اللاأخلاقي: دراسة في التمرد على القيم الاجتماعية
قراءة في رواية 'اللاأخلاقي' لأندريه جيد و تحليل الشخصيات والأفكار
جاء هربرت جورج ويلز من أدنى درجات السلم الاجتماعي البرجوازي، حيث القسوة تشتد، والبرد يعصف، والحياة تكاد تكون صراعًا دائمًا من أجل البقاء. أما أندريه جيد، فقد وُلد في الجانب الآخر من العالم، في قمة ذلك السلم حيث الثراء والترف والاستقرار. كان والد جيد عالم قانون مرموق، وكانت أسرته من جهة الأم تمتلك ثروة عظيمة صنعتها صناعة النسيج. نشأ الفتى في بيت يعج بالكتب، على مقربة من حديقة لوكسمبورغ في باريس، ولم يكن الصيف عنده إلا رحلة إلى قلعة قديمة تعود إلى القرن السادس عشر، تحيط بها أراضٍ مترامية الأطراف تبلغ مساحتها 370 فدانًا في الريف النورماني. كانت طفولته بين الصيد والقراءة، وكان يرى في هذا كله شيئًا عاديًا، بل ربما كان مملًا في نظره، لكنه مع ذلك كان يملك من الثراء ما جعله طليق الإرادة، حر النفس، يفعل ما يشاء طوال حياته.
غير أن هذه الحرية لم تشمل طفولته التي خضعت لرقابة صارمة من والدته البروتستانتية، تلك السيدة التي كانت ترى في سلالتها الهوغونوتية سببًا للفخر حيث بعضهم مات من أجل إيمانه، وفي الأخلاق الصارمة جوهر الإنسان. كان هذا العبء ثقيلاً على طفلها الوحيد، فظهرت عليه أعراض المرض والاضطراب، وبدت عليه علامات الحاجة إلى رعاية خاصة. كان يتعلم ببطء، وينفر من الناس، حتى قُبض عليه ذات مرة وهو يستمني في الفصل، ثم فقد والده وهو في العاشرة من عمره بسبب مرض سل العمود الفقري، فعانى من الصداع النصفي، واشتدت عليه الأوجاع، وضعفت شهيته، وازدادت عزلته.
ورغم ذلك، التحق بأرقى المدارس في باريس، ودخل وهو في الثامنة عشرة مدرسة لويس لو غران المرموقة، فدرس اللاتينية واليونانية، وتعمق في الأدب الفرنسي والفلسفة الكلاسيكية والحديثة، وتوسعت آفاقه حتى أتقن الألمانية وتعلم الإنجليزية بنفسه، ووقع في حب شعر بليك وبراونينغ، وترجم أعمال كونراد. ولم يكن جيد مثقفًا فحسب، بل كان عازف بيانو بارعًا، يعزف بانتظام، ويحلم أن يكون موسيقيًا محترفًا، كما كان على صلة بكبار أدباء عصره، يدخل صالوناتهم، ويستمع إلى أحاديثهم، حتى إنه وهو في مقتبل العمر أصبح من رواد صالون الشاعر الكبير مالارميه، حيث التقى بأوسكار وايلد، وغوغان، ودوبوسي، وكان أناتول فرانس من بين معارفه. وما كاد ينشر كتابه الأول حتى تلقى رسالة تقدير من مالارميه نفسه.
وقد كتب لصديقه بول فاليري يقول: "مالارميه للشعر، وماترلينك للدراما، وأنا – رغم تواضع شأني – سأكون للرواية". كان لا يزال في بداية الطريق، وكان لا بد له أن يكتشف نفسه أولًا. ولعله أراد ذلك حين قرر، وهو في الثالثة والعشرين، أن يسافر مع صديقه بول لوران إلى شمال إفريقيا، ليتحرر مما كان يعدّه قيدًا. فحطّا الرحال في بسكرة الجزائرية، على حافة الصحراء، وهناك أخذ لوران يرسم، وأخذ جيد يعزف، ثم وجدا فتاة عربية تعلّمهما ما أرادا أن يعرفاه. غير أن جيد لم يكن قد عرف نفسه تمامًا بعد، ولم يكن قد أدرك ما يبحث عنه في تلك التجربة الأولى، إذ التقى بشاب عربي، فتبدلت وجهته، ووجد في ذلك اللقاء ما لم يكن يعرفه عن نفسه. وما كاد يستسلم لتجربته الجديدة حتى فاجأته أمه، إذ علمت من عائلة صديقه أنه قد سعل دمًا، فجاءت مسرعة لتعيده إلى باريس.
غير أن العودة لم تكن سهلة، فقد خاض جيد صراعًا نفسيًا مريرًا، وتملكه شعور بالاغتراب، وأوشك على الانتحار. حاول أن يهرب بالسفر، وانغمس في الكتابة، لكنه كان في حاجة إلى العودة إلى حيث بدأ، إلى شمال إفريقيا، حيث التقى هذه المرة بأوسكار وايلد واللورد ألفريد دوغلاس، فدبّرا له لقاءً حميمي مع موسيقي عربي شاب، وهناك، في تلك اللحظات، شعر أنه قد عرف مبتغاه، وأنه قد أدرك أخيرًا حقيقته. وبعد عشرين عامًا، وهو يكتب سيرته الذاتية، لم يتردد في أن يصف تلك اللحظات وصفًا دقيقًا، وكأنه لا يريد تصديقها فقط، بل يريد أن يؤكدها على الآخرين، قائلاً: "قد يبتسم القارئ لهذا التفصيل، لكنني لا أبحث عن المصداقية، بل عن الحقيقة، وأليست الحقيقة هي الأجدر بأن تُروى حين تبدو غير قابلة للتصديق؟". لقد اكتشف طبيعته الجنسية الحقيقية، ولم تكن أي حقيقة أخرى تبدو بنفس الأهمية له.
على أن هذا لم يكن كل شيء. فقد كان جيد، منذ صباه، روحانيًا إلى حد بعيد، وكان الكتاب المقدس جزءًا من حياته، يقرأه ويتأمله، ويشعر دائمًا أنه مسؤول أمام الله، فلا يفكر إلا بعد أن يحاسب نفسه، ولا يقرر إلا بعد أن يقف طويلًا أمام ضميره. وربما خرج عن الإيمان المسيحي في آخر حياته، لكنه لم يستطع أن يتحرر من طريقة تفكيره، وظل طوال عمره يبحث عن معنى، عن يقين، عن شيء يستند إليه في رحلة حياته.
كانت روحانية أندريه جيد الشابة تبحث عن ملاذ، فلم تجد أمامها إلا حبًا محرمًا ومقدسًا في آن، حبًا يربطه بابنة عمه مادلين، تلك الفتاة التي كانت تكبره بسنتين، والتي نشأت على تقوى عميقة ونقاء صارم، جعلها صورة للفضيلة التي كانت تطمح إليها الأسرة. كانا يقرآن معًا، و يصليان معًا، و يهمسان بأسرار لا يسمعها سواهما، حتى كان بينهما سر أثقل كاهلهما وألقى بظلال من العار على الطهر الذي كانا يسعيان إليه، سرٌ ظل يحوم حولهما كالشبح، فلا يملكان نفيه ولا مواجهته: كانت والدة مادلين خائنة. وربما كان هذا السر هو ما زاد من تآلفهما، أو لعله ما دفع جيد إلى أن يصوغ كتابه الأول، ذاك الكتاب الذي نال إعجاب مالارميه، لا لأنه مجرد عمل أدبي، بل لأنه في حقيقته رسالة حب موجهة إلى مادلين نفسها، رسالة حاول بها أن يكسر الجدار الفاصل بينهما، فطلب يدها للزواج. لكنه وجد الرفض أمامه، لم ترفضه مادلين وحدها، بل أبت والدته أيضًا أن ترى هذا الزواج ممكنًا. بيد أن جيد لم يكن من أولئك الذين يثنيهم الرفض عن عزمهم، فظل متشبثًا بفكرته، رافضًا أن يتخلى عن هذا الحب الذي تملّكه.
لكن الأقدار كانت تدبر له ما هو أعظم وقعًا في نفسه، فما إن عاد من رحلته الثانية الحاسمة إلى شمال إفريقيا، حتى فُجع بوفاة والدته. وكان لهذا الحدث وقع شديد عليه، لا لأنه فقدها فحسب، بل لأنه، وسط الحزن الذي اجتاحه، شعر براحة لم يكن يتوقعها. وقد وصف شعوره هذا بعبارات تنم عن اضطراب عميق، إذ قال:
شعرت أنني أغوص في هاوية ساحقة من الحب والحزن والحرية... مثل طائرة ورقية انقطع خيطها فجأة، مثل قارب انفصل عن مراسيه، مثل حطام ينجرف تحت رحمة الرياح والتيار. لم يعد هناك شيء يمكنني الارتباط به سوى حبي لابنة عمتي... كنت أعتقد أنني أستطيع أن أعطيها كل نفسي، وفعلت ذلك دون أي تحفظ. بعد وقت قصير، أصبحنا متزوجين.
وكانت هذه النهاية التي وضعها جيد لسيرته الذاتية، وكأنها صدى لعبارة جين إير حين قالت: "أيها القارئ، لقد تزوجته." وهكذا تم الزواج، لكنه لم يكن زواجًا تقليديًا، لم يكن هذا الزواج مجرد تمويه أو مسايرة للأعراف، بل كان، بالنسبة لكليهما، هوسًا ينهش روحيهما.
حيث بدأ الزواج في سعادة ظاهرية، وكانت مادلين أول قارئة مخلصة لأعمال آندريه جيد، يكتب، فتقرأ، يناقش، فتُبدي رأيها، لكن هذه العلاقة التي بَدَت في أولها قائمة على شراكة فكرية، سرعان ما أصابها الفتور. فقد استمر جيد في تجواله، يذرع الشوارع والطرقات، يحمل معه الألعاب والحلوى، لا ليقدمها للأطفال، بل ليهديها إلى أولئك المراهقين الذين كانوا يجذبونه بنظراتهم. لم يكن يخفي انجذابه إليهم، بل كان يتعامل معه بوصفه حقيقة من حقائق وجوده، حقيقة لم تكن مادلين تدركها في بادئ الأمر، أو لعله كان وهمًا من الأوهام التي عاشتها، حتى جاء اليوم الذي تفتحت فيه عيناها على الحقيقة، فاكتشفت ما لم تكن تريد أن تراه. ومنذ تلك اللحظة، لم تعد تقرأ أعماله، ولم تعد تهتم بمخطوطاته التي كان يتركها عمدًا أمامها، علّها تتصفحها، علّها تستعيد ذلك الاهتمام القديم، لكنها لم تفعل.
ثم جاء ذلك الحب العنيف، ذلك الشغف المفاجئ الذي اجتاح جيد، لكنه لم يكن حبًا طويل الأمد، بل كان نزوة عابرة، ربما للمرة الأولى والأخيرة في حياته، إذ لم يكن يطلب الحب بقدر ما كان يطلب الجسد. وقع جيد في غرام ابن صديق له من القساوسة البروتستانت، ذاك الشاب الذي أوصى به والده ليكون في رعاية الكاتب العظيم خلال الحرب العالمية الأولى. وكان لهذه العلاقة أثر مزلزل، فلم تستطع مادلين أن تتجاهله، ولم تحتمل أن يمر بلا رد. فانتقمت، لا بالصراخ ولا بالفضائح، بل بفعل صامت مدمر: جمعت الرسائل التي كتبها لها جيد على مدى عشرين عامًا، وأحرقتها.
حين رأى جيد ما فعلته، لم يجد ما يقوله سوى جملة واحدة،: "طفلنا مات." كان يتهمها، لا بإحراق الرسائل، بل بقتل أعز ما كتب، بإطفاء الشعلة التي كانت تنير دربه. ومع ذلك، لم يكن هذا الحادث كفيلًا بإنهاء الزواج، بل بقي على حاله، لكن مادلين انسحبت منه، ابتعدت إلى الريف، حيث قضت ما تبقى من حياتها في صمت، تعيش بين الأعمال الخيرية، تهتم بشؤون المنزل، وتعتني بالخدم، حتى تحول بيتها إلى صورة مثالية للنظام والنقاء. وعندما رحلت عام 1938، أراد جيد أن يخلّد ذكراها، فنشر مجموعة من المقتطفات من مذكراته عنها، اختار لها عنوانًا يحمل اقتباسًا من فيرجيل: "Et Nunc Manet in Te"، أي "دعهم يبقون فيك." كانت هذه المذكرات بمثابة شاهد قبرها، شهادة على حياة لم تكتمل، وزواج لم يتحقق أبدًا.
لم يكن ذلك الزواج مجرد تفصيل عابر في حياة جيد، بل كان جوهر أعماله، انعكاسًا لصراعه مع مثليته، ودليلًا على بحثه الدائم عن ذاته. لم يكن بإمكان أدب القرن التاسع عشر أن يستوعب مثل هذه التوترات، حتى مع الحرية التي تمتع بها الروائيون الفرنسيون في الحديث عن الجنس. غير أن جيد لم يكن مهتمًا بوصف السلوك بحد ذاته، بل بما يعنيه أن يكون المرء كما هو، وما يعنيه ذلك أمام المجتمع. كان ذلك سؤالًا محظورًا، سؤالًا لا يمكن طرحه علنًا، خاصة في شبابه، إذ لم يكن قد مضى وقت طويل على سجن أوسكار وايلد، ذلك الذي كان قد رتب له ذات يوم لقاءً مع الموسيقي الشاب.
كان جيد مفتونًا بذاته، منشغلًا بها بلا حدود، وكانت ذاته هذه عصية على التصنيف، منفصلة عن الآخرين، بل حتى عن نفسها. فقد روى في سيرته الذاتية حادثة تعود إلى طفولته، حين صرخ يومًا في وجه والدته قائلًا: "أنا لست مثل الآخرين!" ولم يستطع أحد أن يطمئنه أو يخفف من شعوره بالاختلاف. كانت ذاته ممزقة، وكان يؤمن بأن الذات الممزقة لا تكون إلا على هذا النحو حتى تقود إلى تمزيق الآخرين كما فعل مع مادلين، ما أثار اهتمامه كان الذات في أقصى حالاتها، وهي في رأيه الحالة الحقيقية للذات. حتى في بداية مسيرته، شعر أن كل كتاب من كتبه يجب أن يكون له شكل مميز ومحدد خاص به – ذاته الخاصة، في الواقع – مما يجعل التطرف أكثر وضوحًا. كان غالبًا ما يحتج بأنه لا يملك خيالًا. كان لديه موضوع واحد فقط، نفسه، لكنها كانت متغيرة بشكل لا نهائي. و في نظر جيد، تخطو الذات إلى مركز المسرح وتلاحق ظلها.
وفي أعقاب زواجه، أصدر جيد كتابه الذي خطه في شمال إفريقيا، مهديًا إياه إلى مادلين، لكن هذا الإهداء لم يكن سوى محاولة للإفلات من القيود. فقد كان عنوان الكتاب "ثمار الأرض"، لا "ثمار الروح"، كما لو أنه أراد أن ينأى بنفسه عن اهتمامات زوجته. وقد اشتهر الكتاب بعبارة صادمة: "أيها العائلات، أنا أكرهكم!" وكان أشبه بترنيمة للحواس، عملًا يتجاوز الشخصيات والحبكات، ليصبح دعوة للتحرر من كل قيد.
لم يلقَ الكتاب اهتمامًا كبيرًا عند صدوره عام 1897، لكنه بعد الحرب العالمية الأولى وجد طريقه إلى قلوب الشباب، أولئك العائدين من الجبهة بخيبة أمل مريرة. ومع ذلك، لم يكن جيد راضيًا عن ارتباطه الدائم بهذا العمل، فقال ساخرًا في إحدى الطبعات اللاحقة: "من المعتاد أن يحصروني في هذا الكتاب."
يتكون كتاب "ثمار الأرض" في جوهره من سلسلة خطابات حماسية ونصائح وجدانية يوجهها الراوي إلى شاب يُدعى ناثانائيل. ولعل القارئ، إذ يمعن النظر في هذا الراوي، يجده في وقت مضى من حياته شابًا جادًّا، وقورًا، يلتزم بما توارثه عن أهله من أخلاق وأعراف. ولكنه، بمرور الأيام، قد تحلل من كل ذلك، وألقى عنه تلك القيود الثقيلة، وانطلق في أرجاء الأرض لا يلوي على شيء إلا الاستمتاع باللحظة العابرة، والانهماك في البحث عن ذاته الضائعة. ولم يكن الراوي يكتفي بأن يعيش هذه التجربة بنفسه، بل دعا ناثانائيل إلى أن يسلك الطريق ذاته، وأقسم عليه ألا يتشبث بهذا الكتاب بعد أن يبلغ اليقين بحقيقته الخاصة. بيد أن هذا الكتاب، وإن بدا ثوريًا في زمانه، لم يصمد طويلًا أمام عاديات الزمن، فقد بدت الحرية التي يسبّح بحمدها أقرب إلى رفاهية الطبقات المترفة، حتى إنه ليذكّرنا في بعض مواضعه بأدلة السفر الفاخرة التي لا تُعنى إلا بالمتعة العابرة. ومن العبارات التي تتردد في صفحاته: "الجدّة الدائمة"، و"كل ماضي العالم ممتص بالكامل في اللحظة الحالية". ولم يخلُ الكتاب من جمل مبهرة مثل: "كانت الحياة بالنسبة لنا ذات نكهة بريئة ومفاجئة."
فلما أتم جيد تأليف هذا الكتاب، بعث بمخطوطته إلى أوسكار وايلد، فلقيت عنده ثناءً واستحسانًا. غير أن وايلد، وهو يصعد إلى عربته مغادرًا، التفت إلى جيد وقال له في شيء من التحذير: "اسمع، عزيزي..." – وكان ينطقها بالإنجليزية – "اوعدني بأمر واحد. (ثمار الأرض) كتاب جيد، بل جيد جدًا، ولكن عزيزي، اوعدني ألا تكتب (أنا) مرة أخرى!"
غير أن جيد لم يلتزم بنصيحة وايلد حين أخرج كتابه التالي "اللاأخلاقي". ففي هذا الكتاب أيضًا نجد الراوي يتحدث بضمير المتكلم، وإن كان أسلوبه فيه أكثر صرامة من ذلك الذي عُرف به في "ثمار الأرض"، وأقل عاطفية في تدفقه. ولكن هذه الصرامة لم تُنقص من فداحة القصة التي يرويها، فقد جاءت صادمة مقلقة.
يحكي جيد عن ميشيل، ذلك الشاب الذي كان يُنتظر منه أن يكون عالم آثار مرموقًا، ولكنه ينسلخ من حياته الأولى انسلاخًا تامًا، وينطلق وراء حياة أخرى لم يكن لأحد أن يتوقعها. فقد كان في بادئ الأمر شابًا واعدًا، ولكنه لما فقد أباه، تزوج ابنة عمه مارسيلين فجأة، وانطلق معها إلى شمال إفريقيا، حيث كان ينوي قضاء شهر العسل وإجراء بعض الأبحاث. ولكنه هناك أصيب بالسل، وقيل له إنه مشرف على الموت. وفي واحة بسكرة، أخذت مارسيلين تعتني به حتى استعاد شيئًا من صحته، ثم نظر ذات يوم إلى المرآة، وأدرك أن الحياة ليست شيئًا أكثر من أن تُعاش.
فلما عادا إلى فرنسا، شرع ميشيل في إلقاء المحاضرات في السوربون، ولكنه لم يجد في ذلك شيئًا مما كان يأمله. فقرر أن ينعزل في الريف، وأن يعنى بممتلكاته هناك. غير أن جهوده لم تلقَ إلا مقاومة عنيدة من الفلاحين الذين لم يستسيغوا أساليبه الجديدة. ثم ما لبثت مارسيلين أن حملت، غير أن صحتها أخذت تضعف يومًا بعد يوم، حتى انتهى بها الأمر إلى الإجهاض.
ولما اشتد بها المرض، رأى ميشيل أن يذهب بها إلى سويسرا، عسى أن يجد الهواء البارد هناك دواءً لها. ولكن ميشيل نفسه كره هذا البلد، فاقترح عليها أن يرحلا إلى الجنوب. وما كادا يصلا إلى إيطاليا حتى أخذت صحتها في التدهور بسرعة مروعة، بينما كان زوجها يتركها في الفندق وحيدة، ويخرج يتسكع في الشوارع والأرصفة. ثم انتقلا إلى شمال إفريقيا، حيث انصرف ميشيل إلى مغامراته، ولم يكن يعود إليها إلا متأخرًا في الليل. وفي ليلة من الليالي، حين دخل حجرتهما، فوجئ بمنظر لم يكن يتوقعه:
ما هذا الصوت؟... لم أعرف سعالها... هل يمكن أن تكون مارسيلين؟... أضأت النور...
لقد كانت تجلس نصف جالسة على سريرها، تمسك بقضبانه بيد ضعيفة مرتجفة، تستند إليها كأنما فقدت كل ما تبقى لها من قوة. وكانت الملاءات، ويداها، وثوب نومها ملطخة جميعًا بتيار متدفق من الدم. وكان وجهها مغطى بذلك السائل القاني، وكانت عيناها الواسعتان تحدقان في فراغ موحش. ولم يكن في صمتها ما يخفف من الفزع، بل لعله كان أشد وقعًا من صرخات الألم نفسها. أما ميشيل، فقد وقف حائرًا مضطربًا، لا يدري ماذا يفعل، أراد أن يهرع طلبًا للعون، ولكن يدها أمسكت به بيأس، كأنها تستنجد به ألا يتركها وحدها في هذه اللحظة الرهيبة. "آه، ألا يمكنك الانتظار قليلًا؟" قالتها بصوت خافت. ثم، كأنها قرأت أفكاره، أضافت: "لا تقل شيئًا، كل شيء على ما يرام."
ولكن كل شيء لم يكن على ما يرام، ففي فجر اليوم التالي، نزفت مرة أخرى، ولم يكن هناك أمل في إنقاذها.
وهكذا تنتهي القصة و هذا الفصل المأساوي من حياة ميشيل، ذلك الفصل الذي يرويه لأصدقائه من الشباب الناجحين، أولئك الذين عقدوا العزم فيما مضى أن يظلوا سندًا لبعضهم البعض في أوقات الشدة. ولكن ميشيل، وقد عاد من رحلته الطويلة، لم يعد الرجل الذي كانوا يعرفونه. بل إن أحدهم، في رسالة يبعث بها إلى فرنسا، يتساءل إن كان ميشيل لا يزال قادرًا على "تقديم خدمة للمجتمع"، كما كان منتظرًا منه يومًا.
لم يكن "اللاأخلاقي" قصة اعتيادية، بل كانت رواية تحمل بين طياتها إدانة صامتة، قصة عن حياة تتجدد، ولكنها تنتهي بوحشية تكاد تكون قريبة من القتل. ومع ذلك، فإن ميشيل يروي حكايته دون أن يسوق اعتذارًا أو يطلب الصفح. بل إننا نراه، حين كان في بسكرة، يجد سرورًا غريبًا في صحبة الفتيان العرب الفقراء الذين كانت مارسيلين تحسن إليهم. ثم نراه بعد وفاة مارسيلين يمضي في طريقه غير عابئ، حتى إنه حين يتحدث إلى أصدقائه عن أخت أحد هؤلاء الفتيان – وهي فتاة سلكت طريقها كعاهرة – لا يرى بأسًا في الإشارة إلى العلاقة التي ربطته بها، وكأنما لم يكن هناك في قلبه متسع للندم.
في كل مرة أراها، تضحك وتزعم أنني أفضل أخيها عليها. تزعم أنه هو ما يبقيني هنا أكثر من أي شيء آخر. قد يكون هناك بعض الحقيقة في ما تقوله...
ولم يكن بدٌّ، بعد هذه القصة القاتمة، من إلتفاتة خاطفة وإيماءة تحمل إشعارًا لمن أراد أن يتبيَّن مواضع الحكمة. فلقد كان لصديق أندريه جيد، ذلك الشاعر الكاثوليكي فرانسيس جاميس، رأيٌ في "ثمار الأرض" لا يخلو من الاندهاش الممزوج بالنفور. فما كان من جاميس إلا أن وصف ميشيل وصفًا قاسيًا، إذ نعته بأنه رجلٌ بائس، لم يجد حتى في رذائله يقينًا يطمئن إليه، فهو سادي ومثلي الجنس، لكنه لم يُوفَّق حتى في ذلك. وأما الإيحاء النيتشوي في العنوان، الذي ربما يوهم القارئ بأن "اللاأخلاقي" يحمل في طياته دعوةً إلى أخلاق جديدة أكثر حيوية—تلك التي تجمع بين البنية الجسدية والقوة الأخلاقية—فلا بدّ من الإشارة إلى أن المؤلف نفسه لم يكن مطمئنًا إلى هذا الطرح، بل إنه بذل جهدًا ظاهرًا لتسليط الشك عليه. ولم يكن ميشيل، في حقيقة الأمر، نموذجًا للطغيان الشيطاني المهيب، ولا صورةً للتمرد العظيم الذي يتحدى كل قيد، بل لم يكن سوى رجلٍ أنانيٍّ، لم يعرف للحب معنى، ولم يكن له في زواجه إلا بؤسٌ يعجز القلم عن وصفه.
ومع ذلك، فإن الكتاب لا يجعله مثلًا يُحتذى، ولا يقدِّمه باعتباره شخصًا نمطيًّا، ولكنه يترك لنا مأزقه—إذا لم يكن شخصه ذاته—لنجد فيه شيئًا مألوفًا، أو لنشعر بأنه قريب من إدراكنا. غير أن السؤال الذي يثور في الأذهان هو: لماذا ينبغي أن يكون مأزق ميشيل مألوفًا لدينا؟ هذا هو السؤال الذي طرحه جاميس، كما طرحه أصدقاء جيد الآخرون، دون أن يدركوا، أو لعلهم أدركوا ولكنهم لم يريدوا التصريح، أن مأزق ميشيل لم يكن سوى انعكاس لمأزق المؤلف نفسه. فلولا هذا الإدراك، لما كان للكتاب أن يصوِّر لنا شخصيةً تمثيلية بوضوح—إذ يعلن العنوان ذاته ذلك—ثم يبذل كل جهدٍ ممكنٍ ليتجنب طرح السؤال عن هوية النموذج الحقيقي الذي يجسِّد هذه الشخصية. فما يفعله الكتاب هو أنه يوحي للقراء بأنه بصدد تقديم فكرةٍ ما، ثم يتراجع عنها، بل يرفض إثبات أي شيء. وقد أكد جيد هذا الأمر بنفسه في مقدمة إحدى الطبعات اللاحقة، إذ قال إنه لم يسعَ إلى البرهنة على فكرة بعينها، بل كان هدفه أن يرسم صورته بدقة، ولكن دون أن يقول شيئًا ذا بال.
وبهذا الغموض الذي تعمده المؤلف، استطاع "اللاأخلاقي" أن يصوغ شكله الحقيقي، وهو شكلٌ مضطرب ومقلق، يعكس الأزمة العميقة لمن يجد نفسه خارج نطاق القبول الاجتماعي، في مجتمع يرفضه وينزل به أشد العقاب. الكتاب، من حيث بناؤه الفني، دقيقٌ في صياغته، إذ يقيم تناظرًا واضحًا بين قصة استعادة ميشيل لصحته وما يقابلها من انهيار مارسيلين الجسدي، وكأننا أمام ميزان تتوازن كفتاه، إلا أن هذا التوازن ليس إلا وهمًا، فما يبدو من وضوحٍ ونظامٍ ليس إلا ستارًا يخفي تحته فوضى المعنى واضطراب الهدف. فالشخصيتان—ميشيل ومارسيلين—لا تبرزان كشخصيات تراجيدية، بل كمجرد نماذج غير مكتملة، أو مرايا مشوهة تعكس كلٌّ منهما الأخرى: هذا المذنب المعذَّب، وتلك القديسة المقهورة. وحتى العنوان، رغم إيحاءاته النيتشوية، فهو لا يخلو من استحضار تقاليد قديمة قائمة على ضبط النفس والحكم الأخلاقي، وهي تقاليد تتجلى في أسلوب الكتاب ذاته، حيث تأتي بعض الجمل بصيغة تقريرية صارمة، مثل قول ميشيل: "لقد سعيت ووجدت ما يجعلني ما أنا عليه: نوعٌ من الإصرار على الأسوأ"، وهو تصريح يقف في تناقضٍ صارخٍ مع الفجوات التي تتركها الرواية، ومع التوهيمات التي تتخلل السرد، والاندفاع نحو التحرر العنيف الذي لا يبلغ غايته أبدًا. ذلك أن التحرر، في نهاية الأمر، هو ما يسعى إليه هذا الكيان الصغير، المحاصر في شبكةٍ من المشاعر المكبوتة والفوضى التي لا مخرج منها، ولكنه لا يجده قط.
ولئن كان الكتاب اعترافًا من ميشيل، فهو اعتراف بلا ندم. ونحن، بطبيعة الحال، نعلم أنه اعتراف الكاتب نفسه كذلك، أو بالأحرى سردٌ مقنّع لما اكتشفه المؤلف في شمال إفريقيا، ولم يكن له أن يعلنه صراحةً. إنه كتابٌ يبحث عن طريقةٍ ليقول بها أشياء لا يمكنه البوح بها، وهو في ذلك يظل نصًّا ملتبسًا حتى بعد قرنٍ من صدوره. فحتى لو لم يكن القارئ على درايةٍ بسيرة جيد، فإن التوتر الجنسي غير المعلن في الرواية يبدو الآن شفافًا إلى حدٍّ بعيد، ولكن المدهش أن معاصريه لم يدركوه، أو ربما أدركوه ولكنهم تجاهلوه، حتى أصدقاؤه وعائلته، بل وحتى المؤلف ذاته. ذلك أن "اللاأخلاقي" ليس بيانًا صريحًا بأي حال، ولا يمكن أن يُقرأ على هذا النحو، لأنه يرفض، منذ اللحظة الأولى، أي محاولةٍ لإيجاد حلٍّ أو تسويةٍ للعقدة الأساسية التي يطرحها. فما كان يمكن أن يكون حلًّا في روايةٍ من القرن التاسع عشر، حيث يتم منح الشخصيات خلفياتٍ واضحةٍ تجعلها قابلة للتعرّف من قبل الآخرين ومن قبل نفسها، يغيب تمامًا عن "اللاأخلاقي"، حيث تُحكم العزلة على الشخصية الرئيسية، فيبدو ميشيل كأنه قد حكم على نفسه، قبل أن يُحكم عليه.
وهو اعتراف، ولكنه لا يكشف شيئًا. فميشيل، الذي يعرض نفسه علينا، يظل شخصيةً غير مرئية، تنأى عن كل تعريف. فمنذ زواجه الغريب، يشرع في التخلي عن كل سياقٍ يمكن أن يمنحه هويةً واضحة: مهنته، و مدينته، و حياته الاجتماعية، ثم زوجته، حتى ينتهي به الأمر في الصحراء، مجردًا من كل شيء، حتى من نفسه، فلا يجد أمامه إلا الفراغ المطلق، رفيقًا قاسيًا لا يرحم، كأنه صورةٌ من صور الإله القديم الذي لا يعبأ بالبشر. وليس غريبًا بعد ذلك أن يكون مورسو، بطل "الغريب" لألبير كامو، الابن الشرعي لميشيل، الامتداد الطبيعي لهذا العدم الذي يبتلع كل شيء.
ولم يكن جيد بحاجةٍ إلى المال من كتاباته، بل كان يزدري فكرة أن يكون الأدب وسيلةً للكسب. فقد قال، معبّرًا عن موقفه وموقف أقرانه: "نحن، أتباع مالارميه، كنّا نرى في فكرة أن الأدب قد يجلب المال شيئًا مشينًا... لم نكن لنُشترى." وكان جيد قادرًا على التمسك بمبدئه هذا، ولكن أي كاتبٍ، مهما بلغ من الزهد، لا يطيق أن يكون بلا قرّاء. وفي مطلع القرن العشرين، كان جيد قد أصبح شخصيةً بارزةً في المشهد الأدبي، لكنه لم يكن غافلًا عن حقيقة أنه لم يكن يملك جمهورًا عريضًا. لذا، طلب من ناشره أن يطبع 300 نسخة فقط من "اللاأخلاقي"، إذ كان يدرك أن طباعة المزيد قد تعني له الإحباط إذا لم تلقَ الرواية رواجًا. ولم تلبث هذه النسخ أن بيعت جميعها خلال عام، غير أن خمسة عشر عامًا أخرى انقضت قبل أن تُستنفد الطبعة بالكامل.
لم يشأ جيد أن يطلق على "اللاأخلاقي" اسم الرواية، فلم تكن هذه التسمية، في نظره، تليق بعمله. وإنما اختار لها اسمًا آخر، أقرب إلى أن يكون "قصة" لا تدفعها الأحداث بقدر ما يحركها الصوت والسرد. وكان هذا الحرص في اختيار الاسم جزءًا من نزعة اتسمت بها أعماله اللاحقة، حيث تجنب وصفها بالرواية، وكأنما أراد أن ينأى بها عن النمط التقليدي للرواية كما عُرف في القرن التاسع عشر. والكتاب الوحيد الذي ارتضى له هذه التسمية كان "المزورون"، الذي ظهر في سنة 1925، في وقت كان فيه بروست قد غيّر بعمله "البحث عن الزمن المفقود"، وجويس بعمله "يوليسيس"، صورة الرواية في أذهان قرّائها ونقّادها. ولم يكن "المزورون" يشبه أيًّا من هذين العملين، لكنه لم يخلُ من طموح إلى تحقيق مكانة أدبية دولية، بعد أن كان صاحبه يكتب وينشر منذ أمد أطول من بروست وجويس معًا.
ومع ذلك، لم يكن "المزورون" خروجًا كاملًا عن التقاليد، فقد احتفظ ببعض ما كانت تمتاز به الرواية في القرن التاسع عشر، من تعدد الشخصيات واتساع النطاق الاجتماعي وتشابك الأحداث. لكنه مع ذلك حمل طابع آندريه جيد المميز، لا سيما في اهتمامه بتشكّل الذات وصراعها للوصول إلى وعيها الحقيقي. في قلب هذه القصة شابان يناضلان لاكتشاف ذواتهما، في عالم تغلب عليه القيم الزائفة والمغريات التي لا يسع المرء إلا أن يستسلما لها بين حين وآخر. غير أن الرواية ليست فقط عن صراعهما، بل هي أيضًا عن صراع روائي أكبر سنًا، يُدعى إدوارد، يحاول أن يكتب رواية بعنوان "المزورون"، ويجد صعوبة في تحديد شكلها ومضمونها. وما يلبث القارئ أن يدرك أن الرواية التي يكتبها إدوارد ليست سوى الرواية التي يكتبها جيد نفسه، وكأنّ العمل الفني يعيد إنتاج نفسه في داخله، مؤكّدًا فكرة التوازي بين تشكيل الذات وبين الاستقلالية الأدبية، وهي الفكرة التي ظلّت تشغل جيد طوال مسيرته.
لقد كان جيد من أوائل من عبّروا عن هذا المفهوم، ففي عام 1895 كتب "بالود"، وهي قصة عن رجل يكتب كتابًا يحمل نفس العنوان. وكان منذ عام 1893 قد سجل في مدوناته إعجابه بالأعمال التي تعكس ذاتها داخل ذاتها، مثل المسرحية داخل المسرحية في "هاملت"، والصورة داخل الصورة في لوحة "لاس مينيناس". غير أن ما كان يجذبه في الحقيقة لم يكن مجرد هذا الانعكاس، بل ذلك التأثير الذي سماه "الجهاز الشعاراتي الذي يتكون من وضع شعار أصغر 'en abyme' في نقطة القلب".
دخل مصطلح "Mise en abyme" معجم النقد والفلسفة بفضل آندريه جيد، الذي جعله مرادفًا لما وراء القص في الأدب. غير أن هذا المفهوم، الذي يوحي بانعكاس الصورة داخل الصورة، لم يكن عند جيد مجرد تمرين جمالي للإبهار، بل كان تعبيرًا عن وعي الكاتب بذاته وانضباطه الأخلاقي. إن القارئ الذي يتأمل هذا البناء الفني يجد نفسه أمام مرآة لا تعكس سوى مرآة أخرى، في متاهة لا نهائية من التكرار. لكنه تكرار يكشف عن قلق وجودي، وعن إحساس بالخطر يكمن في جوهر الذات البشرية، تمامًا كما جاء في النصوص الدينية: "القلب أخدع من كل شيء، وهو نجس من يعرفه؟"
في نظر جيد، لم يكن هذا الانعكاس مجرد تلاعب شكلي، ولم يكن "Mise en abyme" مجرد زخرفة بلاغية، بل كان تجسيدًا لحالة تأمل دؤوب في الذات، ولصراع قد ينتهي بالسقوط في الهاوية. هذه الهاوية، في تصور جيد، ليست مجازًا فنيًا بقدر ما هي واقع وجودي. فهناك حيث يتعرى الإنسان من الأوهام، وحيث يدرك هشاشته وضعفه، تنشأ لحظة الحقيقة. لقد كان جيد يدرك أن الخلاص ليس نتاج أفعال الإنسان، وإنما هو مسألة تتعلق بالنعمة الإلهية، وأن لا شيء في هذا العالم يضمن له النجاة.
ولكن هذا التأمل في الذات لم يكن منفصلًا عن مفهوم آخر صكه جيد، وهو "الفعل المجاني" أو "acte gratuit". فمتأثرًا بفيودور دوستويفسكي، خلق جيد شخصية لافكاديو، ذلك المغامر المتبجح الذي يقرر، في لحظة عبثية، أن يدفع رجلًا برجوازيًا من القطار دون سبب واضح. هذا الفعل، الخالي من أي دافع، لا يعكس نزوة فردية فحسب، بل يحمل دلالة أعمق: إنه يحاكي، بصورة ساخرة، الفعل الإلهي الخالق، لكنه في الوقت نفسه يكشف عن الفراغ المروع الذي يمكن أن ينتهي إليه الإنسان حين يتجرد من كل معنى. ولعل هذا ما أراد جيد أن يعكسه في أدبه: أن يضع القارئ أمام هاوية الأخلاق، حيث لا شيء يقيني، وحيث يصبح كل شيء ممكنًا، كما قال دوستويفسكي: "إذا لم يكن هناك إله، فكل شيء مسموح."
ولكن هل كان جيد مجرد كاتب يتلاعب بالمفاهيم الفلسفية؟ وهل كان فنه مجرد تمرين تجريدي على الغموض؟ ليس الأمر كذلك، بدليل أن تأثيره امتد حتى إلى ألد خصومه. كان جورج برنانوس، الروائي الكاثوليكي الفرنسي الكبير، يصغر آندريه جيد بجيل، ولكنه لم يكن ليغفل عن أثره العميق في الأدب والفكر، فأراد أن يرسم له صورة أدبية في روايته مونسير وين. ولم يكن في ذلك مجرد إدانة، وإنما كان أيضًا إقرارًا بقوة المثال الذي جسّده جيد. فجاءت شخصية مونسير وين: أستاذ لغة، و رجل بدين، و متعرق، و يحمل في ملامحه وتصرفاته ما يبعث على القلق، ويُضمر في اهتمامه بفتى مراهق بلا أب ما يثير الريبة. ولكنه، مع بشاعته، كان أيضًا جذابًا، ماكرًا، شديد الذكاء، قادرًا على التحول بسحر غريب لا يخلو من أثر التفسخ والانحلال.
يصف أحد شخصيات برنانوس هذا الرجل بقوله إنه "أخطر رجل قابلته في حياته"، إذ يمتلك قدرة نادرة على جعل أي موضوع يتحدث عنه مثيرًا، بينما هو في الحقيقة يفرغه من المعنى. وتذهب شخصية أخرى إلى حد القول: "بالطريقة التي يتحدث بها، ستظن أنه كاهن."
ويمضي السرد حتى نصل إلى اللحظة الفاصلة: الفتى يتمكن من الدفاع عن نفسه، وين ينهار. نهايته مأساوية، بل تكاد تكون أوبرالية في دراميتها. يكتب برنانوس عن مشهده الأخير: "عيناه المغمضتان، وفمه الرفيع، وشفته المضغوطة، كانت ترسم على وجهه القاسي تعبيرًا ساخرًا"، وكأنما كان جيد نفسه حاضرًا في هذا الوصف، وهو يواجه مصيره ببرود وتأمل، كما لو أنه مراقب لا شأن له بالأحداث. ولا يزال صوته يتردد حتى لحظاته الأخيرة، وهو يقول: "أستطيع الآن أن أنظر إلى أعماقي، لا شيء يحجب رؤيتي، لا عقبة تعترض طريقي... ولا شيء هناك. تذكر هذه الكلمة: لا شيء." ثم يهمس: "أنا جائع... أنا غاضب من الجوع... أنا أموت من الجوع." وأخيرًا، كأنما يختتم مسيرة حياته كلها في جملة واحدة: "طفلي، سأعود إلى نفسي إلى الأبد."
أما مفهوم Mise en abyme، الذي وضعه جيد، فهو يجد ما يقابله عند هربرت جورج ويلز، الذي كان يؤكد أن "الصورة يجب أن تشمل الإطار أيضًا". بيد أن الفارق بين الرجلين واضح: فويلز يسعى إلى إعادة صياغة رؤيتنا للأمور عبر وضعها في سياق جديد، وهو لذلك يخاطب جمهورًا واسعًا. أما جيد، فإنه يستدعي قارئًا وحيدًا، مستغرقًا في لغز الصورة التي لا تُحَلّ، كأنه غارق في ثقب أسود.
هاتان الرؤيتان المختلفتان لا تقللان من أهمية أي منهما، بل إنهما تشكلان مساهمتين بارزتين في تطور الرواية في القرن العشرين. فويلز، بما لديه من نزعة علمية ونفاد صبر تجاه القيود الاجتماعية، يبتكر رواية تُخاطب جمهورًا عريضًا، أما جيد، فرغم إحباطه من العالم، إلا أنه لا يسعى إلى الجمهور الواسع، بل إلى فئة مختارة من القرّاء، أولئك الذين يشعرون – كما كان يقول لوالدته – بأنهم "ليسوا مثل الآخرين"، أولئك الذين لفظهم المجتمع أو لفظوه، وأدركوا أنهم خارج دوائره التقليدية. هؤلاء، مثل جمهور ويلز، يملكون قناعة راسخة بأنهم ليسوا كأبطال الروايات الكلاسيكية، ولا يعنيهم قراءة هذا النوع من القصص، بل ينجذبون إلى نصوص تتحدى التوقعات، تكسر القوالب، وتتأمل ذاتها كما يتأملون هم أنفسهم.
إنه لأمر بالغ الدلالة أن عصر انتشار القراءة والكتابة قد أفرز جمهورًا واسعًا من هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم "استثناءً"، وهكذا وجد آندريه جيد، رغم توجهه النخبوي، قاعدة قرّاء لم تكن قليلة.
أما جيد نفسه، فقد وقف طوال حياته في موقع المدافع عن الذات أمام المجتمع، وكان أكثر إقناعًا في ذلك لأنه لم يجمّل الذات، ولم يغلفها بأوهام الحرية أو تحقيق الذات. ولهذا أصبح عمله تعبيرًا عن نوع أدبي جديد، لا يقل أهمية عن الخيال العلمي، نوع أدبي نضج تمامًا في القرن العشرين: الرواية الأدبية الرفيعة، التي تتأمل ذاتها وتعكس تناقضاتها.
وقد يبدو لنا للوهلة الأولى أن جيد وويلز يمثلان نقيضين: برجوازي صغير مقابل برجوازي كبير، مغاير جنسيًا مقابل مثلي الجنس، كاتب شعبي مقابل كاتب نخبوي. ولكن إذا تأملنا أعمق، وجدنا أن بينهما قواسم مشتركة: كلاهما شخصية عامة، وكلاهما انشغل بقضية الجنس، وكلاهما عايش لحظة تاريخية كانت التقاليد الفيكتورية فيها موضع تحدٍ، ومع ذلك لم يكن أي منهما ليقطع مع تلك التقاليد تمامًا. لقد كانا في جوهرهما أخلاقيين، رغم تساؤلهما عن الأخلاق، وكانا، رغم كل ما أظهرته أعمالهما من عنف وقسوة، مصممين على إعادة تشكيل وعي مجتمعهما كما يريان.
برنانوس صوّر آندريه جيد على أنه "مفترس"، سواء لنفسه أو للآخرين، وربما كان في ذلك بعض الحقيقة. لكنه، بالنسبة لكثيرين، كان أيضًا محررًا لا يُستغنى عنه.
حياة جيد كانت طويلة، و مليئة بالإنجازات، و عاش فيها مفكرًا عامًا بالمعنى الحديث للكلمة، يحظى بأتباع دوليين، ويكتب بلا انقطاع حتى وفاته عام 1951 عن عمر يناهز 81 عامًا. كان كاتبًا روائيًا، وفنانًا قبل كل شيء، لكنه كتب أيضًا النقد، والتأملات الفلسفية، والسيرة الذاتية، التي أثارت من الجدل أكثر مما أغلقت من القضايا.
أما مذكراته، فقد بدأت في سن المراهقة، واستمر يدوّنها طوال حياته، بانتظام ودقة. وكان الجميع يعلم أنه يحتفظ بها، بل إن أصدقاءه المقربين احتفظوا بمذكرات موازية عن علاقاتهم به. وفي عام 1939، صدرت تلك المذكرات ضمن سلسلة "بلياد" الكلاسيكية، ليكون بذلك أول كاتب يحصل على هذا التكريم في حياته.
واللافت أن جيد نفسه كان ينظر إلى هذه المذكرات بوصفها جوهر عمله، بل مركز إنجازه الأدبي كله. فهي لم تكن مجرد سجلّ لحياته الخاصة، بل كانت – منذ بدايتها – مخصصة للنشر، كما لو كان يضع نفسه تحت مجهر النقد منذ اللحظة الأولى. ومن هذه المذكرات، ولدت فكرة Mise en abyme، ذلك المفهوم الذي بات علامة فارقة في أدبه. كانت المذكرات هي الهوة الإبداعية التي خرجت منها رواياته، ومنها انطلقت كل تجاربه السردية الأخرى، وإليها عادت.
وفي عام 1939 صدرت المذكرات في سلسلة "بلياد" الكلاسيكية، مما جعل جيد أول كاتب على قيد الحياة يحصل على هذا الشرف، كما اعترف بالمذكرات، سجل حياته الخاصة (المفارقة أنها منذ البداية كانت مخصصة للنشر) كمركز لعمله وإنجازاته. كانت المذكرات هي المكان الذي صاغ فيه مفهومه الحاسم "mise en abyme"، وكانت المذكرات هي الهاوية الخلاقة التي انبثقت منها الرواية الواحدة والعديد من التجارب السردية الأخرى والتي عادت إليها.
لم يكن آندريه جيد رجل أدب فحسب، بل كان رجل فكر وسياسة، تتحرك به الأحداث كما يتحرك بها، فلا يدعها تمر دون أن يكون له فيها رأي أو موقف. فقد بدأ حياته شابًا مرتبطًا ببيئته، لا يكاد يجاوزها، لكنه لم يلبث أن أدرك أن الأديب الحق لا يجوز له أن يظل أسير مجتمعه الضيق، بل ينبغي له أن يتجاوز ذلك إلى النظر في أحوال العالم ومشكلاته. فلما وقعت الحرب العالمية الأولى، لم يكن ممن يكتفون بالمشاهدة أو التعليق، بل كان ممن أخذوا بأسباب العمل، وسعوا إلى تقديم العون حيثما استطاعوا. ومن هنا، والتر راثيناو – الصناعي الذي أصبح وزير مالية جمهورية فايمار و يصبح ضحية لقاتل يميني فيما بعد– ذهب إلى باريس ليزوره، لم يجد أوثق من جيد ليستشيره في شؤون العالم، إذ كان يعلم أنه رجل لا يداجي ولا يجامل، وإنما يقول ما يراه حقًا.
ثم جاءت العشرينيات والثلاثينيات، فإذا بآندريه جيد يخرج عن حدود بلاده إلى آفاق أرحب، يسجل ما يرى، ويحكم بما يشهد. فكتب عن رحلته إلى الكونغو، فكشف عن فظائع الاستعمار الفرنسي، وكتب عن زيارته للاتحاد السوفيتي، فعرّى الاستبداد الجديد الذي ظن كثيرون أنه جاء باسم الحرية. ولم يكن ذلك مما يُرضي أنصار الاستعمار، ولا مما يُرضي أنصار الشيوعية، فكان عدواً لهؤلاء وهؤلاء.
وكان تأثيره في الأدب الفرنسي لا يقل عن تأثيره في الفكر والسياسة. فقد كان من مؤسسي "لا نوفيل ريفو فرانسيز"، المجلة التي لم تكن مجرد منبر أدبي، بل كانت مدرسة قائمة بذاتها، ومنها خرجت دار غاليمار، التي أثرت في الذوق الأدبي في أوروبا كلها.
ثم كانت لجيد معاركه الخاصة التي خاضها بجرأة لا تعرف التردد. فلم يخفِ ميوله، ولم يداهن المجتمع فيما اعتقده حقًا. فكان كتابه "كوريدون" دفاعًا عن المثلية بوصفها علاقة ترتكز على القيم الإغريقية، لا مجرد شذوذ ينبغي إنكاره، كما تمثل في أسطورة آخيل وباتروكلس، علاقة تتجاوز اللذة إلى ما هو أعمق وأبقى، فكان وجهًا من وجوه الدفاع عن هذا النمط من العلاقات حتى الآن، وكان في الوقت نفسه، بسبب ذلك، هدفًا للانتقاد والتشهير.
ويقال إنه لهذا السبب لم يحصل على جائزة نوبل، وإنه لو لم يكتب "كوريدون"، لكان من السهل أن يفوز بها. فلما مُنحت الجائزة في عام 1937 لصديقه روجيه مارتن دو غارد، قال بعضهم إن ذلك لم يكن إلا تعويضًا لجيد، وإشارة غير مباشرة إليه. ثم كان من مفارقات القدر أن يكون مارتن دو غارد نفسه مثلي الجنس ممن يعيشون في الظل، وإن لم يجرؤ على المجاهرة كما جاهر جيد.
على أن جيد لم يكن رجل أفكار فحسب، بل كان رجل صورة وهيئة، كما كان رجل تأثير وأثر. ذلك الرأس الطويل، وذلك الوجه الذي لا تكاد تبين قسماته إن كانت تنبئ عن صرامة أو تهكم، وتلك النظرات الحادة، والشفاه العريضة التي تجمع بين القسوة والرقة – كل ذلك جعله في عيون معاصريه صورة للتميز والجدية معًا. ولم يكن غريبًا أن ينظر إليه السرياليون بإكبار، وأن يعترف الوجوديون بفضله. ولم يكن غريبًا أن يجذب، حتى في إنجلترا، مترجمين شغوفين بأعماله، وأن يجد في دوروثي بوسي من ينقل كلماته إلى الإنجليزية، ومن تستوحي من أسلوبه روايتها بعنوان "أوليفيا"، فتكتبها كما يكتب هو، وتعنونها كما يعنون هو.
وفي عام 1943، حين كانت الحرب في أشدها، لم يجد كلاوس مان من هو أحق بالدراسة من جيد، فكتب عنه كتابًا كاملاً، وسأل في مقدمته: لماذا نكرس الآن كتابًا كاملاً لهذا الرجل؟ ثم أجاب:
لأن كل ما يمثله يتعرض الآن لهجوم مميت، ولأن البرابرة قد عقدوا العزم على محو النوع الإنساني الذي يمثله جيد.
لما انتهت الحرب، وأعيد النظر في أشياء كثيرة، أصبح "اللاأخلاقي" نموذجاً للأخلاق، فمنحوه جائزة نوبل عام 1947.
مترجم بتصرف من كتاب stranger than fiction
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي