على شاطئ البحر، حيث ترتفع الأمواج وتنخفض كأنها أنفاس الكون الخالدة، عاش شاب فقد والديه في صغره، وتركه القدر في رعاية جده، شاب جمع بين الصرامة وصدق الأخلاق. وحين مات جده، انتقل الفتى إلى عناية عمه الأكبر، الذي تحمل مسؤولية ميراث العائلة. نشأ الفتى في هذا الجو من الرعاية الأبوية، سعيدًا رغم فقدانه لحنان الوالدين، وأظهر نبوغًا في الرياضيات خلال سنوات دراسته، دون أن يتعلق بها بشغف. إلا أنه، متبعًا نزوعه إلى المجهول، اختار أن يدرس صناعة السفن، مدفوعًا بوله طفولي بأسرار البحر وغموضه. كان شابًا عاديًا، تتسم ملامحه ببساطة خالية من التعقيد، بعيدة عن صورة الأبطال الخياليين.
وذات يوم، بعد أن أنهى دراسته، ساقته الأقدار إلى رحلة في الجبال، هدفها زيارة ابن عمه، الجندي الذي أقعده المرض وأُرسل إلى مصح يأملون أن يعيد له هواء الجبال العليل عافيته. وفي صباحه الأول هناك، حين جلس إلى مائدة الإفطار برفقة ابن عمه والمرضى الآخرين، دوّى صوت باب غرفة الطعام وهو يُغلق بعنف. تكرر المشهد في اليوم التالي، لكنه لم يلقِ له بالًا. وفي اليوم الثالث، مدفوعًا بفضوله، التفت ليرى امرأة تخطو إلى الداخل بخفة وثقة، تكبره بسنوات قليلة، ذات وجنتين عريضتين وعينين زرقاوين رماديتين تميلان إلى الغموض والجرأة. كانت حركاتها عفوية لا تبالي بالأنظار، ومنذ تلك اللحظة صار يراقبها. لاحظ تنانيرها الزاهية، ستراتها البيضاء الناصعة، والطريقة التي ترفع بها يدها إلى شعرها المضفر المائل إلى الحمرة. وعلم لاحقًا من أحاديث المرضى أنها متزوجة من رجل مقيم في الشرق، لكن حياتها كانت متنقلة بين المصحات، وكأنها تهرب من واقعها الزوجي، مستظلة بظلال المرض والموت.
ومع مرور الأيام، شعر الشاب بوهن يزحف إلى جسده، فجاء التشخيص ليكشف عن "بقعة رطبة" في رئته اليسرى. بات مقتنعًا بأنه أصبح مريضًا مثل الآخرين. صار جزءًا من مجتمع المصحة، يشاركهم أحاديثهم ويراقب المرأة عن قرب. في غرفة الطعام، انشغل بمراقبة تفاصيلها الدقيقة: عظام ترقوتها التي تنساب بانسيابية من عنقها إلى كتفيها، عينيها العميقتين، وذراعيها اللتين رأى فيهما جمالًا خاصًا. وعندما كان يجلس وحيدًا في غرفته، محاولًا القراءة، كان ذهنه يشرد إلى ملامحها وصورتها. ومع ذلك، ظل صامتًا، مكتفيًا بكلمات قليلة تبادلها معها.
وفي إحدى الليالي، خلال حفلة تنكرية صاخبة في المصح، التقاها في صالون صغير. كانت ترتدي ثوبًا أسود فخمًا وتضع على رأسها قبعة ورقية مجعدة. أخبرته أنها ستغادر المصح في اليوم التالي عائدة إلى زوجها. حينها، غلبه الوجد وخرَّ على ركبتيه معترفًا بحبه لها. مسحت شعره بلطف ساخر وأطلقت عليه لقب "البرجوازي الصغير". غادرت الغرفة، لكنها أشارت بإمكانية لقائهما ليلًا فى غرفتها. عاد إلى غرفته متأخرًا، وفي صباح اليوم التالي، شاهدها من نافذة الممر، وهي تضحك أثناء صعودها إلى العربة التي ستعيدها إلى حياتها البعيدة.
وبقي الشاب في المصح سبع سنوات كاملة. لم يكن يقضي أيامه إلا بين تناول الطعام، والاستماع إلى أحاديث المرضى عن شؤون العالم: الفن والتاريخ والدين والحرب، وعن أسرار الروح والفناء الحتمي للجسد. أحاديثهم كانت كعاصفة ثلجية تغمره بالدهشة والانبهار، لكنه لم يغادر المصح. لم يكن المرض هو ما قيده، بل انتظارٌ مسكون بالأمل. كان يظن أن المرأة ستعود، وأن عودتها ستمنحه حياة جديدة، وستحرره من قيود الشوق الذي ينهش روحه.
مرت مئة عام منذ أن خطّ توماس مان روايته الشهيرة الجبل السحري. ورغم أن النقاد تعاملوا مع الرواية باعتبارها عملًا فكريًا فلسفيًا، إلا أن مان أرادها أن تكون بوابة لحكاية خرافية حديثة، تجمع بين الكآبة والسخرية. إنها في جوهرها رحلة بحثٍ روحاني يقوم بها هانز كاستورب، بحثًا عن التحرر من قيود الحياة اليومية، وقيود الامتحانات والواجبات التي أثقلت جسده وروحه. قرر أن يهجر هذا العالم الجامد، ويتبع أثر يوتوبيا متخيلة، حيث يجد متعته في الطعام، والتدخين، والمجادلات، والمغامرات العاطفية.
ورغم ما قد يبدو عليه هانز كاستورب من بساطة، إلا أن بساطته كانت مشبعة بهالة تنتمي إلى حياة الطبقة الوسطى الألمانية المتأنقة. كانت بساطته شبيهة بنبل متناقض، كشخصية فارس فقد عصره. ومن خلال تجواله في أروقة المصحات، قادته خطاه إلى كلوديا شوشات، السيدة التي بدت نظرتها متعجرفة، تحمل غموضًا يشبه نبل سيدات العصور الوسطى. تحولت إعجابه بها إلى حب عميق، لكنه حب تخللته روح صارمة ودقيقة، كأنما كان انعكاسًا لرحلة داخلية يكتشف فيها ذاته عبر صورتها.
في هذا العالم الذي تتشابك فيه مشاعر المرضى وأحلام العشاق، حيث يلتقي الأحياء والموتى على أرض واحدة، نجد أنفسنا أمام لوحة تمتزج فيها المتناقضات. إنه عالم ينبض بجمال فطري، لكنه متخم بالتشوهات والغرائب، عالم يحمل في طياته روحًا ساخرة وحرمة خفية.
يقول مان في مقدمته: "ألا يجعل الطابع الزمني للقصة ماضيها أكثر عمقًا وأشد اكتمالًا، فتبدو وكأنها حكاية خرافية؟" ثم يُضيف: "قد تحمل طبيعة قصتنا سمات الحكايات الخرافية في ذاتها."
وفي هذا السياق الخرافي، تُكشف بنية الرواية أمامنا بوضوح. الرومانسية هي الهيكل الذي يدعم هذا البناء الأدبي، بينما الأفكار تُشكّل اللحم الذي يكسو العظام. تلك الأفكار تُضفي على القصة بعدًا يتجاوز الحبكة البسيطة، فيرتقي بها من مجرد حكاية عشق إلى تأمل عميق يغمره الشوق.
وقد عبّر مان عن هذا الشوق في رسالة إلى خطيبته، كاتيا برينجسهايم، واصفًا إياه بأنه "الكلمة المقدسة، والصيغة السحرية لفهم لغز العالم."
لعلنا حين ننظر في هذا النص، نجد أنفسنا أمام عالم غريب يعج بالمونولوجات والحوارات الداخلية التي تنساب أمامنا، وكأنها نهر متدفق لا يعرف للسكينة سبيلًا. هنا نجد الدكتور كروكوفسكي، المحلل النفسي الذي يصدح بصوته الجاد ليأخذنا في رحلة عبر أعماق النفس البشرية، وهناك سيتيمبريني، عازف الأرغن التنويري الذي يغني للإنسانية ويعزف للحرية، وفي مكان آخر نافتا، اليسوعي السلطوي الذي يتشبث بفكرته وكأنها خشبة خلاصه. خطبهم الطويلة المفرطة في التفصيل، باردة في مضمونها، تضفي على الرواية طابعًا تعليميًا، يحمل في طياته فخر الإنسانية وامتيازها. وكيف لا؟ يقول سيتيمبريني نفسه لهانز كاستورب في ثقة لا تضاهى: "لا يمكن إنكار مكانة الإنساني كمعلم، لأنه وحده من يحمل مشعل كرامة الإنسان وجماله."
لكن، لو أردنا أن نقترب من هذا النص بعين ناقدة، أفلا ينبغي أن ننظر إليه كأداة أشعة سينية؟ لا لتمييز ما هو مريض مما هو صحي، بل لنقرأ جدلية النصوص وأنواعها المختلفة، كيف تتصارع وتتداخل لتُكوّن عالمًا سحريًا متشابكًا. هنا يكمن سر مان، في قدرته المذهلة على تشابك كل ما قد يبدو متناقضًا: المرض والصحة، الحياة والحلم، الحب والتعليم. إنه التزامه المهووس بهذا التشابك ما يجعل نصه ساطعًا بعبقريته.
غير أن هذا التشابك يضعنا أمام مفارقة غريبة، فهل هناك كلمتان أكثر تنافرًا من "الحب" و"التربية الحسية"؟ نطق الكلمتين في ذاته يكشف عن غربة بينهما، والاستماع إلى من يحاول المزج بينهما يثير الشكوك ويبعث على خيبة الأمل. وهذا ما شعر به هانز كاستورب في أول يوم له في المصح. بعد تنزه صباحي بين أحضان الطبيعة، وجد نفسه أمام محاضرة كروكوفسكي عن "الحب كقوة تؤدي إلى المرض." كان حديثًا علميًا جافًا عن الكبت الجنسي وأعراضه الغريبة، لكن كل ما استطاع كاستورب أن يراه هو صورة للحب كحليب مائي، باهت وعديم النكهة.
بينما كانت كلمات كروكوفسكي تتلاشى من ذهنه، استحوذت عليه صورة يد كلوديا شوشات وهي تثبت شعرها في ضفيرتها. هنا، عادت إليه ذكرى باهتة عن كلام الطبيب حول القوى البرجوازية التي تعارض الحب، لكنه سرعان ما نسي ذلك واستغرق في تأمل ذراعها المغطاة بكم شفاف. كانت هذه الحركة البسيطة كفيلة بإثارة تساؤلات في ذهنه حول العلاقة بين الإخفاء والكبت. وكأن ذراعها كانت تُعلّمه كيف يلاحظ، وكيف يستنتج، وكيف يبني نظرية للكبت بطريقته المبتدئة.
لعلّ في حديثنا عن كلوديا شوشات وما بثّته في نفس هانز كاستورب من أثر عميق، نجدنا أمام صورة فريدة في عالم التعليم، صورة لا تمتّ بصلة إلى تلك البروتوكولات الرسمية التي اتخذها سيتيمبريني ونافتا طريقًا لهم. فحيث يتفنن هؤلاء "المعلمون" في إلقاء محاضراتهم بأسلوب دقيق متقن، تغذيه ثقتهم المفرطة بعقلانيتهم، وحيث تتدفق كلماتهم دون انقطاع كما لو كانت شلالًا لا ينضب، هناك، عند كلوديا شوشات، يقف الحديث نفسه عاجزًا عن التعبير. عندما ينطق هؤلاء الرجال، تجد أفكارهم جامدة، ثابتة كالصخر، والكلمات التي يستخدمونها، مهما بلغت بلاغتها أو جذبت بأسلوبها، لا تزيد هذه الأفكار إلا وضوحًا في ثباتها ورسوخها. أما كلوديا شوشات، فإنّها تسلك طريقًا آخر لا يمت بصلة إلى هذا النمط. حديثها، إن صح التعبير، ليس حديث كلماتٍ، بل هو صمت يفيض بالمعاني. إنها ترى أن اللغة قد تكون وسيلة لا لزوم لها في بعض الأحيان. بل إنّ هانز كاستورب، برهافة حسه وحدسه، كان يتجنب الحديث معها، لا ازدراءً ولا استعلاءً، ولكن لشعوره العميق بأن العلاقة بينهما، لو تحولت إلى تواصل اجتماعي تقليدي، تتخلله التحيات الرسمية والحديث بالفرنسية، ستفقد شيئًا من سحرها. لقد أدرك، دون أن يعي ذلك بوضوح، أن مثل هذا التواصل ليس ضروريًا، بل وربما ليس مرغوبًا فيه. وهكذا، كانت كلوديا تتواصل مع كاستورب من خلال تلك الوسائل التي يعجز عنها الكلام: ابتسامة عابرة، أو تجهم خفيف، أو نظرة جانبية تحمل من المعاني ما تعجز عنه مئات الكلمات. كان وجهها، كما يصفه الراوي، ينطق بصمت، لكنه في نطقه هذا يتحدث كما لم يفعل أي شيء آخر في العالم. ولعلّ هذا التواصل الصامت، البعيد عن كل ما هو رسمي ومصطنع، كان يحمل في طياته من الصدق والعمق ما لم تستطعه الكلمات ذات يوم.
ما الذي يتعلمه هانز كاستورب من نظرات الحب؟ إنه يتعلم أن ينظر هو ذاته بعين جديدة، أن يعيد تشكيل رؤيته للعالم من حوله؛ ففي مشهد بديع يكتنفه الغموض، بينما يحدّق في كلافديا شوشات، يشرع في عدّ خصلات شعرها واحدة تلو الأخرى، أو يتخيل أنه يستطيع ذلك. يقيس المسافة التي تفصل بين وجهيهما بما يضاهي عرض الكف، يصنف ملامحها في ذهنه، ويصف نسبها وعلاقاتها بلغة هندسية تزاوج بين السطح والحجم. وهنا، يتجاوز هانز حد النظر العادي، ليبدأ في استنطاق الجمادات، فينفخ الحياة في الأشياء الصامتة، ويسحر كل ما هو غامض ومستغلق ومحظور، وكل ما يأبى الخضوع ولكنه في الوقت ذاته يغريه ويدعوه. يصبح الجسد البشري والوجه، اللذان طالما خضعا للدرس العلمي، مفعمين بهالة من القداسة التي تتجاوز عالم المألوف. وإذ ذاك، يتداخل سحر العاطفة بدقة المنهج العلمي، ليصير الخيال وسيلة كاستورب في فهم العالم، ذلك الخيال الصافي الذي يتوق إلى فهم النظريات الجديدة واستيعابها، ليصوغ بها رؤى لا تعرف إلا الوهج والإبداع.
وفي فصل من أعمق فصول الرواية وأكثرها إثارة للتأمل، والمعنون بـ"البحث"، ينغمس هانز كاستورب في قراءة كتيب وثني عنوانه "فن الإغراء"، ثم ينتقل إلى كتب علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء وعلم الأحياء. يُقبِل عليها بشغف مشتعل، يريد فك ألغاز الحياة المقدسة الممزوجة بغير المقدس. إنه السؤال العظيم الذي تطرحه الحداثة على كل عاقل: ما هي الحياة؟ يطرح كاستورب هذا السؤال ويعيد صياغته، فتلتقي المعرفة المدرسية مع لغة الإغراء، تلك اللغة التي تصور تطور الحياة كرحلة تجمع بين العذوبة والألم، بين الشوق والنفور، بين الغموض والمجون. وفي لحظة ذروة، تلتقي تفاصيل العلم من جزيئات وأنسجة وأعضاء لتشكّل صورة واحدة للحياة، صورة مشبعة بالجمال الأرضي، تحتضن هانز كاستورب وتقبّله، وكأنها تمنحه مفتاحًا جديدًا لفهم معنى الحياة والموت، وكأن هذا السحر يمكن أن يصبح فنًا يمكن للإنسان أن يتعلمه.
وهكذا، تتبدى الرواية كمخطط تربوي للحركة من إحساس الجسد العفوي إلى تفكير العقل الواعي، وهي رحلة، كما يقول مان، تجعلنا أقدر على الشعور بعمق أكبر وبكثافة أشد. يتسلل السحر شيئًا فشيئًا عبر النص، دون أحداث جليلة أو منعطفات حادة، ولكن بإيقاع منتظم يتسم بالثبات. ولكي يفهم القارئ هذا السحر، عليه أن يغوص في كلمات الرواية، تمامًا كما يفعل هانز كاستورب مع تفاصيل كلافديا شوشات. لا بد أن يحيط بجماليات النص وتناسقه المتقن بين أجزائه، وأن يستمتع بما تخلقه من أوهام حسية مميزة. وفي مشهد لا يخلو من الغرابة، يناجي هانز كاستورب محبوبته كلافديا قائلاً: "دعيني أستنشق رائحة جلد ركبتك، حيث تفرز الكبسولة المفصلية زيتها الزلق ببراعة!" إنها مناشدة تبدو مجافية للذوق الإنساني العام، ورفضًا صريحًا لما أطلق عليه ستمبريني "الأشكال الجميلة"، التي يرى أنها تمثل ذروة الأدب والنبالة. ولكن، وكما تصارح كلافديا هانز، فإن إنسانية ستمبريني مجردة وبعيدة عن الواقع، لأنها تتجاهل البشر الحقيقيين بما يحملونه من ضعف وقوة، من جمال وقبح. وهكذا، كانت النظرات الصامتة لكلافديا تعليمًا لهانز يضاهي تعليم ستمبريني، وربما يفوقه.
أما الكاتب مان، فقد كتب إلى كاتيا قائلاً: "كان مزيج الشوق والاحتقار، ذلك الحب الساخر، هو الشعور الأبرز في حياتي." كان مان يتحدث بشكل غير مباشر عن أولئك الرجال الذين أغرته محبتهم، وعن طبيعة هذا الحب الذي أورثه لشخصياته: حب يحمل في طياته الحنين والسخرية واليأس. وفي روايته، يتجلى هذا الحب في توتر دائم بين الانجذاب العاطفي الشديد والاستقرار الاجتماعي، حيث يتجاوز ذلك التوتر حدود الحبكة التقليدية. ففي "الجبل السحري"، يصل حب هانز كاستورب ذروته ليلة فالبورغيس، حيث يتمكن من محبوبته، ولكن بعد ذلك—لا شيء. يتلاشى الصراع، وكأن الحب الساخر يثبت عبثيته، فهو لا يهدف إلى تقدم أو خاتمة، سواء كانت سعيدة أم لا. إنه يتكرر في دائرة لا تنتهي، حيث تعكس كلافديا شوشات مشاعر زميل المدرسة بريبيسلاف هيبي، الذي يبدو أنه زرع في هانز البذور الأولى لهذا الحب قبل زمن طويل.
ولكن هذا الحب الساخر، رغم طابعه العبثي، يخلق عالماً جديدًا يتباين مع العالم القديم، عالمًا يتيح رؤية وجوه أخرى للحب. وحين يتلاشى أثر الحب الساخر، يظهر حب هانز الأخوي لابن عمه يواخيم، الرجل الطيب والصبور الذي كرّس حياته للخدمة والانضباط. إنه يواخيم الذي يحضر إلى ذهن هانز حين يعزف مقطوعة "الإنترميتزو" من أوبرا فاوست، تلك الصلاة التي يرددها الجندي المحتضر. وهو يواخيم الذي يظهر في جلسة تحضير الأرواح، يراقب ابن عمه بنظرة حانية تعكس صمتًا مليئًا بالدفء. هذا الحب الأخوي ليس جسديًا، بل روحانيًا، لا يسعى إلى تدنيس، بل يطلب الصفح عن هجره وخيانته لصالح كلافديا. وحين يهمس هانز قائلاً: "اغفر لي!"، فإنما يعبر عن تحول الحب من الرومانسية إلى المرثاة.
التحول الجوهري الذي يظهر في النصف الثاني من رواية الجبل السحري يُبرز هانز كاستورب في صورة مغايرة، إذ يتحول من شخصية الفاتح الذي يزعم السيطرة إلى شخصية النادب الذي يواجه فقدانه للسحر الذي أسر الرواية. هذا التحول لا ينفصل عن تجربة القارئ، الذي يجد نفسه بدوره مضطرًا للحزن على زوال السحر الذي كان جزءًا من تجربة القراءة. مثلما أتى موت يواخيم ببطء ولكنه فجأة كالرعد الذي يتبع البرق، كذلك تأتي نهاية الرواية. في الفصل الأخير، الذي يحمل عنوان "الصاعقة"، يطرح الراوي سؤالًا حاسمًا: "أين نحن؟ ما هذا؟" الإجابة تأخذنا مباشرة إلى قلب الحرب العظمى، حيث نرى هانز كاستورب وهو يكافح في خنادق المعركة، يتخبط، يتعثر، يحاول حماية عينيه من مشاهد الدمار التي تحيط به. القنابل تتساقط، والنيران تشتعل، والجسد البشري—ذلك الذراع الذي كان مغطىً بكم القميص—يصبح مكشوفًا، مهتكًا، وأحشاءه عارية أمام الجميع. الموت، الذي تعلم هانز كاستورب أن يرفعه إلى مستوى الجمال الخيالي، يرفض أي تحولات سحرية.
ومن هذه الحمى القاتمة التي تحيط بالمشهد، تتساءل الرواية في ختامها: "هل يمكن أن ينبثق الحب يومًا ما من هذا المهرجان العالمي للموت؟" هذا التساؤل يضعنا أمام مفارقة قاسية: في ظل العار والانحطاط اللذين تخلقهما الحروب، وسط طقوس القتل الجماعي الذي تضفي عليه الأمم الحديثة صفة الشرعية والعدالة، كيف يمكن اعتبار البطل الشغوف أو السيدة الرومانسية رموزًا للإثم؟ كيف يمكن أن تقارن لمسة الجسد بدوي القنبلة، أو "عواء كلب الجحيم" الذي ينزل إلى الأرض كأنه الشيطان ذاته، نافثًا "النار والحديد والرصاص وأشلاء البشر الممزقة"؟ تلك النيران تلتهم كل ما في قلب هانز كاستورب من حرارة وصقيع، كاشفةً أن الصراع الذي تخيله البعض ذروةً على روحه البرجوازية—ذلك النزاع بين الغريزة والعقل، وبين الحب الممنوع والمسموح—لم يكن سوى قمة زائفة، بدت كذلك فقط عندما انفصلت عن شرور الحياة اليومية.
هذا، إذن، هو السحر الأكبر، الغموض المهيب الذي تقدمه رواية الجبل السحري. لقد احتاجت الرومانسية الخيالية لهانز كاستورب إلى خلفية بيضاء واسعة، حيث تبدو قوى الحب والموت العنيفة وكأنها خارجية، في عالم يمكنه أن يُسقط عليه رؤاه الأسطورية عن الجنة والجحيم، ويزعم أنه يسيطر عليهما. ولكن في العالم الحديث، الجحيم ليس بعيدًا ولا غريبًا. إنه حاضر في كل مكان. الشر الذي يجوب الأرض يجد من يخدمه دائمًا: يُجند الإنسان ليقاتل، ليُشوّه، ليقتل، وفي النهاية، ليموت في ميدان معركة مكتظ بجثث بني جنسه، أولئك الذين يُطلق عليهم أحيانًا أصدقاء وأحيانًا أخرى أعداء. أما المعركة على الروح فقد انتهت منذ زمن بعيد بخسارتها. والرغبة في الاعتقاد بغير ذلك، أو في خلق مكان سحري منفصل، ليست إلا إنكارًا للحزن على فقدان تلك الروح.
مترجم من yalereview بقلم MERVE EMRE