الصلاة، وكأن كل جملة تُولد من رحم طقس مقدس. ولم تكن تقف عند الكتابة، بل خاضت كل ميدان فتحه لها قدرها: كانت روائية، و ممثلة كوميدية، و صاحبة صالون تجميل ومديرته، ومغامرة لا تهاب الأعراف ولا تكترث لعيون الناس.
أما زوجها السابق، ويلي، فقد كان يدير مصنعًا، وكان يظن أنه وحده أهل للإدارة، ولكن كوليت وقفت له ندًّا، بل سبقت، إذ صار لها مصنعها، علامتها، وصورتها التي تُطبع على الذاكرة قبل العطور. كانت ترتدي ملابس الرجال، وتنتقل بحرية بين الرجال والنساء، تقيم العلاقات وتُنهيها دون أن تعتذر لأحد، وكان ذلك كله جزءًا من فهمها لهويتها، هوية لا تُصاغ من قول الآخرين، بل من أفعالها هي، من جسدها، من رغباتها، من حدودها التي تكسرها كما تشاء.
وحين حاول ويلي أن يكسرها، أن يدوس روحها، أن يحوّلها إلى ظلّ له، فعل كما يفعل كل رجل جبان حين يواجه امرأة لا تُشبه النساء اللاتي اعتادهن. لكنها نهضت، بعد السقوط، وقالت كلمتها العظيمة: "لقد أصبحت ملكة، أحكم من الظلال، تسير ورائي ضفائري الطويلة." وربما تكون تلك الضفائر قد سقطت مع الزمن، ولكن السيادة بقيت، ونفوذ الكاتبة لم يزل.
ولمّا شاخت كوليت في كتاباتها، شاخت معها شخصياتها، ولكنها لم تُصِبها رعشة الحياء أو خوف التورّع. بل كانت تتناول جسد المرأة الناضجة كما يتناول الطبيب حالة دقيقة، دون تزييف، دون خجل، كانت ترى في رغبة المرأة قوة غامضة، مربكة، لا وجه لها، لا اسم، بل طاقة تسري في الجسد كما تسري النار في الهشيم.
وقد أحبت كوليت أن تفكك العلاقة بين الرغبة والسيطرة، ذلك التوتر الذي عرفته أولًا في علاقتها مع ويلي، رجل أراد أن يملكها، لكنها لم تُمنح له أبدًا، بل أعطته جسدًا وظلّت تحتفظ بروحها. وكانت روايتاها شيري والنقي والدنس ليستا إلا تأمّلًا جريئًا في هذا الجذب الطاغي بين الحب والتدمير، بين التعلّق والخسارة، بين اللذة التي تضيء لحظة، والحزن الذي يبقى.
وكانت كوليت، مثل فرويد، تعترف بأن الرغبة الجنسية لا يمكن ضبطها، بل تُكبت فتدمّر، تُروّض فتتحوّل إلى عدوّ. لكنها، على عكس فرويد، لم تشرح الرغبة بنظرية، بل رسمتها بمشهد حيّ، بحوار حارّ، بجسد يتلوّى، بامرأة تلمس ذاتها وهي تبكي، أو تضحك وهي تُعطي. بالنسبة لها، الجنس لم يكن مجرد لذة، بل كارثة مقدسة، يأخذ الإنسان من ذاته ويعيده إليها وهو مذبوح.
وقد كتب كثيرون عن الحب، لكن كوليت كانت الوحيدة التي قالت بوضوح إن الحب ليس شيئًا نفهمه، بل شيء يُرعبنا، يُبددنا، ويمنحنا في النهاية هدية مسمومة: لحظة نشعر فيها بأننا كنّا أحياء.
وكانت كتاباتها بعيدة عن الرقة الكاذبة، قاسية في صدقها، مليئة بالتفاصيل الحسية، كأنك لا تقرأ، بل تلمس، وتشمّ، وتسمع أنفاس الأبطال. وكانت تلك الروايات، على شدتها، تُخفي نغمة حزن خفيف، نغمة امرأة تعرف أن المتعة لا تدوم، وأن اللذة تختلط بالخسارة، وأن أجمل التجارب هي التي تترك في القلب شيئًا من الأسى.
وكانت تقول: "بين جميع أشكال الشجاعة، شجاعة الفتيات هي الأبرز." وما كانت تقصد الفتيات العابرات في الشوارع، بل أولئك اللواتي يجرؤن على دخول عالم الرجال، على مواجهة الجنس، بكل ما فيه من ألم، من نشوة، من افتضاح. لم تكن ترى الجنس نهاية للمرأة، بل بدايته، حتى وإن انتهى بالفقد، فقد كانت ترى في المتعة وجهًا آخر للفقدان، وفي كل إشباع نهاية لشيء، بداية لندم.
وكانت كلودين، البطلة الأقرب إلى روح كوليت، لا تعرف السكون، تتنقّل بخفة، تضحك بصوت، تعيش الحياة كما يشتهي القلب، لا كما يُملى عليه. أما كوليت، فقد أدركها المرض، وبدأ جسدها ينكسر، ازداد وزنها، وهاجمها التهاب المفاصل حتى لم تعد تسير إلا بعكاز، ثم توقّفت عن المشي. لكنها ظلّت ملكة، تجلس على سريرها كما تجلس الملكات على عروشهن، تفوح منها رائحة البودرة، يزين رأسها شعر مصبوغ، وعيناها تقودان مملكتها الصغيرة، مملكة الجسد الذي بات معبدًا لرغباتها الأخيرة.
وفي واحدة من صورها الأدبية، نراها تكتب عن كلودين وهي تُخفي كتابًا ثمينًا تحت دفاتر المدرسة، كتابات روديارد كيبلينغ. واليوم حين يُذكر اسمه، لا يتبادر إلى الأذهان إلا صورة الرجل الإمبريالي المتغطرس، صاحب العبارة القاسية: "الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا." و"احمل عبء الرجل الأبيض." لكن هذا التصوير لا يُنصفه، فالرجل كان أعقد من أن يُختزل، وكان كاتبًا بارعًا، عوأديبًا مُجيدًا، وكان أسلوبه في النثر معيارًا استنار به كُتّاب القرن العشرين، كما كان واقعيًا صلبًا، لم تمنعه واقعيته من رؤية أعمق وأبعد مما يراه غيره. وقد كان تي. إس. إليوت نفسه، وهو من كبار معجبيه، يقول عنه إنه كان يعرف "أشياء تقع تحت السطح، وأشياء تكمن وراء الحدود."
وقد نال نوبل عام 1907، وكان أصغر من نالها، وأول من حصل عليها من كتّاب الإنجليزية. وكان في عزّ مجده، يكتب عن المستعمرات لا بوصفه فاتحًا، بل كمن يخوض مغامرة حقيقية، يجلب لغة الجنود إلى صالونات الشعراء، ويروي قصصًا من أقاصي الأرض، كاتبًا، مستكشفًا، ومُخبرًا. لم يكن فقط صاحب شارب كثيف ونظارات، بل كان روح الشباب في قرنٍ جديد.
غير أن هذه الصورة لم تكن تعكس حياته الأولى، فقد نشأ كيبلينغ في بيئة قاسية، لا تخلو من الألم. كان أبوه نحاتًا ومعلمًا للفنون، وأمه امرأة فاتنة، تنتمي إلى عائلة فنية مرموقة. ولم تكن عائلته من الأثرياء، ولكنهم، مثل غيرهم من الإنجليز المتعلمين، رأوا في الهند أرضًا للفرص، فانتقلوا إليها، وهناك وُلِد كيبلينغ، في بومباي، عام 1865.
وقد كان أول ما انطبع في ذاكرته، كما كتب لاحقًا في مذكراته، مشاهد بزوغ الفجر، وألوان السوق، والفواكه الذهبية والبنفسجية، وكان يذهب، في الصباح الباكر، بصحبة مربيته الهندية، إلى السوق، فيرى السفن، ويشاهد الطقوس الدينية المختلفة، ويعيش بين الهندوس والمسلمين والبارسيين. وكان يسمع عن "أبراج الصمت"، حيث كانت جثث الموتى تُترك للنسور، حتى إنه يتذكر، بدهشة، كيف وجد ذات مرة "يد طفل" في حديقة منزله، ولم يفهم، آنذاك، لماذا حزنت أمه لذلك.
غير أن هذه الطفولة الساحرة لم تدم طويلًا، فقد أُرسِل، وهو في الخامسة، إلى إنجلترا، ليعيش هناك ويتعلم لغتها، كما كان يفعل أبناء الطبقة الوسطى من الإنجليز، حيث كانت لغته الأولى هى الهندية. لكنه لم يجد في إنجلترا و فى لوردن لودج بالخصوص إلا بيتًا كئيبًا، تفوح منه رائحة البؤس والوحدة، ولم يكن في هذا البيت إلا امرأة قاسية، تدعى السيدة هولواي وهي مسيحية إنجيلية متعصبة، كانت تُعامله بغلظة، وتُعاقبه بلا رحمة. ولم يكن ابنها بأرحم منها، فقد كان صبيًا متنمرًاً و كان أيضاً مسيحياً متعصباً أيضاً، يجيد إيذاء من حوله، وقد كان كيبلينغ أحد ضحاياه.
وفي هذا "بيت الخراب"، كما سماه لاحقًا، تعرّض الفتى لشتى صنوف القهر، فلم يكن يُنظر إليه إلا بوصفه خاطئًا لا أمل في إصلاحه، وكان عليه أن يتحمل جولات لا تنتهي من العقاب والتوبيخ. ولقد بلغ الأمر بالسيدة هولواي أن أكرهته ذات مرة على أن يسير في الشارع، وهو يحمل لافتة كتب عليها: "كاذب" بعد مخالفة طفولية، ولم يكن للطفل إلا أن يصبح كذلك، فقد حُكم عليه بالكذب، فلم يكن أمامه إلا أن يُجيده، حتى صار، كما قال لاحقًا فى كتاب "شيء عن نفسي": "جعلني هذا أنتبه إلى الأكاذيب التي... وجدت أنه من الضروري أن أقولها... أظن أن هذا هو أساس كل جهد أدبي."
ولكنه، مع ذلك، وجد في الكتب عزاءً، وكانت مكاتيب أهله، وما يرسلون إليه من مجلدات، هي أنيسه الوحيد. وكان من بين تلك الكتب "ألف ليلة وليلة"، التي سحرت خياله، فأخذ يتخيل نفسه، في وحدته، تاجرًا يتفاوض مع المتوحشين، وصار يرى في الأدب وسيلة للهرب من قسوته، حتى إنه كان، حين يُحبس في قبو رطب مظلم، يخلق لنفسه عالمًا من الخيال، ويرى في قشرة جوز الهند، وصندوق قديم، وقطعة خشب، أدوات للسحر، تحميه من أي عالم آخر. فما كان يجد في الواقع إلا عذابًا، ولم يكن يجد في الخيال إلا ملاذًا.
لم يدرك أهل كبلنغ ما أصاب الفتى من ضيم في لورن لودج إلا حين أناف على الحادية عشرة من عمره، فانتزعوه من ذلك الأسر الذي كبل روحه، وأطلقوا سراحه من قيود مكان كان له كالسجن. وفي إنجلترا، أتم الفتى دراسته في مدرسة داخلية لم تكن بالفخامة باذخة، لكنها كانت تحمل في طياتها شيئًا من الرحمة والإنسانية، تختلف عن تلك القسوة التي عركته في صباه. ثم عاد، وقد بلغ السابعة عشرة، إلى لاهور، حيث كان أبوه قد أصبح سيد المتحف المحلي، فوجد له الفتى موضعًا في الحياة يقدم فيه "فتاتًا" من الكتابة لصحيفة "الجريدة المدنية والعسكرية". ولكن لاهور، بعد تلك السنوات التي قضاها في إنجلترا، بدت له كأرض غريبة، تثير في النفس الدهشة والحيرة. وصل كبلنغ فوجد نفسه يسبح في بحر من المناظر والروائح التي أثارت فيه لغة عامية لم يدرك معانيها، كأنها تنبثق من أعماقه دون إرادة منه. وكان المجتمع الأنجلو-هندي الصغير، وهم نحو ألف ومئتي إنسان، كجزيرة معزولة في بحر مضطرب، ضيقة الأفق، مملوءة بالهمس والوشايات، تحمل في قلبها حسرة الحنين إلى الوطن البعيد، وفي الوقت ذاته حقدًا على من يعيشون هناك في رخاء وأمان. ومن حولهم، في تلك المدينة الهادرة التي تفيض بالعقائد والأهواء، كان يعيش مئة وخمسون ألفًا من الأهالي الغرباء، الذين ظن هؤلاء أنهم يحكمونهم، وهم الذين لم يمض عليهم زمن طويل حتى ثاروا ثورة دموية هزت أركان ذلك الحكم. ولم تكن الحياة يومًا خفيفة الوطأة، وكان الصيف على الخصوص كابوسًا لا يطاق، إذ كانت الحرارة تسرق النوم من العيون، وتنتشر الأمراض كالزحار والتيفوئيد والكوليرا كالنار في الهشيم. ويكتب كبلنغ في أسى: "كان عالمي مكتظًا بالفتيان الذين عاشوا في وحدة قاتلة، وماتوا غالبًا بالتيفوئيد في الثانية والعشرين، كأن الموت قد كتب لهم ميعادًا لا يتخلف"... " موتى كل العصور كانوا حولنا... كانت الجماجم والعظام تتساقط من جدران حديقتنا الطينية، وتظهر بين الزهور بفعل الأمطار".
وكان "رئيس" كبلنغ في تلك الجريدة رجلاً خشن الطبع، بلغت به القسوة حدًا جعل الفتى يكرهه من أعماق قلبه، ولكنه، في الوقت ذاته، استمد منه دروسًا لم تكن لتأتيه من غيره. بدأ كبلنغ حياته في الصحيفة محررًا مساعدًا، يتلقى الأخبار التي تصله من أطراف الإمبراطورية البريطانية ومن أنحاء العالم، فيهضمها بعقل متيقظ. ثم ما لبث أن أُسندت إليه مهمة التغطية المحلية، فكان يروي أخبار الحفلات والحوادث والكوارث، والطلاق والخصومات والجرائم، حتى صار يجوب المنطقة كلها بقلمه. ويقول كبلنغ: "كان العالم الخارجي الغريب كله يطرق باب مكتبنا"، بينما كان هو يتجول في المدينة نهارًا، وفي ليالي الصيف الحارة، يتعرف على أزقتها المخفية وخفاياها، يدخل مغارات الأفيون وأوكار القمار والبيوت المنحرفة ومحلات الخمر، ويرى ترفيه الشوارع بعين فاحصة. وشهد في سيملا، محطة التلال، تلك الحفلات والعبث الذي كان يفر إليه الأرقى في الصيف، ورأى الحياة البائسة التي يعيشها الجنود البريطانيون في مواقعهم النائية الكئيبة، فأخذ ينسج من ذلك كله قصائد وقصصًا.
ثم أخذت موهبته تتجلى، وصار يكتب القصائد والقصص، وينشرها في الصحيفة، أول الأمر كحشو لا يلتفت إليه كثيرون، ثم كشيء يستحق القراءة، حتى غدت له شهرته، وأصدر "الإدارات"، أول دواوينه الشعرية، في غلاف ذكي بدا كأنه ظرف حكومي رسمي، ثم تتابعت إصداراته، فكانت "حكايات بسيطة من التلال"، وكانت مجموعته القصصية التي حملت معه حكايات السكك الحديدية الهندية، تلك التي تملأ ساعات الرحلات الطويلة على متن القطارات التي تشق القارة المترامية الأطراف.
وفي عام 1889، حين كان في الثالثة والعشرين، قرر كبلنغ أن يعود إلى الوطن، أو إلى ما كان ينبغي أن يكون وطنًا، إنجلترا. سافر عبر الصين، واليابان، وأمريكا، حتى انتهى به المطاف في لندن، حيث استقر قرب قاعات الموسيقى التي أحبها، وهناك نشر قصصه، فلم تلبث أن لقيت نجاحًا عظيمًا. لقد صار كبلنغ اسمًا معروفًا، وها هو يدخل نادي سافيل المرموق بترشيح من هنري جيمس نفسه - الذي أطلق عليه "أكمل شاب عبقري" -، بل ومن توماس هاردي أيضًا، ومن غيرهما من أدباء زمانه.
ولكن، وهل يرتاح القلق في مكان؟ وهل يجد المضطرب سكينة بين الجدران؟ لم يلبث أن ضاق بلندن، فغادرها إلى فيرمونت بأمريكا، حيث تزوج امرأة أمريكية، وهناك واصل إنتاجه الأدبي بنشاط، رغم أن نفسه بدأت تنفر من ذلك الجشع الوقح الذي رآه في الحياة الأمريكية. وبعد نزاع قانوني مرير مع صهره، عاد إلى إنجلترا، إلى ريفها الهادئ، حيث كتب "مكافآت وجنيات"، ثم لم يلبث أن راح يتنقل من جديد، إلى كيب تاون كل شتاء، وهناك، أثناء حرب البوير الثانية، غطى الجبهة كصحفي، ثم عاد إلى كتاباته التي أوصلته إلى ما لم يكن يحلم به.
وكانت الهند لا تزال حاضرة في ذاكرته، لم يغادرها تمامًا، وإن كان قد غادرها بجسده و لم يعود لزيارتها إلا مرة واحدة. ولكنها لم تلبث أن عادت لتظهر في كتاباته، فكانت "كتاب الأدغال"، التي صنعت له مجدًا عالميًا، ثم كانت "كيم"، تلك الرواية التي نضجت ببطء على مدى عشر سنوات، حتى صدرت عام 1901، فكانت أفضل أعماله، وكانت الرواية التي استحق عنها جائزة نوبل.
إن "كيم" ليست رواية عادية، وليست رواية مألوفة، بل هي خليط من كل شيء، كما أن بطلها ليس بطلًا مألوفًا، بل هو مزيج من عوالم متعددة. طفل يتيم، ابن جندي أيرلندي، لكنه نشأ في لاهور، فاكتسب منها كل ما يمكن أن تكتسبه نفس مرنة قابلة للتشكيل. يتحدث اللغات، ويعرف اللهجات، يسب ويهزأ، يراقب الناس ويلاحظ سلوكهم، يتنقل بينهم كما يتنقل الممثل بين أدواره، فلا هو مسلم ولا هندوسي، ولا هو أوروبي تمامًا ولا هندي تمامًا.
يبدأ هذا الكتاب الغريب ببطل لا يقل عنه غرابة، فكأنما هو ابن الحيرة والتردد، لا يكاد يستقر له حال، ولا تثبت له هوية. منذ الصفحات الأولى، نجد أنفسنا أمام صورة تثير الدهشة والتساؤل: يبدأ "كيم" بنبرة جريئة، لا تخلو من التحدي والمفارقة: "جلس، متحديًا الأوامر البلدية، راكبًا مدفع زم-زمه". هذه البداية تضع القارئ مباشرة أمام تساؤلات ملحة: من هذا الفتى الذي يجلس على غنيمة حرب إمبراطورية؟ وأين يحدث هذا المشهد؟ نحن أمام كيم، طفل وُلد لأب أيرلندي كان جنديًا في الجيش البريطاني وأم أيرلندية، لكنه فقد والديه مبكرًا، فربته امرأة "نصف دم" أى نصف هندية. حين نلتقيه، نجده قد صار ابنًا للمدينة، يذرع شوارع لاهور كما لو كان جزءًا منها، يعرف أزقتها وساحاتها كما يعرف كف يده، تكسوه القذارة، لكن يعلوه ذكاء حاد، ولسان طليق، يتقن لغات أهلها ولهجاتهم المتنوعة، مسلمون وهندوس، سيخ وجاين، أفغان وباثان. يراقب الجميع بفضول لا ينطفئ، يلتقط العادات والاختلافات، ويجيد السخرية والتهكم.
نشأ كيم في حياة حرة لا يحدها قانون، يصفها الكاتب بأنها "حياة برية كتلك في ليالي العرب"، حيث ينفذ "مهمات ليلية على أسطح المنازل المزدحمة لشباب أنيق ولامع"، و"يعرف كل شر منذ أن تعلم الكلام". يحمل ألقابًا كثيرة، بعضها يشير إلى مكره ودهائه، وبعضها يحمل في طياته سخرية حانية، فهو "صديق كل العالم"، لكنه أيضًا محتال بارع، نشال خفي، حامل رسائل مجهولة، متسكع في الأزقة، متغير الأشكال، بلا قيد أو طموح سوى أن يبقى خارج قبضة المبشرين الذين قد يكتشفون في ملامحه الأوروبية ما يدفعهم إلى محاولة تقويمه وجعله "فتى صالحًا" وفق معاييرهم.
يجلس كيم على المدفع في وضع غير مستقر، متحديًا وهناك يواجه مصيرًا لم يكن في حسبانه. يمر بالقرب منه لاما تبتي، رجل عجوز يسير ببطء، غريب حتى في نظر كيم الذي اعتاد على التنوع والاختلاف. لكن الغرابة لا تثير في نفسه النفور، بل الفضول، فينطلق نحوه مستكشفًا، كما لو أنه يكتشف مبنى جديدًا أو مهرجانًا لم يره من قبل. سرعان ما يعلم أن اللاما يسعى إلى التنوير، يبحث عن الخلاص، عن التحرر من "عجلة الأشياء"، ويؤمن أن هذا لن يتحقق إلا إذا اغتسل في النهر الذي يُقال إنه ينبع في مكان أسطوري، يتجاوز حدود الزمان والمكان، حيث أطلق بوذا الشاب سهمًا طائرًا ذات مرة، في اختبار لقوته وإرادته. لكن اللاما الآن "عجوز، وحيد، وفارغ جدًا"، يشق عليه الطريق، وتبدو رحلته كأنها عبء ثقيل.
حين يغلبه التعب وينام، يتصرف كيم على طبيعته، يأخذ وعاء التسول الخاص باللاما، ويذهب إلى شوارع المدينة ليستجدي له الطعام. يعرف كيف يتحدث، وأي باب يطرق، وأي وجه يستعطف، فيعود محملًا بما يسد الجوع. وحين يستيقظ اللاما، يرى في الفتى أكثر من مجرد مساعد عابر، يراه هدية أرسلتها له العناية الإلهية، فيقرر أن يتخذه تلميذه (شيلا)، ويعرض عليه أن يرافقه في سعيه نحو النهر والخلاص. أما كيم، الذي اعتاد على الحياة الحرة بلا قيود، فلا يرى ضررًا في ذلك، بل يجد الأمر ممتعًا ومثيرًا، فيوافق بلا تردد.
لم يكن الراهب ليختار غير بنارس وجهةً له، فهي غايته، وهي السبيل إلى ما يسعى إليه من صفاء وتطهر. أما كيم، فلم يكن يرى بأسًا في السفر بالقطار، بل لعله رأى في ذلك راحة وامتيازًا، غير أن هذا الاقتراح لم يكن إلا مناسبة لكبلينغ كي يصور الهند في تحولها الكبير، الهند التي وُصفت منذ بداية الكتاب بأنها "البلد الديمقراطي الوحيد في العالم". كان الركاب خليطًا من الطبقات المختلفة، يتنازعون ولكن لا يخلو تنازعهم من دعابة، غير أن الراهب لم يكن ليحتمل ضجيج القطار، فأبى إلا أن يسيرا على الأقدام.
كان الطريق ممتدًا على سد مرتفع، يسير عليه المرء كأنه فوق الأرض، كأنه يشرف منها على فضاء لا حد له، يرى الهند كلها ممتدة على الجانبين. هناك كانت العربات الثقيلة تمضي ببطء، محملة بالحبوب والقطن، تجرها ثيران متراصة، يصدر عنها صرير يُسمع من بعيد، يكبر شيئًا فشيئًا حتى تقترب العربات وتواجه منحدر الطريق الرئيسي، فتجاهد للصعود ثم تنطلق إلى الأمام، بينما يتبادل أصحابها السباب بلا هوادة. ولم يكن الناس أنفسهم بأقل جمالًا من هذا المشهد، مجموعات من ألوان زاهية، الأحمر والأزرق والوردي والأبيض والزعفران، تتفرق في السهول، تصغر تدريجيًا حتى تتلاشى في الأفق.
ذلك هو الطريق الكبير، شريان الهند، ممتد مستقيمًا، كأنه مسبحة انفرطت حباتها بين أصابع الراهب، يحمل الحركة والحياة دون أن يختنق بالازدحام، يجري لمسافة ألف وخمسمائة ميل، لا نظير له في أي مكان آخر في العالم. وكانت هذه أولى الرؤى الكثيرة التي يزخر بها الكتاب، رؤى استثنائية، غريبة، شريرة أحيانًا، لكنها حية نابضة، تتلاشى كما يتلاشى كيم نفسه في الأفق الأرجواني عند الغروب. ولم يكن الراهب ليستطيع أن يخفي دهشته، فقال متعجبًا: "هذا عالم عظيم ومريع، لم أكن أعلم أن هناك هذا العدد الهائل من البشر فيه"، وكأنما يردد دون وعي كلمات ميراندا في مسرحية شكسبير "العاصفة". وأما كيم، فقد ألقى نفسه في "السعادة القصوى كأنه فى السماء السابعة منها"، يستمتع بهذه المسافة التي تمتد بلا نهاية، وبهذه التفاصيل التي تصنع المشهد الهندي بكل ما فيه من بهاء.
وعلى هذا الطريق الكبير يحدث اللقاء الثاني الذي سيغير مصير كيم. فقد كان في لاهور قد تلقى رسالة من تاجر بشتوني، كلفه بتسليمها إلى رجل إنجليزي، وقد أدى مهمته كما ينبغي، ثم راح يتجول، يلتقط ما يقال في الشوارع، حتى وقعت أذنه على إشاعة عن حرب وشيكة. وكان فضوله دائمًا أقوى منه، فلم يكن بد من أن يبحث ويمحص، وما إن وصل إلى معسكر للجنود البريطانيين حتى وجد نفسه واقعًا في الفخ الذي طالما خشيه.
وقع في قبضة رجلين مقدسين، أحدهما أنجليكاني والآخر كاثوليكي، لم تكن لهما غاية إلا أن يعيدا صياغته على صورة الإنجليزي الصالح، ولم يكن ذلك ممكنًا إلا بأن يعلّماه لغته الأصلية، فلم يكن يعرف من الإنجليزية إلا ما لا يقيم به عبارة سليمة، وكأنما كان الكتاب كله حتى تلك اللحظة مكتوبًا بلغة أخرى ثم تُرجم. لكن القدر لم يكن ليخذله تمامًا، فقد لمح الكولونيل كريتون ما فيه من مواهب، ولم يكن كريتون مجرد رجل عسكري، بل كان عالمًا في الأعراق البشرية، مسؤولًا عن جهاز الاستخبارات، فوجد في كيم مادة صالحة لأن يُصقل ويُشكل ليكون لاعبًا في "اللعبة الكبرى"، الصراع الخفي بين الإمبراطوريتين، البريطانية والروسية، على ولاء القبائل على الحدود.
لم يكن مناص من أن يجلس كيم في مقاعد الدراسة، لكن كريتون، الذي لم يكن يرى الأشياء بسطحية رجال الدين، منحه امتيازًا خاصًا، إذ سمح له بالعودة إلى الراهب في العطلات، وهكذا كان يتلقى التعليم الرسمي حينًا، ويجوب الهند حينًا آخر، وكأنما كان يتدرب على دوره الجديد، جاسوسًا يتقن التنكر، يفهم الثقافات، يراقب دون أن يُرى.
وحين تمضِ الأعوام، ويحين وقت اختباره الأخير، يصعد إلى جبال الهيمالايا ليخوض ما يسمى "لعبة الجوهرة"، وهي ليست إلا درسًا عميقًا في فن الخداع، حيث لا شيء هو ما يبدو عليه، وحيث الحقيقة تتوارى خلف أقنعة متداخلة. وهكذا يكتمل تعليمه، والجزء الأخير من الكتاب يروي بإثارة تفاصيل مهمته الأولى. فيُكلف بمهمته الأولى، إذ يُرسل في إثر جاسوسين، أحدهما روسي والآخر فرنسي، يتظاهران بأنهما رساما خرائط، لكن غايتهما الحقيقية أن يعقدا تحالفًا مع زعماء القبائل الأفغانية. ولم يكن هناك من يستطيع أداء هذا الدور أفضل من كيم، الذي لم يكن ليثير الريبة، إذ سيظهر في صورة تلميذ الراهب، والراهب نفسه سيصحبه، إذ وجد في ذلك فرصة للعودة إلى موطنه الجبلي، متناسيًا سعيه الروحي للحظة.
ولم يكن كيم وحده في هذه المهمة، بل كان معه هوري بابو، الرجل البنغالي الضخم، المتحدث البارع، الجاسوس الذي يتقن التنكر، ويعرف كيف يتلاعب بالكلمات، فيتسلل إلى حاشية الجواسيس الأجانب كمترجم. كان هوري شخصية استثنائية، مثقفًا وعالمًا بالأعراق البشرية، لكنه أيضًا لاعب بارع في هذه اللعبة، أكثر حتى من كيم. وكان أسلوبه في الكلام ذاته كاشفًا، فهو يتحدث بلغة عالمية، لكنها في الوقت ذاته لغة خاصة، له وحده. ولم يكن وضعه في هذه اللعبة الكبرى مختلفًا عن وضع الآخرين، الجميع هنا يعيش في الظل، يعمل بأسماء مستعارة، أشد أنصار الإمبراطورية ولاءً، هم منبوذون لا يعترف بهم أحد، وإن ماتوا فلن يعرف أحد باسمه الحقيقي، فكما يقول العميل E.23 لكيم: "نحن في اللعبة الكبرى خارج نطاق الحماية. إذا متنا، متنا".
لكن اللعبة لم تكن مجرد لعبة سياسية، بل كانت صورة للحياة ذاتها، كما قال هوري بابو: "عندما يموت الجميع، تنتهي اللعبة الكبرى. ليس قبل ذلك".
وقد نجحت المهمة، لكنه كان نجاحًا بطعم الهزيمة. عندما هاجمه الروس كيم، وجد الراهب نفسه مضطرًا للدفاع عن كيم، شعر بأنه قد خسر معركته الروحية، إذ تورط في العنف الذي كان يسعى جاهدًا إلى تجاوزه. ولم يكن كيم أقل شعورًا بالذنب، فقد استخدم الراهب كغطاء، وأساء إلى ثقته. ولم يكن لهذا إلا أن يؤدي إلى نهاية مأساوية، فقد سقط الراهب مريضًا، وحمله كيم على ظهره عائدًا إلى السهول، حيث سقط هو الآخر فريسة المرض.
دخل الرجل العجوز والشاب إلى ما يسمونه "اللعبة الكبرى"، وهما لا يعلمان أنهما يخدعان نفسيهما. ولكن، أليس من حقنا أن نتساءل: من يكونان حقًّا؟ إن كتاب "كيم" لا ينفكّ يتساءل عن الهوية، ويبعث في قارئه الشك والحيرة. فها هو كيم وهري وكتيبة الجواسيس كلهم غرباء، منفيون في عالم لا ينتمون إليه، بينما يسعى اللاما إلى التجرد من ذاته، طامحًا إلى نكرانها الكامل. وكلهم، بمعنى ما، يخضعون لما أسماه اللاما في مطلع الكتاب "القانون الرفيع". هذا القانون الذي أشار إليه الراهب في مستهلّ الرواية، حين قال: "قبل كيم هذا الإله الجديد دون مشاعر. كان يعرف بالفعل بضع عشرات من الآلهة". إنه قانون لا يعرف ذاتًا ولا يبحث عن مصلحة، بل يطلب الخدمة الصافية والتجرّد الخالص. ولكن هل يقدر كيم على هذا التجرّد؟ أم أنه سيظل دائمًا كيم، الإنسان الحي، المتجدد، المتسائل عن ذاته؟
أليس هذا السؤال نفسه، سؤال الوجود؟ من هو كيم؟ عند أول الطريق، نراه غافلًا عن ذاته، مندمجًا في العالم، وكأنه جزء لا يتجزأ منه: "الهند كانت مستيقظة، وكيم كان في وسطها، أكثر يقظة وإثارة من أي شخص". لكن، حينما تغيرت هيئته، وحين ارتدى الحذاء والبدلة، وأُرسل إلى المدرسة، ووجد نفسه في قلب عالم النظام والانضباط، بدأ يسائل نفسه: "أنا كيم. هذا العالم الكبير، وأنا فقط كيم. من هو كيم؟" وهكذا بدأ وعيه يتشكل، ولكنه وعي ممزوج بالشك والاغتراب، كمن خرج من فردوسه الأولي ليجد نفسه وحيدًا.
وهل الوحدة إلا بداية الفلسفة؟ إن تساؤل كيم عن هويته ليس إلا صورة من صور التأمل العميق الذي يُبتلى به الإنسان حين يُجبر على مواجهة ذاته. أليس الإنسان كائنًا يسائل نفسه، فيتيه بين احتمالات لا حد لها؟ وكيم، في رحلته، يُجبر على أن يقف أمام مرآة وجوده، فيرى نفسه في أوجه متعددة، مرة كمتجول، ومرة كخادم للقانون، ومرة كطفل لا يزال يتلمس طريقه في ظلمة الحياة. وها هو في لحظة تأمل يقول: "الآن أنا وحيد – وحيد تمامًا. في كل الهند، لا يوجد أحد وحيد مثلي". يكتب كبلنغ:
قلة من البيض، لكن كثرة من أهل آسيا، يستطيعون أن يغرقوا أنفسهم في بحر الدهشة بترديد أسمائهم لأنفسهم مرة بعد مرة، مطلقين العقل في تأملات حول ما يُدعى الهوية الشخصية. وعندما يتقدم الإنسان في السن، تذبل هذه القدرة عادة، لكنها ما دامت حية، قد تنزل على المرء في أي لحظة.
"من هو كيم - كيم - كيم؟" سؤال يعود في آخر الكتاب: "أنا كيم، أنا كيم. وما هو كيم؟" كررت روحه ذلك مرات ومرات... لم يشأ أن يذرف دمعًا...
لكنه فعل. انهمر بالبكاء، ثم عاد العالم، "عجلات كيانه"، ليثبت وجوده. وينتهي الكتاب:
الدروب وُجدت لتُمشى، والبيوت لتُسكن، والمواشي لتُقاد، والحقول لتُفلح، والرجال والنساء ليُخاطبوا. كلها حق وصدق - راسخة على قدميها - مفهومة بتمامها - طين من طينه، لا زيادة ولا نقصان. هز نفسه ككلب ينفض البراغيث من أذنه، وخرج يتيه خارج البوابة.
"ككلب" (تلك الكلمات ذاتها راودت يوسف ك. عند كافكا في نهاية صراعه مع القانون): كيم، كما يقول الكاتب، كلب هجين، فهو ابن بيئتين، وابن عالمين، كما أن الكتاب الذي يحمل اسمه هجينٌ كذلك؛ فهو رواية مغامرة، وقصة نجاة من كارثة وشيكة، وهو أيضًا سعي روحي، ورحلة في طريق النضج، ولكنه كذلك كتاب عن عدم النضج، حيث يظل الطفل الأبدي ماثلًا فيه، يتفوق على جميع الكبار. وهو أيضًا بحث عن الذات، ودليل للتيه، ولعبة تخيلية تحمل في طياتها خطرًا حقيقيًا. وهو في مجمله ترنيمة للهند، بمزيجها الفريد من الغبار والرائحة الكريهة والعطر الفوّاح. وليس عجيبًا أن يجد فيه بعض القرّاء المعاصرين نوعًا من الاعتذار للإمبراطورية، ذلك أن المؤلف لم يكن ينظر إليها كما ينظر إليها غيره، بل كان يرى فيها أكثر مما يراه الآخرون.
فالإمبراطورية، كما أحسّها كبلينغ، لم تكن مجرد سلطة غاشمة ولا استعمارًا جائرًا، بل كانت، في نظره، الرابط الوحيد الذي يجمع شتات الهند، متجاوزة المصلحة الذاتية والتحيزات العائلية والطبقية والقبلية والوطنية. ولولا الإمبراطورية، لانهار هذا العالم في صراعات لا نهاية لها، ولما بقي للهند كيانٌ ولا نظامٌ ولا قانون. ولم يكن الإنجليز في نظر كبلينغ مجرد حكّام غرباء، بل كانوا حَملة رسالة، يسعون إلى ما يتجاوز واقعهم المحدود في "لورن لودج"، حيث تترسخ القناعات القبيحة. فالإمبراطورية هي وطنٌ بعيد عن الوطن، وهي قلب المنفى، وهي الحلم الذي يجمع ولا يفرق، ويوحّد ولا يشرذم. وقد كانت بالنسبة لكبلينغ، كما كانت حكومة عالمية بالنسبة إلى "ويلز"، الأمل الوحيد لعالمٍ ممزقٍ تائهٍ. فكرة تبدو اليوم وهمًا، كالدائرة السحرية التي رسمها حول نفسه في قبو "لورن لودج". لكن "كيم" حلم، ومن الأمور التي تجعله ليس فقط بديعًا بل مؤلمًا أن القارئ يحس أنه، بين كل ما لا يُحصى من معانيه، سيرة ذاتية متخيلة، حلم كبلنغ عن الفتى الهندي الآخر الذي كان يمكن أن يكون، أو ربما هو في أعماقه.
وكيم، مثل عجلة الحياة البوذية، يعود دائمًا إلى نقطة البداية. فهو الذي كان يمتطي مدفعًا في البداية، ينتهي به الأمر تحت ظل عربة، يصحو من مرضه ليواجه عالمه من جديد. وليس "كيم" مجرد قصة، بل هو كتاب رؤيوي، متعدد الأصوات واللغات، ميدانٌ تتحاور فيه الثقافات، ويجتمع فيه القديم والجديد، والمقدس والمدنس، والعالي والدنيء. إن النص نفسه يتغير ببراعة كما يتغير بطله، فهو مرةً فصيح رنان، وأخرى مقتضب وجزل، مستلهمًا نصوص الشرق حينًا، والكتاب المقدس حينًا آخر. وهو تارةً مسرحي شكسبيري، حيث نجد "هوري بابو" يمزح بمرارة مستعينًا بلغة "عطيل"، وتارةً عامي، حيث يصرخ الجندي "واو"، ولا يجد الكاتب غضاضة في استخدام الشتائم والبذاءات.
و"كيم"، هو قصة طفل يتيم يبدو كقصة أطفال، لكنه يكشف عن نفسه كقصة مليئة بالدهشة والخوف، تطلب من القارئ أن يتساءل سؤالًا وجوديًا: ما هذا العالم الذي نحيا فيه؟ وما معنى أن نحيا فيه؟ وقد استجاب لهذا التساؤل القرّاء في الهند كما في الغرب، حتى عُدَّ "كيم" رواية هندية عظيمة، رغم ارتباط كبلينغ بالإمبراطورية. وربما كان السر في ذلك أن الدهشة التي يوقظها الكتاب ليست ساذجة، ولا تمثل نوعًا من الاستشراق المفتعل، إلا ربما في تلك المؤامرات الصغيرة التي تدور ضمن "اللعبة الكبرى"، والتي قد تكون أكثر أجزائه طفولية. وكيم، الذي يتجول "مثل كلب" إلى بداية جديدة مجهولة، يبدو أكثر واقعية من كيم الذي قُدِّر له أن يكبر ويصبح من خدم الإمبراطورية، تمامًا كما كان زملاء "كلودين" الذين تدربوا ليكونوا معلمين. إن الكتاب يوثق واقع الوعي المنقسم، حيث تتجسد فكرة الإمبراطورية عند كبلينغ بوجهين، أحدهما يبررها والآخر ينقضها.
وفي "كيم"، كما في "كلودين"، يتيح البطل الطفل للكاتب بأن يربك نظرتنا للعالم، ويحقق ذلك عبر دقته الصحفية في تصوير التفاصيل والشخصيات، وحبه للسرد، ولكن قبل كل شيء - وهنا يضاهي كافكا - عبر حسّه الفذّ باللغة. فاللغة في "كيم" متعددة الألسنة، حيث تتردد في صفحاته كلمات أجنبية مثل: "شاباش"، "مدرسة"، "تيكا-غاري"، "هونديس"، "باهاري"، "بيلور"، "كوس"، بل وحتى "ني فارييتور". إن اللغة في الرواية ليست مجرد أداة، بل هي سؤالٌ قائم بذاته، وهي، كما واجهها كبلينغ في طفولته، عنصرٌ جوهري في تشكيل الفهم والحياة. وليس غريبًا أن يستمد "كيم" الكثير من قوته من خلال استغلال منابع الكلام الأولى، ومن خلال اللعب باللغة وإعادة تشكيلها.
هنا، نتساءل مرة أخرى: بأي المصطلحات نُعرِّف ذواتنا؟ وكيف نكوّن فهمنا لهذا العالم؟ إن كبلينغ، سياسيًا، وجد في الإمبراطورية ملاذًا من عالمٍ مضطرب، لكنه، تخيليًا، لم يجد إجابةً واضحة، بل ظل يطرح السؤال تلو السؤال، ويترك لنا الفعل، والتحليل، والتأمل. وإن من أعظم إنجازاته في "كيم" أنه استطاع أن يخلق لغة جديدة، لغة كثيفة، مرنة، مشفّرة، حية، تلمع كما تلمع السمكة في الماء، لغة متميزة وأصلية، تضاهي، في فرادتها، جُمل كافكا المبتهجة، وتستبق لغة الأحلام المليئة بالهمسات والصدى، تلك اللغة التي ستظهر لاحقًا في "يقظة فينيجان" لجيمس جويس.
مترجم من كتاب stranger than fiction
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي