روسيا في أدب دوستويفسكي تبرز كأرضٍ مشتعلة بالاضطراب والقلق، حيث تجسيد هذا الاضطراب يأتي في شخصيات مفعمة بالتوتر والمآسي. فكيف أمست هذه النفوس القلقة رموزًا للأدب فى القرن العشرين؟ روسيا في خضم مخاضها تختلف عن إنجلترا الفيكتورية، وباريس فى الحقبة الجميلة، وإمبراطورية النمسا-المجر في عهد فرانز جوزيف الأول، وألمانيا في عصر فيلهلم، وأمريكا في زمن الوفرة والترف—حقب شهدت غزارة العيش ورضا الأرواح. ورغم الفضائح العامة كقضية دريفوس ومأساة أوسكار وايلد التي كشفت بعض التصدعات في الأخلاق، إلا أن الغرب عاش قرنًا من الرفاه والاستقرار، رغم ما يعترضه من صدمات الفوضويين والأزمات المالية.
في ظل هذا السياق، وجد فن الرواية نفسه في ذروة المجد. إذ بزغت روايات القرن التاسع عشر بأبهة العظمة، وأسماء أمثال سكوت وبلزاك وديكنز ودوما وجورج ساند وجول فيرن أصبحت أركانًا للفن الروائي، تُشاد عليها قلاع الخيال في كل أرجاء العالم حيث وجدت القراءة والقدرة الشرائية، مثلما كانت فى اليابان. وإذا كانت الرواية بضاعة مزدهرة، فإن الوعي النقدي حولها أخذ في التعمق أيضًا. فمع تعاظم تأثيرها، ارتفع صوت النقاد الذين خشوا على الأخلاق العامة، لاسيما في إنجلترا حيث هيمن الحذر الأخلاقي، حتى صار لزامًا على الروائيين مراعاة ذائقة المكتبات المستعارة التي تصل عبرها أعمالهم للجماهير، فالرواية يجب أن تكون طاهرة من كل ما يُرى فاحشًا أو مخلًا.
وفي ذات الوقت، اشتعلت الروح الفنية للروائيين الذين أخذوا يعتزون بفنهم كحرفة شريفة. ومن هنا انبثقت لحظة التحول الكبرى في منتصف القرن، مع فلوبير ورائعته "مدام بوفاري". ليست إيما بوفاري بطلة شريرة استثنائية؛ إنها قارئة مخدوعة بالروايات الرومانسية الرخيصة، لكن عبقرية فلوبير في هذا العمل تكمن في استعراضه لفن السرد ذاته بقدر ما تحكي الرواية قصتها. عبرها، يكشف عن براعته في اختيار الألفاظ وتناغم الجمل، ويُبرز تقنيته في السرد غير المباشر الحر، الذي يمزج بين أفكار الشخصيات وتفاصيل السرد ليمنح القارئ شعورًا حميميًا وشفافًا.
ومن المشاهد الأيقونية في الرواية، اللقاء الأول بين إيما وعاشقها رودولف، حيث يرتب لها لقاءً في الطابق العلوي من مبنى البلدية لمشاهدة المعرض أدناه. يقطع فلوبير السرد بين الداخل والخارج، بين الحسي والعام، ليبرز هشاشة وجهات النظر البشرية.
فلوبير سيد الأسلوب الذي أثر في أجيال الروائيين، مثل فورد مادوكس فورد وجوزيف كونراد، اللذين كانا يكتبان بالفرنسية قبل نقلها إلى الإنجليزية لضمان الدقة، وغيابه كان ليترك فراغًا لا يملؤه جيمس جويس أو همنغواي. فلوبير لا يعبر فقط عن أسلوب عظيم بل عن روح تشاؤمية عميقة، مما يجعله مرآة لعصره.
في أعماله، يتوازن الفرد مع المجتمع، وإن بدا هذا التوازن مشوهًا في عين الفنان. وهنا يلتقي مع هنري جيمس، الذي تعلم من فلوبير دقة السرد وتعدد وجهات النظر، لكن تركيز جيمس انصب على حدود الإدراك الإنساني. في "بورتريه سيدة"، ينسج توترًا بين وعي إيزابيل أرشر ووعي الآخرين، ليمتزج الأمل بالتراجيديا.
ومع اقتراب القرن التاسع عشر من نهايته، بلغت الرواية أوجها، لكن ما الذي كان يخبئه الزمن؟ دوستويفسكي، الذي بدأت ترجماته تصل إلى الأفق، حمل معه صورة عن روسيا حيث العوالم الداخلية تتشظى كما الخارجة. فإلى أي آفاق جديدة كانت الرواية ستبحر؟
***
هذا هو السؤال الذي طرحه هربرت جورج ويلز، الأديب الذي عاش زمن هنري جيمس ورافقه حينًا من الدهر—تلك الصداقة التي شابها الجفاء وانتهت بقطيعة سنسردها لاحقًا—على الجمهور العريض عند مطلع القرن العشرين. ويلز، ذلك الكاتب الذي لم يعهد نظراؤه مثل حماسته نحو التجديد، كان مؤمنًا إيمانًا راسخًا بأن القرن الجديد يستدعي تصورًا مغايرًا للإنسانية، ورواية تحمل في طياتها هذا التصور وتكشف عن ملامحه. فهو يكتب بأسلوب يستحضر التجريب المتواصل، متسائلًا في كل مرة: أي أثر ستتركه هذه الطريقة من السرد؟ إن منهجه الذي يستهدف استقطاب جمهور جديد من عامة القراء يحمل في ذاته وعيًا نقديًا ينبع من ذاته الحية وذهنه الثاقب.
حياة ويلز تقدم مشهدًا دائمًا لنبوة أدبية طموحة، حيث تجتمع طاقات الإبداع مع رؤية شاملة لمستقبل الرواية. فبعد قرن كامل من الزمن، لا يزال تأثيره قائمًا رغم ما يراه البعض من خفة في وزنه الأدبي. هذا التغاضي عن أثره الحقيقي يعكس عدم تقدير لما أحدثه من ثورة في الرواية وتقنيات السرد، التي تبناها لاحقًا فنانو السينما والإذاعة ممن أدركوا باكرًا إمكانياتها التحويلية.
سيرته الذاتية التي عنونها بـ"تجربة في السيرة الذاتية"، والتي صدرت عام 1934، لم تكن إلا تكديسًا للوثائق والتجارب والملاحظات التي مثلت حياته الشخصية والعامة. إنها قصة الفرد الذي يعيش على هامش المجتمع. وُلِد ويلز في عام 1866 في قاع السلم الاجتماعي للطبقة البرجوازية، حيث كانت أسرته تئن تحت وطأة الخوف من الانحدار الاجتماعي. والدته سارة كانت خادمة في بيت فخم، ووالده جو بستانيًا، وكلاهما، في نظر ابنهما، أقرب إلى الزمن الإقطاعي من روح العصر الحديث.
في عام 1855، استطاع جو إقناع سارة بأن يغامرا معًا؛ فاشتريا متجرًا صغيرًا للخزف في برومبتون، تلك البلدة التي حوّلتها شبكة السكك الحديدية إلى ضاحية مزدهرة. غير أن المتجر لم يُقدّر له النجاح، إذ عكفت سارة على محاولة إدارته دون جدوى، بينما كان جو يسعى وراء شغفه بالكريكيت—تلك الرياضة التي كانت تشهد تحولها إلى لعبة شعبية—حتى خابت آماله بسبب إصابة أنهت مسيرته، وأُجبر على بيع أدوات رياضية، ليواجه في النهاية الإفلاس. فعادت سارة إلى الخدمة المنزلية، وعاد جو إلى عمل البستنة.
كان "منزل أطلس" الاسم المتكلف لذلك المبنى الصغير الذي جمع بين المتجر ومسكن الأسرة. لكنه في ذاكرة ويلز لم يكن سوى موطن للأحلام المحطمة. وصفه لاحقًا بأنه "الحفرة الكئيبة التي نشأ فيها"، حيث كانت الآفاق مظلمة، والستائر بالية، والأثاث مستعملًا يعكس فقر الحال. لم تكن متاجر الأثاث الديمقراطية قد شاعت بعد، فكان المنزل بأكمله رمزًا للتدهور والحرمان.
الهروب من هذا القدر، وتحويل الواقع المظلم إلى عالم من الفرص، كان حلم ويلز الوحيد، لكنه لم يكن يعلم كيف السبيل إلى ذلك. تدرّب إخوته الأكبر على العمل في متجر للملابس، وكان من المتوقع أن يسير على خطاهم، لكنه وجد نفسه مكبلًا بحياة كئيبة لم يطقها. وقال لاحقًا إن هذا "النظام الذي أخذني قبل أن أبلغ الخامسة عشرة إلى ما كان بوضوح حياة كئيبة ويائسة" فتعمد أن يكون أداءه سيئًا حتى تم طرده. غير أن طرده هذا منحه فرصة جديدة، فقد كان تلميذًا موهوبًا حصل على منحة دراسية للالتحاق بالكلية الملكية للعلوم في لندن—إحدى مؤسسات الدولة الناشئة لتطوير الكفاءات العلمية التي تتطلبها الدول الحديثة.
آملاً يصبح عالمًا، كان يحضر محاضرات السير توماس هكسلي، أحد أبرز المدافعين عن نظرية التطور والمعروف بلقب "كلب داروين". غير أن اهتمامه بالعلوم بدأ يخفت تدريجيًا، إذ وجدها جافة وتقنية أكثر مما يحتمل. انصرف إلى الأدب وقرأ أعمال وليم بليك، وشارك في الاجتماعات السياسية لليسار. سرعان ما فقد منحة دراسته، لكنه اكتسب زوجة، وبدأ في تدريس المراسلات وكتابة الكتب المدرسية.
ثم، أثناء لعب كرة القدم، أصيب إصابة خطيرة في كليته، وفي الوقت ذاته تم تشخيصه بالسل. يسرد ويلز في سيرته الذاتية قائمة من الإخفاقات التي لاحقته حتى ظن أنه لن يجد مخرجًا سوى الموت.
غير أن قطعة من الأدب الشعبي جاءت لتغيّر مصيره. قرأ أثناء فترة النقاهة رواية "عندما يكون الرجل أعزب" لجيمس ماثيو باري، فألهمته قصة النجاح من خلال الكتابة الصحفية. سرعان ما بدأ بنشر مقالات شتى في مجلات عديدة، وكان المناخ الثقافي ملائمًا لهذا النوع من الإنتاج الأدبي. في تسعينيات القرن التاسع عشر، كان هناك ما يقرب من ألفي مجلة في التداول، والطبقة الوسطى الجديدة تبحث عن محتوى يناسب ذوقها المتزايد. الذين لم يفهموا ولم يستمتعوا بالعبارات التقليدية لتورلوب أو جاين أوستن.
كان ويلز نفسه واحدًا من أبناء هذه الطبقة، وقد أثار إعجاب فرانك هاريس، محرر مرموق، الذي رأى في كتابته روحًا مرحة مفاجئة، ومليئة بالآراء، ومحفزة، وذكية، سواء حول العلم أو السياسة أو الرواية الأحدث أو المسرح أو الحياة اليومية. هكذا شق طريقه في عالم الأدب، متخلصًا من قيود زواجه الأول، ومتزوجًا جين، التي قبلت بطبيعته المتحررة وعلاقاته المتعددة. ومن خلال وكيله الأدبي أ. ب. وات، الذي أسس مفهوم الوكالة الأدبية الحديثة، وجد ويلز نفسه في موقع يُتيح له تحويل أحلام الطفولة البائسة إلى نجاح أدبي حقيقي. فجأة أصبح الطفل البائس من منزل أطلس يؤدي بشكل جيد بمفرده
***
سرعان ما ارتقى هربرت جورج ويلز إلى مقام الشهرة والريادة، إذ لم يكتف بالتقدم فحسب، بل استحال علَمًا بين الأعلام.
كانت بدايات هذه الريادة حين بعث ويلز إلى وليام إرنست هنلي، أحد أبرز محرري عصره، مسودة لقصة كان قد شرع فيها أثناء دراسته الجامعية حول السفر عبر الزمن. شجعه هنلي على إتمامها، فنُشرت في أجزاء تحت عنوان "قصة المسافر عبر الزمن" بين يناير ومايو من عام 1895، محدثة ضجة كبيرة. وقبل أن تكتمل السلسلة، نطق أحد النقاد بحكم شهير: "هـ. ج. ويلز... رجل عبقري". وحين جُمعت القصة في كتاب تحت عنوان "آلة الزمن: اختراع"، تضاعفت تلك الضجة، وعُرض عليه تحويل فكرته إلى مشروع ترفيهي يحمل بُعدًا ماديًا.
لقد جاءت "آلة الزمن" في اللحظة التاريخية المثلى، إذ مثلت نبوءة جديدة لقرن مقبل، وعكست في آن واحد غرور العصر المتلاشي ومخاوفه. يكفي عنوانها ليثير في الأذهان أفكارًا لا حصر لها: الزمن، ذلك العنصر الذي به تقاس قيمة البرجوازية، والذي يحكم حياتها بتقدم لا يهدأ، وهو ذاته الذي قد يصبح سلاحًا ذا حدين. كان الزمن عنصرًا مقدسًا من عناصر التاريخ، وعاءً للأمل، ولكنه أيضًا عنصر غادر قد يمحو الآمال كما اكتشف تشارلز لايل في دراسته للتاريخ الجيولوجي، وكان هناك حديث بدأ ينتشر عن الزمن باعتباره البُعد الرابع، وهو المفهوم الجديد والمثير الذي يصعب علينا تخيله. أما الآلة، فقد كانت رمز العصر المنتصر، أداة هيمنت على الطبيعة، لكنها حملت في طياتها مفاجآت ومآزق لا تقل رهبة عن الزمن نفسه.
تبدأ القصة باجتماع نخبة من العقول البارزة - المحرر والطبيب وعالم النفس والصحفي - للاستماع إلى رواية المسافر عبر الزمن. يمكننا أن نرى في هذه المجموعة تجسيدًا للروح الجماعية للروايات الفيكتورية. أما آلة الزمن نفسها، فقد وصفها ويلز بدقة وحساسية بالغة، تحفة هشة مصنوعة من أسلاك وعاج، ترتعش أمام ناظر المشاهد. ومن خلال هذه الآلة، يأخذنا المسافر إلى عام 802,701 حيث يجد أن البشرية قد انقسمت إلى نوعين: الإيلو، تلك الكائنات الطفولية المسالمة التي تحيا على سطح الأرض الفردوسية، والمورلوكس، أولئك الوحوش الماكرة التي تعيش تحت الأرض، تتربص بضحاياها الإيلو الذين تحولوا من مخلوقات مدللة إلى طعام لهم. صورة ساخرة لعالم يبدو عليه الاستقرار ولكنه يغلي بنيران الصراعات الطبقية، حيث الحضارة نفسها ليست سوى غطاء رقيق لقانون الغاب، وحيث البقاء للأقوى، مهما كان الثمن.
حين يصل المسافر إلى نهاية الزمن، يعثر على شاطئ مهجور تسكنه قشريات عملاقة تائهة تحت شمس آيلة للزوال. لا أثر للبشرية، ولا رجاء.
***
وكما كان ديستويفسكي يسكب روحه في ملاحظاته، كان ويلز يكتب بنهم متقد ليصل إلى النجاح. ففي رسالة إلى صديق، وصف "آلة الزمن" بأنها "ورقتي الرابحة"، واعترف بأن إخفاقها يعني نهاية طموحه. وحين تحقق له النجاح، لم يكتفِ، بل أعد خطة لإصدار عدة كتب، كل منها يختلف عن الآخر، ليُثبت قدرته على تنويع إبداعاته، وكلها في عام واحد.
جاء كتابه التالي "جزيرة الدكتور مورو" ليحطم كل قيود التوقعات. تدور القصة حول أكل لحوم البشر، حيث ينقلنا ويلز إلى عرض محيطات مشؤومة، حيث تتقلب مصائر ثلاثة ناجين في قارب بلا مؤن. هناك، نجد الراوي إدوارد برينديك، ذلك الرجل النبيل الذي قادته نزوات جمع الفراشات إلى مغامرة مشؤومة إلى البحار الجنوبية. وبينما يتنازع رفاقه حتى يلقى بهم البحر إلى أعماقه، يُنقذ برينديك سفينة تحمل في طياتها الغرابة والرعب معًا. تحمل بومًا في قفص، وعددًا من الأرانب، وركابًا اثنين و طبيبًا شابًا اسمه مونتغومري، وخادمه الغريب الشكل.
قبطان السفينة، ذاك الرجل الذي غلبته الخمر واستحوذ عليه الغضب، أبدى نفورًا عظيمًا نحو برينديك الرقيق الطبع. وحينما بلغوا الجزيرة النائية التي قصدها مونتغومري، أصر القبطان بعنجهية أن يترك برينديك السفينة ويلقي به على تلك الأرض المجهولة. لكن رئيس مونتغومري، ذلك الرجل الأبيض العريض الشعر، الملطخ بالزرقة المتسخة في لباسه، رفض بحزم أن يهبط برينديك إلى تلك اليابسة. وهكذا، وجد برينديك نفسه مرة أخرى مجددًا يهيم في قارب صغير.
هكذا ظل برينديك يتأرجح بين وعيه وضياعه في الفصول الأولى من "جزيرة الدكتور مورو". لم يكن يدري ما يجري حوله، وكأنما غاص في حلم ثقيل يستعصي عليه الإفاقة منه. وكذلك القارئ، يُلقى به إلى عوالم مبهمة يتسارع فيها الحدث وتترقب فيها الحواس. فصول ويلز قصيرة، شديدة الإحكام، وعناوينها المثيرة - "الرجل الذي كان يسير بلا وجهة"، و"الشيء في الغابة" - تكاد تخطف الأنفاس بجاذبيتها. ومع أن الكتاب قد رفضه المحررون لفرط ما فيه من وحشية، إلا أن الإثارة التي يحملها تتجاوز مجرد العنف الظاهر. تعتمد نصوص ويلز على الإحساس العارم: تلك المشاهد التي تقتحم المخيلة، وتلك الروائح والأصوات التي تتسلل إلى الوعي دون إذن أو تفسير. يتذكر برينديك شراعًا يلوح له عبر الأفق وكأنه حلم عابر، ويمر بذاكرته مذاق مادة ما تُصب في فمه، ثم يستيقظ ليجد شابًا أشقر الشعر، ذي شارب قشري اللون وشفة متدلية، يتحدث بلهجة متعصرة فيها لثغة (هذا هو مونتغومري) يعطيه "محفظة جلدية قذرة مليئة بالعظام الفضفاضة". وبينما الأجواء تكتنفها أصوات الكلاب تنبح وزمجرة خافتة، يعلو صوت مونتغومري ساخطًا: "اللعنة على هذا النباح!"
لكن ما الذي يحدث حقًّا؟ يتلاعب ويلز بقلق برينديك وحيرته، ويمسك بخيوط التوتر ليضع القارئ على ذات الحافة الخطرة. برينديك، الذي امتلأ ذهنه بأوهام كيف تجري الأمور، لم يصنع سوى الأخطاء. ها هو قد اصطدم بواقع شائه، بعيد كل البعد عن الراحة التي ألفها في الروايات الفيكتورية المهذبة، حيث الوقت ملك لمن يمتلك التعليم والفراغ للقراءة، ليست من النوع الذي قد يستمتع به برينديك عندما لا يطارد الفراشات؛ وليست من نوع الكتب التي تذكّر القارئ المحظوظ، كما تفعل الروايات الأدبية بشكل متعمد حتى اليوم، بأنه يمتلك، بحكم التعليم الطويل إن لم يكن غير ذلك، امتياز الوقت. هذه رواية بلا رحمة، تصفع القارئ بظلامها الذي لا يعترف بالأعراف ولا يلتفت إلى تقاليد الراحة أو السكينة.
***
ها هو برينديك يحظى بفرصة جديدة، فالرجل الطويل ذو الشعر الأبيض والجبهة الملساء يتراجع عن قراره ويسمح له بالهبوط إلى تلك الأرض المجهولة. هو الدكتور مورو، وها هنا، بين ركام الذكريات، يتسلل إلى ذهن برينديك خبر ذلك العالم الذي اشتهر بتجاربه المروعة في التشريح الحي حينما هرب كلب مسلوخ الجلد من مختبره. أوه، أي غضب أثاره العامة حينذاك، حتى لفظوه من إنجلترا كما يلفظ البحر حطامه. هل هو هذا الرجل ذاته؟ نعم، إنه هو، وقد وجد لنفسه ملاذًا على هذه الجزيرة النائية ليواصل تجاربه دون عائق. الآن، ها هو يتحرق شوقًا للعمل على أنثى البوما، التي تملأ الخلفية بصراخها الشجي الموجع، صراخ لا يكاد يهدأ حتى تطوى صفحات الرواية.
مورو ليس مجرد عالم، إنه نحات في الجسد البشري، فنان يشكل المادة الحية، تتقد في داخله رغبة لا تهدأ "لاكتشاف حدود مرونة الكائن الحي". لقد آمن أن تلك المرونة لا تعرف نهاية، وأن التقنية الملائمة قادرة على تحويل أي كائن حي إلى أي كائن حي آخر، أو بالأحرى إلى إنسان. الفرق، كما يزعم، "بين الإنسان والقرد لا يتعدى الحنجرة"، ومنذ زمن بعيد شرع مورو في تحويل القرود والذئاب والثعالب إلى أشباه بشر. وفي خفة فظة يستهين بالألم، ويصرح بأن "من يملك عقلًا مفتوحًا للعلم لا يرى في الألم إلا تفصيلًا ضئيلًا لا يستحق الالتفات".
غير أن مورو، على الرغم من تقدمه، لا يزال يشعر بالخيبة، إذ يعترف بأسى: "إنهم يعودون إلى أصلهم الوحشي ما أن أرفع يدي عنهم." وهكذا أقام لهم مجتمعًا بائسًا على الجانب الآخر من الجزيرة، وزودهم بطقوس وقوانين يحاولون جاهدين الالتزام بها. فإن خالفوا، هدَّدهم بالعودة إلى بيت الألم الذي خرجوا منه أول مرة. وفي هذا المجتمع المذلول، يتصدر الرجل القرد أعلى مرتبة بين الحيوانات، باعتباره ما يسمى بــ "الناطق بالقانون"، و يتقدمهم في تلاوة الصلوات المحفوظة: "عدم السير على أربع، هذا هو القانون... عدم امتصاص الشراب، هذا هو القانون..." وكلما أنهوا تلاوتهم المذلة، انطلقت منهم تلك الصرخة اليائسة: "ألسنا بشرًا؟"
لئن كان مورو عالمًا وفنانًا، فهو كذلك مستعمرٌ يُلقي القانون على "أجناس أدنى"، وكاهنٌ يخدم الأرواح التائهة، ومعلمٌ يلقن دروسًا، وسياسيٌ وطاغية، بل وإله محتمل؛ إلا أن سلطانه بدأ يتزعزع وجنته البائسة على شفا الانهيار. إن مخلوقاته التي اجتهد في تشكيلها على صورة الإنسان، ستتمكن قريبًا من السيطرة عليه وعلى معاونه، بينما يجد برينديك نفسه محاصرًا مرة أخرى — بين "شعب الوحوش"— محتفظًا، كما يطمئننا في قلق، "بشيء من التميز بينهم". ولكن ما أشد وطأة هذا التميز! هناك رجال، ولا سيما نساء، يتجرؤون على تحدي الزواج الأحادي جهارًا. والرجل القرد يغمره بفلسفات جوفاء يدعوها "أفكارًا كبيرة"، لا تلبث أن تتلاشى كلماته إلى "كتلٍ من الأصوات". وفي ذروة المعاناة، ينفتح الأفق أمام برينديك بقارب ينحسر عند الشاطئ، فيستغل الفرصة للعودة إلى لندن، لكن تجاربه غيّرته جذريًا، حتى إن سكان المدينة يُثِيرُون في نفسه الهلع، وكأنهم لا يختلفون عن وحوش جزيرة الدكتور مورو.
لم تحصد "جزيرة الدكتور مورو" نجاحًا عند صدورها، فصحيفة "ذا تايمز" اللندنية استنكرت الرواية ووصفتها بأنها "كتاب يجب أن يُبعد عن متناول الشباب، ويتجنبه من يتسم بذوق رفيع أو إحساس رقيق أو أعصاب واهنة". ولكن هذه الإدانة لم تعق مسيرة ويلز الأدبية؛ فقد تدفقت كتبه التالية بسرعة، مثل "الرجل الخفي" و"حرب العوالم"، لترسخ مكانته وتضعه في مصاف الكتاب العظام، وتجعل من إسهاماته جزءًا أصيلًا من الأساطير الحديثة. لم تكن تلك الروايات مجرد خيال علمي، بل جاءت لتؤسس أسطورة العصر الحديث، عصر تتقاطع فيه أزمة الحداثة مع إدراك العقل لقدراته الجديدة، وتجاوز اليقين الزائف للماضي مع عماه تجاه المستقبل. لقد فتح العلم الحديث أبوابًا على المجهول، ومع كل ما يحمله من رعب، ظل مشوقًا ومثيرًا، مقارنة بالروايات المترددة في زمن ترولوب. كان القرن العشرون بمثابة مسرح هائل لتجارب العلم والنمو الاقتصادي والتغير السياسي والاجتماعي. وإثارة الرجال والنساء والجنس، الذي طالما كبلته الأعراف - إثارة القرن القادم، الذي سيكون مليئًا بالإثارة. هذه هي الرسالة التي كان على الأدب أن ينقلها، وقد نجح ويلز في إيصالها، كما شهد بذلك العديد من القراء والمعجبين، من بينهم جورج أورويل، وخورخي لويس بورخيس، وسول بيلو.
***
ويلز، الذي بقي حتى وفاته عام 1946 مشاركًا في زخم هذا العالم المضطرب، لم يكن فقط روائيًا بل مثقفًا عامًا، وناشطًا اجتماعيًا وسياسيًا. لقب الحرب العالمية الأولى بـ"الحرب التي ستنهي كل الحروب"، ودعا بعد انتهائها إلى فكرة الحكومة العالمية. أما في أدبه، فقد تنوعت أعماله بين "الرومانسية العلمية" التي قدمها في بداياته وبين روايات ذات طابع سير ذاتي مثل "كيبز" و"الحب والسيد لويشام" , "تاريخ السيد بولي"، حيث تناول حياة الشباب الطامح والصدام مع المجتمع، ورواية "تونو-بونغاي" التي ترسم صورة قاتمة للرأسمالية في القرن العشرين تغرق في الانحطاط التجاري، والتي كما أشار الناقد إدوارد مندلسون، مهدت لرواية مثل "صيحة قطعة الأرض 49" لتوماس بينشون. ومن خلال عمله "آن فيرونيكا"، عام 1909، البطلة ناشطة في حركة حقوق المرأة، وتنتهي الرواية بعلاقتها العلنية مع رجل متزوج. ألهمته هذه الرواية إحدى عشيقاته، وهذا يشير إلى جانب آخر من إنجازاته، أقل شهرة من انخراطه في القضايا العامة. كان من أوائل الروائيين الذين جعلوا تاريخهم الشخصي، سواء طفولته المحرومة أو علاقاته العاطفية اللاحقة، جزءًا مركزيًا من أعمالهم. كانت أعماله القصصية بمثابة تقرير مستمر عن حالة الإنسانية، وحالة العالم، وحالة هربرت جورج ويلز.
أراد ويلز من قرائه أكثر من مجرد التسلية؛ كان يسعى إلى التأثير في أفكارهم، وإلى جذبهم لشراء كتبه، موقنًا أن الشعبية وسام شرف، مثلما هي للسياسي. وهنا يظهر الخلاف مع هنري جيمس، الذي استمر حتى بعد وفاة الأخير، كما يتجلى في "تجربة في السيرة الذاتية".
***
كان هنري جيمس أول ناقد جاد للرواية باللغة الإنجليزية، وهو أول من أدرك أن المعرفة العميقة بتاريخ الرواية، والوعي الدقيق ببنائها الفني، يُعدَّان زادًا لا غنى عنه لكل روائي يطمح إلى الإجادة. وقد انصرف شغفه إلى الروايات الجديدة بحماسة ونشاط، ولم يكن ذوقه منحصرًا في النوع الذي اختار كتابته، بل امتدت إعجابه إلى أعمال أمثال بستو وستيفنسن، كما شجع مواهب شابة مثل روديارد كيبلينج وستيفن كرين. أما ويلز، فلم يكن باستطاعة جيمس سوى أن يُعجب بحيويته المتدفقة وابتكاراته الجريئة. وفي عام 1914، خصص جيمس مقالة نقدية لاستعراض التطورات الجديدة في الرواية لصالح مجلة "ذا تايمز ليتيراري سابلمنت"، متناولًا بالبحث أسماء لامعة من بينها ويلز وكونراد وأرنولد بينيت. ولدى حديثه عن ويلز، أبرز جيمس بفطنة وتقدير قائلًا:
إنه يعرض علينا عقل ويلز نفسه، ذلك العقل الثري والمتنوع الذي يعكس بجلاء تجاربه المتعددة والخزان الذي يغرف منه أفكاره.
ولكن سرعان ما انتقل جيمس إلى التوبيخ؛ إذ انتقد مشهد حب في رواية "الزواج" مشيرًا إلى أن ويلز يستخدم شخصياته كأدوات لتحقيق أغراضه الفكرية، مما يجعلهم يبدون في أعين القارئ بلا دافع حقيقي أو عمق داخلي يُحركهم بواقعية. كتب جيمس: "إذا لم يُقدَّم لنا المشاركون في الرواية في سياقهم الطبيعي، ولم تهتز قضيتهم في الهواء بجمال آسر، فإن أفضل اللحظات فيها تظل عقيمة، وتتركنا نتساءل عنها بحيرة وإرباك." تلك "الاهتزازة في الهواء" تستحضر في الذهن مثاليات إيزابيل أرشر وأوج التوازن الأخلاقي للقرن التاسع عشر، ولكن نقد جيمس في الواقع يتهم ويلز بعدم احترام مفهوم وجهة النظر. وهذا الاتهام، في نظر جيمس، يتجاوز المصداقية النفسية إلى مسألة الجدية الأخلاقية للرواية.
لم يتحمل ويلز أن يُشَكَّك في فنيته، واشتعل غضبه مما اعتبره تعاليًا. لم تتعافَ صداقته مع جيمس أبدًا بعد هذا النقد. وفي "تجربة في السيرة الذاتية"، أسقط ويلز قناع المجاملة ليصف جيمس بأنه رجل عجوز متغطرس، أمريكي ذو أسلوب متكلف، فقد بريقه في الخارج. وكان ويلز حاضرًا عند الإخفاق المدوي لمسرحية جيمس "غاي دومفيل" عام 1895، وكان يرى أن فشل روايات جيمس المتأخرة في كسب جمهور شعبي دليل على افتقاده للواقعية. هجوم ويلز كان قاسيًا وشخصيًا، لكنه حمل بعدًا اجتماعيًا وسياسيًا أيضًا. يقدم نفسه ككاتب راديكالي يتمثل هديته بالضبط في إظهار الطبيعة الاجتماعية المحددة، التي يعتبرها جيمس معطاة، ويجادل بأن هذا يتطلب من الروائي إدخال "الإطار... في الصورة". الفن الذي يستدعيه جيمس لاستحضار الداخل هو فن في خدمة الوهم البرجوازي للفردية. ويلز، الذي يحرك شخصياته مثل قطع الشطرنج، لا يرفه فقط بل يعلم طبيعة اللعبة التي وقعوا فيها. ويلز هو الفنان الجاد أخلاقيًا، الذي يحفر في جذور الأشياء. "لا يمكن أن تكون هناك صور بدون خلفيات"، يؤكد، "ويجب عرض مصدر الضوء المنعكس على الوجه." جيمس في نظره ليس سوى غطاء للأسطح.
قراءة ويلز لجيمس كانت تبسيطية وسطحية إلى حد كبير؛ إذ كانت فردية جيمس أعقد وأعمق مما تصور ويلز، وعكست إحساسًا لا نهائيًا بالتهديد الداخلي والخارجي على حد سواء. ومع ذلك، عبّر هجوم ويلز عن طموحاته الجمالية وأهدافه الثورية، حيث أراد إدخال "الإطار" في "الصورة"، ليقدم الفن كتأمل للتغير الاجتماعي، وهو ما يشكك في الأعراف الأدبية التي تعتمد الروايات عليها.
لكن هذه الرؤية الراديكالية لم تكن خالية من الضعف؛ فقد ارتبطت بالتراخي أحيانًا، حتى وإن احتفظت روايات ويلز المبكرة بالقدرة على إحداث الرعب والإثارة. فإن أفضل أعماله، خاصة الخيال العلمي المبكر، مليئة بإحساس التعرض المخيف. هذا هو الحال بالتأكيد مع جزيرة الدكتور مورو، وأحد الأسباب التي تجعلها تلد عددًا لا يحصى من التعديلات والنسخ الفرعية، مثل "حديقة الديناصورات"، ولكن أيضًا تساعد في تشكيل "قلب الظلام" و"مزرعة الحيوانات"
إن هربرت جورج ويلز، الكاتب الذي ذاع صيته وترددت أصداؤه، حقق من النجاح ما يجعله أحد أعمدة الأدب الحديث، فقد كان يثير الجدل بذكاء، ويسير بخطى ثابتة في عالم الأدب التجاري، بلا خجل ولا تردد. في مطلع عصر جديد، عصر تتزايد فيه النزعة التجارية وتتعاظم فيه الفتوحات العلمية، امتلك ويلز قدرة استثنائية على الوصول إلى أوسع شرائح القراء، مستعينًا بفطنة لامعة وإبداع خصب. وقد أسس بذلك نوعًا جديدًا من الأدب، وابتكر جمهورًا مختلفًا تمامًا له، حتى أنه مع شيرلوك هولمز، أسهم في إعادة تشكيل الأدب النوعي على أسس حديثة، مانحًا إياه جاذبية جماهيرية ومكانة راسخة في رحاب الخيال الأدبي.
أما جداله مع هنري جيمس، فلم يكن نزاعًا شخصيًا بقدر ما كان صراعًا حول جوهر الأدب ورسالته. ومع أن فهم ويلز لجيمس لم يكن يتسم بالعمق الكامل—وقد مات جيمس منذ زمن بعيد حين خط ويلز سيرته الذاتية—فقد كان محقًا في رؤيته لجيمس كممثل حزين لعصر الرواية المتزنة في القرن التاسع عشر. ويرى ويلز أن تلك الروايات بتوازنها لم تكن سوى هروب من الحقائق الاجتماعية، بل والكونية أيضًا، ومن المهام السياسية العظمى والمخيفة. ومن هذا المنطلق، أعلن ويلز أن الأدب يجب أن يعالج هذه القضايا بجرأة ومتعة في آن واحد. وقد بشر بأدب جديد، واعٍ بذاته، سامٍ في مستواه، يحتقر النزعة الشعبية، ويتجلى في أعمال أندريه جيد، كما سنكتب عنه لاحقًا.
إن التوتر بين ما يُسمى الأدب العالي والأدب المنخفض، بين الأنماط التكرارية والأنماط المبتكرة، سيظل حاضرًا ويُغذِّي الأدب على مدار القرن المقبل. وهذا الانقسام يعكس انهيار النظام القديم المتوازن، كما يعكس انهيار السرد في "مذكرات من العالم السفلي". ولعل ما يجمع بين النمطين هو ازدراؤهما للتوازن.
أم أنه شغف بالدوران اللانهائي؟ حينما دعا ويلز إلى "إدخال الإطار في الصورة"، أثار سؤالًا شائكًا: بمجرد أن يدخل الإطار في الصورة، يظهر إطار جديد يجب تصوره، وهكذا بلا نهاية. فأين يكون المآل؟ تلك المعضلة تتغلغل في تجربته التي حملت العنوان الساخر "اكتشافات واستنتاجات عقل عادي جدًا (منذ 1866)". كان عقل ويلز يتجول في رحلات واسعة، من بينها زيارة إلى روسيا لمعاينة عقل لينين قبل وفاته، وكان عقله مشغولًا بالبحث عن الأجوبة، لكنه ظل حبيس إطار الذات، لا يتجاوزه، ولا تتجاوز الذات عقلها.
إن إعلان العقل أساسًا للتجربة الحية لا يفسر في النهاية شيئًا عن ذواتنا أو عن العالم. وادعاء ويلز بذلك ليس سوى مناورة مادية تثير التفكير. ومع ذلك، فإنه في أعمال مثل "جزيرة الدكتور مورو" يصل إلى لب رؤية قاتمة للبشرية، حيث الإنسان أسير قوى مادية خارجة عن إرادته—من العقل إلى الفضاء الخارجي—ولا خلاص له من عجزه عن فهم هذا الوجود. إن ويلز يشهد على هذه الحال كما شهد على بؤس طفولته في بيت أطلس، حيث كان البؤس والإذلال قدرًا لا مهرب منه. نحن، كما يصورنا ويلز، محاصرون في فضاء شاسع لا إنساني، وسواء سعينا جاهدين أم لا، فإن الفهم الحقيقي سيبقى دومًا بعيد المنال.
مترجم من كتاب Stranger than fiction