أرتيميسيا
قال الكاتب البريطاني جورج أورويل، في نبوءة دوّنها عام 1948 عند انتهائه من روايته الشهيرة 1984:
إذا أردت أن تتصور المستقبل، فتخيله حذاءً يضغط على وجه إنسان إلى الأبد.
لم يكن أورويل متفائلًا، بل كان ينظر إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية كما لو كان مرآة لعالم قادم يقترب ببطء، عالم تسيطر عليه القسوة والرقابة. وفي العام نفسه، قدّم المخرج الإيطالي روبرتو روسيلّيني فيلمه ألمانيا، السنة صفر، يصوّر فيه الحياة وسط أنقاض برلين بعد سقوط الرايخ النازي، حيث الشوارع المهدّمة، والناس المشرّدون، والأمل المكسور. لم يبق من النازية سوى خواء مرعب، و"صفر" العنوان كان إعلانًا أن كل شيء انتهى، وأن البداية الجديدة مجهولة الملامح.
والمفارقة أن تلك السنة نفسها شهدت صدور رواية "النهاية" للكاتب الألماني نوساك، رغم أنه قبل ذلك بوقت قصير لم يكن يتوقع أحد أن يُسمح بنشرها. كان الفيلم والرواية معًا مزيجًا بين التوثيق والخيال، ويحملان إحساسًا بالنقص والوهن، وكأن القرن العشرين — بعد أن عاش أهوال الحربين — لم يعد يرى ماضيه إلا مجرمًا مطاردًا بالعار، لا يمكن نسيانه أو محوه أو حتى فهمه. كل شيء صار عدمًا، وكان لا بد من إعادة البناء من الصفر، إعادةً محمّلة بالحزن والأسئلة والشك، حيث يصبح من دور الفن في تلك اللحظة أن يقوم بعمل الحِداد على ما فُقد.
وفي صيف عام 1944، ومع تراجع الجيوش الألمانية، لجأ القادة العسكريون النازيون إلى تفجير الجسور لعرقلة تقدّم الحلفاء نحو شمال إيطاليا، فدمّروا معظم جسور مدينة فلورنسا. وحده جسر بونتي فيكيو الشهير — المعروف بمتاجره للمجوهرات والمشغولات الذهبية — نجا، لأن القائد الألماني، الذي كان ذا خبرة فنية، رأى أنه يستحق البقاء. لكن الحيين الواقعين على طرفيه مُسحا من الوجود.
من بين هذا الخراب تبدأ رواية أرتيميسيا للكاتبة آنا بانتي، التي نُشرت عام 1947. فلورنسا المدمّرة تستقبل الصباح والأنقاض تملأها، والراوية — وهي نفسها الكاتبة — تسير ببطء مرتدية ثوب النوم، وسط حشد من البائسين الذين لجؤوا إلى حدائق بوبولي. كانت بانتي، واسمها الحقيقي لوتشيا لوبريستي، زوجة الناقد الفني الشهير روبرتو لونغي، تبكي بيتها الذي سُوي بالأرض، وتبكي مخطوطة رواية كانت تكتبها قبل الحرب، وضاعت مع كل ما ضاع.
فجأة، تسمع صوتًا يقول: "لا تبكي". الصوت، وإن كان يواسي الكاتبة الحزينة، بدا أيضًا كأنه يخاطب بطلة الرواية الضائعة: أرتيميسيا جنتلسكي، ابنة الرسّام الشهير أورازيو جنتلسكي، التي أصبحت رسّامة بارعة. في عام 1611، وهي لم تتجاوز الثامنة عشرة، طلب والدها من زميله الرسّام أغوستينو تاسي أن يعلّمها الرسم، لكنه استغل الفرصة واعتدى عليها، بل واغتصبها، ثم وعدها بالزواج، لكنه أخلف وعده. رفع الأب دعوى قضائية عليه، وما زالت وثائق المحاكمة موجودة حتى اليوم، تسجّل فظاعة ما حدث. تقول الوثائق إنه أُدين، لكن سجنه لم يطل. والأسوأ أن أرتيميسيا نفسها عُذِّبت أثناء التحقيق — وهو أمر لم يكن غريبًا على محاكم ذلك العصر — لإجبارها على تأكيد شهادتها. كان هذا التعذيب، عام 1944، خبرًا حديثًا في الذاكرة الأوروبية، لا مجرد ذكرى تاريخية بعيدة.
"لا تبكي" — بهذه الكلمة تبدأ بانتي روايتها الجديدة، التي كتبتها بدلًا من تلك التي ابتلعتها الحرب. هذه البداية تُعلن أن العمل الجديد مختلف تمامًا؛ فالرواية الأولى كانت تاريخية كلاسيكية، صيغت في هدوء، تستحضر الماضي كأنه حقيقة مكتملة، مرسومة بريشة الفنان، وكأن الحياة يمكن أن تعود بمجرد تحريك القلم. وربما كانت تلك الرواية، التي كُتبت في ظل حكم موسوليني، قد جعلت من الماضي ملاذًا للهروب من الحاضر، لا تمجّد النظام، لكنها تتحاشى قول ما لا يُسمح بقوله. كانت، باختصار، رواية تخشى الجرأة.
أما الآن، فالمشهد أنقاض، والحديقة مأوى للناجين، والكاتبة تبدأ من جديد، لا تهرب من الحاضر، بل تواجهه بكل قسوته، لتصوغ منه أدبًا يولد من الرماد.
نعم يا صديقي، كما ترى بانتي، فإن الكتاب القديم كان يستحق أن يُلقى في لهيب الحرب، فلا حاجة للبكاء عليه. ذلك السرد التاريخي الذي طالما تغنى به الأوروبيون، الممتد كقوس ضخم من حضارة الإغريق والرومان، مرورًا بضياء النهضة، وصولًا إلى الدولة الحديثة، قد تهاوى وتفتت، وما بقي منه إلا غبار يتطاير في هواء ما بعد الحرب. لقد انهار تاريخ أوروبا الذي كان يُقدَّم وكأنه التاريخ الوحيد الجدير بالذكر، فلم يعد يصلح أن يكون جسرًا يعبر فوقه العقل المعاصر. والقصة التي تستحق أن تُروى الآن، هي قصة ذلك الانهيار نفسه. ومن أجل هذا، فلا بد من رواية جديدة، رواية تقتحم السرد القديم كما يقتحم السيل العارم سدًّا متداعيًا.
ورغم أنه لا أحد يعرف ما الذي يمكن أن تمنحه الرواية لهؤلاء الفقراء المشردين الذين يتحسسون طرقهم وسط أنقاض القارة، فإن بانتي شمرت عن ساعديها، وعزمت أن تعيد الكتابة، وأن تنهض من رماد روايتها الضائعة، لتكتب عن فنانة تاريخية نعرف عنها القليل، وكل ما نعرفه جاء صدفة، من خلال وثيقة قانونية منسية لقرون. هي أرتيميسيا جنتلسكي، التي كان فنها في نظر مؤرخي عصرها مجرد هامش على فن والدها، وموضعها في تاريخ الفن أقرب إلى المفقود والمنسي منه إلى الحاضر.
ولأن القصة مليئة بالفراغات، فإن السبيل الصادق لكتابتها هو أن تُكتب بهذه الفراغات نفسها، فلا تُخفى فجواتها، بل تسكنها الرواية وتنبض بها. رواية تعرف ما تجهله، وتُعلن حدود ذاكرتها وخيالها ومعرفتها. فإذا أمكن ذلك، فإن أرتيميسيا — كما تتصورها بانتي — ستحيا، لكنها لن تحيا وحدها، بل ستذكرنا بكل ما لم ينجُ: اللوحات المطموسة، والمخطوطات التي التهمتها النيران، والحيوات البريئة التي دفنتها الحروب تحت الركام، سواء في هذه الحرب الأخيرة أو في التي سبقتها. لقد أُسكت صوتهم، كما كان يمكن أن يُسكت صوت بانتي نفسها، وكما أُسكت صوت أرتيميسيا من قبل.
والكتابة عن أرتيميسيا، في نظر بانتي، هي شكل من أشكال النطق نيابةً عن الأبكم، حديث باسم من مات وسُكت. لكنها، وهي الكاتبة الواعية، تدرك أن الكلام باسم الآخر هو في جوهره افتراض، ولذا وجب على الرواية أن تكون يقظة، متأملة في مشروعيتها، متحفظة في ادعائها، كريمة في حرصها. هذه النبرة المتواضعة تكشف أننا أمام رواية من روايات القرن العشرين، تسير في طريق مارسيل بروست، وأندريه جيد، وفيرجينيا وولف. وبانتي، التي ترجمت أعمال وولف، فهمت أن الرواية يمكن أن تكون أكثر من مجرد مرآة، يمكن أن تكون كيانًا قائمًا بذاته، لا هو المؤلف ولا البطل، بل شيء ثالث هو الفن نفسه، الفن الذي يرفض أن يكون مجرد صوتٍ لأحد، لأنه صوت في ذاته.
في البحث عن الزمن المفقود كما في المزيفون، يلتقي المؤلف مع بطله لكنه لا يذوب فيه. هذه المسافة الصغيرة بين الاثنين هي ما يتيح للفن أن يوجد. وفي إلى المنارة، تقول ليلي بريسكو في نهاية الرواية: "نعم، لقد رسمت لوحتي" — إعلان كامل عن الإنجاز والخلق. لكن أرتيميسيا تقاوم هذا الإعلان، فلا تقول "لقد رسمت"، بل تظل مترددة ورافضة، لأنها ليست بانتي، ولا تريد أن تكونها، وهي تختلف عنها بعمق، كما تختلف الشخصية الحقيقية عن الشخصية المتخيلة.
وكثيرًا ما تتخيل بانتي أن أرتيميسيا تقف أمامها لتوبخها على جرأتها في اقتحام مناطق لا ينبغي لها دخولها. فتقول بانتي كما لو كانت في قاعة محكمة:
أعترف الآن أنه لا يمكننا إعادة إحياء حدث وقع قبل ثلاثة قرون، ولا أن نفهمه حقًا. أعترف بخطئي. ذاكرتي محدودة، ولا يحق لي أن أدعي أنني أشارك رعب عصري مع امرأة ماتت قبل ثلاثمئة سنة. ها هي السماء تمطر فوق الخراب الذي بكيت عليه، وقبر أرتيميسيا — الحقيقي والخيالي — كلاهما الآن غبار.
لكن هذا الاعتراف لا يوقفها، بل يدفعها للاستمرار:
لقد عرفنا أننا فقراء، وأن على الفقراء أن يتعلموا الصبر والمثابرة. ولهذا السبب — لا لسبب سامٍ آخر — سأواصل حكاية أرتيميسيا، كنوع من الكفارة السرية.
وما معنى الحياة يا صديقي؟ إنها أن نُحاصر بهويات يفرضها علينا الآخرون: عامل، تاجر، محام، ألماني، نازي، أسود، فنان، أو حتى ضحية. هذه الهويات ليست ملكنا، بل تُمنح وتُسلب كما يشاؤون. والحرب أوضحت هذا جيدًا، أظهرت كيف يمكن أن تُسحب هويتك فجأة، وكيف تُستخدم ضدك لتخنقك بدل أن تعبّر عنك.
وهكذا كانت أرتيميسيا: بعد اغتصابها، لم تعد "امرأة محترمة" في نظر مجتمعها. والحقيقة أنها حتى قبل ذلك، لم تكن هذه الهوية ملكًا لها، بل كانت قناعًا أعطاها إياه الناس وسحبوه منها حين أرادوا. كان مغتصبها، أغوستينو تاسي، الذي رفض بعد ذلك أن يمنحها لقب الزوجة، يعرف أن المجتمع سيدينه ظاهريًا لكنه في الوقت نفسه سيدين ضحيته أيضًا.
فوجدت أرتيميسيا، المجروحة والمرتبكة، أنها لم تكن هي نفسها يومًا. والآن، بعد أن صارت "نفسها" في أعينهم، اكتشفت أن هذه النفس لا تساوي لديهم شيئًا، بل أقل من لا شيء: مجرد امرأة ساقطة في نظرهم. ومع ذلك، اكتشفت أن عليها أن تقاتل، لا لتنال هوية جديدة من غيرها، بل لتتخيل نفسها بحرية، وتعيد رسم صورتها بنفسها. فهل يمكن أن يحدث ذلك؟ هل يمكن أن ترسم ملامحها كما تريد هي، وتقاتل تحت اسم تعرفه وتؤمن به؟
تقول الرواية:
ليست أرتيميسيا أميرة مدللة، ولا جنديًا صغيرًا يُحرك كما تُحرّك القطع في لعبة الشطرنج، وليست فلاحة تعمل في الحقول، ولا تاجرة تبيع في الأسواق، وليست قديسةً تُرفع على المذابح، ولا بطلةً أسطورية. وليست حتى امرأة عاهرة كما رماها بعضهم… أما ما تبقى لها – من فنّها، وسمعتها، ورغبتها في أن تبقى ذكراها حية – فسيكون عليها أن تضع له قوانينها الخاصة، وأن تبتكر له طرائق جديدة، وأن تبذر البذور التي قد تنبت يومًا، فتروي عطشها، لكن هذه الثمرة لم تُخلق بعد.
هنا يكمن سر قوة فن أرتيميسيا: أنه لا يعرّفها بتعريف واحد، بل يرفض أن يُحشر في قفص الكلمات الجاهزة. وهذا بالضبط ما تفعله الكاتبة آنا بانتي، إذ تحرص على أن تُظهر المسافة بين نفسها وبين بطلتها، وبين هذه الرواية والرواية القديمة التي ضاعت في الحرب، وحتى بين الكاتبة والقارئ. وكأننا أمام لوحة تعكس صورة في مرآة، لكن المرآة نفسها وإطارها والفراغ المحيط بها كلها جزء من العمل، والخراب الذي أحدثته القنابل في مدن أوروبا هو قلب الحكاية ذاته.
وفي النهاية، تبدو أرتيميسيا وكأنها صورة لكل واحد منا، أو لكلينا حين نحاول أن نرى أنفسنا في ملامح الآخر. وحين وقفت بانتي أمام واحدة من أشهر لوحات أرتيميسيا، نظرت إليها بهذا الفهم الجديد. اللوحة تُظهر رسّامة على وشك أن تضع فرشاتها على لوحة بيضاء، وكأنها ستبدأ برسم اللوحة التي نراها نحن! وقد اشتهرت هذه اللوحة باعتبارها رمزًا لفن الرسم، وصورة ذاتية للفنانة نفسها، وإعلانًا عن وجودها كامرأة فنانة. لكن بانتي تخيّلت شيئًا آخر: أن أرتيميسيا ترسم فتاة رسّامة شابة لم تولد في الحقيقة إلا في خيال بانتي، قد تكون أقدر منها على الفن، ما يثير في نفسها مزيجًا من الغيرة والإعجاب. وهكذا، كما أن هذه الفتاة من صنع الخيال، فإن أرتيميسيا نفسها في هذه الحكاية كثيرًا ما هي من صنع الخيال أيضًا… ولكن ألسنا نحن جميعًا – بطريقة أو بأخرى – نتشكل من صنع أيدينا وصنع أيدي الآخرين؟
ومن هنا، يصبح صراع الرسم، سواء لتصوير إنسان أو لتصوير العالم، صراعًا من أجل الاعتراف به. والاعتراف ليس أن نقول إننا نعرفه فقط، بل أن نقبل أن فيه ما نجهله. هو أن نحب هذا المجهول فيه بقدر ما نحب المعلوم. مثل لوحة أرتيميسيا التي لا نعرف إن كانت صورةً لنفسها أم لا، ومع ذلك نُعجب بها لأنها تحتفظ بأسرارها، فتظل معروفة وغامضة في الوقت ذاته.
وهنا تطرح بانتي رؤيتها للفن، وهي رؤيةٌ أخلاقية محضة، إذ ترى أن الجمال الحقيقي يجب أن يقوم على أساس العدل والصدق، لا على أن يكون مجرد موعظة أو أداة نفعية. وهذا يعيدنا إلى سؤال كان يشغل الفنانين والكتّاب بعد الحروب: ما فائدة الفن حقًا؟ وقد سبقتهم أجيال من الكُتّاب في القرن التاسع عشر إلى ربط الفن بالعدالة، لكن ورثة هؤلاء في القرن العشرين صاروا يشكّون في هذا الربط، معتبرينه أحيانًا مجرد غطاء للرضا عن النفس، أي شعور زائف بالبرّ والصلاح و اعتبروه شيئًا يحتاج إلى زعزعة.
وبانتي لا تُخفي رفضها لهذا الشعور المريح، وهي التي رأت العالم ينهار أمام عينيها، وأرواحًا لا تُحصى تُمحى من الوجود. لكنها لا تقف عند حدود ما كتب غيرها، بل تتجاوزهم إلى أبعد، متسائلة: أليست بطولة الفن نفسها نوعًا من الرضا عن النفس؟ ولهذا، فإن أرتيميسيا في روايتها ليست بطلة، بل عاملة تكدّ لإصلاح ما تهدّم، مثلما تحاول بانتي القبض على موضوعها وسط ضوء مكسور وظلال تاريخية تبتلع كل شيء في النهاية.
لقد كتبت بانتي من قلب الأنقاض، كما بدأت الرواية؛ عالم أرتيميسيا كان قد دُمّر، والعدل فيه كان قد انحرف. ومن هنا يخرج السؤال الأهم: ما هو العدل؟ وكيف يمكن للرواية أن تصنع عدلًا؟ وهكذا، فإن الصوت الذي قال في البداية «لا تبكي» يعود في ختام الحكاية، لكن بصوت مختلف هذه المرة، لا ليأمر أو يعزّي، بل ليسأل: عن ماذا نسأل الآن؟ عن الرواية نفسها؟ عن عالم جديد؟ أم عن شيء لم يُعرف بعد… «هل هو موجود؟»
لقد كانت راوية «السيدة دالاوي» و بطلها «نيك آدامز» تمثلان صورة البطولة الكامنة في الإنسان العادي؛ ذلك البطل الذي يكتسب قيمته من إنسانيته اليومية البسيطة. لكن، بعد حرب جديدة، أصبح مفهوم "الإنسان" نفسه مشوشًا، مرتبطًا بالألم والمهانة، وبإدراك قاسٍ أن كونك إنسانًا لا يعني بالضرورة أن تكون إنسانيًّا رحيمًا. هنا يطرح السؤال: هل للناس أن ينجوا فعلًا؟ لقد اتخذ الفن هيئة جديدة: شخصيات جُردت من كل ما يملك الإنسان من مظهر أو زينة، لكنها احتفظت، رغم بساطتها العارية، بوقارٍ يشبه ما كان في الكلاسيكيات القديمة.
كانت أرتيميسيا — تلك الرواية الإيطالية المنفية — واحدة من جوقة كاملة من المهمشين في منتصف القرن العشرين: من «ابن البلد» إلى «الرجل اللامرئي»، ومن «الرجل المشنوق» إلى مدمني «الرجل ذو الذراع الذهبية»، ومن شخصيات «كتاب قايين» و«الغداء العاري» التي تموج بالسكر والانهيار، إلى الجنود في «العراة والموتى»، أو بطل «الرجل الذي شاهد القطارات تمر» لسيمنون، و«صورة رجل مجهول» لساروت، و«يوميات لص» و«كيريل» لجينيه، حيث قصص المثليين المطارَدين بشهوة يائسة.
في إسبانيا ظهرت «عائلة باسكوال دوارتي» التي قدمت الإنسان قاتلًا بالفطرة، وفي سويسرا صرخ ماكس فريش في روايته «ستيلر»: «أنا لست ستيلر»، وهو صدى لصوت دوستويفسكي في «مذكرات من العالم السفلي»، حيث البوح الحاد بالرفض والتمرد. كل هؤلاء، ومعهم أرتيميسيا، يلتقون في روح «الغريب» لألبير كامو — تلك الرواية التي كُتبت في زمن الحرب وأحدثت أثرًا عميقًا — وعنوانها نفسه يشير إلى غريبَين: القاتل الفرنسي مورسو، والعربي المقتول. أما بريمو ليفي، فقد كتب عن جحيم أوشفيتز، وسأل سؤاله القاسي: «هل هذا إنسان؟».
لكن أرتيميسيا ليست رجلًا، بل امرأة؛ وهذا فرق جوهري. صحيح أن النساء كنّ منذ ولادة الرواية جزءًا من نسيجها، ككاتبات وقارئات وشخصيات، لكن جيلًا جديدًا من الأديبات خرج من الحرب بحس مختلف حول معنى أن تكون المرأة كاتبة. ربما لأن تصورات العالم عن النساء تغيّرت أسرع بكثير من تصوره عن الرجال، وربما لأنهن لم يكنّ على استعداد للتنازل عن تلك «الحرية الاستثنائية» التي منحتها لهن الحرب، كما وصفتها بانتي. لقد رفضن العودة إلى الأدوار الضيقة في البيوت، في الوقت الذي كانت فيه حكومات أوروبا وأمريكا تسعى لإعادة النساء إلى الداخل، إلى ما قبل زمن الحرب.
ولعل اللافت أن أغلب هؤلاء الأديبات جئن من هوامش الإمبراطوريات الأوروبية الآخذة في الانهيار، لا من مراكزها: جين ريس جاءت من الكاريبي، ودوريس ليسينغ من روديسيا، ومورييل سبارك من اسكتلندا، وكارمن لافوريه من جزر الكناري، ومارغريت دوراس من الهند الصينية الفرنسية، وناتالي ساروت من روسيا، مثل الكاتبة المثيرة للجدل آين راند، وكلاريس ليسبكتور من أوكرانيا. ومن الولايات المتحدة برزت كارسون مكولرز ويودورا ويلتي وفلانري أوكونور، وهن جميعًا من الجنوب العميق. أما إيلين تشانغ، فقد كتبت بين لغتين — الصينية والإنجليزية — وعاشت بين ثقافتين: أم متحررة عشقت الغرب وقلدت نساءه، وأب تقليدي من أسرة صينية محافظة. بعد أن هربت من بيتها في الثامنة عشرة، وجدت في شنغهاي جمهورًا قرأها لا لجمالها وأناقتها فحسب، بل لوعيها الحاد بعلاقات الاستغلال بين الرجل والمرأة، والعائلة والفرد.
لقد بدا حضور هؤلاء الكاتبات، بعد الحرب، في مشهد الرواية العالمية، بمثابة عودة إلى قرن سابق كانت فيه أسماء مثل مدام دي ستال وجورج صاند وجورج إليوت حاضرة بقوة، لكن الاختلاف أن نساء ما بعد الحرب لم يتحدثن عن «حس أنثوي» مشترك، بل كثيرات منهن رفضن هذه التسمية تمامًا، ورأين فيها قيدًا لا تحررًا. إن بروزهن كان انعكاسًا مباشرًا لموقع المرأة المربك في المجتمع البرجوازي: مركزية في الأسرة، مهمشة في السلطة، مرفوضة علنًا لكن معلنة كركيزة عاطفية للحضارة. وضع غامض، مريب، لا يُسأل عن جوهره، هذا الوضع الغامض، المريب، المستقر على ألا يُسأل، قد أثار أسئلةً، هي ذاتها تلك الأسئلة التي طرحتها الروايات منذ ولادتها، وهي الروايات التي لطالما كان جمهورها من النساء. غير أن ما جرى بعد الحرب من تهدّم في النظام الاجتماعي القديم قد أتاح لتلك الأسئلة أن تبلغ من الحدة أقصاها، كما نشهد في رواية بانتي «أرتيميسيا»، وكما نرى في أعمال كاتباتٍ أخريات ظهرن في الوقت ذاته.
في رواية دوريس ليسينغ «الدفتر الذهبي» نجد البطلة آنا وولف — وهي يهودية من روديسيا — تدون حياتها في دفاتر ملونة، لكل منها موضوعه وأسلوبه: الشخصي، والسياسي، والفني، والروحي، مع انشغال خاص بالشيوعية والاستعمار والتحليل النفسي. ومع تقدم السرد، يشتد السؤال: كيف يمكن جمع هذه الشظايا المتنافرة في وحدة واحدة؟ لقد كتبت ليسينغ عن حرية انتُزعت انتزاعًا، بينما كتبت مارغريت دوراس في «اغتصاب لول ف. شتاين» عن سجن قُبل به طوعًا.
في رواية دوريس ليسينغ «الدفتر الذهبي» نجد البطلة آنا وولف — وهي يهودية من روديسيا — تدون حياتها في دفاتر ملونة، لكل منها موضوعه وأسلوبه: الشخصي، والسياسي، والفني، والروحي، مع انشغال خاص بالشيوعية والاستعمار والتحليل النفسي. ومع تقدم السرد، يشتد السؤال: كيف يمكن جمع هذه الشظايا المتنافرة في وحدة واحدة؟ لقد كتبت ليسينغ عن حرية انتُزعت انتزاعًا، بينما كتبت مارغريت دوراس في «اغتصاب لول ف. شتاين» عن سجن قُبل به طوعًا. لول — تلك المرأة التي بقيت جرحًا حيًّا منذ هجرها خطيبها — تائهة في ضاحية فرنسية أو مستعمرة بعيدة، بلا أسماء مألوفة لشخصياتها. تبحث عن ذاتها في عيني الراوي، واضعة مسافة محسوبة بينهما، مرفوضة ومكسورة، تعيد تشكيل نفسها كآخر. وفي الوقت ذاته، تعيد دوراس تشكيل الرواية نفسها، فتحيلها إلى قاعة مرايا فارغة، تُرضي وتؤلم، يائسة ومنغلقة على ذاتها.
هؤلاء الكاتبات لم يرضين بما قَبِله كثير من الرجال والنساء عن طيب خاطر من قيودٍ مفروضة عليهن، بل تمرّدن عليها، وحاولن أن يتخيّلن معنى الخلاص منها. كتبن روايات تتجاوز الحدود، تختلط فيها أنماط التفكير والشخصيات بلا سياجٍ يحاصرها. خذ مثلًا روايات آيريس مردوخ، فهي أشبه بتيارات متلاطمة من العاطفة والفلسفة. أما رواية الكاتبة البرازيلية كلاريس لسبكتور «الشغف بحسب ج.هـ.» فتحكي عن سيدة ثرية من ريو دي جانيرو، وجدت نفسها محبوسة في شقتها، مأخوذة بمشهدٍ غريب لصرصور خرج من خزانة مكسورة. وفي مشهد ساخر وقاسٍ في آن (يحاكي عشاء المسيح الأخير عند المسيحيين، كما يحاكي رواية كافكا الشهيرة «المسخ»)، تضطر البطلة إلى سحق الحشرة ثم ابتلاعها، كأنها تشارك في طقس مقدّس ملوّث. ومن خلال هذا الفعل الصادم تصل البطلة إلى حال من الزهد الصوفي، أي إلى صفاء داخلي روحي يتحقق من خلال تجربة دنيوية منحطّة، لكنها تنقلب لتصبح طريقًا للتسامي.
غير أنّ السؤال الذي ظل يلحّ: كيف يمضي الإنسان إلى الأمام، بينما العالم من حوله ينهار، والكتاب الذي كان يكتبه يُحرق؟ هذا هو السؤال الذي تردّده بانتي في روايتها «أرتيميسيا». وهو نفس السؤال الذي كان حاضرًا في السنوات الأولى من الحرب الباردة، حين كان الخوف قائمًا من أن يُباد العالم دفعة واحدة، رغم مظاهر الازدهار الظاهري بعد الحرب. فكانت إجابة بانتي أن تحكي قصة لم تُروَ من قبل، وكأنها تقول: إن التاريخ ليس إلا مخزنًا للحكايات غير المروية، وسردها لهذه الحكاية قد يفتح طريقًا جديدًا نحو المستقبل، ولو في الخفاء.
الأشياء تتداعى
لقد جاءت نهاية الحرب العالمية الثانية فدفعت بانهيار الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية. لم يحدث ذلك بشكلٍ فوري أو نظيف، لكنه صار أوضح مع مرور الوقت: استقلال الهند، ثم الثورة الصينية سنة 1949، وغيرهما من التحولات الكبرى. وهكذا انفتحت أمام الرواية أبواب عوالم جديدة، قصص لم تُكتب من قبل، عن ماضٍ طويل وعن مستقبلٍ محتمل. بل إن عالم الرواية نفسه اتسع، فصار يستوعب هذه العوالم. ففي أفريقيا جنوب الصحراء، حيث كان فن الحكي الشفهي متجذرًا منذ قرون، لم تكن الرواية المكتوبة قد وجدت بيئتها بعد؛ لأن جمهور القراء المتعلمين، الذي تحتاجه الرواية لكي تزدهر، كان قليلًا. أغلب السكان كانوا مقهورين سياسيًا واقتصاديًا، بينما الأقلية المتعلمة من المستوطنين كانت تتطلع إلى أوروبا لتستمد منها ثقافتها.
لكن الحرب، وإن لم تغيّر هذا الواقع كليًا، فقد زعزعته. إذ أضعفت سلطة الدول الاستعمارية، وأرهقت مواردها المالية، كما أنها قرّبت الأفارقة من عوالم جديدة حين شارك كثير منهم في الجيوش الاستعمارية. فجاءت رواية الكاتب الكيني نغوجي واثيونغو الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» (1964) لتعكس هذه التجربة. وقد بدا عنوانها وكأنه يردّد صدى نداء بانتي في «أرتيميسيا»: «لا تبكِ». في الرواية، يربط الكاتب بين خدمة والد البطل في الجيش البريطاني وبين إدراكه أن الرجل الأسود لا يقل شأنًا عن الرجل الأبيض. لقد رأى بنفسه أن بوسعه أن يحمل السلاح، وأن يقاتل بجوار الرجل الأبيض أو ضده، وأن جهله بالقراءة والكتابة لا يمنعه من أن يتعلم. بل إن أبناءه سيذهبون إلى المدارس، وستروي الرواية تفاصيل هذا التعليم، وما يكشفه للبطل عن العالم وعن نفسه، وخاصةً ما ينبغي أن يتغير فيه.
ثم جاءت رواية النيجيري الشاب تشينوا أتشيبي «الأشياء تتداعى»، التي نُشرت في لندن عام 1958، فكانت واحدة من أوائل الروايات الأفريقية في زمن ما بعد الحرب. وقد صدرت عن دار نشر تعليمية اسمها هاينمان، لا عن دار أدبية، وذلك لأنها رأت في هذه الكتب منتجًا مناسبًا للمستعمرات السابقة حيث بدأ التعليم ينتشر. ومع الوقت تحولت السلسلة التي أشرف عليها أتشيبي نفسه إلى مكتبة ضخمة عرّفت العالم الناطق بالإنجليزية على ثراء الأدب الأفريقي والكاريبي. ومع الستينيات، ومع تصاعد النضال ضد التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، صار لهذا الأدب وجه سياسي واضح. أما رواية «الأشياء تتداعى»، التي دشّنت هذه المغامرة، فقد اتجهت إلى الماضي لتكتب سردًا جديدًا لعالم ما بعد الاستعمار، كما فعلت بانتي في «أرتيميسيا». كان هدف أتشيبي أن يصوّر فصلًا آخر من الحروب، ليس الحرب العالمية التي انتهت بالقنابل النووية، بل الحرب الأطول: تلك التي شنّتها أوروبا على أفريقيا وآسيا والأمريكتين قرونًا طويلة، قتلًا واستعبادًا ونهبًا.
وهكذا وجدت رواية «الأشياء تتداعى» السبيل إلى سرد هذه القصة. لكنها، في الوقت نفسه، تجبر القارئ على طرح سؤال عميق: هل يمكن حقًا أن تُروى هذه القصة كاملة؟
كان أُوكونكو بطل الرواية رجلًا راضيًا عن عالمه، كأنه لا يرى غيره ولا يتخيّل سواه. عاش في قرية صغيرة غائرة وسط الغابة، في زمن لا يُقاس بالسنوات بل يُنسَب إلى الأسلاف والآلهة، زمنٍ خارج التاريخ المعروف. في هذا العالم، كان أوكونكو رجلًا له مكانة: مزارعًا ناجحًا صار غنيًا، اتخذ أكثر من زوجة، واشتهر في شبابه كمصارع قوي، يحظى صوته بالاحترام في مجالس القرويين، ويشارك في الرقصات الطقسية التي كانت تُقام لربط أفراد القرية بعضهم ببعض. بدا له أنه ليس كأبيه، ذاك الذي ضيّع عمره في الشراب والعزف، بلا جدوى ولا مكانة.
أوكونكو، إن أردتَ الحق، يظن في نفسه العلم بقيمته ومعرفته لنفسه. وهو لا يظن هذا ظنًا عابرًا، بل يعتقده اعتقادًا لا يخالجه فيه الشك، ويحسبه من اليقين الذي لا يتزعزع. ولكن الأحداث – وأعني بها الكاتب تشينوا أتشيبي نفسه – لا تلبث أن تتآمر عليه لتكشف أن الرجل، في الحقيقة، لا يعرف، لا قيمته ولا نفسه. فنحن نراه يفتقر إلى التعاطف، مجردًا من الخيال، لا يقدر أن يتخيل نفسه في موضع غيره، ولا أن يتصور لغيره من البشر ما يتصور لنفسه. وإن تكن له إرادة قوية، بل عنيدة، وإن يكن قد عقد العزم منذ زمن بعيد على أن يثبت رجولته بكل وسيلة، فإن ما ينقصه هو الحكمة. ولعل ما يؤلم حقًّا – كما يُلحُّ أتشيبي في التذكير طوال الرواية – هو أن ما يفتقر إليه أوكونكو خاصةً هو ذلك النوع من الحكمة التي تتجلى في النساء، الحكمة التي تبثّها الأمهات في القصص الماكرة والعذبة التي تحكينها للأطفال في الليالي، قصص تبدو عندهنّ فهمًا عميقًا للحياة، لكنها عند أوكونكو ليست سوى لغو لا قيمة له.
وهذا النقص في الفهم والخيال والتعاطف هو ما يقوده إلى نهايته. إذ يكشف الكاتب أن أوكونكو غريب عن نفسه وغريب عن العالم من حوله، كأنه يعيش في أرض ليست أرضه. وتبدأ هذه المأساة، هذا الكشف المفجع، بقتلَين مفاجئَين، يقطعان نَسَق رواية الأشياء تتداعى كما قطعت رصاصة واحدة حياة العربي في رواية الغريب لألبير كامو: بلا تردد، وبأمر غامض من شيوخ القرية، يقتل أوكونكو صبيًّا من قرية أخرى كان قد آواه في داره لسنوات طوال، صبيًّا أحبه كابنه، وأحبه ابنه كأخ. لكن أوكونكو لا يرى إلا أن "القانون هو القانون"، فيرفض نصائح أصدقائه وعائلته، ويختار أن يقتل بيده، فيدفع الثمن بانفصال ابنه عنه إلى الأبد. ثم، في جنازة، وبينما يشارك في الرقص الطقسي، تنطلق من بندقيته رصاصة طائشة تقتل رجلًا من القرية. ومرة أخرى "القانون هو القانون": يُنفى سبع سنوات بعيدًا عن أهله. وحين عاد، وجد قريته قد تغيّرت تمامًا؛ المستعمر الأبيض الذي كان يومًا شبحًا بعيدًا صار واقعًا حاضرًا، ابنه انضم إلى المسيحيين أتباع دين الغزاة، والإدارة الاستعمارية بدأت تطالب بما لم يفهمه أوكونكو قط. العالم كما عرفه قد تداعى، وإذا بالقوة التي كان يفتخر بها تنقلب عنفًا لا طائل تحته، عنفًا أخرس، عاجز. فلما تكالبت عليه الظروف، لم يجد ملاذًا إلا أن يدمّر نفسه بيده.
إنها مأساة تامة الأركان تحيط بأوكونكو من كل جانب. بل الحق أنها ليست مأساة واحدة، وإنما مأساتان متداخلتان. فأولاهما مأساة رجل حاز قوة وملك طاقات عظيمة، غير أنه لم يفلح أن يتعلم من التجربة، ولا أن يبدّل مساره حين عصفَت به المحن. إن تقلّبات الدهر كانت تختبره بالقسوة، وهذه القسوة نفسها كان يمكن – لو أوتي بصيرة – أن تفتح له باب الفهم ليعرف نفسه. غير أنّ ما رفعه إلى مقام الرجولة والعظمة، هو ذاته ما حجبه عن الحكمة، وما حجب عنه القدرة على رؤية الحقيقة في ذاته وفي الآخرين. وتلك – لمن تأمل – هي المأساة الكلاسيكية الكبرى، مأساة العمى البشري الذي يظلّ يتربص بكل إنسان، فيُظهر ضعف إدراكه وحدود وعيه، ويذكّره أن ما يراه يقينًا قد لا يكون سوى غشاوة.
وهكذا هي رواية الأشياء تتداعى: تعرض لنا هذه المأساة في وجهها الأول، غير أنها في الوقت ذاته تكشف عن مأساة ثانية أعمق غورًا وأشد خفاء. إنها مأساة غياب الاعتراف بالإنسانية المشتركة. ففي هذه المأساة لا يعود مهمًّا أكان أوكونكو يعرف نفسه أم جهلها، ولا إن كان قد أدرك العالم أم عجز عنه. فالقارئ، إذا لم يتبيّن منذ البدء، فلا بد أن يوقن في الخاتمة أن أوكونكو كان محاصرًا بقوى تفوق طاقته، وتفوق حتى خياله. لقد اختير عالمه كله للهدم، فأضحى كل ما فيه – بما فيه أوكونكو نفسه وما أحبّ – بلا قيمة تُذكر. أوكونكو كان رجلًا يفرط في الاهتمام بما يؤمن به، ويبالغ في الدفاع عنه، لكن كل ما حرص عليه وما جاهد دونه غدا هباءً في عالم جديد لا يعبأ به. وهكذا يبدو للوهلة الأولى أن مأساته من صنع يده، غير أنها في جوهرها مأساة أخرى: مأساة تاريخ جائر يسلب الإنسان حتى حقه في أن يشعر بمأساته. لقد جُرّد أوكونكو من معناه، والأشد إيلامًا أنه لم يستطع حتى أن يعقل مأساته.
وما يزيد المرارة أن المأساة في جنس الرواية نادرة؛ فالرواية، بطبيعتها، لا تحب أن تُغلق الأبواب إغلاقًا، بل تدع الأشياء تنساب وتمضي، حتى وإن قست الأحداث. أما هنا فقد أُسدل الستار إغلاقًا تامًّا. وإن شئت مثالًا من الأدب الغربي، فاذكر روايات الكاتب الإنجليزي توماس هاردي، صاحب عمدة كاستربريدج وجود الغامض، حيث أبطاله رجال أهلكتهم أقدارهم وأنفسهم معًا، فكشفوا لنا هشاشة اعتزاز الإنسان بذاته. غير أن أولئك – على شدّة مصائرهم – عرفوا أنفسهم وأدركوا نوع الحكاية التي يعيشونها. أما أوكونكو فقد اجتاحه أمر غريب لا يمكن للعقل أن يتصوّره: زوال عالمه كله. وفي معنى خفي، حتى انتحاره لم يكن من اختياره الخالص، بل من صنع قوة أكبر جرّدته من إرادته.
وهنا يبرز سؤال الكاتب: كيف السبيل إلى إنقاذ ما لا يُنقذ؟ كيف يُسترد ما جاوز حدود العدالة، بل ما خرج من دائرتها أصلًا؟ هذه هي المعضلة التي واجهها تشينوا أتشيبي. فهو لم يكتب عن رجل تهاوت حياته وحده، بل كتب عن رجل ينتمي إلى عالم آخر بعيد عن عالم الرواية الأوروبية المألوف. عالم لا يعرف الكتابة أصلًا، فلا روايات فيه ولا كتب، بل يعتمد على التقاليد الشفاهية الحيّة، حيث الحكمة تُحفظ في ذاكرة الشيوخ والكهنة ومجالس القرى، وتُنقل بالأمثال والأقوال والحكايات في الليالي، وتُمارَس في الطقوس اليومية والأعياد الموسمية.
إن سلطة هذا العالم مختلفة كل الاختلاف عن سلطة الرواية المكتوبة التي يمسكها القارئ بين يديه منفردًا، تلك السلطة التي تمثل الفكر الغربي القائم على الفردانية والذاكرة المؤرشفة بالكتابة. وليس من الغريب أن يُشكَّك، أن الرواية -بما أعدوه أنها نتاج ثقافة أوروبية مكتوبة- هي الأداة المناسبة لفهم عالم أوكونكو الشفاهي. فهي، في أصلها، انعكاس لرؤية حضارية غربية عنصرية عدّت مثل هذا العالم بدائيًا متأخرًا لا يستحق البقاء، فرأت أن تمحوه.
وهنا تكمن المعضلة؛ بل لعلها هي المعضلة التي تمنح رواية أتشيبي حقيقتها – حقيقتها بوصفها نصًّا يمكن أن يُتَصوَّر، ويُعقَل، ويغدو بالنسبة للقارئ قدرًا لا مهرب منه. إنّها مشكلة في ظاهرها، لكنها في جوهرها اكتشاف: اكتشاف بلغه الكاتب وهو يخط روايته، كأن الرواية نفسها هي التي أفصحت له عما كان غامضًا. وحين نلمح هذا الاكتشاف، ندرك – بل يتعيّن علينا أن ندرك – قيمة الفن الذي أبدعه أتشيبي، والمهارة التي تجلّت في كل موضع من مواضع كتابه.
تأمل مثلًا طريقته في التعامل مع الزمن: زمن الرواية عنده ليس خطًا مستقيمًا كما في كتب الرجل الأبيض، بل هو نسيج متشابك، يختلط فيه الماضي بالحاضر، وتطلّ فيه لمحات من المستقبل. في الجزء الأول، قبل أن تطأ قدم الرجل الأبيض أرض القرية، يمضي السرد حرًّا متقلّبًا، يعود إلى ماضٍ قريب أو بعيد حين تدعو الحاجة، ثم يندفع فجأة إلى حدث صاعق بلا تمهيد؛ كالقتلَين الفاصلَين اللذين وقعا كأن يد القدر هي التي خططت لهما، لا يد الكاتب.
ذلك لأن العالم الذي يصوره أتشيبي ليس عالم التاريخ الغربي ذي التسلسل السببي؛ بل هو عالم تُستخرج معانيه من الطقوس والشعائر، من الإلهام والوحي، من شبكة من الروابط والمعاني الموروثة، لا من منطق العلّة والمعلول. وهذه الشبكة يتركها لنا كما هي، لا يشرحها ولا يبرّرها. فهو لا يفسّر مثلًا لماذا حكم الشيوخ على الغريب الصغير بالقتل، ولا لماذا انصاع أوكونكو لأمرهم ولم يعصِهم كما أشار عليه صديقه. إنه عالم له منطقه الخاص، قائم على أسس داخلية لا تُفهم إلا من داخله، ولا تحتاج إلى منطق خارجي ليثبتها.
ثم إن صوت الراوي عند أتشيبي لا يقل أثرًا عن صنيعه في الزمن. هو صوت ثابت، خافت، يشبه النواح المكتوم: كأنه صادر عن حزن لا يجد له لسانًا، وعن صبر يرفض الشكوى، وعن موضوعية ظاهرها الهدوء وباطنها الألم. ومع أنّ الصوت واحد، فإن وجهات النظر فيه تتعدد وتتشابك وتترك القارئ في حيرة وسؤال. فهو تارةً كعالم الأنثروبولوجيا يجمع الأساطير والحكايات والأحكام والتعاويذ والرقصات، وتارةً كروائي يكشف عن أعماق شخصية أوكونكو وحدودها ومآزقها، وتارةً كمؤرخ يسجل دخول المبشرين والمستعمرين. وفي الختام، يطلق سخرية لاذعة حين يورد نية المفوض البريطاني أن يؤلف كتابًا بعنوان: «تهدئة القبائل البدائية في النيجر السفلي»، عنوان لا يكشف إلا عن جهل صاحبه وغروره.
ولعل من أعمق العبارات في الرواية تلك التي قالها أحد شخصياتها: «لا توجد قصة غير صحيحة». ثم أردف: «العالم لا نهاية له، وما هو حسن عند قوم قد يكون قبيحًا عند آخرين». لكن، آهٍ، إن العوالم قد تنقضي! وقد يتركنا تفتت الحقائق وتعددها بلا حقيقة جامعة، بلا يقين إلا «الرجس» بعينه كما يبدو. هكذا تقدّم الرواية لا وجهة نظر واحدة، بل لوحات متراكبة، تتقاطع وتتصادم، حتى تذكّرنا باللوحة التكعيبية (وهي فن يرسم الشيء من زوايا متعددة دفعة واحدة) فلا نرى فيها صورةً واحدة بل صورًا متراكبة.
بل إن ما يُسمى في الفن بـ«نقطة الاختفاء» – أي موضع التلاشي في المنظور التشكيلي – يتحوّل عند أتشيبي إلى مسألة تاريخية خالصة؛ إذ كل وصف عنده هو في حقيقته رثاء لشيء اندثر، وكل فقرة نواح على عالم زال. أما العبارة الشهيرة «الأشياء تتداعى» التي اقتبسها من الشاعر الإنجليزي ييتس، فإنها تُنزَع في روايته من نبوءتها الشعرية الحارّة، لتغدو حقيقة صادمة، عارية من المجاز والرمز: الأشياء حقًّا تتداعى، ليس لأنها تهديد شعري، بل لأنها، ببساطة، لم يكن لها مركز ثابت يومًا.
نٌقل بتصرف من كتاب Stranger than fiction
لا تبكٍ 💪🏻
لا تبكي 👎🏻