الإنسانى و اللا إنسانى
مراجعة روايتى اعترافات زينو لإيتالو سفيفو و صباح الخير .. منتصف الليل لجيان ريس
اعترافات زينو
ها نحن نطالع سيرة كاتبٍ ما كان اسمه ليُعرف في عالم الأدب لولا ما يشبه المصادفة، أو لنقل يد القدر التي دفعته للقاء رجل آخر، استطاع أن يُحيي فيه موهبة كانت كامنة. ذلك الكاتب هو إيتالو سفيفو، أما الرجل الذي أنقذه من النسيان فهو جيمس جويس. ويحدثنا عن هذه القصة روبرت موزيل، وهو كاتب كان يرى في أدبه مشروعًا جادًا وعظيمًا، على غرار كثير من الأدباء الذين ظهروا بعد الحروب الكبرى، أولئك الذين أرادوا أن يقدموا للعالم صورة حقيقية عن الإنسان وحياته، مؤمنين بأن الكتابة ليست لهوًا أو تسلية، بل أمر يمس جوهر الحياة والموت.
لكن، هل كان جميع الكتّاب بهذه الجدية والإصرار؟ لا بالطبع. فقد كان بينهم من ينظر إلى الأدب نظرة مختلفة، يكتب لا ليعظ أو يُرشد، بل لأنه يملك حسًا خاصًا لا يشبه سواه، وموهبة تمضي في طريق لا يمهده أحد غيره. هؤلاء الكتّاب تركوا أثرًا عميقًا في أدب القرن العشرين، حتى وإن لم يكن أثرهم صاخبًا أو لافتًا كما غيرهم. وربما تعلموا من جويس وبروست درسًا آخر، يقوم على الإخلاص التام لذوقهم وحدسهم الشخصي، وعلى تلك اللحظات الخاطفة من الإلهام العجيب التي تظهر أحيانًا في كتاباتهم.
وكان سفيفو واحدًا من هؤلاء، رجلاً قليل الحظ، ولولا اكتشاف جويس لعبقريته لما عرفنا اسمه. وُلد سفيفو، واسمه الأصلي إيتوري شميتز، عام 1861 في مدينة ترييستي، التي كانت آنذاك ميناءً مهمًا في أوروبا، ونشأ في أسرة يهودية تعمل في التجارة، وتلقى تعليمه في ألمانيا. أحب الأدب في شبابه، لكن أحلامه اصطدمت بمحنة عائلته عندما ساءت الأحوال المالية لوالده. عمل في أحد المصارف وكتب روايتين: الأولى بعنوان "حياة" عام 1892، والثانية "شيخوخة" عام 1898. تناول فيهما ببراعة اضطرابات النفس البشرية، حيث يعاني أبطاله من الضعف والهروب والبحث العقيم عن راحة أو إشباع سريع، لكن الجمهور لم يهتم بهما، وانتقد النقاد لغته، إذ لم يكتب بإيطالية فصيحة من تلك التي تُدرّس في المدارس، بل استعمل لهجة محلية منطقية، ولهذا تم تجاهله في الوسط الأدبي الإيطالي الرسمي.
ابتعد سفيفو عن الأدب، وانشغل في أعمال زوجته التجارية، وسافر كثيرًا، حتى تعرّف على جويس الذي كان يعمل معلمًا للغة الإنجليزية لأبناء الطبقة الغنية في ترييستي. وأُعجب كل منهما بالآخر، وقرأ جويس أعماله، وأثنى عليها قائلاً عن روايته الثانية: «بعض صفحات شيخوخة لا يمكن أن يكتبها إلا أعظم الروائيين الفرنسيين». وعندما كتب سفيفو رواية جديدة لم يلتفت لها أحد، فأرسلها إلى جويس الذي أصبح آنذاك نجمًا أدبيًا كبيرًا بعد نشر روايته يوليسيس. فشجعه جويس بقوة، وقال له: «أرسل الرواية إلى فاليري لاربو وبنجامين كريمييه وإليوت وفورد، وسأتحدث معهم بنفسي». وبالفعل، ظهرت فصول من الرواية في فرنسا، ولقبه النقاد بـ"بروست الإيطالي"، ثم تُرجمت الرواية إلى لغات أوروبية أخرى، وأخيرًا التفّت حوله الأنظار في إيطاليا، ومن بينهم شاعر شاب صار فيما بعد من كبار شعراء أوروبا: أوجينيو مونتالي.
أما الرواية فهي "اعترافات زينو"، التي يمكن اعتبارها امتدادًا لرواية "مذكرات من العالم السفلي" لـ دوستويفسكي، لكنها أقل سوداوية. بطل الرواية هو زينو كوزيني، رجل مهووس بالتدخين، لكنه في ذات الوقت مهووس بالإقلاع عن التدخين! فكل سيجارة يدخنها يظنها ستكون الأخيرة، لكنه يستمر في خداع نفسه، ويشعل دائمًا سيجارة أخرى، وكأنما يدور في حلقة لا تنتهي... هذا السلوك المتكرر يُشبه في طرافته تلك المفارقات المشهورة في الفلسفة الإغريقية المعروفة بـ"مفارقات زينو الإيلي"، أو مثل ما نراه في شخصية أولريش في رواية موزيل.
وفي محاولته للخلاص من معاناته، لجأ زينو للعلاج النفسي، فطلب منه الطبيب أن يكتب مذكراته كجزء من العلاج. وفي مقدمة الرواية، يخاطبنا الطبيب قائلاً بنبرة ساخرة متناقضة: «أعتذر لأني طلبت من المريض أن يكتب سيرته. كنت أظن أن ذلك سيفيده، لكنه تخلّى عن العلاج في أكثر مراحله أهمية... لذلك أنشر هذه المذكرات، وآمل أن تزعجه كما أزعجني، وسأشاركه العائدات إن قرر العودة للعلاج»!
وما حصيلة هذا الجهد النفسي المضني الذي بذله زينو في محاولة العلاج؟ لا شيء سوى هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو في حقيقته محاسبة مطولة مع الذات، تبدأ ولا تنتهي، تدور حول نفسها في حلقة مفرغة، وتنتهي إلى نتائج لم يقصدها زينو حين بدأ في الكتابة. وقد يذكّر هذا القارئ بشخصية أخرى لا تقل اضطرابًا، وهو ج. ألفريد بروفروك عند إليوت نفسه، الذي يتمتم في خوف قائلاً: «لم يكن هذا ما قصدته أبدًا… لم يكن هذا هو».
وزينو الذي نتعرف عليه هنا، رجل من مدينة ترييستي، مدينة إيطالية كانت حينها خاضعة للإمبراطورية النمساوية المجرية كما أسلفنا، وهي مدينة اختلطت فيها الثقافات الأوروبية المختلفة. وزينو رجل ثري، لا يظهر عليه في الظاهر عيب كبير. تبدو قصته للسامع بسيطة مألوفة: درس وهو فاقد للرغبة والهدف، ورث مال أبيه الذي جمعه بجهد وكدّ، ثم تزوج وأنجب، ونجح في تجارته. غير أن هذه الظواهر تخفي في باطنها اضطرابات لا تهدأ.
فهل ضربه والده قبل أن يموت بالسكتة الدماغية؟ لا ندري. الأب والابن لم يشتركا في شيء. زينو رأى أباه متغطرسًا مثيرًا للسخرية، بينما كان الأب يراه مبذرًا غير مسؤول. ثم إن زينو حين يروي لحظة موت والده، يوحي كأنه كان غافلًا عن مرضه، كأنه أغمض عينيه عامدًا عن رؤية الحقيقة. أما زواجه من أوغوستا فلم يكن عن حب، بل جاء بعد أن رفضته شقيقتاها آدا وألبرتا بالتوالي، فلم يبق أمامه إلا أوغوستا فقبل بها، ومع ذلك بقي يحمل في قلبه مشاعر قوية تجاه الأختين حتى بعد زواجهما.
ولا كان زينو وفيًّا لزوجته، ولا أمينًا لصهره غويدو، الذي تزوج من آدا – الأخت التي كان زينو يحبها أولًا – واشترك معه في التجارة. إذ دخل زينو في علاقة عاطفية مع امرأة أخرى لا عن نية مسبقة، بل ساقته الظروف إلى ذلك. وخان غويدو في شراكته التجارية، فازدادت خسائر غويدو حتى وصل إلى الإفلاس، بينما كانت أرباح زينو تتكدس بحذر وعناية. ورغم هذا كله، لم يشعر زينو بالراحة والاطمئنان، فقد كان يرى أن ما جناه من نتائج إنما جاء رغمًا عنه، ولهذا لجأ إلى الأطباء وطرق باب العلاج النفسي.
أما صحته فحكاية لا تنقضي. فمنذ شهر العسل لم يشعر بالعافية الكاملة، ووصف مرضه بأنه مجرد عارض بسيط لم يشفَ منه قط. لكنه كان في حقيقته أقرب إلى الخوف من التقدم في العمر والموت منه إلى مرض حقيقي. فتنقّل من علاج إلى علاج، وارتبط بالأدوية كما يتعلق الطفل بألعابه. وحتى بعد دراسته الكيمياء في الجامعة، أصبح يتحدث عن تركيب الأدوية وآثارها القاتلة بتفصيل واسع، وقد نصح غويدو – ببراءة أو بمكر – بخلطة دوائية قاتلة، وهي نفسها التي استخدمها غويدو في النهاية لإنهاء حياته.
أما عنوان رواية سفيفو «La coscienza di Zeno»، فكلمة coscienza تعني في الإيطالية «الضمير»، لكنها تحمل في الوقت ذاته معنى «الوعي» و«الإدراك الحكيم». وكأن ضمير زينو هنا أشبه بذلك الصوت الداخلي الذي يراقبه وينتقده باستمرار، لكنه يتجاهله عمدًا، وكأن حكمته الحقيقية هي في عدم الإنصات لهذا الصوت الناقد.
فزينو يظل يلوم نفسه على أفعاله، ثم لا يلبث أن يسامحها، ويكرر الدورة من جديد. لا نستطيع أن نصفه بأنه صاحب ضمير يقظ بالمعنى المألوف، لكنه بالتأكيد يعرف كيف يصل إلى مبتغاه، وكيف يُجَمّل لنفسه أخطاءه. وهو لا يجد حرجًا في أن يرسم لنفسه صورة مزرية أمامنا: قَزَم منحني الظهر، أصلع الرأس، دائم المرض، كسول، يشيخ مع الزمن دون أن يحسن التصرف. وكأنه يطلب من القارئ أن يعذره لأن حياته كلها كانت عذرًا لضعفه.
ولو تأملنا شخصيته عن قرب، لرأيناه أقرب إلى كائن بدائي صغير لا يهتم إلا بمصلحته الذاتية، بسيط في أنانيته، وقاسٍ في مواضع كثيرة. ومع ذلك يملك سحرًا غريبًا يدفع القارئ إلى الابتسام أمام تصرفاته، وربما إلى حبه رغم عيوبه كلها. وإن كانت زوجته المخلصة أوغوستا قد غفرت له كل خياناته وأحبته كما هو، فإننا – نحن القراء – لا نملك إلا أن نشعر نحوه بالعطف ذاته.
وما الذي يجعل زينو محبوبًا رغم كل عيوبه؟ إنه ببساطة يجسد أمامنا الجانب المظلم الذي نحمله نحن في داخلنا؛ ذلك الوجه الخفي الذي نكذب على أنفسنا بشأنه، ونرتدي أمامه قناع البراءة الزائفة. لكنه، وهذا هو الأهم، شخصية متكاملة بكل ما فيها من ضعف واضطراب؛ شخصية لا تنسى. من هنا استحق أن يُصبح محور نقاش نقدي شهير بين الكاتبين أرنولد بينيت وفرجينيا وولف حول معنى «الشخصية» في الرواية الحديثة. وقد قال بينيت في إحدى مقالاته: «ضعوا أيديكم على خريطة الأدب الحديث، واكتبوا فوقها اسم إيتالو سفيفو».
فالشخصية، كما عبّر عنها الفيلسوف الإغريقي القديم هيراقليطس، هي القدر. أي أن الإنسان لا يكون إلا ذاته، بما فيها من ملامح مقدرة عليه مسبقًا. كحال أوديب في المأساة الإغريقية الشهيرة، الذي لم يملك أن يهرب من مصيره، فقتل أباه وتزوج أمه، لأنه لم يستطع أن يكون غير ما هو مقدر له. وكلما حاول التنصل من قدره ازداد الأمر وضوحًا وألمًا. وهكذا رأى الطبيب النفسي لزينو حالته أقرب إلى ما يُعرف في التحليل النفسي بـ «عُقدة أوديب»، تلك الحالة التي يُشبَّه فيها ارتباط الابن بأمه وخصامه مع أبيه. وبالطبع اعترض زينو كعادته، لكنه في الحقيقة ظل يُعيد إنتاج المصير ذاته الذي قال إنه لم يكن يقصده.
وفي الرواية العظيمة، تكون الشخصية انعكاسًا مجسدًا لما يعنيه أن نكون بشرًا، ولهذا تتحول أعظم الشخصيات الروائية إلى رموز وصفات نتداولها. فـ فالستاف مثلًا – الشخصية الشهيرة في أعمال شكسبير – أصبح رمزًا، وكذلك السيد ميكاوبر في رواية ديكنز، وإيما وودهاوس في رواية أوستن، وحتى تعاسة إيما بوفاري في رواية فلوبير ليست سوى وجه آخر من أوجه الشخصية الروائية المتكاملة.
لكن ليس كل من يظهر في الروايات، قديمها وحديثها، يُعد بحق من الشخصيات العظيمة. فقد لاحظ أرنولد بينيت بذكاء أن الرواية الحديثة في القرن العشرين كثيرًا ما تفتقر إلى هذا النوع العميق من الشخصيات المتجسدة؛ إذ أصبح بعض الروائيين يرون أن أهمية الرواية ذاتها تعلو على أهمية شخوصها. وهذا ما أيده الناقد فورستر أيضًا، حين لاحظ أن بطلة رواية فرجينيا وولف "السيدة دالاوي" على تفردها، لا تنتمي إلى عالم تلك الشخصيات الحقيقية. وكذلك نيك آدمز في قصص هيمنغواي ليس شخصية عميقة بالمعنى التقليدي، وجوزيف ك. في عالم كافكا لا نرى له مثيلًا في الحياة الواقعية، إذ إنهم جميعًا أقرب إلى أدوات شفافة يرى القارئ من خلالها عالم الرواية أكثر مما يرى فيهم شخصيات حية نابضة. إنهم بمثابة مرايا حساسة تعكس مزاج المؤلف وأفكاره، وتكاد تكون امتدادًا لوعيه، لا كيانات قائمة بذاتها.
وُلد زينو في القرن التاسع عشر، لكنه يطل علينا من نافذة الماضي وهو يبتسم ساخرًا من تقاليد أبيه ومعتقداته وأوهامه. ينتقدها، نعم، لكنه في الوقت ذاته يتمتع بمزاياها، فبينما يعلن تمرده على السلطة الأبوية، لا يتردد في الاستفادة من خيراتها. هو حر كما يدّعي، لكن بطريقته الخاصة. يقول ذات مرة جملة طريفة تختصر منطقه كله: «الحرية الحقيقية هي أن تفعل ما تريد، بشرط أن تفعل أيضًا شيئًا لا تفضله كثيرًا».
ويرى زينو نفسه مريضًا لا شفاء له، لكنه يحوّل مرضه هذا إلى ذريعة يبرر بها تصرفاته، مخترعًا الأعذار ليعيش حياته كما يشاء دون أن يشعر بالذنب. يقول لزوجته أوغوستا إنه مكتئب وحزين، لكنه يتصرف بعدها بحرية وكأن مرضه يمنحه رخصة لذلك. وهو يشبه في هذه السخرية براس كوباس، بطل الروائي البرازيلي ماتشادو دي أسيس، الذي كان مريضًا ساخرًا بدوره، يواجه الحياة بشيء من العبث والاستهزاء.
وزينو، مع أنه ينتمي إلى عالم التقاليد القديمة، يُعتبر في الوقت نفسه ابنًا للتحليل النفسي الحديث، لكن بأسلوبه الخاص. يظهر وكأنه غارق في سلسلة لا تنتهي من العُقد النفسية، غير أنه يواجه التحليل النفسي الفرويدي كما يفعل طفل مدلل يسمع نصيحة لا تعجبه، فيهز كتفيه ويضحك. وحتى علاجاته النفسية تتحول إلى نوع من العبث، تمامًا كما تتحول كل جوانب حياته إلى لعبة.
وفوق كل هذا، فإن زينو راوٍ موهوب، لا يخجل من أكاذيبه، بل يفخر بها. يقولها صراحة: «أنا نفسي لا أقدر أن أفتح فمي دون أن أُحرّف الحقيقة أو الناس». وهو أناني إلى حد كبير، يخون نفسه قبل أن يخون غيره، ويحوّل حتى أخطاءه إلى نكات يتسلى بها. وكما كان والده يشتكي منه، فهو لا يأخذ الحياة على محمل الجد، ولا يعترف بسلطة أخلاقية تضبط أفعاله. غير أن سفيفو – من خلال زينو – يمنحنا شيئًا أعظم من مجرد الحقيقة الجافة أو التحليل العلمي البارد؛ إنه يهدي إلينا صورة مركبة لما يسمى بـ«الواقع» و«الهوية»، ولكنهما – في عالم زينو – مجرد خليط من الأوهام والعادات السيئة والمبررات الرخيصة.
وزينو لا يعظنا بما يجب أن نكون عليه، بل يعكس لنا ما نحن عليه بالفعل. هو المرآة التي تكشف هشاشتنا كبشر، وهذا هو سر جاذبيته العجيبة؛ إذ يجعلنا نضحك من أنفسنا بينما نظن أننا نضحك منه.
وبتلك الرغبة التي لا تهدأ في الاعتراف والبوح، كتب زينو مذكراته كما يكتب المريض وصيته؛ لا لينجو، بل كمن يطلب الشفاء بالكتابة ذاتها. فقد تخلى عنه طبيبه النفسي، وتركه مع سجائره التي لم يقلع عنها قط. لكن يبقى السؤال: أكان شفاؤه حقيقيًّا؟ أم أن هذه «الراحة النفسية» لم تأت إلا من الثروة الهائلة التي جمعها من مضاربات العملات خلال الحرب الكبرى، تلك الحرب التي وضعت نهاية لحكاية زينو، ووضعت في يديه مال السوق السوداء؟
لقد كان هذا الكتاب ثمرة من ثمار الحرب، إذ وضعه سفيفو بعدما توقفت أعماله التجارية بفعل الحرب، فلجأ إلى الكتابة ليقاوم حالة التوقف والجمود. ومع تقدّم الأحداث في الرواية، نرى شخصية زينو تبدأ بالتآكل والتفتت، حيث يتسرّب ذلك الظلام الكامن في أعماقه شيئًا فشيئًا. وبينما ينعم بثروة مفاجئة جاءته من وسط الخراب، يطل زينو على العالم بنظرة مشابهة لنظرات الكاتب هـ. ج. ويلز، تلك النظرات التي لا تظهر إلا وسط الكوارث العظيمة، حيث يتنبأ بانفجار أخير يدمر العالم كله:
عندما تُستنفد كل الغازات السامة، سيخترع رجل، عادي كسائر الرجال، وهو جالس بهدوء في غرفته، مادة متفجرة تتفوق على كل ما سبقها حتى تبدو القنابل القديمة أمامها ألعاب أطفال. ثم يسرق هذه المادة رجل آخر، أضعف من الأول، ويهبط بها إلى أعماق الأرض، حيث يضعها في النقطة التي يرى أن انفجارها سيكون الأعظم أثرًا. وعندها ينفجر الكوكب كله، فلا يسمع أحد شيئًا، وتعود الأرض إلى حالتها الأولى كسديم غائم في الفضاء، وقد تطهرت أخيرًا من الطفيليات والأمراض.
بهذا المعنى العجيب، يغدو الدمار الشامل علاجًا نهائيًا، وتتحول نهاية كل شيء إلى نوع من الشفاء الكامل، ليبلغ زينو ذروة مفارقاته: أن الكارثة قد تكون راحة! وبعد مرور خمس وعشرين سنة على صدور رواية زينو، بدا هذا التصور الكئيب أشبه بنبوءة مرعبة تحققت، إذ امتلك البشر بالفعل القدرة على إفناء الكوكب، لا على إفناء أنفسهم فقط.
وهنا يكمن سرّ الضحك العميق في رواية سفيفو: ضحك غارق في الظلام، ظلام نعيشه جميعًا، ونغوص فيه أكثر مع كل يوم يمر. وزينو، هذا المتلصص الساخر الماكر، يظل الناجي الأكبر؛ لا كغويدو المسكين الذي سحقته الحياة، بل كمخترع محتال، هاوٍ في الكيمياء، ربما يكون هو نفسه الذي صنع القنبلة، بل وقد يكون أيضًا من يهبط بها إلى قلب الأرض ويفجّرها. وربما يكون أول من يهلك بها!
وهنا يبرز السؤال الذي لا فكاك منه: هل ينجو زينو من زينو؟ وهل ننجو نحن من أنفسنا؟ يجيب سفيفو ساخرًا بمرارة: الناجون هم زينو وأمثاله، لا أولئك المثاليون من الرجال والنساء الذين حلم بهم الأدباء المثاليون مثل موزيل. وما دمنا في هذا العالم، فالأجدر بنا أن نصارح أنفسنا بحقيقتنا، ونعترف بهذه الشخصيات اليائسة، لأنها تمثلنا أكثر مما نحب أن نعترف به.
ولا يمكن المرور دون التوقف عند تلك السجائر التي لا تنطفئ بين يدي زينو، وتلك الأعذار التي لا تنتهي، فقد ربطت هذه العادات بين روايته وبين نوع خاص من أدب القرن العشرين يُعرف بـ رواية السكير. والمقصود بهذا النوع من الروايات ليس الحكايات الأخلاقية التي ازدهرت في العصر الفيكتوري والتي كانت تحذر من الإدمان، بل روايات كتبها أصحابها وهم غارقون في السُكر بالفعل، لا عن الإدمان ذاته، بل من داخل الإدمان نفسه، حيث تتحول الزجاجة إلى وسيلة للتركيز أحيانًا، وللهروب أحيانًا أخرى. في هذا اللون من الأدب، لا يكون السُّكر مجرد موضوع، بل يصبح أسلوبًا في الكتابة: كلمات تتمايل، وجمل تتلعثم، ومشاعر تتبدد ثم تعود، ووعي يتوه ثم يتجمع ثم يتوه مجددًا.
وفي هذا الإطار، فإن زينو ليس سكيرًا بالمعنى الحرفي، لكنه ابن لهذا العالم الذي تغلب عليه السقطات والضعف والرغبات التي لا تعرف توبة. كل ما يفعله زينو من تدخين مستمر، وتبرير متكرر لأفعاله، وسخرية من نفسه ومن الآخرين، ما هو إلا محاولته الدائمة أن يعيد تشكيل صورته أمام نفسه، وأن يفرّ من ذاته في الوقت ذاته. وهذه هي هديته لنا - أو لنقل: هدية سفيفو عبره - أن يكشف لنا كيف يُصنع "الواقع" ليس من الحقائق الثابتة، بل من الأوهام التي نصنعها بأنفسنا، وكيف تتشكل "الهوية" ليس من اليقين الواضح، بل من سلسلة متواصلة من الأعذار والتفسيرات التي نبتكرها باستمرار.
إنها في نهاية المطاف هدية العبث، تلك الهدية التي، رغم مرارتها، تدفعنا للابتسام.
صباح الخير .. منتصف الليل
وأما جيان ريس، فهي ليست مجرد كاتبة أخرى ضمن الكاتبات، بل كانت سيدة فنها، وإذا استمعت إلى قصتها أدركت أنها لم تكتب ترفًا أو من أجل الأدب ذاته، بل كتبت لأن الحياة دفعتها إلى أن تصرخ، ولم تجد للصراخ وسيلة سوى الحبر والورق. وُلدت في جزيرة دومينيكا، إحدى جزر البحر الكاريبي، وكان والدها طبيبًا من بلاد ويلز جاء بحثًا عن الرزق في تلك الأراضي البعيدة. وعندما بلغت سن المراهقة أُرسلت إلى إنجلترا لدراسة الفنون، لكن هذا الطريق لم يفتح لها أبواب الفن وحده، بل قادها إلى مصائر أخرى معقدة.
عملت بدايةً في فرقة غنائية متنقلة، ثم وقعت في حب شاب إنجليزي ثري هجرها بعد فترة وترك لها بعض المال بشكل متقطع وكأنه يواسيها به عن الألم الذي سببه لها. ومنذ ذلك الحين لم تجد شفاءً لا في الحب ولا في غيره.
ثم تزوجت من صحفي هولندي غامض السيرة، وانتقلت معه بين مدن مثل أمستردام وفيينا وباريس، وعرفت طعم الأمومة مرتين، لكن الموت اختطف أحد طفليها، فباتت تكتب وكأن نصفها قد مات مع هذا الطفل. وفي باريس تعرّفت إلى الكاتب المعروف فورد مادوكس فورد، وهو كاتب كان يملأ حضوره كل مكان، وقد رأى موهبتها وأدخلها بيته، لا كضيفة، بل لتعيش مع زوجته في علاقة ثلاثية مليئة بالاضطراب والألم. ومن رحم هذه المعاناة وُلدت روايتها الأولى "رباعية".
ومنذ عام 1928 وحتى قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، كتبت ريس أربع روايات. الأولى كانت "بعد مغادرة السيد ماكنزي"، ثم رواية عن امرأة تعيش حياة العشيقة المهجورة، ثم رواية "رحلة في الظلام" التي استرجعت فيها ذكريات عملها في صالات الغناء، وأخيرًا رواية "صباح الخير.. منتصف الليل" عام 1939. ولو تأمل القارئ بطلات هذه الروايات لوجد أنهن كلهن تقريبًا صورة واحدة تتكرر بأسماء مختلفة: ماري، وجوليا، وآنا، وساشا؛ نساء جميلات، حائرات، يملؤهن شعور عميق بأنفسهن، سلبيات، حالِمات، حزينة نفوسهن، يدمرن أنفسهن بأيديهن، ويجدن صعوبة في رؤية أي مخرج من مصيرهن الغامض.
هؤلاء النساء لا يثقن في الحياة، بل ولا في أحلامهن ذاتها. ويدركن، أو لعلهن أدركن دومًا، أن المال هو الإله الخفي الذي يحكم هذا العالم. وهن لا يواصلن نمط حياتهن العابث حبًّا فيه، بل لأنهن لا يستطعن التوقف عنه. إنهن ينتظرن اليوم الموعود الذي يأتي فيه الرجل المنقذ وفي يده المال، أو تقع معجزة تقلب حياتهن رأسًا على عقب. كما كان يردد السيد ميكاوبر، وهو شخصية روائية قديمة اشتهرت بجملته: «سيحدث شيء ما». وإلى أن يأتي هذا "الشيء"، يتنقلن بين الوظائف العابرة والمقاهي الرخيصة وغرف الفنادق والرجال العابرين، وأحيانًا يغرقن في الشراب والكآبة، لا يجدن فيهما خلاصًا ولا حياة حقيقية.
يقتلن الوقت بالغناء ومشاهدة الأفلام، بل أحيانًا بالسقوط في حياة البغاء، وإن حظين بشيء من المال، أسرعن إلى إنفاقه على العطور والقفازات وأحمر الشفاه، لا لحاجتهن الحقيقية إليها، بل لإشباع تلك الرغبة الطفولية في الاستهلاك. تقول ساشا، بطلة رواية "صباح الخير .. منتصف الليل": «المال، لأن الليل قادم»، في عبارة تعكس بشكل مقلوب النص المسيحي المعروف: «اعملوا ما دام النهار، لأن الليل قادم».
أما شخصيات ريس فهنّ يقفن في الطرف النقيض من شخصيات كلودين التي أبدعتها الكاتبة الفرنسية كوليت. فنساء كوليت يتمسكن بالحياة بكل ما أوتين من قوة، بينما نساء ريس ينزلقن من بين يديها كما ينزلق الماء من بين الأصابع. إن أقرب صورة لهن هو ذلك الشاب المدلل الغافل الجميل الذي يدعى شيري في روايات كوليت، إلا أن الفرق الجوهري أن شيري يملك المال، أما بطلات ريس فلا مال معهن.
وإذا أراد القارئ أن يرى ريس في أكثر لحظاتها قسوة ووضوحًا، فليذهب إلى روايتها "صباح الخير .. منتصف الليل". تكتب فيها عن ساشا، تلك المرأة التي جاءت إلى باريس هربًا من الفراغ الذي كانت تعانيه في لندن، وإن كان في النفس شك أن صديقتها التي نصحتها بالسفر إنما أرادت التخلص منها لا نصحها حقًا. كان ذلك عام 1937، وساشا تقترب من سن الخمسين. وقد اختارت لنفسها فندقًا في شارع مغلق يشبه الطرق المسدودة التي يسمونها في فرنسا "كول دو ساك"، أي الطريق الذي لا منفذ له. تحاول ساشا أن تضبط حياتها ببرنامج منظم، لكن أينما ذهبت تلاحقها أشباحها الصغيرة: وظيفة قديمة تخلت عنها، وحبيب قديم هجَرها، وطفل مات. كل ما تقدر عليه، أن تتذكر، ثم تحاول أن تنسى.
كتبت الرواية بصيغة الزمن الحاضر، وهو أسلوب لم يكن مألوفًا في زمانها، مما زاد إحساس القارئ بالاختناق والضيق الذي تعيشه البطلة، إذ لا ماض لها ولا مستقبل، بل حاضر أبدي يشبه الموت البطيء:
كُل. اشرب. امشِ. عد إلى الفندق. إلى فندق الوصول، فندق المغادرة، فندق المستقبل، فندق العالم بأسره. عد إلى الفندق الذي بلا اسم، في الشارع الذي بلا اسم. اضغط على الزر. يُفتح الباب. اصعد الدرج. هو نفس الدرج دائمًا. نفس الغرفة دائمًا.
وتقول في موضع آخر تصف فيه حياتها الغريبة:
حياتي، التي تبدو بسيطة ومملة، هي في حقيقتها خريطة معقدة من المقاهي التي يحبونني فيها والتي لا يحبونني فيها، والشوارع التي أرتاح لها وتلك التي أكرهها، والغرف التي أظن أنني قد أكون سعيدة فيها والغرف التي أعلم أنني لن أكون فيها كذلك أبدًا، والمرايا التي أبدو جميلة فيها والمرايا التي تكشف بشاعتي، والفساتين التي أظنها تجلب لي الحظ وتلك التي تجلب لي النحس، وهكذا تمضي حياتي.
ثم تسمع في داخلها صوت حارس الحديقة الذي كأنه يخاطبها قائلًا: "ماذا تفعلين هنا أيتها الغريبة العجوز؟" وترد على نفسها قائلة: "لقد رأيت هذا السؤال في عيون الناس طوال حياتي. وما زلت أكرر على نفسي: بحق الشيطان … ماذا أفعل هنا؟ … ما الذي يجعلني أواصل الوجود في هذا المكان؟" ثم تجيب بصيغة عجيبة أشبه باللعب بالكلمات: "أنا هنا .. لأنني هنا.. لأنني هنا"؛ أي أن وجودها في ذاته بات بلا تفسير ولا معنى سوى كونه وجودًا خالصًا لا سبب له سوى أنه موجود.
ها نحن في باريس، تلك المدينة التي استعادت عافيتها بعد الحرب الكبرى، وصارت عاصمة للفن والموضة، ومركزًا لما أسمته الكاتبة من قبل "عالم الفندق"، أي الحياة العابرة المؤقتة التي يدور معظمها داخل الفنادق بين الغرباء. هناك، تمضي الأيام بهدوء وترف وسط أفواج السياح القادمين من شتى بقاع الأرض: أمريكيون، وعرب، وآخرون لا نعرف لهم أسماء ولا أوطانًا. وربما كانت ساشا يومًا جزءًا من هذا العالم المزدحم، لكنها الآن باتت غريبة داخله، تمشي وكأنها تجر وراءها ظلها الثقيل.
تتعرف إلى شاب روسي كئيب، ينفق عليها بعض المال، فتشعر بالحرج من سخائه وتنفق بدورها من القليل الذي تملكه. تشتري منه ما يسمى "قناعًا أفريقيًا"، صنعه صديقه الذي يعيش على بيع هذه التماثيل المزورة التي تقلد الأقنعة التراثية لأفريقيا. ثم تلتقي شابًا آخر وصفته من اللحظة الأولى بأنه عاشق محترف؛ فهو رجل يمتهن الإغواء. يغازلها وتغازله، وتفتنها فكرته عنها، إذ يظنها سيدة غنية قادرة على الإنفاق عليه. لكن حين يكتشف حقيقتها، وأنها ليست ثرية كما ظن، لا يبتعد، بل يواصل محاولاته لاستمالتها، فتقع في حبه، لا لأنه عرف حقيقتها وبقي رغم ذلك، بل لأنه أرادها رغم ما عرف.
تمضي معه سهرة عبثية وهى ثملة، ثم يصعدان معًا إلى غرفتها في الفندق، لكن حين يحاول معاشرتها، يتبدل مزاجها فجأة فترفض، فيغضب ويرحل. تبكي فراقه، وتشعر بأنها ثملة أكثر مما تحتمل، ويثقلها حزن لا يوصف. جارها الذي يقيم في الغرفة المجاورة — ذاك الذي اعتادت رؤيته على الدرج مرتديًا قميص نوم أبيض، وقد سبق له أن واجهها من قبل وصرخ في وجهها وتحسس جسدها — يقتحم غرفتها فجأة. تنظر في عينيه وتحدث نفسها قائلة: "للمرة الأخيرة أحتقر إنسانًا آخر." وقد ذكّرها قميصه الأبيض في البداية برجل دين فاسد، مزيج من نبي زائف ودجال خادع. لا ترغب في معاشرته، لكنها مع ذلك تستسلم له، وتقول له: "نعم، نعم"، مكررة ما قالته مولي بلوم ذات ليلة في رواية جيمس جويس "يوليسيس"، حيث كانت تلك العبارة رمزًا للاستسلام والإذعان.
ومثل روايات إيتالو سفيفو الأولى، لم تلقَ كتب جيان ريس اهتمامًا يذكر، وظلت طي النسيان حتى عام 1966، حين نشرت روايتها الشهيرة "بحر سارجاسو الواسع"، وفيها تخيلت القصة الخلفية لشخصية السيدة روشستر في رواية جين إير، لكنها صاغتها من منظور مظلم مستلهم من أصولها الكاريبية، فجعلت بطلتها تنتمي لذلك العالم الاستعماري المظلم الذي قلّما رآه القارئ الأوروبي. حينها فقط بدأت الأنظار تلتفت إليها، وأُعيد نشر كتبها القديمة وأصبحت في السبعينيات موضوعًا للقراءة النسوية الجادة. قيل حينها إن نساء ريس المهمشات هن صورة حية للامتثال التقليدي المفروض على نساء الطبقة الوسطى؛ في خمولهن وتقلب مزاجهن وكسلهن العميق يشبهن في مظاهرهن نساء العصر الفيكتوري اللواتي تربين على الطاعة، رغم أنهن في أعماقهن مختلفات عنهن تمامًا.
لكن الأمر الأهم أن نساء ريس يدركن بوضوح أنهن يعشن في عالم صنعه الرجال، ولا يسعين للخروج منه. ليس لأنهن عاجزات عن ذلك فحسب، بل لأن هذا التمرد لم يعد ضمن رغباتهن أصلًا. صحيح أنهن يبدون ضعيفات مكسورات مرفوضات، لكنهن في أعماقهن لسن نادمات على شيء، ولا ينتظرن شفقة أحد ولا مساعدة أحد. إن وعيهن لن يتغير، ولن يحملن راية النسوية الحديثة. إنما لهن غاية واحدة: أن يعشن حتى الفشل. لا يطلبن مالًا، ولا رجلًا، ولا اعترافًا اجتماعيًا، بل لا يطلبن حتى أنفسهن. إن لهن موعدًا مع النهاية، مع الموت، الذي تجلى لواحدة منهن ذات مرة في صورة رجل بقميص نوم أبيض، رجل مائع الهيئة حتى كأنه يشبه امرأة، إذ تذوب الفوارق بين الموت والأنوثة حين يبلغ الإذلال ذروته.
قد يظن القارئ أن في هذا قدرًا من الاستسلام الخادع، وربما يكون ذلك صحيحًا. كان يمكن لروايات ريس أن تختار نهايات أخرى أكثر إشراقًا لو أن بطلاتها لعبن أوراقهن بدهاء أو تحلّين ببعض الحماسة، لكن، كما قال كافكا، هناك في حياة كل منا رواية من القرن التاسع عشر ما تزال تتحكم فيه، فالأمل لا ينفد تمامًا، لكنه أيضًا لا يخصنا.
قلة من الكُتّاب في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي بلغوا هذا المستوى من الصرامة الذهنية كما فعلت جيان ريس. كُتّاب مثل بوم وهيمنجواي رأوا ما سمّته ريس بـ "عالم الفندق"؛ فمنهم من تعاطف معه، ومنهم من أدانه. أما ريس، فلم تفعل هذا ولا ذاك؛ لم تسعَ لإظهار ذكائها، ولم تطلب من القارئ أن يعجب بها. لم تتباهَ بشجاعتها، لكنها كانت شجاعة حتى النهاية. ربما تمنت في داخلها بعض الاعتراف، لكنها لم تتخلَّ قط عن أسلوبها الجاف البارد الذي لا يهادن. ليست رواياتها روايات بالمعنى التقليدي، بل أقرب إلى طقوس تطهير مؤلمة؛ حيث بطلاتها مكرسات للإهانة والمهانة، كما تكرّس الراهبة حياتها للرب. وإذا بدون في بعض الأحيان ساذجات، فذلك لأن كاتبتهن قاسية صلبة، لا تجامل ولا تسعى لتبرير شيء.
تشبه شخصيات ريس ما وصفته الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل بـ "المُعذَّبات"؛ حيث كتبت فايل: «في زمن يعمّ فيه الألم الجميع، لا تكون المساعدة الحقيقية إلا في إعداد الروح لتحمّل الألم». غير أن ريس تجاوزت حتى هذا التصور، فلم تمنح شخصياتها حتى عزاء الاستعداد للألم، بل أسلمتهن له عرايا تمامًا.
قبل اغتصاب ساشا بقليل، وبعد أن طردت عشيقها الروسي وهي في حالة من السكر واليأس، انفصلت عن نفسها كما لو كانت تشاهد جسدها من الخارج. سمعت أصواتًا هامسة، لم تميّز منها سوى كلمات: "نساء، نساء، نساء..." وصوت قطار يردد: "باريس، باريس، باريس..." ورأت في هذيانها فينوس ـ رمز الجمال في الأساطير الرومانية ـ و هى غاضبة، وأبولو ـ إله النور والفن عند الإغريق ـ يفر هاربًا في الشوارع المتسخة بباريس. ولم يتبق من عالم الآلهة سوى اسم ساخر: السيد أبولو القذر. لكنها كانت تدرك أن هذا كله وهم وهلوسة. لا فينوس ولا أبولو، وحتى المسيح قد مات.
لم يبق من العالم سوى آلة فولاذية ضخمة لها أذرع طويلة، وفي نهاياتها عيون مطلية بالماسكارا ـ أي أهداب سوداء كالتي تزين أعين النساء ـ تراقب وتنظر دون أن ترى شيئًا في الحقيقة.
ينتهي المقطع بجملة بسيطة: "أتناول مشروبًا آخر"، تعود بعدها ساشا إلى حواسها المترنحة. وإن كان سفيفو يرينا الوجه الإنساني الذي لا يُصلح ولا يتغير، فإن ريـس تقبل هذا الخراب وتحتضنه، وترى فيه الوجه الأخير للحياة، الوجه اللاإنساني. فالعالم عندها ليس مدينة ولا وطنًا، بل امرأة وحيدة تنهش الآخرين ويُنْهَشُ منها في آن، لا تعرف من الحياة إلا وحدتها، وهي في هذه الوحدة وحش لا يُطاق.
ولهذا ظل أدب ريـس عصيًّا على التصنيف، لا ضمن النسوية ولا إلى الفلسفة الوجودية ولا ضمن أي أيديولوجية من التي اجتهد القرن العشرون في نشرها — إلا ربما، إدمان الكحول وحده هو الأقرب لفهم عالمها. غير أن هذه الرؤية قد تمثل ـ بشكل رمزي ـ الرواية نفسها؛ كبرياء امرأة، وكبرياء الفهم البشري أيضًا، وكلاهما يتبخر في الهواء في مواجهة نظرات العالم، أو نظرات تلك الآلة الضخمة، أو ربما عينيها هي وحدها. ولا يبقى سوى تعدد وجهات النظر التي لا تجد خلاصًا.
مترجم بتصرف من stranger than fiction
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي
الأدب الاوروبي طلع حلو اوي حقيقي فيه عمق و جاذبيه مقدرش استحملها لو تنصحيني ابدء بكاتب او كاتبه ابدء بمين و برواية اي بالذات ليه او ليها
فى قسم ادب راجعنا الكثير من المقالات
اعتقد ممكن تقرأى لبروست و ملحمة البحث عن الزمن المفقود
شوفى الاول مراجعة الكتاب من المقال المنشور