عالم الأدب
مراجعة لروايتي "مذكرات براس كوباس يكتبها بعد الموت" لماشادو ده أسيس و "كوكورو" لناتسومي سوسيكي
كان ذلك في شهر مارس من عام 1880 حيث كانت الحلقة الأولى من كتابٍ عجيب العنوان "مذكرات براس كوباس يكتبها بعد الموت" قد وجدت طريقها إلى النشر في مجلة "ريفيستا برازيليرا"، مجلة شهرية تعنى بالفنون والعلوم في ريو دي جانيرو. لم يكن اسم "براس كوباس" جديدًا على البرازيليين، فقد كان هذا الاسم يُذكّرهم بأحد رجال القرن السادس عشر، فاتحٍ برتغاليّ، واسمه متداولٌ في بلادهم، لكن أن تصدر "مذكرات بعد الموت"، فتلك مسألة غريبة، ألقت في العقول أسئلة لم تجد لها إجابة مباشرة. أكانت هذه المذكرات وثيقةً تاريخية كُشف عنها بعد طول إخفاء؟ أم كانت إشارة إلى "مذكرات من وراء القبر" التي كتبها شاتوبريان، ذلك الأرستقراطي الفرنسيّ، والتي لم ترَ النور إلا بعد وفاته عام 1848؟
وشاتوبريان هذا رجلٌ فذّ، وأديبٌ مجرّب، وفارسٌ من فرسان الرومانسية الفرنسية. قادته الأقدار إلى منفاه في أمريكا عقب الثورة الفرنسية، ولم يلبث أن اشتهر بروايته "أتالا"، تلك القصة التي نسجها حول هنود فلوريدا، وكانت مرآةً عكست في عيون الأوروبيين صورة العالم الجديد. وكان لها من التأثير في البرازيل ما كان لـ "فينيمور كوبر" و"لونغفيلو" في أمريكا الشمالية، حين وجد الكُتّاب الطموحون في أساطير السكان الأصليين مادة غنية لصياغة أدب محليّ جديد.
بيد أن كتّاب البرازيل في منتصف القرن التاسع عشر لم يكونوا ليطمئنوا إلى الاستعانة بالنماذج الأوروبية، فقد كانوا مدركين، بل مستشعرين بمرارة، مدى تبعيتهم المستمرة لها. فكان من الطبيعي أن يثير اجتماع مستكشف برتغالي وكاتب فرنسيّ في عنوان "مذكرات براس كوباس يكتبها بعد الموت" في أذهانهم سؤالًا ملحًّا: أهو وعي بالمأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه؟ أم تراه كان يذكّرهم بشيء آخر؟ بشيء مثل "أوراق نادي بيكويك ما بعد الوفاة"، ذلك العمل الذي جعل من تشارلز ديكنز أديبًا معروفًا في شتى بقاع الأرض؟
أما شاتوبريان، فقد كان رجلًا يكتب من قبره بصوتٍ تتردّد أصداؤه في الأبدية، فيأتي بليغًا، وسلطويًّا، وغريبًا، لكنه لا يخلو من الذكاء. وأما ديكنز، فقد صنع بيكويك، ذلك الرجل المرح الذي يتخبط في كوميديا عبثية، فإذا به نقيضٌ لأولئك الذين يفرضون على القارئ هيبة وجلالًا.
فأين تقع مذكرات براس كوباس من هذا وذاك؟
لقد تردّد الكاتب طويلًا قبل أن يُطلق قلمه، غير متيقّن من أين يبدأ: هل يبتدئ حياته بالميلاد أم بالموت؟ والحق أن الناس إذا كتبوا مذكراتهم، ابتدأوا بطفولتهم، ثم أخذوا يصعدون مع الأيام صعودًا، حتى يبلغوا ذروة حياتهم. لكنه رأى لنفسه مسلكًا آخر، فبدأ من النهاية، من حيث الموت، ثم جعل قبره مهدًا جديدًا لقلمه.
حينما تبدأ "مذكرات براس كوباس يكتبها بعد الموت"، لا تستهلها بيقين راسخ، بل تفتتحها بتردد يحوطه الغموض، فلا تلبث أن تتهاوى في مهاوي السخرية، وكأنها تريد أن تبث في القارئ روح الشك بدلاً من أن تحمله على الإيمان بما يُساق إليه من أخبار. هذا الكتاب، وإن لم يكن في جلال "شاتوبريان"، ولا في فوضوية "ديكنز"، فإنه لا يخلو من تهكم لاذع، وسخريةٍ تتجاوز غيرها، حتى تبلغ حد السخرية الذاتية. ومن العجب أن صاحبه لا يكتفي بأن يتوقع من قرائه موقفًا متشككًا، بل كأنه يدعوهم إلى هذا التشكيك دعوةً صريحة، فإن هو قورِن بكتب العصور الخالية التي غدت من تراث الأدب الكلاسيكي، رفع سقف المقارنة منذ اللحظة الأولى. أما من حيث المنهج، فإن صاحبه لا يدّعي أنه ابتكر نهجًا لم يُسبق إليه، بل هو يعترف بصريح العبارة أن لهذا اللون من التأليف سابقةً عند غيره، وإن يكن قد أضفى عليه قدرًا من الطرافة والجِدة. يقول: "موسى، الذي روى موته أيضًا، لم يضعه في البداية بل في النهاية، وهذا هو الفرق الجوهري بين كتابي والأسفار الخمسة".
أما كاتب الرواية، فهو خواكيم ماريا ماشادو دي أسيس، ذلك الاسم الذي كان قد صار معروفًا في ريو دي جانيرو بحلول عام 1880، إذ كان صاحبه قد أمضى ما يزيد على عشرين عامًا ناشطًا في أوساطها الأدبية يسعى بين رجالها، وحاضرًا في مجالسها، وكاتبًا في صحفها ومجلاتها، حتى صنع لنفسه اسمًا كان له وقعه في الأوساط الثقافية. ولم يكن ماشادو، في نشأته الأولى، ممن توفرت لهم أسباب المجد، فقد ولد عام 1839 من أبٍ أسود كان أجداده عبيدًا، في وقتٍ لم تكن البرازيل قد ألغت العبودية بعد، إذ بقيت هذه الممارسة قائمة حتى عام 1888، فشبّ ماشادو في بيئةٍ لا تخفى عليه قسوتها، ولا تغيب عنه فظائعها، وقد أنكرها، لكنه لم يتخذها حائلاً يمنعه من الانطلاق نحو آفاق أرحب، بل استطاع أن يتجاوزها إلى ما هو أسمى وأرفع.
وكانت البرازيل في زمانه بلدًا يتأرجح بين القديم والجديد، مزيجًا من الإقطاعية المتجذرة والتطلعات الحديثة، يحكمها إمبراطور دستوري، دوم بيدرو الثاني، الذي كان ذا نزعة ليبرالية، يسعى إلى ترسيخ المؤسسات الوطنية، سواء في السياسة أو في الاقتصاد أو في الثقافة، كما كان يعمل على إلغاء العبودية بالتدريج، إذ كان يرفضها ويرى فيها وصمةً لا تليق بدولة تريد اللحاق بركب الحضارة. وكانت بلاده، خلال سنوات حكمه الطويلة، في حالٍ من الرخاء والاستقرار، لا سيما إذا ما قورنت بجارتها الأرجنتين، كما أنها كانت مقصدًا للمهاجرين الأوروبيين الذين تزايد تدفقهم عليها يومًا بعد يوم. غير أن هذا الحكم انتهى بانقلابٍ عسكري عام 1889، ولم يكن للجيش أن ينأى بنفسه عن السياسة في أي وقتٍ من أزمنة البرازيل الحديثة، إذ ظل له أثرٌ نافذ في مسيرتها طوال القرن العشرين. وقد كان الانقلاب العسكري، الذي أطاح بـ دوم بيدرو، نتيجةً طبيعية لنظامٍ لم يعد قادرًا على مواصلة حكمه، فقد كان الإمبراطور قد تقدم به العمر، وكان وريثه الوحيد امرأة، وهو ما لم يكن مقبولاً في ذلك الزمان. ولما بدا أن لا سبيل أمامه إلا أن يتنحى، فعل ذلك راضيًا، وذهب إلى منفاه الأوروبي، حيث عاش في راحةٍ لا يُعرف عنها أنه كان متبرمًا بها أو آسفًا عليها.
وكانت حياة ماشادو نفسها صورةً مصغرةً لهذا التناقض العجيب الذي كانت عليه البرازيل: فبينما كان أبوه دهّانًا، وأمه فتاةً بيضاء من جزر الأزور، عاش كلاهما في كنف سيدةٍ ثرية ذات نفوذ، خدماها زمناً طويلاً، حتى نال ابنهما رعايتها واهتمامها، فتبنّته ابنًا روحياً، وأخذت بيده حتى فتحت له أبواب التعلم. غير أن تعليمه لم يكن منظمًا كما قد يُظن، بل كان عشوائيًا، حتى قيل إنه تعلم الفرنسية من خبّاز! ولكنه كان ذا همة لا تعرف الكلل، فنهل من كل مورد، وتلقى العلم حيث وجده، حتى صار ذا ثقافةٍ واسعةٍ وإنتاجٍ غزير.
وما إن بلغ السادسة عشرة حتى نشر أولى قصائده، ثم شق طريقه إلى عالم المطبوعات، فعمل مصفّ حروفٍ ومدققًا لغويًا في المطبعة الوطنية، وهي مؤسسةٌ لعبت دورًا رئيسيًا في الحركة الثقافية، إذ كانت ملتقى الأدباء، ومقصد الكتّاب، فأتاح له ذلك أن يحتك بالمشهد الأدبي في ريو، وأن يدخل في دوائره، وأن يكون على صلةٍ بأعلامه. وكان، منذ سنواته الأولى، نشيطًا في مختلف فنون الكتابة، فلم يقتصر على الشعر، بل كتب المسرحيات، وألّف القصص، وحرّر المقالات النقدية والسياسية، كما ترجم عن ديكنز وهوغو، وتميز بأسلوبٍ فيه من خفة الروح وسرعة البديهة ما جعل كتاباته أشبه بلمحاتٍ ذكيةٍ عن أحداث عصره، أو كما يسميها البرازيليون "كرونيكاس". وقد كان ينشر أعماله بأسماءٍ مستعارة، فظهر أحيانًا باسم BB، وأحيانًا باسم OO، وأحيانًا باسم ZZZ، وكأنه يريد أن يختبر وقع كتاباته على الجمهور دون أن يتأثر اسمه بحكم النقاد. وكان، إلى جانب ذلك، رياضيًا يهوى الشطرنج، وفنانًا يعزف موسيقى بيتهوفن، ورجل سياسةٍ يخوض الانتخابات. وقد مضى في سلك الوظائف الحكومية، حتى بلغ مناصب رفيعة، وكان زواجه عام 1869 من كارولينا نوفايس، المرأة البرتغالية ذات الحسب، مرحلةً جديدةً في حياته، فقد ظل وفيًا لها حتى آخر أيامه.
وعلى الرغم من معاناته من الصرع والكساح، فقد ظل ماشادو ثابت العزيمة، حتى انتُخب، عام 1897، أول رئيسٍ للأكاديمية البرازيلية للآداب، ثم توفي عام 1908، وقد بلغ التاسعة والستين، بعد أن خلف وراءه إرثًا أدبيًا لا يُستهان به.
وقد بدأ اهتمامه بالرواية متأخرًا، فلم ينشر روايته الأولى، "القيامة"، إلا عام 1872، لكنه ما لبث أن أخرج ثلاث رواياتٍ أخرى قبل نهاية العقد. وكان حين دخل هذا الميدان يحمل بين جوانحه رؤيةً نقديةً واضحة، وغايةً محددة. فقد كان، كغيره من روائيي أمريكا اللاتينية، يشعر أنه مكلفٌ بإثبات شيء ما، ليس عن نفسه فحسب، بل عن الرواية في بلاده كلها. وكان يرى أن الأدب البرازيلي لا ينبغي أن يكون مجرد انعكاسٍ للماضي أو وسيلةٍ لإضفاء الطابع الرومانسي على التاريخ، بل يجب أن يكون معبّرًا عن مشكلات الواقع بصدقٍ وعمق. ولهذا، لم يكن يُعجب بالواقعية الاجتماعية التي شاعت في عصره، ولم يكن يرى في معاصره إيسا دي كيروش نموذجًا يُحتذى به، فقد كان يجد في أسلوبه افتعالًا وإثارةً سطحية. وكان يؤمن بأن الرواية الحقة هي تلك التي تمتلك منظورًا واسعًا، لا تلك التي تغرق في التفاصيل اليومية أو تقتصر على توثيق الحوادث العابرة. ومن هنا، كان يرى أن الروائي البرازيلي يجب أن يكون أقرب إلى شكسبير منه إلى أي كاتبٍ آخر، فإن العالمية لا تتحقق إلا بالقدرة على استبطان الحياة، ورؤية جوهرها الأعمق.
كان طموح ماشادو أن يكتب رواية أوروبية تقليدية، رواية تسير على خطى أدباء القرن التاسع عشر، حيث التماسك السردي والحبكة المحكمة. لكنه، رغم إرادته، وجد نفسه في مواجهة واقع برازيلي لا يسمح لمثل هذه القواعد أن تفرض نفسها دون مقاومة. ففي بلاده، كان الصراع دائرًا بين نظام اجتماعي متماسك من جهة، وبين ضربات القدر العابثة من جهة أخرى.
وهكذا جاءت روايته هيلينا، التي نُشرت عام 1876، تعبيرًا عن هذا التناقض: تحكى عن ابنة غير شرعية لرجل ثري يُعلن عن وجودها بعد وفاته المفاجئة، فيصدم بذلك عائلته. لكن، وكأن هذه الحبكة لم تكن معقدة بما يكفي، تكتشف هيلينا أنها ليست ابنة غير شرعية، بل هي ليست ابنة الرجل غير الشرعية وليست غير شرعية على الإطلاق (بخلاف كونها غير شرعية بطريقة غير شرعية) وفي خضم هذه الفوضى، يقع الوريث الشرعي في حبها، رغم أنه يظنها أخته غير الشقيقة. وإزاء هذا التشابك الذي لا مهرب منه، تجد هيلينا نفسها أمام مصير واحد: الموت بقلب مكسور. رواية متشابكة، حبكتها أشبه بتروس آلة تدور بلا توقف، لا تختلف كثيرًا عن الروايات الشعبية التي كتبها ويلكي كولينز وتوماس هاردي في أوروبا.
لكن ماشادو لم يقف عند هذا الحد، بل قفز قفزة جريئة جعلته يكتب شيئًا مختلفًا تمامًا، شيئًا لم يكن ليتخيله قرّاء عصره: رواية مستحيلة، ساخرة، تحطم القواعد كلها.
في مذكرات براس كوباس ما بعد الموت، لا يبدأ الراوي حكايته من لحظة ولادته، كما تفعل الروايات التقليدية، بل يبدأ من نهايته، من موته نفسه! فها هو يفتتح الكتاب بهذه الجملة العجيبة:
في الساعة الثانية من بعد ظهر يوم جمعة، في أغسطس 1869، في منزلي الجميل في ضواحي كاتومبي... أربعة وستون عامًا، مزدهر، أعزب، بقيمة حوالي 300 كونتو.
بهدوء بالغ، وبسخرية لا تخفى، يقدم لنا الراوي نفسه: رجل ميسور، لكنه لم يكن يومًا رجلًا عظيمًا. وها هو يموت، كما يموت الجميع، بلا ضجة، وبلا مأساة، وبلا شيء يثير الاهتمام. بل إنه يؤكد هذه الفكرة قائلًا: "ما أكثر عادية من الموت؟" وكأنه يذكر القارئ بأن الموت ليس حدثًا جديرًا بالاهتمام، بل هو تفصيل صغير في سيرة أي إنسان، سيمر كما مر غيره، وسينساه الجميع كما نُسي غيره.
لكن الرواية لا تترك القارئ في هذه المساحة من الهدوء، بل تلقي أمامه تفصيلًا عابرًا، كأنها تريد أن تختبر فضوله: "كانت هناك سيدة غامضة بين الأحد عشر شخصًا الذين حضروا جنازتي." فمن تكون هذه السيدة؟ وما قصتها؟ ولماذا كانت هناك؟ وهل سيجد القارئ نفسه منجذبًا إلى هذه الخيوط العاطفية، باحثًا عن دراما مخبأة بين السطور؟ أم أنه سيرفض الانسياق وراء هذا الإغراء السردي، مدركًا أن المؤلف يسخر منه، ويضعه أمام اختيار بين أن يكون قارئًا تقليديًا يبحث عن الحبكة المشوقة، أو أن يكون قارئًا نبيهًا، ونفهم أن هذا الكتاب ليس كتابًا تقليديًا على الإطلاق؟
تمتد هذه الرواية على أكثر من مئتي صفحة، وتضم 160 فصلًا، لكنها لا تُقرأ كرواية متماسكة، بل كقطع متفرقة، كل واحدة منها تقود إلى أخرى، لكنها لا تفضي إلى شيء محدد. الفصول قصيرة، ومتقطعة، وساخرة، ومليئة بالمفارقات، يوشك القارئ أن يمسك بطرف الخيط، فإذا به ينقطع بين يديه. ففي لحظة ما، يصل فصل إلى استنتاج معين، ليأتي الفصل التالي ويدحضه. وفي كل مرة يظن القارئ أنه وجد طريقًا إلى الفهم، يجد نفسه وقد عاد إلى نقطة البداية.
براس كوباس لا يقدم نفسه باعتباره بطلًا، ولا حتى باعتباره شخصًا جديرًا بالاهتمام، بل يسخر من نفسه كما يسخر من الآخرين. فهو رجل ثري، نعم، لكن اسمه الذي يبدو كأنه يحمل مجدًا عريقًا ليس سوى اسم عادي تمامًا، فـ"كوباس" تعني "صانع براميل"، لم يكن اسم "كوباس" في حقيقته إلا صدى لماضٍ بسيط، حيث كانت العائلة تقتات على صناعة البراميل. لكن الأب، وقد جمع من المال ما يكفي، لم يشأ أن يبقى هذا الاسم مجرد ذكرى لحِرَفَة متواضعة، بل أراد أن يخلع عليه هالة من الأرستقراطية، وأن يجعل منه مفتاحًا لمسيرة سياسية يهيئ لها وريثه. كل شيء كان خدعة، مشهدًا في مسرحية محبوكة، وسيظل الأمر كذلك حتى اللحظة الأخيرة من حياة براس كوباس.
ماذا يحدث عندما تموت، أو بالأحرى يُقال إنه يحدث؟ تمر حياتك كلها أمام عينيك. ماذا يحدث في اللحظة الحاسمة لبراس كوباس، تلك الشخصية التافهة تاريخيًا؟ يكشف له كل تاريخ البشرية. يعود بسرعة إلى البداية، وينطلق إلى النهاية - تقريبًا - لكن الرؤية تنتهي. يستفيق مرة أخرى في ضاحية ريو القديمة نفسها، كاتومبي، حيث قطته، سلطان، تلعب بكرة خيط بينما يموت براس كوباس "بهدوء، بمنهجية، يسمع نحيب السيدات، كلمات الرجال الناعمة، المطر يقرع على أوراق القلقاس، وصوت المبراة الحاد لموسى يشحذها طاحون السكاكين بالخارج".
كان في عالم "براس كوباس" أشياء كثيرة تتبدَّل لتصبح رموزًا: صرير الموسى، وسلطان القط، وحتى النحيب والكلمات الناعمة، والمطر الرقيق. كل شيء هناك يُشير إلى عالم ضيق، وخانق، ومليء بالتقاليد، ومشحون بالرموز. عالمٌ لا يرحم، بل يقتل. لكن، على الجهة الأخرى من السخرية والمرارة، استطاع "ماشادو" أن يصوّر برازيله، لا كما يُقال في الخطب الرسمية، بل كما هي في الواقع: بلدٌ يعيش بين العبث والألم، ولكنه لا يخلو من جمال التفاصيل اليومية.
وفي كتابه "مذكرات براس كوباس يكتبها بعد الموت"، تبدأ الرواية من نهايتها، فالموت يسبق الميلاد في هذا العالم المقلوب. ثم لا يلبث أن يعود بنا الراوي إلى سرد تقليدي لحياته. يقول إنه وُلد في 20 أكتوبر 1805، وقد "غُسلت وكُمّدت وأصبحت فورًا بطل البيت". كان طفلًا مدلّلًا، أحبّته أمّه، وأعدّه والده لحياة سياسية ترفع مكانة العائلة. وفي شبابه، أحب فتاة إسبانية الأصل، فسرقت قلبه وماله، حتى اضطره والده إلى السفر إلى البرتغال للدراسة. وهناك تعلّم كل شيء ولا شيء، ثم عاد إلى ريو حيث كان ينتظره زواج من فتاة تُدعى "فيرجيليا" – اسمها كلاسيكي، مثل اسمه، يحمل طابعًا مزيفًا يُحاكي الأصول الرومانية، ولكنه في الحقيقة نتاج الصعود الاجتماعي المحلي. غير أن الخطبة لم تكتمل، فقد فضّلت فيرجيليا رجلًا آخر بمكانة أعلى. ومات والده من الحزن، بينما بقي الابن يعيش على الميراث، يكتب عن السياسة ويتسلّى بالأدب، ويغذّي في نفسه شعورًا دفينًا بالمرارة والحسرة.
وهكذا استمر في حياته، إلى أن عادت فيرجيليا إلى حياته – نعم، عادت متزوجة، لكنها عادت. زوجها، السياسي الكبير "لوبو نيفيس"، كان صديقًا لبراس كوباس، أو كان يتظاهر بذلك. ومع الوقت، أنشأ براس وفيرجيليا عشّ حب بعيدًا عن أعين الناس. كان حبًّا حقيقيًّا، لا غش فيه، ولكنه بقي في الظل، لا يستطيع الخروج إلى العلن دون أن يدمّره المجتمع و دون نبذ إجتماعى كامل، خاصة لفيرجيليا. ومع هذا، كان كلاهما سعيدًا بما هو عليه، يفرّان من المجتمع العام إلى عالمهما الصغير و منه إلى المجتمع العام.
وفي لحظة بدت كأنها ستُبدّل كل شيء، حملت فيرجيليا، وفرح براس كوباس بهذا الحمل. كان سيصبح أبًا. لكن الفرحة لم تكتمل، فقد أجهضت. واضطر براس أن يواسي زوجها "لوبو نيفيس" وكأنّ الطفل كان ابنه. لم يكن أحد يعرف الحقيقة. وهكذا استمر الخداع إلى أن عُيّن الزوج حاكمًا لإحدى المقاطعات البعيدة، وانتقلت معه فيرجيليا، وانتهت القصة.
بعد ذلك دخل براس كوباس عالم السياسة. ومن بين فصول الكتاب، يبرز فصل بعنوان: "كيف لم أصبح وزير دولة". ففيه يسخر من نفسه ومن طموحه الفارغ، هو أحد أكثر الفصول تميزاً.
لقد قضى حياته يتظاهر بكل شيء: أنه أديب، وعاشق، ومشرّع، وصاحب جريدة، وحتى رائد أعمال. اخترع "لصقة براس كوباس" لعلاج الكآبة – وكأنها نسخة مبكرة من "بروزاك"! طرق كثيرة لقيادة حياة حديثة منتجة أو ذات معنى، وقد وجدها، أو وُجدت، ناقصة، ولم يجد في كل هذا أي معنى حقيقي. لم يبقَ له من أمر دنياه إلا أن يموت، وهو ما فعله فعلًا.
وهكذا، تنتهي الرواية من حيث بدأت. لا شيء تغيّر. كل ما عاشه كان مجرد دوران في دائرة مغلقة. فهل كانت حياته كلها هدرًا؟ في ختام الرواية، يقول:
هذا الفصل الأخير كله سلبيات. لم أصبح مشهورًا، ولا وزيرًا، ولا خليفة، ولا تزوجت. ولكن، لم أضطر إلى العمل لكسب قوتي، ولم أجنّ، ولم أتعذّب... إذا حسبنا كل هذا، قد يظن المرء أنني متّ متعادلًا مع الحياة، بلا ربح ولا خسارة. لكنه مخطئ. فلقد وجدت، عند موتي، فائضًا صغيرًا، يضيف سلبية جديدة إلى هذه اللائحة من السلبيات: لم أخلّف نسلًا، لم أترك لأحد هذا الإرث الثقيل من بؤس الحياة.
إنه ختام ساخر، لاذع، وربما فخم في سخريته. فهل يمكن أن تكون السخرية نهاية فعلًا؟ أم أنها بداية تأمل لا ينتهي؟
ليس من العدل أن نُسمي كتاب «مذكّرات براس كوباس يكتبها بعد الموت» كتابًا كئيبًا فحسب، وإن كان فيه كآبة لا تخفى. بل هو كتاب مدهش، ومسلٍّ، ومحيّر، وربما كان مفاجأة لكاتبه كما هو مفاجأة لقارئه في هذه الأيام. ولسنا نعرف من أمر ماشادو دي أسيس شيئًا يُطمئن، لا عن بداية هذا الكتاب ولا عن طريقته في كتابته، كما لا نعرف من حياته المزدحمة، ولا من أصله المتواضع وطفولته الفقيرة، إلا قليلًا غامضًا.
ولكن الذي يتراءى لي – وأنا أتصفح هذه الصفحات – أن الكتاب ربما بدأ عند صاحبه رسمًا بسيطًا، أو لعله كان أول الأمر كاريكاتورًا لشاب من الطامحين من الجيل الثاني في ريو دي جانيرو، نشأ مدلّلًا، ومتميزًا، وواعدًا، ثم لم يحقق وعده، بل هوى إلى حياة من الترف الخاوي. كان يُمكن لهذا الكتاب أن يكون إنتاجًا أدبيًا تقليديًا، وهجائيًا في بعضه، يفضح عبث نخبة البرازيل، ويأسى لرجل لطيف أضاع نفسه.
بل كان يمكن للبرازيل وبراس كوباس أن يخرجا من بين صفحاته متهمَين وضحيّتَين في آن: متهمَين بالفشل في الخيال الأخلاقي، وضحيّتَين لانعدام الإرادة الوطنية. وكان بوسعنا أن نقول إن ماشادو الكاتب قد ركّز أزمة وطنه في شخصية واحدة – شخصية جذّابة، وفضولية، وعديمة النفع، وأقرب إلى شخصية سكيمبول في رواية "بيت كئيب"، أو ذلك "الرجل الفائض" الغير فعال رغم كونه من الطبقة العليا في الأدب الروسي الذي أحسن تورجنيف تصويره. ولو كان هذا كل ما في الكتاب، لأغلق القارئ صفحاته مسلّيًا، وقد نال جرعة من الفكاهة، وجرعة من العظة، ورجع إلى حياته مُطمئنًا.
وفي وجوهٍ كثيرة، لا تختلف «مذكّرات براس كوباس يكتبها بعد الموت» عن الروايات النقدية التي عرفها القرن التاسع عشر. فمن وراء نُكت براس كوباس اللاذعة، وتعليقاته الذكية، نرى مجتمعًا تُديره الشهوة، ويغرق في النفاق، وتستقر القسوة في قلبه.
ولعل خير ما يُجسّد ذلك قصة السيدة بلاسيدا. تلك المرأة الفقيرة التي تُشرف على البيت الذي جعله براس كوباس وفيرجيليا ملاذًا لعلاقتهما. وفي يومٍ من الأيام، ولأن براس ينتظر عشيقته بقلقٍ وملل، شرعت السيدة تحكي له عن حياتها، وعن فقرها، وعن سنين الحرمان التي لا تنتهي. فيتأثر الرجل، ويتخيل مشهدًا بعد موتها، تواجه فيه بلاسيدا أبويها. أمها، التي كانت بغيًّا دفعتها للخطأ، وأباها، الكاهن الضال، الذي لم يعترف بها قط. ويُصغي براس في خياله إلى ما تقوله لهما: "ها أنا قد جئت، لِمَ جئتما بي لهذه الحياة؟"
ويأتي الجواب القاسي:
لتحرقي أصابعكِ على المقالي، وتُنهكي عينيكِ في الخياطة، لتأكلي قليلًا أو لا شيئًا، ولتتمرضي وتُشفَي، ثم تعودي إلى المرض، يائسة تارة، مستسلمة تارة، لكن يدكِ لا تفارق المقلاة، وعيناكِ لا تبرحان الخياطة، حتى تنتهي في الشارع أو في المستشفى. لهذا جئنا بك إلى الدنيا، في لحظة حب.
مشهد يهزّ القلب، ولكن براس كوباس، بعد أن يُصوّره هكذا، لا يُبقي له في قلبه أثرًا، بل يُطفئه كما يُطفئ رماد سيجاره، كأنما هو مجرد ملحوظة عابرة. وكما أن فصول الكتاب قصيرة متلاحقة، فكأنما كاتبه لا يقدر على التركيز طويلًا في مأساة واحدة، ولا يريد أن يُزعج نفسه بأحزان الناس.
ومع ذلك، يتأمل براس، في نغمة من التشاؤم المُتفائل الشوبنهاوري الذي اكتسبه خلال تعليمه الأوروبي، ويتساءل: ما الذي أرادته السيدة بلاسيدا منه وهي تحكي له؟ لِمَ قصّت عليه حياتها البائسة إن لم تكن تطلب شيئًا؟ ثم ينهي القصة كما بدأها، يعطيها بعض النقود، وينصرف.
ويقول براس في أحد المواضع: «ما من شيء في هذا العالم أضخم وحشية من لا مبالاة الموتى». ولكن، والحق يُقال، فإن لا مبالاة الأحياء – كما يصوّرها الكتاب – أضخم وأقسى.
فالنساء الفقيرات مثل بلاسيدا لا يملكن إلا أن يكنّ جزءًا من سقوطهن، ولا طاقة لهن على التمرّد. ثم هناك العبيد. نعم، أولئك الذين لا نكاد نراهم إلا في هامش الرواية. يأتون ويذهبون، كأنما هم من لوازم البيت، لا من لوازم الرواية.
وكان براس – في صغره – يركب على ظهر برودينسيو، عبد الأسرة، يضربه بلا رحمة ليُحرّكه. وهو يروي هذه القصة ليُدلل على ما ناله من دلع، وغير مكترث بما فيها من إذلال. وحين تموت أمه، يرحل إلى الريف حزينًا، ويأخذ معه بندقية، وكتبًا، وثيابًا، وسيجارًا، وعبدًا صغيرًا. نعم، هكذا بالحرف.
وبراس كوباس – الذي عاش في عصر انتهت فيه تجارة العبيد – لا يُخفي معارضته للعبودية، لكنه يُعارضها كما يُعارض المرء شيئًا قديمًا لا معنى له. أما صهره، الذي كان يُتاجر بالعبيد، فهو لا يُدين فعله، بل يفضل أن يُشيح عنه بوجهه، فلا يراه.
وفي يوم من الأيام، يرى براس ذلك العبد، برودينسيو، وقد أصبح حرًّا، ويمتلك عبدًا خاصًا، يضربه كما ضُرب من قبل. فيوبخه براس، ثم يتأمل في المشهد:
من الخارج، ما شاهدته كان قاتماً، لكن من الخارج فقط. عندما فتحته بسكين التحليل العقلاني، وجدت نواة غريبة وعميقة... أنا، كطفل، جلست على ظهره، وضعت لجامًا في فمه، وضربته بلا رحمة؛ كان يئن ويتألم. الآن، مع ذلك، كان حرًا ويمكنه تحريك ذراعيه وساقيه متى وكيف يشاء... الآن نهض وأصبح الرجل الأعلى: اشترى عبدًا ودفع له، كاملاً مع الفائدة، المبلغ الذي تلقاه مني. انظر كم كان الوغد ذكيًا!
نعم، العبودية تجعلك تفكر.
ألا ترى معي أن العبودية في رواية "مذكّرات براس كوباس يكتبها بعد الموت" ليست مجرّد خلفية تاريخية أو مشهد عابر؟ إنها، كما يتّضح منذ الصفحات الأولى، استعارة كبرى لعالم منخور من داخله، ومسكون بالفساد، ومفتون بالوهم. عالم ميت لا حياة فيه، وإن بدا صاخبًا. ولعلّ هذا التنديد الصريح بذلك العالم لا يُنتج سوى مزيد من الرعب، رعب يتضاعف حين ندرك أن العبودية فيه ليست مجازًا، بل واقعًا حيًّا قائمًا، يقطن فيه عبيد لا رمزية فيهم. إننا أمام عالم ضلّ عن ذاته، حتى إن الكلام عنه بات أقرب إلى العبث، لأن ما بلغ إليه من تشوّه تجاوز حدود الوصف.
قد تُقْرَأ الرواية وكأنّها تروي حكاية شخص واحد. فذلك الذكاء الذي يتسلل عبر العبارات، وذلك السحر المموّه باللامبالاة، كلّها لا تعني إلا شيئًا واحدًا: أن البطل، رغم خفّته الظاهرة، يعيش في غفلة مرعبة، وهذه الغفلة هي ما أراد ماشادو أن يفضحه، ويضعه أمام أعيننا بوصفه دليلاً على خراب الإنسان. ربما كان ماشادو يقصد أن تُقرأ الرواية بهذه الطريقة. لكن، والحق يُقال، هذا ليس كلّ شيء. فالرواية أدهى من ذلك وألطف، أخبث وأمتع، إنها ليست مجرّد محكمة أخلاقية تُحاكم رجلاً مغرورًا. البطل، وإن كان يحمل صفات الوحش، إلا أنه لا يخلو من سحر، وربما لأنّه يدرك قيده الأكبر: الموت. أليس الموت أقسى حدود الوجود؟ ومع ذلك، يجذبنا هذا الميت، يأسرنا منذ لحظة إعلانه الخروج من الحياة، فلا نملك إلا أن نتابعه. لكن من هو براس كوباس؟ وما علاقته بمبدعه، ماشادو؟ أهو مرآته أم مخلوقه الأدبي؟ أهو صدى صوته أم رديفه؟ ما إن تحاول الإجابة، حتى يغدو السؤال نفسه أضيق من أن يحتوي الرواية. براس كوباس، هذا الشبح الظريف، لا يكتفي باستفزازك، بل يشاركك المقاعد، يهمس في أذنك، ثم يجعلك تشكّ في كل حكم أصدرته عليه.
ما كان التحدّي أمام ماشادو بالهيّن، وهو الكاتب الذي أراد أن يكون واقعيًّا عالميًّا لا يُشبه سواه، وفي الوقت ذاته برازيليًّا صرفًا. وقد حقق الأمرين معًا، في رواية ما كنا لنتوقّع منها ذلك. أن تكون صادقًا مع حياة البرازيل يعني أن تكشف بنيات الهيمنة المتجذّرة، وتُعرّي لا مساواة تسكن كلّ تفاصيلها. لكنّه أيضًا يعني أن تُبرز المفارقات الغريبة، والإمكانيات غير المتوقعة، في بلادٍ يمكن لإمبراطورها أن يساهم في خلع نفسه. لكن عجيب أمر ماشادو! عوض أن يُقدّم رؤية نقدية صارمة، أو موقفًا أخلاقيًا واضحًا، اختار طريقًا آخر: ترك لبطل روايته أن يتصرف كالمهرّج، يُضحكنا تارة، ويخدعنا تارة أخرى. نحن نتابعه، ونستمتع برفقته، لا لأننا نثق به، بل لأننا لا نعرف كيف نُصنّفه. هذا الكائن المتناقض لا يسمح لنا بالانسحاب، كما لا يسمح لنا بالحكم عليه في راحة. وهكذا، نجد أنفسنا نحن القرّاء، في حالة من التورّط المربك، الذي لا نملك أمامه إلا أن نستمر في القراءة.
أن تكون كاتبًا برازيليًّا، لا يعني فقط أن تصف بلادك، بل أن تكتب بروح تُشبهها، وأن تخلق أدبًا يحمل بصمتها. ورواية "مذكّرات براس كوباس يكتبها بعد الموت" هي، بدون شك، عمل أصيل. لكنها أصلية بطريقة عجيبة: إذ تعترف منذ البداية بأنها ليست كذلك! عنوانها يوحي بأنها مقتبسة، ومقدّمتها تعلن أنها تسير على خطى لورانس ستيرن وكزافييه دي ميستر. ويُضيف براس كوباس، ببعض الحياء، أنه أضفى لمسة تشاؤم خاصة به. هذا الإعلان الغريب ليس مجرّد تواضع أدبي كلاسيكي، بل هو فعل مقصود. إنها إشارة إلى أن الأدب البرازيلي لا يزال رهين النماذج الأوروبية، لكن بدلاً من أن يُنكر ذلك أو يُجاهد للتخلّص منه، يعترف به، بل يحتفي به. وهذه الجرأة في إعلان التبعيّة تكشف استقلالاً من نوع جديد، وتمنح الكاتب فرادة لا تُخطئها العين. وهذا ما عناه الناقد جواو سيزار حين تحدّث عن "شعرية الانتحال" في أعمال ماشادو.
في علم المنطق، إذا اجتمع التناقض، صحّ كل شيء. وهكذا فعل ماشادو. بدأ روايته بلحظة عبثية، بإيماءة خفيفة، ثم بنى عليها عملاً أدبيًّا يفضح صلابة الواقع الاجتماعي في بلاده، وينجو في الوقت نفسه من الوقوع في فخ الخطاب الوعظي. الرواية لا تدّعي الإجابة، ولا تحاول شرح ما لا يُشرح. بل تُحاور القارئ، وتدهشه، وتتركه متردّدًا. وبينما تحاول الأنظمة تثبيت الناس في أماكنهم، تبحث هذه الرواية عن سبل للانفلات. عن طريقة للعيش بين الفجوات، حيث لا قانون يُمسك، ولا سلطة تُطاع. وفي بلد العبودية، يخترع الكاتب طريقة للحرية، لا بالقوة، بل بالمراوغة.
ما وجهك الأول، ذاك الذي كان لك قبل أن يولد لك أبٌ أو أم؟ هذا هو السؤال الذي كُلّف به "سوسوكي"، بطل رواية "البوابة" لناتسومي سوسيكي التى نُشرت عام 1910. بطلها انسحب إلى ديرٍ من أديرة الزن، لعله يجد عند الروشي، شيخ الزن، شيئًا من راحة القلب أو صفاء الذهن. وسوسوكي هذا، رجل بسيط، لا يملك من المال إلا القليل، ولا من الجاه إلا الوهم، يعمل فوق طاقته، وقد قاطعته عائلته بعد أن خالفهم وتزوج من أحب، لا من اختاروا له. فانقطع عن أسرته الكبيرة، وانقطع من ورائها عن التقاليد القديمة التي ظلّت تحكم اليابان قرونًا، وأصبح أسيرًا لوظيفة رتيبة يعود إليها كل يوم، ومعلقًا لا يستطيع فكاكًا من تلك الحياة الحديثة التي تمتهن الإنسان ولا ترفق به.
أما الزن، الذي لم يكن معروفًا في أوائل القرن العشرين إلا لقلة، والذي كان يبدو حتى في بلده ضربًا من الماضي السحيق، فقد جاء ذكره عرضًا في حديث بينه وبين زميل له في العمل. استوقفه، شدّه، ربما لأنه يذكّره بشيء مضى. لكنه حين زار الدير أخيرًا، لم يلقَ هناك جوابًا لما يعانيه، بل كوآنًا غريبًا، سؤالًا محيرًا لا يُطلب الجواب عنه بقدر ما يُطلب التأمل فيه. فجلس، وصمت، وراقب أفكاره وهي تتسع حتى لم تعد أفكاره، لكنها لم تنتهِ به إلى شيء. نعم، لقد ظن أنه بلغ، فذهب إلى شيخه يخبره بما وصل إليه، لكن الشيخ رفض، ولم يدهشه الرفض. وبعد أسابيع، عاد إلى بيته، وكانت زوجته تنتظره، وقد بدا عليها الهزال أشد مما تركها. لقد كانت "البوابة" رمزًا بوذيًّا قديمًا للعبور إلى التنوير، لكنها في هذه الرواية ليست إلا بابًا لم يُفتح، ورؤية حُرم صاحبها منها.
وليس عجبًا أن تكون هذه التجربة قد خرجت من نفس الكاتب، فإن سوسيكي نفسه، في بداية تسعينيات القرن التاسع عشر، مضى إلى دير من أديرة الزن، يطلب فيه فرجًا لما لحق به من همّ الحياة. وهناك، أعطاه الراهب نفس الكوآن الذي أعطاه لبطل روايته، فعجز عنه كما عجز بطله. ظلّ السؤال يلاحقه، لا ينفك عنه ليلًا أو نهارًا. وقد رأى الناقد الأمريكي الشهير دونالد كين، الذي وقف حياته لفهم الأدب الياباني وترجمته، أن هذا الكوآن لم يكن إلا السؤال الجوهري لوجود سوسيكي نفسه، بل خطيئته الأولى التي لم تُغتفر.
ولعلّ هذا السؤال لا يعني سوسيكي وحده، وإنما يعني اليابان كلها، تلك اليابان التي عاشها، والتي ولدت مع مطلع القرن، في عصر ميجي، ذاك العصر الذي امتد من 1868 حتى 1912، والذي احتضن حياة الكاتب بأكملها تقريبًا (1867-1916). فقد سبقه عصر طويل، عصر إيدو، أو عصر شوغونية توكوغاوا، حكمت فيه اليابان أيدٍ من أمراء الحرب، وسعت بكل جهد إلى عزل البلاد عن العالم الخارجي، حتى ظهرت في عام 1853 بوارج الأدميرال بيري، تحمل الحديد والنار، وتفرض التجارة بالقوة. ثم سقطت الشوغونية، وقامت ما سموه بثورة من فوق، استعادوا فيها منصب الإمبراطور، وأطلقوا عليه اسم "ميجي"، أي التنوير، إعلانًا لعصر جديد قائم على الإصلاح والانفتاح.
وقالوا يومها: "يجب أن نكسر عادات الماضي الباطلة"، ما جاء في القسم الخامس من الخمسة أقسام التي نُشرت باسمه عند توليه السلطة؛ "سيُبحث عن المعرفة في جميع أنحاء العالم". وأقسموا على طلب المعرفة من مشارق الأرض ومغاربها. وسرعان ما انتقلت العاصمة إلى طوكيو، وأُنشئ فيها جيش حديث، وقانون جديد، ودستور، وبرلمان، ومصانع، وجامعات، وبنوك، وصحف، وكل ذلك لم يكن يخطر في خيال ياباني قبل ربع قرن فقط.
وقد وصف هذا التحول رجل إنجليزي، أستاذ اللغة اليابانية بجامعة طوكيو، اسمه باسيل هول تشامبرلين، فقال قولًا ما يزال صداه يُسمع إلى اليوم:
أن تعيش في اليابان الحديثة زمن التحول، هو أن تشعر أنك عجوز إلى حدٍّ خارق للطبيعة. فهذا هو العالم الجديد، تُملأ فيه الأجواء بالكلام عن الدراجات والبكتيريا والسياسة، ومع ذلك فأنت تتذكر جيدًا زمن السيوف والذُيول. لقد كان أستاذي الأول ساموراي، يرتدي سيفين، ويُعلّم أسرار اللغة القديمة، أما الآن فخلفه رجل يتكلم الإنجليزية، ويلبس بدلة حديثة، لا يكاد يُفرق عن الأوروبيين… كل شيء يتغير بين ليلة وضحاها.
لكن، إلى أين كان يقود هذا التحول؟ أي يابان كانت تُبنى؟ لم يكن الإنجليزي واثقًا. بل كان في نبرته شيء من الازدراء، من الشك في أن اليابان تخسر ذاتها لتشبه الأوروبيين. وكان اليابانيون أنفسهم منقسمين في شعورهم؛ فالنهضة والتصنيع جلبا قوةً وثراءً، لم تسبقهم إليها أمة من الأمم الشرقية، لكنهما جلبا كذلك خوفًا من ضياع المعنى، من أن تصبح اليابان مجرد نسخة باهتة من الغرب.
ربما كانت تقترب من ذاتها حقًا، وربما كانت على وشك أن تكون نموذجًا عالميًّا جديدًا، كما كانت تقول شعارات ذلك الزمان: "نأخذ من الشرق جوهره، ومن الغرب علمه"، وربما كانت تسعى فقط لتكون "شبه أوروبية"… ولا أكثر.
في هذا السياق الدقيق، ينبغي لنا أن نُصغي إلى استحضار سوسيكي للكوآن الزنّي، لا كعبارة روحية غامضة، ولكن كنداء يخرج من أعماق اليابان القديمة، كأنه يحاور اليابان الحديثة مباشرة، يسائلها عن هويتها، بل يقترح عليها حلًّا: الهوية ليست إلا وهمًا، والمشكلة، إذًا، لا وجود لها أصلًا. هكذا تنطق الحكمة القديمة. غير أن سوسيكي، أو بطله سوسوكي، لا يجد في هذا القول مخرجًا من أزمته، وإن جذبه سحره. فهو يعرف، كما نعرف، أن هذه الكلمات جاءت من ماضٍ مضى، لا سبيل إلى العودة إليه، وأنهما، هو وسوسوكي، محكومان بأن يعيشا في زمن الحداثة، بلا رجعة.
الرواية، أصلًا، لم تنبت في اليابان، بل جاءت من الغرب، في ركب مشروع ميجي القسري، ذاك الذي جرف اليابان نحو الحداثة بغير هوادة. ولئن كانت "حكاية جنجي" الشهيرة من القرون الوسطى شيئًا آخر لا يشبه الرواية الغربية، فإن كتب الغرب لم تكن معروفة أصلًا قبل هذا العصر، وكانت الترجمة تُستخدم بدايةً لتعليم اللغة ولفهم الأفكار الغربية. وكان من أوائل الكتب المترجمة التي أثّرت في الوعي الياباني كتاب "المساعدة الذاتية" لصموئيل سمايلز و"عن الحرية" لجون ستيوارت ميل. أما أول رواية لقيت إعجابًا، فكانت "إرنست مالترافرز" للكاتب الفيكتوري السير إدوارد بولوير-ليتون، وقد تُرجمت في عام 1879 بعنوان شاعري: "حكاية ربيعية عن الأزهار والصفصاف". كانت رواية سياسية، مما يسمّى في الغرب بـ"رواية حالة الأمة"، لكن ما أدهش القارئ الياباني آنذاك لم يكن الطابع السياسي بل ذاك المسّ الرومانسي المفاجئ الذي طعّم به الكاتب روايته.
توالت بعدها ترجمات روايات سياسية أخرى مثل "كونينغسبي" لدزرائيلي، وأخذ الاعتراف بالرواية كجنس أدبي يترسخ. وكما أشار الناقد دونالد كين، إذا كان رئيس وزراء بريطانيا يكتب روايات، فلا شك أن الأمر يستحق العناء!
ومن أوائل الروايات اليابانية الحديثة "لقاءات مصادفة مع نساء جميلات"، وقد نُشرت لأول مرة في صحيفة عام 1885. افتُتحت الرواية بمشهد رمزي: البطل، المسمى "المتجول في بحر الشرق"، يدخل قاعة الاستقلال في فيلادلفيا، يرى فوقه جرس الحرية المتصدّع، وتحته إعلان الاستقلال. ولم تلبث أن تظهر النساء الجميلات اللاتي يناقشن معه مغزى هذا المشهد. وقد لقيت الرواية رواجًا استمر حتى عام 1897، وتوالت الترجمات بعدها من مختلف اللغات، فكانت البداية إنجليزية، تبعًا لنفوذ إنجلترا، ثم لحقتها الروايات الفرنسية والروسية. حتى "الجريمة والعقاب" كانت قد تُرجمت إلى اليابانية عن الإنجليزية بحلول عام 1892. ومعها بدأت تظهر روايات يابانية، بعضها كُتب بالعامية، وبعضها عاد إلى التقاليد القديمة، وبعضها حاول تقليد الرواية الغربية في تحليل الشخصيات أو تشريح القضايا الاجتماعية. وشيئًا فشيئًا بدأ النقاش يتسع: ما هي الرواية اليابانية؟ وما الذي يمكن أن تكونه؟
لقد جاءت الرواية من الخارج، وجاءت كحدث مفاجئ، لكن سوسيكي لم يأت من الخارج، بل من صلب اليابان القديمة، حيث لم تكن هناك سوى نوعين من القصّ: "حكاية جنجي" القديمة الجليلة، أو قصص الجيساكو الخليعة التي وُلدت في أحياء اللهو في مدينة إيدو. أما ناتسومي كينوسوكي، الذي عُرف لاحقًا باسم سوسيكي، فقد وُلد لأسرة من موظفي حكومة توكوغاوا، وقد أفقرهم الزمان في عهد ميجي. كان الابن الثامن، وكان والده قد ضاق به، فدفع به إلى بقال محلي ليرعاه. غير أن البقال وأهله كانوا مشغولين عنه، وتقول الرواية إن أخته الكبرى وجدته ملقى في سلة فأعادته إلى البيت. ثم تبنّاه مزارع، فبقي معه سنوات، حتى انفصل المزارع عن زوجته، فأعيد الطفل إلى عائلته الأصلية، ومع عودته أعيد إليه اسمه الأصلي. هذا التنقل بين الأسماء والهويات ليس غريبًا على من اختار لنفسه في النهاية اسمًا خاصًا به، اقتداءً بالأدباء الصينيين: "سوسيكي"، أي "مغرغر الحجارة"، وهو اسم يُشبهه.
رغم هذه النشأة القاسية، أظهر "مغرغر الحجارة" نبوغًا مبكرًا، وكان طموحه منذ الثانوية أن يترك أثرًا. أراد في البداية أن يصبح مهندسًا معماريًّا، ليعيد بناء اليابان ذاتها. لكن صديقًا أقنعه بأنه سيكون كاتبًا بارعًا، فأخذ على عاتقه أن يُدهش الغرب بأعمال أدبية بلغة غربية. وقد كان قد أتقن الصينية الكلاسيكية، فاختار دراسة الإنجليزية في جامعة طوكيو الإمبراطورية، ولم يلبث أن وسّع معارفه لتشمل الفرنسية والألمانية أيضًا.
بعد التخرج، عمل مدرسًا للإنجليزية في مدرسة ريفية، وهناك كتب مقالات عن والت ويتمان و"تريسترام شاندي". ثم حصل على منحة حكومية للدراسة في إنجلترا، فغادر اليابان عام 1900، قاصدًا كامبريدج، لكنه اكتشف أن ماله لا يكفيه. فأقام عامين في لندن، في غرف رخيصة، يحضر محاضرات ثم يزهد فيها، يقرأ في الأدب الإنجليزي بعمق، ويتجول وحيدًا في الشوارع، ساخطًا على الحياة التجارية التي رآها مبتذلة، ناقمًا على نفسه، كأنه يرى ظلّه في نوافذ المتاجر بلا حب ولا حياة.
كانت لندن تجربة هزّت كيانه، ولم يشفَ منها أبدًا. عاد إلى اليابان محطمًا، أصيب بانهيار عصبي، ثم تعافى، ثم عُيّن أستاذًا للغة الإنجليزية في جامعة طوكيو، فكان أول ياباني يتبوأ هذا المنصب. غير أن محاضراته اتُهمت بالتجريد الزائد، فقد كان مصممًا ألا يعلّم بالطريقة القديمة التي تكتفي بتواريخ ميلاد ووفاة الشعراء وعدد صفحات مخطوطات شكسبير. وقد نجحت محاضراته، لكنه لم يكن سعيدًا. تدهورت صحته النفسية، وكان يكتب روايته الأولى "أنا قطة" كما لو كانت مزحة، ليخفف عن نفسه الملل، لكن الرواية، التي نظرت إلى المجتمع الياباني بعين قطة ساخرة، أصبحت علامة بارزة، فيها رسم سوسيكي عيوب مجتمعه وأصدقائه، بعمق وذكاء.
نُشرت رواية "أنا قطة" على حلقات في صحيفة شعبية، فإذا بها تلقى نجاحًا واسعًا، وتُعلن ميلاد سوسيكي كاتبًا، لا يكتب لمجرد الحكاية، بل ليستكشف بها النفس والناس والمجتمع. لم تمضِ إلا فترة وجيزة حتى تبِعها بعمل آخر، سماه "بوتشان"، أي "السيد الشاب"، يحكي مغامرات شاب متمرد، ساحر، في مدرسة ريفية. وقد شبّهها بعض النقاد بـ"هاكلبيري فين"، لما فيها من طرافة وبساطة وتمرّد طفولي لذيذ.
وفي العام نفسه، 1906، كتب عملًا بدا مختلفًا كلّ الاختلاف: "وسادة العشب". رواية وصفها بأنها تشبه الهايكو، ذلك الشعر الياباني القصير العميق، وقال عنها بفخر إنها "ليست لها نظير في الغرب".
ولم يتوقّف عند الرواية وحدها. استمر في النشر، وكانت رواياته تُحدث ضجة حقيقية؛ حتى إن متاجر طوكيو الكبرى خصّصت ملابس بطبعات زهرة الخشخاش احتفاءً بروايته "الخشخاش". وفي عام 1907، قدّم استقالته من جامعة طوكيو، بعدما عرضت عليه صحيفة "آساهي شيمبون" أن يكتب رواية كل عام تنشرها على حلقات، لقاء أجر مجزٍ.
سوسيكي لم يكتفِ بنوع واحد، بل تنقّل في الكتابة بين الرواية، وأدب الرحلات، والمذكرات، والنقد، والشعر الصيني. كان ينتقل من فن إلى آخر، رغم ما عاناه من اضطرابات في النفس، وأمراض في الجسد، وزواج لم يكن له فيه سعادة. ومع ذلك، كان حوله دائمًا جماعة من الشباب المعجبين، بعضهم صاروا بعد ذلك من كبار الأدباء. أما هو، فكان يرفض كل تكريم، سواء من الصحافة أو الحكومة، كأنما لم يكن يريد مجدًا، بل راحة ضمير.
مات سنة 1916. لم يقتله المرض وحده، بل الإرهاق الطويل الذي حمله طوال حياته.
نشأت الرواية اليابانية الحديثة وهي تحاول تقليد الرواية الإنجليزية في زمن فيكتوريا، التي كانت تسمى بـ"رواية حالة الأمة". لكن سوسيكي، وإن كتب أعمالًا شتى، ظلّ يحدّق بعين الناقد في "حالة اليابان" لا غيرها، ويكشف الضرر الباطني الذي خلفه تحوّل البلاد من تقليد إلى حداثة. من بين كل أعماله، تبقى "كوكورو"، التي نُشرت سنة 1914، هي الأشهر، حتى إن وجهه بعد الحرب العالمية الثانية صار على ورقة الألف ين.
في هذه الرواية، واجه سوسيكي سؤالًا كبيرًا: ما الذي خلّفته سلالة ميجي في قلب الإنسان الياباني الحديث؟ وكيف يمكن أن نتكلم عن الحداثة في بلد لم يحلّ مشاكله مع ذاته؟
"كوكورو" كلمة يابانية يصعب ترجمتها بدقة. هي "القلب"، لكنها لا تعني القلب العضوي وحده، بل مقر العاطفة وموطن الروح. وتعني أيضًا "العقل"، وربما ترمز لحالة شعورية مركبة، بين الوحدة والانقسام الداخلي. حيث لافكاديو هيرن، الكاتب الأمريكي الذي سبقه في تعليم الإنجليزية في جامعة طوكيو، استخدم الكلمة عنوانًا لكتاب يمجّد فيه اليابان القديمة. لكن سوسيكي، حين كتب "كوكورو"، كان يحمل في قلبه وعقله شيئًا آخر.
"الوحدة هي قدر الإنسان الحديث"، هذا ما يقوله أحد بطلي الرواية. القصة تمضي في خطين، بين حاضر وماضٍ، لتكشف عن حياة تُمزّقها الندامة. نقطة الذروة تأتي بعد وفاة الإمبراطور ميجي، عام 1912، وكأن الموت السياسي ارتبط بموت روحي.
الجزء الأول والثاني من الرواية يرويهما شاب، هو الابن الأصغر لمزارع غني أرسله إلى جامعة طوكيو. تبدأ حكايته في عطلة الصيف، قبيل سنته الدراسية الأخيرة. وفي أحد المنتجعات، يلتقي رجلًا أكبر منه سنًّا، غامضًا، له هيبة صامتة. ينشأ بينهما رابط غير مألوف، فيه الاحترام وفيه الفضول. يعود الشاب إلى طوكيو، ويبدأ بزيارة ذلك الرجل، طامعًا في حكمة لم يجدها في أساتذته. يلقّبه بـ"سينسي"، أي الأستاذ، رغم أن الرجل يرفض هذا اللقب رفضًا شديدًا.
لكن "سينسي" لا يقدّم تعليمًا، بل يحمل في داخله ندمًا عظيمًا. يقول له مرارًا إنه ليس له ما يعلّمه، لكنه لا يطرده. وعلى الرغم من ثقافته الكبيرة، فقد حُرم من كل ما كان يمكن أن يحققه بسبب خطأ ما، أو ذنب ما. هذا الغموض يجعل الشاب يتعلّق به أكثر، ويزداد فضوله، خصوصًا تجاه العلاقة المعقدة بين سينسي وزوجته الجميلة، التي تبدو قريبة منه، لكن هناك جدارًا غير مرئي يفصل بينهما.
ما هو هذا السر المظلم؟ هكذا يتساءل الشاب. زياراته تزداد، لكنها تظلّ غير مريحة. هو يحب سينسي ويقلق عليه في آن. ثم تنتهي دراسته، ويعود إلى قريته، حيث ينتظره قدر لا يحبه: رعاية الوالد المريض، والانخراط في شؤون العائلة والمزرعة. لا يريد هذا المصير، فيكتب إلى سينسي طالبًا النصيحة. حتى والديه يأملان أن ينصحه هذا "الرجل الكبير" بما هو خير. لكن سينسي لا يرد.
كوكورو تتألف من ثلاثة أقسام، أولهما "سينسي وأنا" وثانيهما "والداي وأنا". كلاهما يبدو كنوع من الاعتراف، غير أن الطالب لا يصرّح لمَن يعترف، ولا لأي غرض يبوح بما يبوح به. أما القصة نفسها، فهي لا تنطلق بدفقة أحداث عنيفة، بل تمضي هادئة عبر فصول تتوالى، وتتشكل من لقاءات قصيرة تبدو أحيانًا بلا مغزى، أو تافهة في ظاهرها: زيارات، ونزهات، وأحاديث مقتضبة، وشاي يُحتسى، وقبعة تطير، وسينسي ينهض لينهي حديثه بالتبوّل... كأن الحديث يُقال ليخفي حديثًا آخر، وكأن الكلمات حجاب لما لا يُقال.
وسوسيكي، في هذه المشاهد التي قد تبدو لغير المتأمل بلا شأن، يُظهر براعة مدهشة، فهو لا يقول الكثير، ولكنه يجعل القارئ يشعر بالكثير، يتورّط في صمت الشخصيات، ويتعلّق بما لم يُفصح عنه أكثر مما قيل. وحكاية الطالب تأسر القارئ شيئًا فشيئًا، كما أسر سينسي نفس الطالب. وكما كان الطالب شابًا غِرًّا، يفتّش عن فهم، تملؤه الهيبة، كذلك القارئ يشعر بالدهشة والانتظار.
ثم يمضي الصيف، ويضعف الأب. ها هو على فراش الموت، وإذا بخطاب يصل من سينسي، طويل على غير عادة من شخص "يكره الكتابة أصلًا". يتركه الطالب جانبًا ليهتم بوالده، ثم، في غرفته، تقع عينه على سطر واحد يقلب كيانه: "حينما يصلك هذا الخطاب... سأكون على الأرجح قد متّ".
تسقط كل الواجبات الأخرى، ويهجم الطالب على القطار إلى طوكيو. "كل ما رغبت به في تلك اللحظة هو أن يكون سينسي لا يزال حيًّا".
الجزء الأخير من الرواية ليس حوارًا، بل رسالة سينسي، وقد طال انتظارها. أهي التعليم المنتظر؟ هكذا يُخيّل إلينا. يقول فيها إنه يكتب فقط لهذا الطالب، "وحدك، من بين ملايين اليابانيين"، ثم يعلن، بلهجة دامعة: "أنا... على وشك أن أشق قلبي، وأبلّل وجهك بدمائي".
ويبدأ يروي حكايته.
كان سينسي طالبًا ذات يوم في طوكيو، يتيمًا نشأ في كنف عمّه. لكن العم لم يكن أمينًا، فقد سرق ميراثه، وتركه فقيرًا، حزينًا، لا يثق بأحد. وحين عاش في هذه العزلة، تعرّف على طالب آخر، اسمه "ك"، وقد كان منبوذًا هو الآخر، نبذته أسرته المرموقة حين علمت أنه تخلى عن دراسة الطب في السر، وذهب يدرس الدين.
كان "ك" رجلًا قاسيًا على نفسه وعلى غيره، يحكم على الجميع بأحكام صارمة، ويُوبّخ سينسي على ماديته: "من لا يملك طموحات روحية، فهو أحمق"، قالها له يومًا. وكان لهذا الأثر العميق في نفسه، حتى إنه طلب من "ك" أن يشاركه غرفته.
وكلاهما كان يخفي شيئًا: حبًا صامتًا لابنة صاحبة المنزل، "أوجوسان". أما سينسي، فقد كان يرغب في الزواج منها، لكنه ظل واقفًا في مكانه، لا يجرؤ أن يتقدّم أو يتراجع. وعندما باح "ك" أخيرًا بسرّه، بأنه يحب الفتاة ويشعر بالضياع والخجل، هنا فقط اندفع سينسي إلى أمّها طالبًا يدها، فقُبل عرضه.
لكنه خاف أن يصارح "ك"، رغم علمه أنه سيكتشف الأمر حتمًا. وفي ليلة متأخرة، عاد إلى السكن، فوجد باب "ك" مفتوحًا، ورآه جالسًا يواجه الحائط، والدم على الجدار... لقد انتحر "ك"، وترك له رسالة يطلب فيها أن يبلغ عائلته، وأن يعتني بجنازته.
قال في ختام رسالته: "لماذا انتظرت طويلًا لأموت؟"
"متأخر جدًا... متأخر جدًا"، هذا ما خطر في بال سينسي في تلك اللحظة. ومنذ ذلك اليوم، عاش وكأن الزمن قد تجاوزه، كميت وكأن الحياة أفلتت من يده.
لكنّه يكتب الآن بشيء من الأمل، وربما من الراحة. لم يفت الأوان، كما أدرك. فقد مات الإمبراطور ميجي، ومع موته انتحر الأدميرال نوغي، القائد البحري العظيم، الذي اختار أن يوفي دين الشرف بعد هزيمته البحرية أمام الروس في بداية مسيرته. لم يفت الأوان على التكفير، على الموت كنوع من التصحيح.
"لقد وُلدت كائنًا أخلاقيًا، ونشأت لأكون رجلًا أخلاقيًا"، هكذا كتب سينسي، "ورغم أن أخلاقياتي تختلف عن أخلاقيات هذا الجيل، إلا أنها على الأقل أخلاقياتي أنا".
هنا يرسم سينسي خطًا واضحًا بينه وبين هذا العصر الجديد، عصر "الصحوة" و"الحياة الجديدة" كما يسمونه. لكنه، في الوقت نفسه، لا يحنّ إلى العصر القديم. إنه في منطقة بين الاثنين. رجل له مبادئه الخاصة، لا يعترف بشيء سوى قانونه هو.
وحين يسلم ماضيه إلى الشاب، يقول له: "هذا الشيء الذي هو ملكي، أضعه بين يديك، على أمل أنه عندما يتوقّف قلبي عن الخفقان، تبدأ في صدرك حياة جديدة".
لكن حين ينتهي الخطاب، وتنتهي الرواية، لا يبدو سينسي حكيمًا نقيًّا، بل يبدو كأنه مصّاص دماء، لا يورّث الحكمة بل ينقل العبء، كأنما سلّم للشاب لعنةً ثقيلة، لا دربًا للخلاص.
وماذا عساه أن يتعلّم القارئ من هذه القصة بين الطالب وأستاذه؟ نعم، لقد فات الأوان على الطالب لينقذ أستاذه، كما فات الأوان أن يبقى إلى جوار والده في ساعاته الأخيرة. لقد فات الأوان، ولكنّه كان في الوقت ذاته قد حان. فحين نبلغ القسم الأخير من "كوكورو"، نكاد نشعر أنّ الزمنين، زمن الحكاية وزمن قراءتنا لها، قد تماهيا. الطالب يقرأ رسالة أستاذه، ونحن نقرأها معه. لا ندري ما الذي سيفهمه منها، كما لا ندري ما الذي نفهمه نحن. الزمن يمضي، والقطار الذي يحمل الطالب يمضي، ونحن نمضي معهما، ولكن إلى أين؟
"كوكورو" كتاب لا يمنحك نهاية حاسمة، بل يتركك في توتر الحاجة إلى الجواب. هو يجمع بين سعة الرواية وتفصيلها، وبين كثافة اللغز الذي لا يفسَّر. أراه جواب سوسيكي الروائي على سؤال حيّر عقله، ولم يجد له حلاً بلغته. شخصياته أفراد معذّبون بفرادتهم، وفي الوقت نفسه، مجرّد أنماط تبحث بيأس عن موضعها. هي بلا ملامح ثابتة، تعيش في عالم من التفاصيل اليومية الصغيرة، التي لا تبدو ذات معنى، ولكنها تمهّد لانفجار الموت، ذلك الذي يغيّر كل شيء ولا يفسّر شيئًا. أسلوب كهذا لم تعرفه الرواية الغربية من قبل، ولا عهد لها بسرد يحاكيه. لقد كتب سوسيكي رواية عن اليابان الجديدة، وفي الآن نفسه، ابتكر نوعًا جديدًا من الروايات، يابانيًا خالصًا.
أما نهايتها، ففيها انتحار لا يخص أفرادًا بعينهم، بل يتناول المجتمع برمّته: من الأدميرال الكبير إلى سينسي البورجوازي، إلى ك، المنحدر من أسرة دينية عريقة. حين نصل إلى النهاية، نُجبر على الالتفات إلى الوراء، لننظر من جديد في كل ما قرأناه، فنفهم أن رواية الطالب نفسها لم يكن يمكن أن تُكتب لولا معرفته بالنهاية التي حدثت... تلك الكارثة التي لا تستخلص منها نتيجة، بل تتكرر في دائرة.
وعندما نعود إلى بداية الرواية، نكتشف أنّ القلق الذي سكنها لم يكن قلق اليابان وحدها، بل قلق الشرق والغرب معًا. أول لقاء بين الطالب وسينسي كان في كاماكورا، تلك البلدة التي يعرفها اليابانيون بمعبدها العريق وشاطئها الذي اعتاد العامة زيارته. في ذلك المشهد، كان سينسي يرافق رجلاً غربيًا، مظهر غير معتاد، زاده غرابة أنّ الرجل كان يرتدي ملابس سباحة يابانية، لا تخفي من جسده شيئًا، على خلاف زي الاستحمام الغربي. يسبح الرجلان، ويعودان، والطالب يرقبهما بصمت، ثم لا نرى الغريب بعد ذلك أبدًا، كأنّه لم يكن. هذا الغريب، باستثناء ك، هو الصديق الوحيد الذي نُسب إلى سينسي. يبدو المشهد شبه عديم المعنى، لكن عند التأمل، فهو مشحون. هذا المشهد - الذي يلتقط فيه سوسيكي التجوال الغامض والتثبيت المفاجئ للانتباه الذي يميز طريقة تجربتنا للشاطئ، أو الشارع، أو المقاهي والمطاعم، تلك الأماكن الحديثة التي تتميز بكونها مليئة بالغرباء - يشير بهدوء لكن بوضوح إلى أن هذا ليس كتابًا عن اليابان فقط، بل عن عالم كامل تم تحريره، شخصيًا وسياسيًا أيضًا.
يقول سينسي في نهاية خطابه: "لقد بذلت جهدي لتفهم الغريب الذي هو أنا". عبارة تثير الغرابة أكثر مما تفسّرها! فيها جدٌّ ثقيل، ولكنها لا تخلو من الانفصال والتردّد. حين كتب سوسيكي "كوكورو"، ألقى محاضرة في مدرسة مرموقة، أمام طلاب علم أنهم سيكونون "أناسًا مهمّين" يومًا ما. نشر تلك المحاضرة بعنوان "فرادتي". لم يتحدث فيها عن نجاحه ككاتب، بل عن غربته في لندن، كيف شعر بالضآلة والوحدة، وكم من الوقت احتاج ليمنح نفسه الحق في أن يعترف بأنه لا يشبه الإنجليز في شيء. في النهاية، لم يعد يستطيع الإنكار، فقد كان مختلفًا عنهم، وكان عليه أن يكون صادقًا مع ذاته، لا أن يتظاهر بأنه أحدهم. لكنه ظلّ يسأل: من أنا إذن؟
في حديثه ذاك، كما في رواياته كلها، أراد أن يبث في سامعيه وقرائه وعيًا بهذا الاختلاف، الذي شكّل جوهر نظرته إلى الأدب. "كوكورو" في جوهرها قصة عن الإرث المربك، ذلك الذي تعرفه الروايات الأوروبية، ولكن سوسيكي أعاد صياغته بلغة يابانية، وإيقاع متردد خاص به، كما في علاقة سينسي بالطالب، التي تشبه في صورتها علاقة بيب بالآنسة هافيشام في رواية "توقعات عظيمة"، ولكنها تختلف عنها في الروح تمامًا.
لسوسيكي رسالة واضحة: نحن مختلفون عن الإنجليز، نعم. ولكننا، حين ندرك ذلك، ندرك أيضًا أننا مختلفون عن بعضنا البعض. لذلك، يقول لطلابه، خصّصوا لأنفسكم فرديتكم. ليست الفردية التجارية على الطريقة الغربية، ولا القومية المغلقة على الطريقة اليابانية التي كان سوسيكي يُهاجم بسبب رفضه لها. بل تلك الفردية التي تنبع من أعماق النفس، والتي تشكّل مدخلًا إلى "عالم الأدب"، نحن مختلفون من خلال و خلال و خلال .. إلخ.
ومن خلال الوعي بالاختلاف، يقيم سوسيكي في محاضرته "فرادتي" حجّته الكبرى: أن الأدب لا يُضاء إلا بهذا الوعي، وبه وحده تُفتح أبوابه. لم يكن طالب الأدب الياباني الخجول في لندن قد شعر بأن الأدب الإنجليزي يخصّه، حتى أدرك فجأة أنّه يملك الحق في أن يختلف، في أن يعارض رأي ناقد إنجليزي عريق، لا لأنه أعلم منه، بل لأنه مختلف عنه، ومن هذا الاختلاف تنشأ شرارة الأدب.
"عالم الأدب" – هكذا أسماه سوسيكي – تسمية لافتة! لم يكن يعني بها ما قصده غوته في حديثه عن "الأدب العالمي"، ذاك الذي يعبر حدود الزمن والمكان، ليبلغ صورة إنسانية سامية من الشعور والبيان. ولم يكن يقصد ذلك النوع من الروايات الدولية، التي تطمح إلى أن تكون أدبًا كونيًا، كما سيظهر في النصف الثاني من القرن. لا، لم يكن هذا ولا ذاك، بل كان يقصد عالمًا يعترف بالحدود، ويقدّر وجودها، بل يراها ضرورية؛ فلو لم تكن، لما عرفنا من نحن، ولا أين نقف. ولكنه، مع ذلك، يصرّ على أن هذه الحدود وُجدت لتُخترق.
الأدب، عند سوسيكي، هو فعل اختراق. وهو أيضًا، في هذا القرن الجديد، ما يُطلب من الكاتب أن يتخيّله ويشكّله، مهما بدا هذا الاختراق صغيرًا أو عظيمًا. ولكن، كيف يتمّ ذلك؟ يعود بنا سوسيكي إلى لندن، إلى أيام لم يكن يستطيع فيها الحركة، لأنه شعر كمن شُلّت إرادته تمامًا، ككائن معزول تغلفه الضبابات.
صورة قد يراها القارئ مألوفة، بل مبتذلة، ومع ذلك، ها هي تنفتح على معانٍ لا تخطر ببال. ذلك الضباب لم يكن فقط دخان لندن الخانق، ذلك الذي يعزل المرء عن العالم ويكاد يخنقه، بل كان، في نظر سوسيكي، شيئًا آخر تمامًا: كان كالمسافات الضبابية في لوحات الرسم الصيني والياباني، تلك الفراغات التي تلعب فيها الكائنات بين الحضور والغياب، بين الوجود والعدم، وهي التي تنشأ منها الأشياء وتعود إليها. قد يكون شبيهًا بذلك الدخان الذي يتصاعد من القطار الذي يحمل الراوي الشاب في "كوكورو" إلى عالم الأدب، ذلك الراوي الذي لا نعرف له اسمًا، ولكنه ينطلق إلى عالم الأدب.
مترجم بتصرف من كتاب Stranger than fiction
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي
واو ترجمة رائعة جدا أحببت اختيار هذه القطعة من الكتاب وتحمست أكثر لقراءته ، بارك الله فيك ✨