إنه مطلع عام 1864، وفيودور دوستويفسكي منهمك في موسكو في كتابة ما سيصبح لاحقًا أول رواية من القرن العشرين.
لم يكن دوستويفسكي يدرك ذلك بطبيعة الحال، ولن يدركه أبدًا. ما كان يعيه في تلك اللحظة هو أنه محاصر بمأزق لا سبيل للخروج منه إلا بإكمال العمل الذي بين يديه.
كان في الثانية والأربعين من عمره، يعيش حياة زوجية تعيسة، بلا أطفال. قامة قصيرة وبنية نحيلة، يتسم بتوتر شديد وشعر شاحب رقيق ولحية طويلة غير مرتبة. كان يكتب بجنون حتى ساعات الليل المتأخرة، مستعينًا بأكواب القهوة التي لا تنفد، والسيجار، والسجائر. لم تكن حياته تخلو من الضغوط؛ فالمواعيد النهائية تطارده دائمًا، والتأخر عن الالتزام بها صار جزءًا من حياته. أضف إلى ذلك نوبات الصرع التي كانت تصيبه بانتظام، فتقعده لأيام متصلة.
ورغم ذلك، كان اسمه قد بدأ يسطع بين الأدباء والنقاد والمحررين، وأصبح شخصية جديرة بالمتابعة. ففي عام 1861، أطلق مع أخيه الأكبر ميخائيل مجلة شهرية أسمياها الزمن. ميخائيل كان داعمًا له بعزيمة لا تكل، وسرعان ما وجدت المجلة جمهورًا واسعًا من القراء. وكانت تلك الأعوام الأولى من حكم القيصر ألكسندر الثاني، الذي تولى العرش عام 1855، حقبة انفتاح على الأفكار الجديدة، بلغت ذروتها بإلغاء نظام الأقنان في عام 1861. وقد لعبت المجلات الأدبية والفكرية مثل الزمن، التي عرفت بـ"المجلات السميكة" بسبب حجمها الكبير، دورًا بارزًا في إثراء الحياة الفكرية والثقافية في روسيا القرن التاسع عشر، خاصة في تلك الحقبة الانتقالية.
سياسيًا، كان دوستويفسكي وشقيقه ميخائيل من أنصار ما عُرف بـ"البوشفنيتشستفو"، وهي عقيدة مستمدة من كلمة "بوش"، التي تعني التربة بالروسية. كانت العودة إلى الجذور، وإلى التربة الروسية الأصلية، هي سبيلهما لإصلاح المجتمع الروسي. لم يكن أحد يشك في أن إمبراطورية القيصر الشاسعة والمتأخرة سياسيًا واقتصاديًا بحاجة إلى إصلاح. لكن دوستويفسكي كان يرى أن هذا الإصلاح لا يمكن أن يتحقق بتقليد الغرب في نظامه الدستوري أو الاقتصادي. بل كان يعتقد أن الفضائل والمؤسسات روسية الأصل هي السبيل إلى نهضة البلاد. ومن هنا، وجد نفسه على وفاق مع السلافيين المحافظين وبعض الاشتراكيين الذين رأوا في أوروبا الحديثة الغنية إفلاسًا روحيًا. لكنه في ذات الوقت، وقف على النقيض تمامًا من الشباب الماديين الراديكاليين، الذين أصبحوا فيما بعد نواة للبولشفيين، والمعروفين آنذاك بـ"العدميين".
كانت مجلة الزمن تطمح إلى أن تكون منبرًا يتحدى المادية والتوجهات الغربية، وأن تصبح وسيطًا نزيهًا في النزاع بين الوطنيين الروس الحقيقيين، سواء كانوا من اليمين أو اليسار، حول مستقبل البلاد. لكن هذه المهمة الصعبة انهارت في عام 1863 في مشهد مشوش يكاد يبدو هزليًا. ففي تلك السنة، اندلعت انتفاضة للقوميين البولنديين ضد حكم القيصر في وارسو. نشرت الزمن مقالًا وصف الانتفاضة بأنها ذات طابع أوروبي خالص. من منظور المجلة السلافي، كان هذا الوصف نقدًا وإدانة. لكن الرقابة الحكومية أخطأت فهم الرسالة، واعتبرت المقال تأييدًا للتمرد، وأغلقت المجلة فورًا.
كانت تلك الفترة تشهد تراجع الحكومة عن الإصلاحات التي لم تؤدِ إلا إلى تصاعد المطالب بمزيد من الإصلاحات. البولنديون كانوا في حالة تمرد، والفلاحون في حالة تململ. وأصبح إغلاق مجلة الزمن جزءًا من حملة أوسع لكبت ليس فقط المعارضة، ولكن النقاش الحر. وفي العام السابق، كانت المجلة الراديكالية المعاصر قد أُغلقت لفترة قبل أن يُسمح لها بالعودة للنشر. ومع ذلك، وجد ميخائيل دوستويفسكي نفسه غارقًا في الديون بسبب النهاية المفاجئة لمجلته، وأمل في مصير مماثل للمعاصر. لكن السلطات منحته إذنًا بإطلاق مجلة جديدة تمامًا، وهو ما لم يكن نعمة بقدر ما كان عبئًا.
وفي خضم هذا كله، كان فيودور قد هرب إلى أوروبا وراء امرأة شابة.
كانت أبولونيا (بولينا) سوسلوفا، في العشرينيات من عمرها، قد كتبت بعض المقالات لمجلة الزمن قبل أن تصبح عشيقة دوستويفسكي. في البداية، كانت بولينا غارقة في حب الكاتب المتزوج في منتصف العمر. لكن هذا الحب تحول إلى غضب عندما رفض دوستويفسكي إعلان علاقتهما. كان يخشى إيذاء زوجته.
عندما قررت بولينا السفر في أوروبا، لحق بها دوستويفسكي إلى إيطاليا.
لقد أحاط اليأس وعدم اليقين بعملية كتابة ونشر رواية "مذكرات من العالم السفلي" منذ بدايتها، وكأن هذه المشاعر لم تكن مجرد خلفية للعمل بل نسيجًا من نسيجه، متجسدة في صفحات مشحونة بالحيرة، و مفعمة بالحدة، و مشبعة بالسخرية، ومفعمة ببصيرة نبوئية.
ويمكن رؤية هذا اللايقين واضحًا في الملاحظة التي تسبق القسم الأول من الرواية، والتي نُشرت في مجلة إبوك:
لا ريب أن صاحب هذه المذكرات، والمذكرات نفسها من نسج الخيال. ومع ذلك، فمن الواضح أن مجتمعنا قد يحوي أشخاصاً مثل كاتب هذه المذكرات، بل إنني أقول إنه لا بد أن يحوي مثلهم عندما نفحص الظروف التى نشأ فيها مجتمعنا … في هذا الباب تحت عنوان “العالم السفلي”، يقدم الشخص نفسه، وآراءه، وكأنه يشرح الأسباب التي جعلت من ظهوره—ووجوده بالذات—أمرًا حتميًا بيننا.
هنا، يتساءل القارئ لأول مرة: ما هذا؟ ماذا يمكن أن يحدث؟ وهل يعلم الكاتب نفسه ما الذي يفعله؟
لكن اللايقين هنا لا يقف وحده، بل يمتزج بشعور من الحتمية التي تبدو وكأنها تناقضه. فما يُفترض أن يكون بديهيًا لأي قارئ متمرس، يصبح على النقيض تمامًا. فالكاتب، وهو يتخذ موقفًا يبدو مغايرًا عن شخصيته المبتكرة، ينسب إليها في الوقت نفسه مشروعًا موازيًا لمشروعه الخاص: إثبات أن هذه الشخصية ليست مجرد اختلاق، بل ضرورة حتمية للزمن الذي يعيشه. وهنا يظهر السؤال: ما مدى التداخل بين الكاتب الحقيقي والخيالي؟ وما مغزى العنوان نفسه: "مذكرات"—كلمات تحمل طابعًا شخصيًا وغير نهائي—"من العالم السفلي"، وهو تعبير يشير إلى أعماق مظلمة تحمل في طياتها رائحة النهاية، وما الذي يمكن أن يكون أكثر نهائية من القبر ذاته؟
تبدأ القصة بعبارة صادمة: "أنا رجل مريض…" لكنها تتوقف مباشرة عند ذلك الحذف (…)، وكأنها تُعلق نفسها. ثم تستأنف بحدة: "أنا رجل حقود. أنا رجل بليد المظهر غير جذاب. وأعتقد أن كبدي عليل." وهكذا، تتوالى الكلمات كأنها شلال من الأفكار الغاضبة، المتدفقة بلا توقف، تمتلئ بها أعمدة مجلة إبوك.
لكن من هو هذا المتحدث؟ إنه ليس دوستويفسكي نفسه، كما تم التنبيه من البداية (رغم أنه كان، أثناء الكتابة، يعاني من المرض). بل هو شخصية مجهولة، لكنها مع ذلك تمثل نموذجًا للإنسان المعاصر في سياقها، كاتب يكتب عن نفسه ويفرض وجوده على القارئ. الكتابة، في جوهرها، فعل انعزالي، لكن هذا الكاتب يجعلنا نسمع صوته كأنه يخاطبنا مباشرة: "لحظة، رجاءً! دعوني ألتقط أنفاسي…" صوته يبدو مزعجًا، متوسلاً، واعيًا بذاته، وفي الوقت نفسه ساخرًا ومستفزًا. إنه صوت يذكرك بشخص يوقفك في الشارع دون أن يتركك.
هذا الصوت، في حد ذاته، يمثل ألمًا، وككل ألم يهدد بالاستمرار بلا نهاية. ولكن، ما الذي يمنح هذا الألم الحق في أن يشركنا في معاناته؟ وإذا تابعنا القراءة، ألا يعني ذلك أننا قبلنا بهذا الادعاء بطريقة ما؟ وهنا، يظهر سؤال جديد، يتسرب إلى أذهاننا، عبر عملية غريبة من الانتحال الصوتي: لماذا أتحمل هذا؟ من أنا؟ من أنت؟ وإذا كنت تقرأ هذا الآن، فربما تكون مريضًا مثلي؟ وربما يكون هذا ألمك أنت؟
كل شيء يحدث بسرعة، كما لو أن الأحداث تتراكض أمام أعيننا. الجمل قصيرة، و حادة، و تصعب متابعتها، وكأنها تتحدى التركيز. الموضوع يبدو متغيرًا باستمرار، لكنه في جوهره واحد لا يتغير. القارئ يشعر وكأنه في حالة كمين، صدمة متجددة في كل سطر.
الكاتب الآن يكشف عن نفسه بشكل أكثر وضوحًا، يأخذ شكلاً ملموسًا: إنه رجل متعلم؛ مغرور إلى حد الاعتراف: "أشعر بالذنب لأنني الأكثر وعياً بين من يحيطون بي"؛ رجل في منتصف العمر؛ أعزب؛ "رجل مثقف في قرننا التاسع عشر." إنه موظف حكومي سابق في رتبة متواضعة، تقاعد مبكرًا ليعيش على إرث صغير في شقة متواضعة بأحد أحياء سانت بطرسبرغ النائية، تلك المدينة التي يصفها بأنها "أشد مدن الأرض نظرية و تعمداً." إنه، بكلماته، شخص عديم القيمة: "حاولت مراراً أن أكون حشرة. و لكنني لم أكن أهلاً حتى لذلك."
ثم، وبصوت يزداد ارتفاعًا وثقة، يقدم شخصية جديدة: نحن. يقول لنا: "سيداتي وسادتي،" وكأنه يشير بأصابع الاتهام إلينا. نحن، مثله، أبناء القرن التاسع عشر، لكننا مختلفون عنه في كل شيء آخر. نحن أناس محترمون، نعيش وفقًا لقواعد مستقرة ومعتقدات راسخة. يخبرنا، دون تردد: "ليس لديكم أدنى شك في أذهانكم." لكن، فيمَ نؤمن؟ بالتقدم، والعقل، والعلم. نؤمن بالسعي لتحقيق مصالحنا الشخصية، وبإدارة حياتنا بعناية وكفاءة، كما يدير الميكانيكي آلة معقدة. نحن نؤمن—أو هكذا يقول الكاتب—بكمال الإنسان وحتمية المدينة الفاضلة، ذلك "القصر البلوري" الذي سنعيش فيه يومًا ما جميعًا في انسجام كامل، نوايانا واضحة، وأفعالنا صالحة.
نحن نعتقد بأن "اثنين ضرب اثنين يساوي أربعة" هو حقيقة دامغة، غير أن دوستويفسكي يقدم لهذه الحقيقة تصورًا أدبيًا مثيرًا للدهشة. يتساءل الكاتب عن جوهر هذه الحقيقة المطلقة، قائلاً:
لأن اثنين ضرب اثنين يساوي أربعة ليس حياة، بل بداية الموت. […] دعونا نفترض أن الإنسان لا يفعل شيئًا سوى البحث عن هذا "اثنين ضرب اثنين يساوي أربعة"، يخوض خلالها غمار المحيطات ويضحي بحياته، لكن عند بلوغها، يخامره الخوف. إنه يخشى أن يكون الوصول إلى هذه الحقيقة نهاية لكل بحث ومعرفة. […] ولكن "اثنين ضرب اثنين يساوي أربعة" حقًا أمر لا يُطاق. إنها ليست سوى سخف لا يدانيه سخف. أوافق على أن "اثنين ضرب اثنين يساوي أربعة" شيء عظيم؛ ولكن إذا كنا سنُشيد بكل شيء، فأقول إن "اثنين ضرب اثنين يساوي خمسة" قد يكون أيضًا شيئًا بديعًا في بعض الأحيان.
في هذا النص، تبدو الكتابة كمزيج من الاعترافات، و الجدليات، والفلسفة، بل وحتى الأدب. ومن ثم، يصعب تصنيفها أو الإلمام بها في حدود نوع أدبي واحد. إنها تتحدث عن كل شيء ولا شيء في آنٍ واحد: عن القرن التاسع عشر، و عن السياسة، و عن الحياة والتقدم. وفي النهاية، يصرح كاتب المذكرات بأن "كل هذا كذب". هذه الصفحات لا تصلح للنشر، بل لن يسمح هو شخصيًا بذلك حتى لو عُرض عليه. إنها كتابة تتحدى الواقع، وتحطم قيود المنطق.
ثم يختم دوستويفسكي هذا الجزء الأول من قصته بأبسط حيل الأدباء: يعد القارئ بقصة أخرى قادمة، ستكشف كل شيء.
وفي حدثٍ مؤثر، توفيت ماريا دميترييفنا في السادس عشر من أبريل. كان دوستويفسكي يسهر على جثمانها تلك الليلة، حاملاً دفتر ملاحظاته، و غارقًا في التأمل. كتب متسائلًا: "ماشا ترقد على الطاولة. هل سأراها مرة أخرى؟" ثم يتأمل أعماق النفس البشرية، قائلًا:
الأنا هي العقبة الكبرى... السعادة الحقيقية تكمن في إلغاء هذه الأنا. إنها الفردوس الذي يبشر به المسيح... الهدف الأسمى للإنسانية. ولكن، هل من المعقول أن يبلغ الإنسان هذا الهدف ليجد في النهاية أن كل شيء قد انتهى واختفى؟ لابد إذن من وجود حياة أخرى، حياة سماوية.
استمر دوستويفسكي في الكتابة، لكنه لم يذكر ماشا مرة أخرى. وفي واحدة من ملاحظاته، كتب: "اثنين ضرب اثنين يساوي أربعة هو حقيقة، وليس علمًا."
بعد بضعة أشهر، كتب رسالة تصف زواجه:
رغم تعاستنا الواضحة معًا—بسبب شخصيتها الغريبة والمشبوهة وغير الصحية—لم نستطع التوقف عن حب بعضنا البعض. كلما زادت تعاستنا، زاد تعلقنا ببعضنا. ربما يبدو ذلك غريبًا، لكنه كان كذلك بالفعل.
ورغم الحزن الذي اجتاحه، واصل دوستويفسكي العمل على كتابه. كان الجزء الثاني من الكتاب بحاجة إلى أن يُكمل، لكنه لم يكن يملك سوى تصور غامض عما يريد تقديمه. كتب لأخيه قائلاً: "ما أكتبه يبدو مجرد ثرثرة، بكلمات غريبة ونبرة عنيفة. قد لا يروق للجميع، لكنه ضروري بالنسبة لي."
وبعد انتظار طويل، ظهر الجزء الثاني في يوليو 1864 في مجلة "إبوك". هذا الجزء يعكس تناسقًا تقليديًا مع الجزء الأول. إذا كان الجزء الأول قد انتهى بالاعتراف بالكذب، فإن الجزء الثاني يعد بالكشف عن الحقيقة الكامنة وراء الكذب. لم يعد الكاتب يحتج أو ينكر، بل يعود كراوٍ أول أكثر تقليدية.
القصة، رغم بساطتها في الشكل، تحمل مضمونًا صادمًا. يعود الكاتب ليروي قصة من شبابه، حيث كان مؤمنًا بالحق والخير والجمال. وفي واحدة من مغامراته، بعد أن حصل على وظيفة بسيطة في بيروقراطية الحكومة، قرر اقتحام حفلة عيد ميلاد لزميل سابق من المدرسة، كان يحسده على ثروته وشعبيته. يصنع مشهدًا في الحفلة، ويهين نفسه. يتركه رفاقه ويتجهون إلى بيت دعارة؛ يلحق بهم ويختار فتاة، ليزا، قادمة حديثة من الريف وجديدة في العمل. يمارسون الجنس، وبعدها يحذرها بجدية من مخاطر حياتها ويعرض عليها مساعدتها لتغيير مسارها. بعد أسابيع، تظهر ليزا في شقته.
لكنه لاحقًا يستهزئ بها ويحتقرها. يتأمل حاله قائلًا: "كنت أبحث عن السلطة، كانت ما أحتاجه في ذلك الوقت، و اللعب أيضًا، كنت بحاجة لأن أستدعي دموعها، إذلالاها، وهستيرياتها... كم كرهتها وكم كنت منجذبًا إليها في تلك اللحظة! مشاعر متضاربة استولت على الأخرى." يحاول التقرب منها، تشعر بالارتباك، ثم تستجيب بحب. بعد خمس عشرة دقيقة يريدها أن تغادر. ما يريده هو أن تشعر هي بالاغتصاب. وعندما تهم بالخروج، يعطيها المال، بعد ذلك، تملأه مشاعر الندم ويخرج بحثًا عنها في الليل و الثلج يتساقط، ليكتشف أنها قد رحلت، تاركة وراءها ورقة نقدية من خمسة روبلات حاول إعطاءها لها لكنها رفضتها.
"قسوة وعنف" هما الوصفان اللذان يمكن أن يلخصا هذا السجل المفعم بالضغينة والانحطاط والانتهاك. إنه ليس مجرد قصة مكتملة الجوانب أو حبكة مدروسة، بل يبدو كصفحة منتزعة من الواقع نفسه، صفحة انبثقت من صميم الحياة. بل هو أيضًا صفحة منتزعة من الأدب، لا لشيء إلا لتشويهها عمدًا والسخرية من قيمتها، إذ يحمل هذا النص ملامح محاكاة ساخرة لتلك القصص العاطفية الكلاسيكية التى انتشرت فى القرن التاسع عشر التي طالما تغنت بشبان مخلصين ينتشلون النساء الساقطات من قيعان الإنحطاط. فكاتب تلك المذكرات هنا، بكل تناقضه، كان ذات يوم مفتونًا بمثل هذه الروايات العاطفية، حتى واجه الحقيقة المرة لجوهر شخصيته الذي لا يمكن إصلاحه. كما أشارت إليه "ليزا" قائلة: "تتحدث وكأنك تقرأ كتابًا!"
ومع ذلك، فإن الكاتب لا يتوسل المغفرة ولا يطلب الصفح فيقول بوضوح: "أنا لا أبرر نفسي حقًا...". بل إنه يرى فيما فعله، وفي استعداده الصريح لإخبارنا بما اقترفت يداه، رغم قبح ما يرويه، مصدرًا لسلطة خاصة. إذ يقول: "لقد دفعتُ في حياتي الأمور إلى أقصى حدودها، بينما لم تجرؤوا أنتم حتى على تجاوز منتصف الطريق، واعتبرتم جبنكم حكمة، وتشبثتم به حيث وجدتم الراحة فى خداع أنفسكم" ثم يختتم قائلاً بنبرة ساخرة: "فقد أكون على الرغم من كل شئ أكثر حياة منكم." وهكذا، بعد أن صوّر نفسه ككائن هامشي لا قيمة له في البداية، يكشف الآن عن وجهه الوحشي. وهذا هو في نظره سر سلطته الفريدة ودليل أصالته، لكن يبقى السؤال: هل يكفل له ذلك الحق في مخاطبتنا بهذه النبرة المتعالية؟ أو الحكم علينا بتلك الجرأة؟
ثم فجأة، يتوقف النص. يتوقف ولكنه يستأنف لاحقًا، ثم ينتهي بنفس النبرة التي بدأ بها، بملاحظة من دوستويفسكي نفسه: "في الواقع، لم تنتهِ 'مذكرات' هذا المتناقض هنا. لم يستطع كبح نفسه واستمر في الكتابة. ولكن يبدو لنا أنه يمكننا التوقف هنا."
إنه لم يقاوم الرغبة واستمر في الكتابة. هذه الكتابة، كما يخبرنا كاتب المذكرات، ليست أدبًا بالمعنى التقليدي، بل هي شيء أشبه بالاعتراف الصريح الذي يتحدى أي قواعد. بل إن السارد نفسه يشعر بالخجل من محاولته الكتابية هذه، قائلاً: "لقد لازمني الخجل طيلة الوقت الذي كنت أكتب فيه هذا السرد: حتى لتكاد تكون عقاباً إصلاحياً أكثر منها كتابة أدبية." ثم يعمم تلك الفكرة قائلاً: "بل إننا لا ندري ماذا تعنيه الحياة الآن— ما هى، وماذا تُسمى؟ اتركونا وحدنا، بلا كتب، ولسوف نتخبط على الفور فى ظلمات الحية و الإرتباك."
وإذا كان الأدب يمثل أزمة في "مذكرات من العالم السفلي"، فإن الواقع ذاته هو الأزمة الكبرى. الواقع في هذا النص يرتبط بالاضطراب العنيف. السارد نفسه يقدم مثالاً صارخًا حين يقرر اقتحام حفلة زميله، رغم علمه بأنه غير مرغوب فيه. يبرر ذلك قائلاً: "[إذا لم أذهب] سأظل ألوم نفسي لبقية حياتي: 'حسنًا، إذن، لقد فقدت شجاعتك، والواقع جعلك تفقدها.'" إنه يؤمن أن الذهاب سيؤدي إلى "تحول جذري في حياته"، لكنه يضيف بسخرية: "ربما بسبب العادة، طوال حياتي، كان أي حدث خارجي، مهما بدا صغيرًا، يحمل في طياته إيحاءً بانقطاع جذري يوشك أن يطرأ." وحين يتعرض للإذلال، يكون أول ما يخطر بباله: "ها قد واجهت الواقع أخيرًا."
الواقع، إذن، في هذا النص يرتبط بالاضطراب والإجبار معًا. الكتابة هنا ليست نتاج ترف فكري، بل هي ضرورة قهرية. ويرتبط الواقع أيضًا بالألم، بل وحتى المرض. ورغم أن "الملاحظات" تبدو في بعض أجزائها غامضة ومجردة إلى حد يجعلها أقرب إلى الهذيان، إلا أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالزمن الذي كُتبت فيه، إذ يعكس النص قضايا واقعية آنية بكل تشعباتها.
هذه القضايا تحمل طابعًا عالميًا. إنها وليدة عصر بات أكثر وعيًا بالعالم الخارجي، عصر يعج بالأخبار والأفكار الجديدة. الكاتب يشير إلى الحرب الأهلية الأمريكية وصراع شليسفيغ هولشتاين، ويعرج على "قصر الكريستال"، ذلك المعلم البارز للمعرض العالمي الكبير عام 1851 في لندن، حيث عرضت الإمبراطورية الفيكتورية قوتها وازدهارها ليراهما العالم بأسره. كما يستدعي ظهور داروين، حين نُشر كتابه "أصل الأنواع" عام 1859، بل ويشير إلى فكرة الأطفال في أنابيب الاختبار.
أما الحقائق الروسية، فهي أيضًا لا تقل وضوحًا في هذا النص. الكاتب يعرّف نفسه كجزء من الجيل الروسي الذي بلغ النضج في أربعينيات القرن التاسع عشر، وهو الجيل ذاته الذي ينتمي إليه دوستويفسكي نفسه. الإلهام الأكبر لهذا الجيل كان الناقد فيساريون بيلينسكي، الذي بدأ كرمز رومانسي متحمس، ثم تحول إلى واقعي سياسي ملتزم، وكان أول ناقد يحتفي بأعمال دوستويفسكي. يصفه دوستويفسكي بأنه محاور متحمس، صوته يشبه صرخة مستمرة. وقد بلغ به الحماس حدًا أنه أوقف ضيفًا عن المغادرة في وقت متأخر من الليل قائلاً: "لكننا لم نصل بعد إلى الحديث عن الله!"
في صورة كاتب "مذكرات من العالم السفلي"، تظهر الملامح المزدوجة التي تمثل جيل الأربعينيات من القرن التاسع عشر، جيل يمزج بين أحلام الثورة وأوهام العاطفة. هذا الكاتب الذي يعرض نفسه كمخلّص لامرأة فقيرة غارقة في عالم الدعارة، ثم ينتهي إلى إغتصابها، يكاد يكون صورة كاريكاتورية مريرة لجيل عاش بين تناقضات الحلم والواقع. بيد أن دوستويفسكي، بتحديده لسانت بطرسبرغ كمسرح لأحداث روايته، يعيد تشكيل سارد المذكرات ضمن إطار تاريخي روسي أعمق وأكثر تعقيدًا. فتلك المدينة، التي شيدها بطرس الأكبر في مستنقعات البلطيق المتجمدة، لا تنفصل عن رمزية السلطة المطلقة التي تعانق المثاليات الكبرى. لقد كانت "نافذة روسيا على الغرب"، تطل على مستقبل متنور ومزدهر، ولكنها بقيت مربوطة بجذور الماضي الاستبدادي الملطخ بالدماء.
بطرسبرغ، بشوارعها الشاسعة، وتماثيلها الشاهقة، ومبانيها الحكومية المهيبة، تعكس طابعًا غريبًا أشبه بالسراب. تنعكس معالمها في مياه القنوات المتلألئة، أو تتلاشى وسط ضبابها البارد، أو تُدفن تحت ثلوجها الرطبة. تلك المدينة كانت تمثل مزيجًا من الحلم والهلوسة، حيث بدا جوهر الواقع الروسي وكأنه صورة غامضة لا يمكن إدراك حقيقتها.
وهنا يُطرح السؤال: هل يمكن للأدب أن يخترق هذا السراب؟ في روسيا، حيث الأدب هو الساحة الرئيسية للتأمل في الإمكانات المجهضة والحقائق القاتلة، أصبح الكُتّاب أدوات استكشاف حية للمجتمع. الأدب كان بمثابة نوع من "التجسس" الفكري، حيث يعمل بعض الكتاب حتى كرقباء حكوميين. ومن خلال هذا التفاعل بين السلطة والإبداع، برزت أعمال جريئة ومبتكرة. فمن شعر بوشكين في يفغيني أونيجين إلى النثر الغوغولي المثير في النفوس الميتة، مرورًا بروايات ليرمنتوف وتورغينيف، وصولًا إلى العمل الجدلي ما العمل؟ لشرينشيفسكي، كانت هذه الأعمال تتحدى الأشكال التقليدية لتقديم رؤى أدبية تتناول قضايا المجتمع الروسي.
"مذكرات من العالم السفلي" تأتي بوصفها مساهمة واعية في هذا المشهد الأدبي الروسي، حيث التداخل بين الخيال والواقع. وفي سياق معرفتهم بآراء دوستويفسكي السياسية، فهم القراء العمل كأنه ردّ مباشر على أوهام رواية ما العمل؟ التي أثارت أصداء واسعة في الأوساط الراديكالية. تصور شيرنشيفسكي في تلك الرواية عالمًا مثاليًا مستلهمًا من المعرض الكبير بلندن 1851، عالمًا من الوفرة المادية والانسجام العاطفي في شكل "قصر بلوري"، وهو القصر الذي رفضه "رجل العالم السفلي" بسخرية واشمئزاز. لكن دوستويفسكي ذهب أبعد من ذلك، حين ربط عمله بـالأرواح الميتة لغوغول، وبكتابه الشخصي مذكرات من البيت الميت 1859 الذي مثّل أبرز نجاحاته الأدبية حتى تلك اللحظة.
القراء الذين قرأوا "المذكرات" الجديدة ربما توقعوا استمرارًا لعمل دوستويفسكي السابق، لكن مقدمة الرواية فتحت المجال لتفسيرات متضاربة. ربما كانت المقدمة تسعى إلى صرف الأنظار عن هذا الربط أو ربما على العكس، تشجع عليه، لأن الجميع كانوا يعلمون أن دوستويفسكي نفسه ينتمي إلى جيل الأربعينيات الأسطوري، الجيل الذي شهد طموحاته تنهار أمام واقعٍ مرير، وكان الكاتب نفسه يعدّ من بين "الأموات الأحياء" طيلة سنوات طويلة.
دوستويفسكي في أربعينيات القرن التاسع عشر كان شابًا واعدًا، صاعدًا بسرعة في الساحة الأدبية. روايته الأولى الفقراء، التي خرجت إلى النور عام 1846، جذبت الأنظار على الفور. هذه الرواية، المكتوبة بأسلوب الرسائل، كشفت بوضوح مؤلم عن ثمن الفقر الإنساني، ما جعل القارئ يشعر بحتمية إنهاء هذه المآسي. تلقى دوستويفسكي إشادة كبيرة من بيلينسكي، الذي رأى فيه موهبة جديدة واعدة، معجبًا بطريقة دوستويفسكي في إثارة التعاطف مع شخصياته البائسة وجعل القارئ يشعر أن مثل هذه الأمور لا ينبغي أن تستمر. لكن طموحات الكاتب، إلى جانب حساسيته الزائدة وميوله الشخصية المتقلبة، جعلته يفقد الكثير من أصدقائه في وقت مبكر.
إلى جانب مسيرته الأدبية، انجذب دوستويفسكي إلى السياسة. في أوج نجاحه برواية الفقراء، بدأ في الانخراط في نقاشات فكرية في منزل الأرستقراطي الثوري ميخائيل بتراشيفسكي. كان ذلك عام 1848، العام الذي شهد موجة من الانتفاضات الثورية في أوروبا، وحين كان أعضاء هذه الدائرة يأملون أن تصل رياح التغيير إلى روسيا. لكن القيصر نيكولاي الذي فكر حتى في إرسال جيش للدفاع عن الحكام المهددين في أوروبا، أما فى الداخل أمر بمراقبة الاجتماعات بحذر شديد و بدأ جواسيسه بالعمل. وهكذا، كان قدر دوستويفسكي أن يجد نفسه على مفترق الطرق بين الإبداع الأدبي والسياسة المراقبة.
اتسمت حلقة بتراشيفسكي باتساع أفقها، وتنوع مشاربها، حتى غدت منبعًا لتشكل مجموعات فرعية متعددة. كان دوستويفسكي من بين أعضائها البارزين، وكان انتماؤه إلى ما يُعرف بـ"جمعية الدعاية"، وهي مجموعة سرية ضمت نخبة من الراديكاليين، وعلى رأسهم الأرستقراطي الشاب نيكولاي سبشنييف. كان سبشنييف مولعًا بفن المؤامرات، وقد أسَر دوستويفسكي بشخصيته الغامضة والقوية إلى درجة أنه وصفه لصديق بقوله: "أنا معه وأخصّه، لديّ... إنه مفستوفيليس الخاص بي." اجتمعت تلك المجموعة على مشروع خطير، تمثل في إنشاء مطبعة سرية بعيدًا عن أعين السلطة التي كانت تتحكم بصرامة في المطابع. هدفهم كان نشر مواد تحريضية، من بينها كتيبات بسيطة اللغة تحرّض على القيصر، وتُظهر خدمته العسكرية للفلاحين انتهاكًا لوصية "لا تقتل"، مما يُضفي شرعية دينية على فكرة التخلص منه. كان الأمل أن تمهد هذه الدعاية لانتفاضة شعبية واسعة، تتلقى دعمًا من بعض العناصر التقدمية داخل الجيش.
وفي أبريل من عام 1849، أطلقت السلطات حملة صارمة على تلك الحلقة. أُلقي القبض على دوستويفسكي في منتصف الليل، إلى جانب نحو ستين فردًا من المشاركين. و أُودعوا في قلعة بطرس وبولس، التي كانت بمثابة "الباستيل" الخاص بالنظام القيصري. وبعد سلسلة من التحقيقات والاستجوابات، أُطلق سراح العديد منهم، لكن القادة الرئيسيين، ومن بينهم دوستويفسكي وسبشنييف وبتراشيفسكي، خضعوا لجولات مكثفة من التحقيق على مدار الصيف. سعت السلطات إلى إثبات ارتباط تلك النقاشات الراديكالية بمؤامرة ثورية، لكن دون جدوى. ورغم الأوضاع النفسية الصعبة التي عاشها السجناء، إلا أن ظروفهم كانت، نسبيًا، مريحة. قرأ دوستويفسكي كتبًا مثل جين آير، وتمكن من مراسلة إخوته، بل وتمكن من كتابة قصة جديدة. لم يكن واثقًا من مصيره، لكنه بدا مستعدًا لمواجهة ما قد يأتي.
وفي صباح بارد من ديسمبر، أُيقظ دوستويفسكي في عتمة الفجر، ونُقل في عربة عبر شوارع مزدحمة إلى ساحة سيمونوفيسكي الواسعة. هناك، اجتمع بزملائه من حلقة بتراشيفسكي، وقد كان اللقاء حارًا ومفعمًا بالمشاعر. و تحت إشراف كاهن أرثوذكسي، صعدوا إلى منصة مرتفعة، حيث أُمِروا بخلع قبعاتهم والاستعداد لسماع التهمة والعقوبة. جاءت التهمة ثقيلة الوطأة: التآمر ضد الحكومة. أما العقوبة، فكانت أشد وقعًا: الإعدام رميًا بالرصاص.
المشهد الذي تلا ذلك كان مذهلًا ومروعًا في آن واحد. أُجبر دوستويفسكي ورفاقه على خلع ملابسهم، وارتداء زي أبيض بسيط مع قبعات بيضاء وُضعت على رؤوس المحكومين بالإعدام. دعاهم الكاهن للتوبة، لكن لم يبد أحد منهم استعدادًا لذلك. قُدم لهم الصليب لتقبيله، وقبلوه بلا تردد. ثم اقتيد ثلاثة من بينهم، أحدهم بتراشيفسكي، إلى فرقة الإعدام. وُضع غطاء على أعينهم، لكن بتراشيفسكي أزاحه بعناد. أُوثقت أذرعتهم إلى أعمدة، واتخذ الجنود مواقعهم. وقف الباقون على المنصة، يشاهدون بأعينهم ما ظنوه مصيرهم المحتوم. دوت الطبول، لكن الرصاص لم يُطلق. بدلًا من ذلك، جاء رسول القيصر ليعلن أن حكم الإعدام قد خُفف إلى السجن مع الأشغال الشاقة في سيبيريا.
في واقع الأمر، كان الإعدام تمثيلية متقنة من السلطة، لكن السجناء لم يدركوا ذلك. أحدهم فقد عقله إلى الأبد نتيجة تلك الصدمة. أما دوستويفسكي، الذي كان ينتظر دوره ليُعدم، فعاد إلى زنزانته وقد غمرته مشاعر جياشة من البهجة والانفعال. كتب إلى شقيقه ميخائيل رسالة قال فيها:
"الحياة هي الحياة أينما كنت... سيكون حولي أناس، وأن أكون إنسانًا بين البشر... هذا هو جوهر الحياة وغايتها... نعم، هذه هي الحقيقة! الرأس الذي أبدع، الذي عاش في عالم الفن السامي، الذي أدرك أسمى القيم الروحية واعتادها، هذا الرأس قد قُطع بالفعل عن كتفي. ما تبقى هو الذكريات والصور التي خلقتها ولم أتمكن بعد من تشكيلها. ستعذبني هذه الذكريات بلا شك! ولكن لا يزال لدي القلب ذاته، والدم ذاته، والقدرة على الحب، والمعاناة، والشفقة، والتذكر—وهذا، في النهاية، هو الحياة. On voit le soleil!".
On voit le soleil، وهي عبارة مقتبسة من رواية فيكتور هوغو اليوم الأخير لمحكوم بالإعدام، تُبرز التحول اللحظي من اليأس إلى الإبداع، ما إن استُعيدت الحياة حتى تحولت إلى أدب. ومن الواضح أن الصوت الذي نسمعه في هذه الرسالة هو ذاته الذي ينبعث في نهاية مذكرات من العالم السفلي.
مذكرات من البيت الميت هي شهادة حية على تجربة دوستويفسكي في معسكر السجن، حيث تحمل تفاصيل حياته بين القضبان مشاهد قاسية وأبعادًا نفسية عميقة. ففي سيبيريا، كان السجناء يحملون أغلالًا ثقيلة حول كواحلهم، أغلالًا لم تكن تهدف إلى منع الهرب، بل إلى إثقال الجسد بالألم. ارتدى كل منهم زيًا يميز جرمه، وتبدى في المكان صمت قاتم لا يخلو من رائحة اليأس. لكل سجين قصته الخاصة، لكن سردها كان يُعد خطأً جسيماً، والأسوأ من ذلك هو محاولة معرفة تفاصيل الآخرين. ومع ذلك، كانت قصصهم تخرج من أعماقهم رغماً عنهم، إذ يتحدثون في نومهم ويقولون: "لقد ضربونا حتى تحطمت أرواحنا، ولهذا ننادي في الليل."
هذا العالم كان تحت إدارة رائد مخمور وسادي، يجوب الثكنات ليلاً، و يوقظ السجناء بلكزهم ويأمرهم بالاستدارة على أسرتهم. وحين مات كلبه المدلل، أغرقت دموعه وجهه وكأنه فقد عزيزًا لا يعوض.
دوستويفسكي، بصفته "سياسيًا" و"رجلًا نبيلًا"، كان عرضة للاحتقار من زملائه السجناء. أخبروه بوضوح: "لن يترددوا في قتلك، فأنت مختلف عنا تمامًا." حُرم من كتابة الرسائل وتلقيها، ولم يكن يعلم أن هذا قرار سلطوي، فظن أن عائلته قد تخلت عنه. وحده الكتاب المقدس كان متاحًا له. أما العمل الشاق، فقد كان يتجاوز طاقته، مما دفع طبيبًا متعاطفًا إلى منحه إذنًا بالإقامة في المستشفى. هناك، وجد المرضى يرتدون ملابس تحمل كل ما يمكن تخيله من إفرازات الجسد، بما في ذلك دماء السجناء الذين يُجلدون حتى الإغماء، ثم يُنقلون للعلاج. وحين حاول فهم طبيعة الألم من أولئك الذين عاشوه، لم يجد وصفًا يشبع تساؤله.
المعسكر الذي صوره دوستويفسكي في مذكرات من البيت الميت هو عالم يتحول فيه السجين إلى إنسان بلا روح بشكل منهجي. الروح لم تكن تظهر إلا في لحظات من السلوك المدمر، والذي غالبًا ما ينتهي بتدمير الذات نفسها. ومن خلال تأمله في أحد السجناء، رجل يفيض شرًا، لم ير فيه سوى "كتلة من اللحم، بأسنان ومعدة." وشيئًا فشيئًا، يبدو أنه بدأ ينظر إلى نفسه بالطريقة ذاتها.
ما معنى أن تكون إنسانًا؟ تساؤل دوستويفسكي عن معنى الإنسانية قاده إلى إدراك مرير: أن تكون إنسانًا يعني أن تكون قادرًا على التأقلم مع أي شيء وفعل أي شيء. في رأيه، أن لكل شخصية جريمة مختلفة، وهذا التنوع دليل على حرية الإنسان. فتنوع الانحرافات البشرية يؤكد على حرية الروح.
ولكي يصف "التيار الذي لا ينضب من أغرب المفاجآت وأشد الفظائع" التي عايشها في سيبيريا—وهي فظائع واجهها أيضًا حين نظر إلى الموت في ساحة سيمونوفيسكي—كان على دوستويفسكي أن يبتكر أسلوبًا جديدًا في الكتابة. فمذكرات من البيت الميت، رغم استنادها إلى الواقع، تمثل عملاً هجينًا غريبًا يجمع بين الإثنوغرافيا، والرؤية الرمزية للحياة الروسية، والسيرة الذاتية. ركز جزء كبير من العمل على وصف الأيام الأولى في المعسكر، لأن الأيام التي تليها تتشابه كلها، فتتحول إلى سنوات، ثم تتلاشى في النسيان. الكتاب ليس مجرد سجل، بل هو طقس عبور، يأخذ القارئ في رحلة تجعل القراءة تجربة تماثل الواقع. و بأسلوبه الجاف المباشر، يُقدَّم الكتاب كدليل، لا كتفسير.
لم يكن غريبًا أن يرى تولستوي وتورغينيف في هذا العمل أعظم إنجازات دوستويفسكي. وقد أصبح مصدر إلهام لأدب القرن العشرين، من السجلات المروعة لخنادق الحرب العالمية الأولى إلى مذكرات الناجين من معسكرات الاعتقال والموت. العنوان الذي اختاره خورخي سمبرون لمذكراته عن معسكر بوخنفالد يطرح سؤالاً: "الأدب أم الحياة؟" أما عنوان كتاب بريمو ليفي العظيم عن تجربته في أوشفيتز فيطرح سؤالاً آخر: "هل هذا إنسان؟" السؤال ذاته الذي طرحه أحد سجناء دوستويفسكي: "بعد كل شيء، أنا أيضًا إنسان".ثم يتوقف ليسأل " ما رأيك؟ هل أنا إنسان أم لا؟"
هذا السؤال، الذي يحمل نبرة التحدي والمرارة، يبدو وكأنه ينتمي أيضًا لسارد مذكرات من العالم السفلي. فكلا العملين يشتركان في تناول مفهوم الحياة والأدب من زوايا مختلفة. ففي الأول، نراقب حياة السجناء من الخارج، حيث لا حرية ولا مهرب. أما في الثاني، فندخل إلى عقلية معذبة، لا تقل قيدًا عن السجن الذي لا يستطيع الخروج منه، ولا إدراك ما هو محبوس فيه. هنا تتفجر الكتابة وتنطوي على نفسها، بينما السارد محاصر داخل نصه، عاجز عن الفهم أو التحرر.
وفي الجزء الثاني من مذكرات من العالم السفلي، يصبح هذا التداخل بين الداخل والخارج جزءًا من التصميم الفني. يرسم دوستويفسكي صورة هزلية لشخصيته الشابة، التي كانت ترغب، بعد عزلة طويلة، في "احتضان البشرية كلها فورًا." وهنا، يدخل القارئ العالم الاجتماعي، العالم الذي يدخل فيه أبطال معظم الروايات في القرن التاسع عشر ليواجهوا المستقبل ويجدوا مكانهم الصحيح، سواء كان جيدًا أم سيئًا. لكن دوستويفسكي و بعد أن يقوم بسرد تقليدى مختصر له تطور و له نهاية، يخيب هذه التوقعات بإعادة القارئ إلى الماضي، ليتركه هناك، وكأنه جثة هامدة.
بالنسبة للقارئ، لا توجد أي إمكانية للهروب كما هو بالنسبة للكاتب، فلا منفذ للهروب من مواجهة الواقع الذي يُعرض أمامه. وإن كتاب مذكرات من العالم السفلي، مثل كتاب مذكرات من البيت الميت، لا يكتفي بتقديم وصفٍ للواقع أو تحليله، بل يفرضه فرضًا على القارئ، فيجعله واقعًا لا مفر منه، واقعًا لا يكف عن مطالبة القارئ بالانتباه، رغم أنه لا يرد على هذا الانتباه ولا يستجيب له.
في هذا السياق، يقدم كتاب مذكرات من العالم السفلي تصورًا مختلفًا للواقع، ويتبنّى علاقة جديدة بين الكاتب والقارئ، تختلف جذريًا عن التصورات التي اعتُمدت في الرواية الواقعية للقرن التاسع عشر. والسؤال هنا: أين يكمن هذا الاختلاف؟ إن دوستويفسكي، الذي بدأ حياته الأدبية بترجمة رواية بلزاك يوجيني غراندي، كان متأثرًا بعمق بالتقاليد الأدبية السائدة في عصره، كما كان فلوبير معاصره، أو كما سيصبح هنري جيمس فيما بعد. ومع ذلك، فإن مذكرات من العالم السفلي تُعدّ انقلابًا في مسار الرواية يعادل أثر عبارة كارل ماركس الشهيرة: "الفلاسفة فسروا العالم فقط، والمطلوب تغييره"، في تغيير مسار الفلسفة.
إذاً ماذا نعرف عن البناء الروائي لرويات القرن التاسع عشر ؟ لنتأمل النقد الذي قدمه هنري جيمس في شبابه لرواية هل يمكنك أن تسامحها؟ لأنطوني ترولوب، وهي رواية تقريبًا عاصرت زمن كتابات دوستويفسكي. فقد بدأ جيمس نقده بعبارة لاذعة يقول فيها: "هذه الرواية الجديدة للسيد ترولوب لا تقدم شيئًا جديدًا، سواء عن ترولوب نفسه كروائي، أو عن المجتمع الإنجليزي كموضوع للرواية، أو حتى عن تعقيد النفس البشرية." هذا النقد يعكس تصورًا سائدًا لما يجب أن تكون عليه الرواية في ذلك الزمن، وكان أشد إيلامًا لأن ترولوب نفسه كان يتبنى هذه الفرضيات. وقد تشكل هذا التصور تدريجيًا، كما بيّن إيان وات في دراسته الكلاسيكية صعود الرواية، لا سيما في إنجلترا خلال القرن الثامن عشر.
وقد جاءت روايات صامويل ريتشاردسون، وعلى رأسها كلاريسا (1748)، لتقدم واقعية جديدة تنبع من العاطفة. واعتمادها على الشكل الرسائلي منح الشخصيات الحرية لتعبر عن خواطرها وأحاسيسها، مما أتاح للقارئ الغوص في أعماق هذه الشخصيات بنفس القدر الذي تغوص هي فيه. ولم يكن غريبًا أن تتحول كلاريسا إلى أول رواية تثير "عبادة جماهيرية" على نطاق دولي واسع. وعلى الجانب الآخر، نجد أن روايات هنري فيلدينغ قدمت واقعية من نوع مختلف، وصفها وات بـ"واقعية التقييم"، حيث يعتمد الكاتب على نظرة ثاقبة تُقيّم أفعال الشخصيات ودوافعها بأسلوب يجمع بين الترفيه والتثقيف، ليعلّم القارئ أساليب العالم.
وفي أواخر القرن الثامن عشر، يرى وات أن هذين النمطين من الواقعية تلاقيا في أعمال مثل تريسترام شاندي للكاتب ستيرن، التي امتزجت فيها السخرية العابثة بنزعة تجريبية جعلتها من الأعمال البارزة عالميًا، وأيضًا في روايات جاين أوستن. وفي عنوان رواية العقل والعاطفة، تكمن إشارة واضحة إلى طريقتين متناقضتين لفهم العالم: الأولى تستند إلى العقل الذي يتنبه للعالم الخارجي وتبعات أفعالنا، والثانية تنطلق من العاطفة التي تركز على المشاعر الداخلية.
ومن هنا يظهر التوازن المطلوب بين المطالب التي يفرضها المجتمع أو العالم من جهة، والمطالب التي تفرضها الذات من جهة أخرى. تسعى الروايات الكبرى في القرن التاسع عشر، خاصة تلك المستلهمة من جاين أوستن، إلى إيجاد هذا التوازن. وتشير الرواية ضمنيًا إلى أن التعامل المتكامل مع هذين المنظورين هو السبيل إلى إقامة علاقة حقيقية وشاملة مع الواقع. أما الاعتماد الحصري على أحدهما دون الآخر، فيقود إلى نتائج مأساوية. وهذا ما تسعى الرواية في القرن التاسع عشر إلى توضيحه، حيث يظهر هذا الصراع ممتعًا بقدر ما هو محفوف بالمخاطر. فبينما تنتهي إيما وودهاوس بزواجها من مستر نايتلي، نجد أن إيما بوفاري لا تجد سوى الموت.
الوصف أو المحاكاة كانا، ولا يزالان، ركنين أصيلين في بناء الرواية في القرن التاسع عشر، وإذا كان هذا الفن قد اكتسب مكانته الرفيعة وواقعيته الساحرة، فإن ذلك لم يكن بسبب تلك الصور الكثيرة التي تكتظ بها نصوصه، وإن كانت هذه الصور مقنعة في دقتها، ممتعة في عرضها، بل بسبب تلك الحكمة العميقة التي استطاع أن يجمع بها الكاتب عناصر إنسانية شائعة، فيُخضعها لتأمل عميق ونظرة ناقدة ثاقبة. ففي هذا الفن، نجد الشخصيات والمواقف تُعرض وتُستكشف من خلال مزج متناغم بين الحوار والوصف، بإشراف راوي عليم، يتقن فن التوازن، ويُبرز لنا هذا المزج كما لو كان جوهر الرواية نفسها، الشكل الذي اكتمل واستقر عليه هذا الفن في القرن التاسع عشر، واستمر ليُؤثر في الروايات الحديثة التي جاءت بعده.
وأما الحوار والوصف، فإنهما كانا، في روايات هذا القرن، عنصرين جوهريين، يعكسان ملامح التطور الحضري في مدن مثل لندن وباريس. ولئن قيل إن الرواية تحتاج إلى قصة مُحكمة، فإن هذا القول وإن كان صحيحًا في ظاهره، لا يعكس جوهر الأمر. إذ إن القصص التي ترويها هذه الروايات كثيرًا ما كانت عادية، بل بسيطة أحيانًا، ولا تحمل دهشة تلك القصص العجيبة التي نجدها في كتب مثل الديكاميرون أو ألف ليلة وليلة. فقصص إيما وودهوس وإيما بوفاري لا تحمل في طياتها ما هو غير عادي أو مستحيل، ومع ذلك فهي تستحوذ على اهتمام القارئ لأنها، في واقعها العادي، تلامس وجداننا، وتفتح لنا نافذة على أنفسنا وعلى ما نعرفه من شؤون الحياة اليومية.
ولكن القصة وحدها، مهما بلغت بساطتها، لا تكفي لشد القارئ وإثارة فضوله. ومن هنا جاءت الحاجة إلى الحبكة، ذلك البناء الدقيق الذي تُنسج من خلاله خيوط القصة حتى تصل إلى ذروتها. وقد تميزت الحبكة في الرواية بأنها أكثر تعقيدًا من مجرد التفاعل بين الحوار والوصف. فقد كانت وسيلة لضبط إيقاع الأحداث، تُظهر وتُخفي في آنٍ واحد، تُغري القارئ وتدفعه إلى أن يمضي قُدمًا، حتى يجد نفسه مستسلمًا للكاتب، غير قادر على وضع الكتاب جانبًا. وكانت الحبكة دليلًا على سيطرة المؤلف المطلقة على نصه، وربما كانت رمزًا لإرادة قدرية تُسيّر الأمور في النهاية نحو خاتمة مكتملة، تجعل القارئ نفسه حكمًا على جودة الرواية.
ولكن كل هذا البناء المتماسك يغيب تمامًا في رواية مذكرات من العالم السفلي. فهذه الرواية لا تقدم لنا حبكة فعلية، بل تقدم صورة مشوهة منها. ولا تكاد القصة فيها تُذكر، بل هي أقرب إلى صرخة كاتب يغرق في أزمة طاحنة، أزمة تمتد لتشمل الشخصية والمهنة والمال والسياسة والوطن والفلسفة والدين، وأخيرًا الأدب نفسه. وتبدو الرواية كأنها كومة من الزجاج المكسور، جُمعت بطريقة عشوائية. ويعبّر الكتاب عن أفكار يتفق دوستويفسكي مع بعضها (مثل الدفاع عن جوهرية الإرادة الإنسانية)، ويسخر من بعضها الآخر (مثل الدعوة إلى العودة إلى الأرض). إنها محاكاة ساخرة للموضوعات الرومانسية التقليدية، مثل فكرة فداء المرأة الساقطة، ومع ذلك لا تخلو من عاطفة دينية خاصة بها، ربما يمكن القول إنها تبحث عن الخلاص من خلال الحب.
هذه الرواية هي أيضًا دراسة نفسية، وكاريكاتير لجيل بأكمله، وهجوم لاذع على البرجوازية المتصالحة، وعلى الطوباوية الراديكالية، وعلى المثالية، بل وعلى الأدب نفسه، وعلى روسيا، وعلى القرن التاسع عشر برمته. فهي، كما يقول الكاتب، زمنٌ تسيل فيه الدماء كالأنهار، وبفرح كأنه شمبانيا. إنها صرخة يأس، وشكوى شخصية مجردة، وتعبير عن هزيمة عميقة.
إنها مقالة في المفارقة: هذا الرجل اليائس الذي يكتب حقائق لا لبس فيها، لا يعرف شيئًا على الإطلاق، ويظل في يأسه المستمر. ليست هذه الرواية قصة عظيمة بمعناها التقليدي، لكنها تحتفظ بشيء من القصة، بينما تتخذ أيضًا هيئة الجدال، والسخرية، والتأمل الفلسفي، ودراسة الحالة الإنسانية.
ولكن العجيب في الأمر، أنها تجمع كل هذه السمات، وتظل مع ذلك شيئًا لا يمكن تحديده على وجه اليقين. يقول الكاتب: "إنه شكل فارغ، لا شيء سوى شكل […] لا أريد أن أكون مقيدًا بأي طريقة […] كل ما يخطر ببالي سأكتبه...". وما يكتبه الكاتب لا يجعل أزمته مفهومة بقدر ما يجعلها محسوسة بفوضويتها. فهو يسعى إلى التجسيد، إلى أن يصوغ أزمته في "لحم ودم حقيقيين" (وليس من قبيل المصادفة أن المذبحة تُهيمن على خياله). وقد يكون الكاتب بغيضًا في شخصيته، يجمع بين سمات "البطل المضاد"، ومع ذلك يحتفظ صوته بسلطة غامضة، قوة تفرض نفسها على القارئ.
وأخيرًا، لمن ينتمي هذا الصوت؟ إنه صوت غامض بطبيعته، صوت يثير الحيرة: هل هو صوت دوستويفسكي نفسه أم لا؟ هل هو صوتنا نحن، كما يُقال أحيانًا، أم لا؟ هل هو خطاب علني أم مونولوج داخلي؟ إنه صوت يتحرك بين أربعينيات القرن التاسع عشر وستينياته، بين روسيا و"قرننا التاسع عشر البائس". صوت غامض، ليس فقط غير موثوق به، بل غير موثوق به إلى حد الجذر. ومع ذلك، يظل صوتًا حقيقيًا.
هذا هو صوت الرواية في القرن العشرين، صوتٌ ينبعث من أغوار النفس البشرية ومن تقلبات التاريخ، ليروي لنا قصة الإنسان في صراعه مع ذاته ومجتمعه. إن كتاب "مذكرات من العالم السفلي"، بقدر ما هو عمل أدبي، فهو أيضًا مرآة عاكسة للمشكلات السياسية والاجتماعية التي اجتاحت روسيا في القرن التاسع عشر. تلك المشكلات التي بدت حينها روسيةً خالصةً، لكنها سرعان ما أصبحت شاملةً، بل وعالميةً، في القرن الذي تلاه. وكأن دوستويفسكي نفسه، في وقفته المصيرية على ساحة سيمونفسكي، قد أراد أن يضع أمامنا هذا التناقض الجوهري: كيف يمكن للكاتب أن يكون شاهدًا على عصره، لكنه، في ذات الوقت، ضحية له؟ هكذا كان حال كاتب "مذكرات"، وهكذا كان حال أدباء القرن العشرين الذين باغتهم التاريخ في كل منعطف.
إن كتّاب الرواية المؤثرين في القرن العشرين، من بروست وتوماس مان إلى ديفيد فوستر والاس، لم يجدوا في دوستويفسكي مجرد مصدر إلهام، بل وجدوا فيه ذلك الصوت الذي يتردد في أعمالهم كما لو كان صدى لصدى. وكأن كتاب "مذكرات" قد زرع بذورًا أصبحت فيما بعد غابة أدبية مترامية الأطراف. تأمل، على سبيل المثال، ذلك النموذج الأولي الذي قدمه الكتاب: الكاتب المجهول الذي يتحول إلى "رجل فى العالم السفلي". ذلك الرجل الذي وصفه جوزيف فرانك، كاتب سيرة دوستويفسكي، بأنه أسطورة حديثة لا تقل شأنًا عن فاوست، أو هاملت، أو دون جوان، أو حتى شرلوك هولمز. ولنا أن نتتبع ظل هذه الشخصية الأسطورية في أبطال كنوت هامسون في رواية "الجوع"، وفي النساء التائهات لجين ريس، وفي شخصية "فرديدورك" لغومبروفيتش، وفي "الرجل المعلق" لسول بيلو، وفي "الرجل اللامرئي" لرالف إليسون، وفي "الخاسر" لتوماس برنهارد، وغيرها من الأعمال التي لا تُحصى.
أما البيئة التي يقدمها الكتاب، فهي أشبه بمنفى داخلي، مكان ضئيل وبائس وسط خراب حضري شاسع. ذلك المكان الذي يتحول في قصص وروايات كافكا إلى العالم بأسره. ولعل فلان أوبراين قد نقله إلى دبلن، بينما وضعه كوبو آبي في اليابان ما بعد الكارثة النووية في روايته "امرأة في الرمال". ولكن الكتاب لا يكتفي بتقديم المكان، بل يغمرنا بسلسلة من الموضوعات العميقة والمثيرة: "هناك متعة عظيمة حتى في ألم الأسنان"؛ "حاولت مراراً أن أكون حشرة. و لكنني لم أكن أهلاً حتى لذلك." وكأن كافكا، في قصته الشهيرة، قد وجد طريقه لتحقيق هذا التحول. ثم هناك رمزية تلال النمل، والمعادلة المستحيلة "2 × 2 = 5". وأما النغمة التي يضفيها الكتاب، فقد رأى فيها أندريه جيد مقدمةً لأسلوب تيار الوعي، كما أنها تتردد في إيقاعات أدبية متباينة، من أندريه بيلي إلى فولكنر، وسيلين، وكيرواك، وساراماغو. حتى أن العالم السفلي يظهر في كل مكان، وكأن نابوكوف، الذي أعلن احتقاره لدوستويفسكي، لم يستطع الإفلات من تأثيره. فها هي ملاحظات تشارلز كينبوت في "لهب خافت" تردد أصداء "مذكرات"، بينما يعيد "شكوى بورتنوي" لفيليب روث كتابة الكتاب بأسلوب ساخر مستوحى من مناطق كاتسكيل.
"أنا رجل مريض…". قد تكون هذه العبارة الافتتاحية هي اللحظة التي تحدد مسار القصة بأكملها، خاصةً مع النقاط الثلاث التي تقطعها. هذه النقاط التي يمكن أن تعني أي شيء: علامة على التردد، أو على شيء تم حذفه (كما اشتكى دوستويفسكي من أن الرقابة اقتطعت الأسطر الحاسمة من كتابه، رغم أنه لم يسعَ لاستعادتها)، أو على شيء ترك عمدًا دون أن يُقال. وربما هي رمز للعجز عن التعبير، أو لفقدان الكلمات، أو حتى لانعدام أي شيء يُقال. إنها علامة على التوقع، والانقطاع (الذي يحمل أثرًا من العنف)، أو ربما على الإرهاق الذي يترك فراغًا. "ولكن يكفي هذا"، هكذا ينتهي الكتاب؛ "لا أبغي أن أكتب المزيد من عالمي السفلي." ولكن دوستويفسكي يواصل، وصوته يواصل تكرار نفسه، حتى يصل إلى أصداء النهاية في رواية بيكيت "اللّامُسمَّى":
ربما قد حملوني إلى عتبة قصتي، أمام الباب الذي يفتح على قصتي، سيكون ذلك مفاجئًا لي، إذا فتح، سيكون أنا، سيكون الصمت، حيث أنا، لا أعرف، لن أعرف أبدًا، في الصمت أنت لا تعرف، يجب أن تستمر، لا أستطيع أن أستمر، سأستمر.
وأما عن "مذكرات من العالم السفلي" نفسها، فقد كان دوستويفسكي يأمل أن تترك أثرًا قويًا عند صدور الجزء الثاني، رغم أنه كان يخشى أن يكون هذا الأثر سيئًا: إذ لم يكن العمل، في نظره، جيدًا بما يكفي. ومع ذلك، لم تترك الرواية أي أثر يُذكر في زمنها، باستثناء إشارات عابرة في رسائل من أصدقاء. كان دوستويفسكي لا يزال على اتصال مع أبولونيا سوسلوفا، تلك الحبيبة التي ألهمت بعضًا من صفحات الكتاب، والتي كانت في باريس آنذاك، ترتاد أوساط المهاجرين الروس. وقد كتبت له تقول: "الناس يتحدثون عن روايتك الفاضحة." حيث كانوا يدينون التحول الساخر الذي طرأ على أعماله. أما هي، فلم تكلف نفسها عناء قراءتها.
مترجم من كتاب stranger than fiction