أدب في زمن الدمار
طرأت على العالم في تلك الحقبة طرق جديدة للعيش، وأساليب مبتكرة لفهم الذات وفهم الآخرين، ومعانٍ مغايرة لما يعنيه أن يكون الإنسان رجلًا أو امرأة، بل وحتى أنماط مختلفة في كتابة الرواية. ثم اندلعت حرب جديدة، أعادت العالم إلى المربع الأول. كانت هذه الحرب بمثابة نكسة حادة لذلك المشروع الطموح الذي اقترحه الكاتب الإنجليزي هربرت جورج ويلز، حين تخيّل قيام حكومة واحدة تحكم العالم بأسره، كما كانت نكسة أخرى لـ«السيدة براون» الرمزية، التي كانت تمثل عند فرجينيا وولف جوهر الإنسان الفردي في وجه المؤسسات والأنظمة.
ففي مطلع شهر سبتمبر من عام 1939، اجتاحت ألمانيا بولندا، فردّت بريطانيا وفرنسا بإعلان الحرب. لكن هذا الإعلان خلا من الحماسة التي ميزت بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914، خاصةً في الدول التي تتبنى النظام الديمقراطي الليبرالي. ولم تتكوّن التحالفات العسكرية القوية القادرة على مواجهة ألمانيا النازية وحلفائها إلا أواخر عام 1941، عندما أخلّ هتلر باتفاقه مع الاتحاد السوفييتي وغزاه، ثم هاجمت اليابان القاعدة الأمريكية في بيرل هاربر، مما دفع الولايات المتحدة لدخول الحرب. ورأى كثيرون أن هذه الحرب الثانية لم تكن إلا نتيجة مباشرة لشروط الاستسلام القاسية التي فُرضت على ألمانيا بعد الحرب الأولى، وكذلك لجبن الزعماء السياسيين الذين تردّدوا في مواجهة اعتداءات هتلر في بداياتها، خوفًا من اندلاع صراع جديد. وكان هذا التناقض في الموقف واضحًا، لكنه لم يُخفف من قسوة الواقع، بل زاده مرارة.
ولئن سُمّيت الفترة ما بين الحربين بـ«سنوات السلم»، فإنها لم تخلُ من العنف والصراعات. فقد غزت إيطاليا إثيوبيا، واستولت اليابان على منشوريا، وغرقت إسبانيا في حرب أهلية عنيفة، وسُجّلت أحداث دموية أخرى.
وبطبيعة الحال، لم يكن العنف غريبًا على الرواية. فقد تناولته منذ زمن، كما في رواية الوضع البشري للكاتب الفرنسي أندريه مالرو، التي نُشرت سنة 1933، وتحكي عن انتفاضة فاشلة في مدينة شنغهاي الصينية عام 1927. لكن الرواية، بعنوانها ودلالتها، كانت ترمز إلى الصراع العنيف الذي يختلج قلب الإنسان في وجه الأنظمة القمعية.
أما روايات سنة 1939، فقد عبّرت بوضوح عن تصاعد التوتر في العقد الأخير. في رواية يوم الجراد للكاتب الأمريكي ناثانيال ويست، تدور الأحداث في مدينة لوس أنجلوس، غرب الولايات المتحدة، وتنتهي بأعمال شغب عارمة وصورة لعمران المدينة وهو يحترق. تتشابك فيها أنماط العمارة التي تمزج بين الطراز المصري والكولونيالي وطراز "كيب كود" الأمريكي، وكأن ديكورات هوليوود قد انفجرت فجأة لتتحول إلى واقع مأساوي. أما رواية على منحدرات الرخام للكاتب الألماني إرنست يونغر، الذي اشتهر بعد روايته عاصفة من الفولاذ، فقد اتخذت طابعًا رمزيًا لتصوير انهيار أوروبا، إذ جاءت على هيئة سرد خيالي لانهيار حضاري تحت وطأة عصابات همجية يقودها رئيس حراجي قاتل، في إشارة مبطنة إلى النازية وهيرمان غورينغ، أحد أقطابها البارزين. ورغم ما لاقته الرواية من نجاح، فقد سُحبت من الأسواق بعد فترة قصيرة في ألمانيا.
أما توماس مان، الذي كان يُعد فخر الأدب الألماني، فقد أصبح لاجئًا بعد أن ترك وطنه عام 1933، حين وصل النازيون إلى السلطة وأُحرقت كتبه. وبحلول عام 1939، كان يقيم في هوليوود. ولحقه كثيرون من الأدباء والمثقفين الذين اضطرتهم الحرب إلى الهجرة. فبقيت كوليت في باريس المحتلة، وواصلت الكتابة رغم صعوبة الظروف، وكان لها نفوذ ساعدها في حماية زوجها اليهودي. وعاشت غيرترود شتاين في جنوب فرنسا، حيث أقامت علاقة تفاهم مع حكومة فيشي، التي تغاضت عن كونها يهودية أمريكية. أما آندريه جيد، فانسحب إلى شمال أفريقيا، وجيمس جويس انتقل من باريس إلى زيورخ، حيث توفي أوائل عام 1941. وفي لندن، دمّرت الغارات الجوية منزل فرجينيا وولف القديم، ثم طال القصف بيتها الجديد، مما ساهم في تدهور حالتها النفسية، حتى أقدمت على الانتحار. وكانت هي وزوجها ليونارد على قائمة المطلوبين للاعتقال في حال اجتياح النازيين لبريطانيا، كما كان الحال مع هربرت جورج ويلز. أما إرنست هيمنغواي، فقد حضر غزو نورماندي من البحر، ورافق تحرير باريس كمراسل حربي. وظل الكاتب النمساوي موسيل في سويسرا حتى توفي عام 1942.
وفي تلك الأجواء المضطربة، ألقى الشاعر الأمريكي والاس ستيفنز محاضرة في جامعة برينستون عام 1942 قال فيها: "لقد أصبحت الواقعية عنيفة. ربما لم تصبنا نحن الأمريكيين جسديًّا بعد، لكنها تمس أصدقاءنا وأعداءنا جسديًا ، وتمس كل إنسان حيٍّ روحيًّا".
وقد تجاوزت هذه الحرب سابقتها في حجم الدمار واتساع رقعتها ووحشية نتائجها. كانت حربًا شاملة بمعنى الكلمة. فكيف يمكن للرواية أن تتعامل مع حدث بهذا الحجم؟
النهاية
إن الرواية، بما أنها عمل من نسيج الخيال، فإنها تطرح سؤال الحقيقة بطريقة فريدة. بل إن هذا السؤال يكون أكثر حدة في الرواية منه في الكتابات غير الخيالية، لأن الحقيقة الروائية لا يُمكن التحقق منها إلا بمشاعر القارئ ووجدانه. فهي لا تطلب منه تعليقًا للشك كما تفعل الأساطير، بل تطلب نوعًا من التصديق الواعي؛ ذلك التصديق الذي يدرك أن الحقيقة تتغير بتغير النظر إليها. ولهذا فإن الرواية تتحرك في منطقة خاصة بها، تستقصي فيها المعاني التي تنشأ بين الناس، والزوايا الدقيقة التي اهتم بها هنري جيمس، والأبعاد الجديدة التي حاول كتّاب مثل ويلز وجيد اكتشافها، والحقيقة التي بحث عنها موسيل في الأفعال، وطارَدها لورنس في العلاقات الإنسانية. إنها تلك الحقائق غير المؤكدة، والتي مع ذلك ندرك أننا نحيا بها ونعيش لأجلها.
وقد وُصفت الرواية في القرن التاسع عشر بأنها تتبع نوعًا من الواقعية الجادة، لكنها في القرن العشرين أخذت شكلًا جديدًا استجابةً لأسئلة حادة فرضها العالم الخارجي والعالم النفسي في آنٍ واحد. وقد أُطلق على هذا الشكل اسم "واقعية الطوارئ"، وهو وصف يعكس شعور الروائيين بأنهم يكتبون في زمن استثنائي. ومع تنوع أساليبهم واختلاف عصورهم، تبقى الرواية، في جوهرها، تأملًا في الحياة، سواء روت قصة أم لم تروِ، وتبقى قيمتها في قدرتها على أن تُعاش، لا أن تُستهلك.
لكن حين تُوضع الحياة كلها على المحك، لا يعود هناك متسع من الوقت لأي شيء. فإذا التهمت الحرب مظاهر الحياة جميعها، وغدا الخراب هو القاعدة لا الاستثناء، وتحوّل العالم إلى شيء غريب لا سبيل إلى معرفته، فإن الخيال ذاته، بما هو محاولة لرسم عالم بديل ممكن، يصبح أمرًا مستحيلًا. لا زمان هناك ولا مكان لتصوّر واقع آخر مختلف. فكيف يمكن لكاتب أن يكتب رواية أو قصة خيالية في تلك اللحظة؟ كيف يواجه بالكلمات موقفًا من الرعب لا يمكن تصوّره ولا حتى التعبير عنه؟
هذا ما حاول الأديب الألماني هانس إريك نوساك أن يفعله، حين وصف قصف مدينة هامبورغ في نصّ سمّاه ببساطة: النهاية.
كان الاسم الرمزي الذي أطلقه الحلفاء على قصف هامبورغ هو "عملية جومورا"، وهو اسم مستعار استُحضر من قصة عقاب إلهي وردت في التوراة، مما يُظهر بوضوح أن الهدف من العملية كان التدمير الكامل والانتقام الساحق. وقد كان هذا القصف أول مرة يُستهدف فيها المدنيون والبنية السكنية، عمدًا، دون تفرقة بين الأهداف العسكرية والمدنية، على غرار ما سبق أن فعله الألمان أنفسهم في بعض المدن الأوروبية. واستمر القصف لثمانية أيام في يوليو من عام 1943. وكان البريطانيون يخططون، منذ البداية، لإشعال "عاصفة نارية" — وهي ظاهرة تحدث حين تتسبب الحرائق الواسعة في سحب هواء شديد السرعة يغذي النيران باستمرار — وقد نجحوا في تحقيق ذلك بالفعل في إحدى ليالي الصيف الحارة، فاحترقت أجزاء واسعة من المدينة. وراح ضحية القصف ما لا يقل عن سبعة وثلاثين ألف إنسان، فيما تجاوز عدد الجرحى والمتأثرين أكثر من مئة وخمسين ألفًا. ولم يكن لهذا الهجوم المدمر، ولا لما تلاه من حرائق اجتاحت مدنًا ألمانية أخرى، أثرٌ حاسم على مجريات الحرب. ومع ذلك، لم يكن ممكنًا إصدار أحكام قاطعة وقتها، فقد كانت تلك أول تجربة حقيقية للبشر مع ما يُعرف بـ«الحرب الشاملة»، وهي حرب لا تفرّق بين جبهة القتال والجبهة المدنية.
صادف أن نوساك وزوجته "ميزي" كانا خارج هامبورغ عندما وقع القصف، إذ كانا قد غادرا المدينة — التي كانت هدفًا متوقعًا للهجمات الجوية لكونها مركزًا صناعيًا كبيرًا — متوجهَين إلى الريف لبضعة أيام. وما إن وصلا حتى دوّت الطائرات. لم يكن الصوت عاليًا، لكنه كان عميقًا، يرتجّ له الجسد، ولا يمكن للمرء أن يغفل عنه. كان ذلك صوت ألف وثمانمئة طائرة حربية، تحلق في السماء متجهة نحو هامبورغ، على ارتفاع شاهق يصعب تصوّره، وكان صوتها ينفذ إلى أعماق الأرض، ويفقد اللغة معناها، وكأنما يُجمّد كل ما يُقال.
كان هذا الصوت يملأ البيت، ويتغلغل في التربة، ولا ينجو منه أحد، حتى في الملاجئ تحت الأرض. وبعد قليل، خرج نوساك إلى الحديقة، محاولًا أن يرى شيئًا مما يجري.قال:
لم يكن هناك الكثير... كان المشهد دائمًا هو ذاته... شعلات مضاءة معلّقة في السماء فوق هامبورغ؛ أطلق الناس عليها اسم ’أشجار عيد الميلاد‘ — وهي قنابل مضيئة تُسقطها الطائرات لتحديد المواقع، وتبدو وكأنها زينة مشتعلة... كثير منها كان يتفكك أثناء سقوطه، كما لو أنها قطرات من معدن متوهج تنهال من السماء، ثم تتلاشى في سحابة من الدخان... بعض الطائرات كانت تشتعل وتسقط كالشهب في ظلمة الليل، وعندما تصطدم بالأرض تضيء السماء لدقائق.
ومع أن هذا المشهد بدا ممتزجًا بصور شعرية، فإن نوساك كان يرى أن الصوت، لا الصورة، هو ما كان يحكم الموقف. فقد وصف ذلك الصوت قائلًا: "كان جديدًا تمامًا، لكنه بدا مألوفًا فورًا: هذا هو ما كنا ننتظره جميعًا، ما ظلّ يخيّم فوق رؤوسنا لشهور، كظل ثقيل على كل أفعالنا التي أرهقتنا... إنه النهاية".
كانت كلمة "النهاية" تتردد كصدى ميتٍ لذلك الزئير الذي لا يُحتمل، وكان معناها يتغير مع كل تكرار، حتى صار من المستحيل أن يُعرف ما الذي انتهى حقًا. فقد انتهى ميناء هامبورغ العظيم، وانتهت المدينة التي عرفها نوساك طوال حياته. هو الذي وُلد في عائلة تجارية ميسورة، ومرّ بتجارب فكرية شتّى، منها محاولات انخراطه في الفكر الشيوعي قبل أن يعود إلى عمل العائلة، لكن كل ذلك انتهى أيضًا. انتهت حياة نوساك و"ميزي" في تلك المدينة، وإنْ كُتِب لهما النجاة. أما الذين قضوا نحبهم، فلم يكن لهم عدد.
وبعد مضيّ أيام قليلة على الغارة الجوية الأولى، علم نوساك أن شقته قد دُمِّرت بالكامل. فقاد هو وزوجته رحلة محفوفة بالمخاطر للعودة إلى المدينة، ليجدا أنفسهما في قلب الخراب. كانت شوارع المدينة قد اختفت، فلم يعد لمفهوم "الشارع" وجود، بل صار مجرد فكرة من الماضي. اختفت شقتهما وكل ما كانا يحتفظان به من كتب ولوحات وأثاث، كانت تمثل حاجزًا نفسيًا يقيهما قبح الحياة في ظل النظام النازي. لم يبقَ من كل ذلك سوى حقيبة صغيرة فيها ملابس متّسخة، انتُشلت من بقايا القبو. لقد كانت نهاية لكل شيء امتلكاه، ونهاية لكل ما كان يبدو من قبل بديهيًّا.
وكانت أيضًا نهاية نوساك بوصفه كاتبًا. لم يكن قد نشر شيئًا بعد، لكنه كان يكتب لنفسه: قصائد ومسرحيات ومذكرات. وكانت تلك المذكرات ملاذه الداخلي، مكانه الخاص الذي ينسحب إليه ليحتمي من عالمٍ لم يعد يفهمه، عالم بات شريرًا وغريبًا. وقد فُقد هذا الملاذ كذلك، إذ دُمّر بيتهم بما فيه، وذهبت أوراقه هباءً. كانت هذه، كما وصفها، نهاية التواطؤ مع التاريخ، أي نهاية مرحلة من الصمت الداخلي عن الشرور العامة، ونهاية الأعذار، ونهاية أن يظل الإنسان كما كان.
فهل يمكن للنهاية أن تكون بداية؟ هكذا نرى نوساك وزوجته ميزي يتجولان وسط أنقاض مدينة هامبورغ، يفتشان عن معنى يتشبثان به، عن إشارة أو عبرة تعيد إليهما الإحساس بالحياة. ومن خلال هذه الصورة، تتداعى إلى الأذهان شخصيات أدبية عديدة عرفها القرن العشرون، مثل "آشنباخ" في رواية "الموت في البندقية"، و"بلوم" في "عوليس"، والسيدة "دالواي" التي كانت تتمشى في لندن، و"نيك آدامز" شخصية هيمنغواي، ونساء "جان ريس"، و"بول موريل" في روايات د.هـ. لورانس. جميعهم يتشابهون في شيء واحد: هم في بحث دائم، وتوق داخلي، وانتظار مقلق لما قد يكون.
يقول نوساك إنه، في قلب القصف، كان الناس جميعًا يشعرون بيقين غريب أن الحرب ستنتهي قريبًا. ولكن حين عاد إلى المدينة الميتة، أحسّ فجأة برغبة في أن يهتف: "الآن تبدأ الحياة الحقيقية! كأن باب السجن قد فُتح، وهواء الحرية النقي يهب على وجهي..." لكن هذه النشوة لم تدم طويلًا؛ إذ سرعان ما تحوّلت إلى قلق وتردد. أصبح نوساك معلقًا بين ماضٍ انتهى إلى غير رجعة، ومستقبل غامض لا تظهر ملامحه.
كان يريد للقارئ أن يشعر بذلك التعلق في الهواء، وكأنّه واقف فوق حافة هاوية، تلك الكلمة التي ظل يكررها في كتابه. كان يسعى أن يُشعر القارئ بفقدان المعنى، بتبعثر الحكايات، بانفصال اللحظة الراهنة عن الزمن والسياق، وبعجزه هو ككاتب عن العثور على "النغمة المناسبة"، لأن كل تعبير بدا كاذبًا أو مصطنعًا. وحتى إذا بدت كلماته خاوية أو ضعيفة، أفلا يكون هذا هو المطلوب؟ أو لعلها مجرد اصطدام بحقيقة مؤلمة: أن الكلمات تخوننا حين نحتاجها.
يصف نوساك محاولاته للكتابة بعبارات مرتجفة: "شيء ما يشبه ذلك... شيء فيه عزاء..." ثم يصبح صوته خافتًا، مشوشًا، وكأنه يعتذر دون أن يشرح. ويقول: "وأنا أعود بذاكرتي إلى الطريق المؤدي إلى هامبورغ، أشعر برغبة في التوقف، في الاستسلام. لماذا أواصل؟ لماذا أسجل هذا كله؟ أليس الأفضل أن أتركه ليضيع في طيّات النسيان؟ فالذين نجوا لا يحتاجون لقراءته."
ثم يتساءل في مرارة: من هم قرّائي أصلًا؟ "أولئك الذين سيأتون لاحقًا؟ وإن قرأوه بدافع الفضول، ليشعروا ببعض المتعة الغريبة أمام شيء مروع، ليشعروا بالمزيد من الحياة؟ هل لا بد أن تقع نهاية للعالم حتى ندرك معنى الحياة؟" ويظل هذا السؤال يطارده حتى النهاية، ليختم بنبرة مترددة: "أم لعلها دعوة للآخرين... ألا يصدروا حكمًا علينا؟"
النهاية ليست رواية بالمعنى المعتاد، إذ لا سلطة للمؤلف فيها، ولا يمكن تصور جمهور قارئ محدد لها. ذلك الإحساس بالمكان والزمان والشخصيات، الذي تحتاجه الرواية لتغرس جذورها في مخيلة القارئ، غائب تمامًا. فهي ليست رواية، بل أقرب إلى كتاب — وإن كان حتى وصفه بأنه "كتاب" يستدعي بعض التردد، لأنه حين كُتب لم يكن من السهل تصوّر طباعته — وقد ألّفه كاتب كان يحلم بأن يصبح روائيًا، ثم صار كذلك فعلًا بعد الحرب، بعد أن تحوّل خياله الروائي إلى أداة وصف لواقع لا يكاد يُصدق.
في هذا العمل، استخدم نوساك تقنيات سردية مستمدة من الرواية، لكنه تجنّب تلك النغمة التقليدية التي توحي بأن القصة ستنتهي بنتيجة واضحة. فقد جعل الدمار الشامل الذي شهده، من أي كتابة مليئة بالأمل أو الخيال نوعًا من الكذب، وجعل الضحايا أنفسهم عاجزين عن تصوّر أن الحياة يمكن أن تتحسن. وفي النهاية، رغم أن كل شيء قد انتهى، إلا أن النهاية لم تكن حاسمة، بل كانت مجرد أنقاض لحكايات كان الناس يسردونها لأنفسهم، وسط أنقاض عالم لم يختفِ بعد، لكنه فقد صورته السابقة.
وقد وصف نوساك نصه هذا بأنه محاولة لتسجيل نهاية مدينة، ونهاية أسلوب في الحياة، لكنه لم يصف نهاية الحرب، لأن الحرب — حين كتب — لم تكن قد انتهت بعد. ولهذا، فإن النهاية التي تعد بها الروايات عادة — سواء كانت سعيدة أو حزينة — ليست وعدًا يستطيع هذا النص أن يفي به.
النهاية ليست رواية، وليست مذكرات بالمعنى التقليدي. فالروايات عادةً تنظر إلى الأمام، ترسم صورة لما يمكن أن يكون. والمذكرات تنظر إلى الوراء، تروي ما كان. أما النهاية، فلا وجهة لها. كُتبت في لحظة فقد فيها الماضي، ونُهب المستقبل، وصارت الحقائق فيها خيالًا، والخيال — خصوصًا في أشكاله المرعبة — حقيقة ملموسة. إنها كتابة في حالة سقوط حر.
لكن إذا كان ثمة نوع أدبي يمكن أن تقترب منه، فهو الحكاية الخرافية. وقد أشار نوساك إلى هذا النوع أكثر من مرة، بل وضمن كتابه بعضًا من تلك الحكايات. من بينها واحدة يقول فيها:
كان هناك مخلوق لم تلده أم؛ بل خرج إلى العالم بضربة يد عارية، فناداه صوتٌ يقول: دافع عن نفسك! ففتح عينيه، ولم يعرف ماذا يصنع بكل ما حوله. ولم يجرؤ أن يلتفت إلى الخلف، لأن خلفه كانت النار فقط.
الحكاية الخرافية — أو كما تُسمى بالألمانية Hausmärchen أي "حكاية البيت" — كانت أساسًا في الأدب الألماني الحديث، وقد جمع الإخوة غريم كثيرًا منها. بإدراج هذه الحكايات، واجه نوساك استحالة البدء من جديد، وسعى لأن يجد، رغم كل شيء، بصيص أمل في عالم من الرماد. وربما كان يتذكّر كلمات الإخوة غريم:
حينما تدمر عاصفة أو كارثة أخرى المحصول كلّه، فما الذي يبعث على الأمل سوى رقعة صغيرة نجت، تحيط بها الأشجار والشجيرات؟ وإذا كانت بعض السنابل لا تزال واقفة، فإن الأمر يبدو وكأن الشعر الألماني كله ما زال يمكن إنقاذه.
في مدينة هامبورغ عام 1943، كان من الصعب بل من المستحيل تمييز ثروات الشعر الألماني، أو ربما كان ذلك سهلاً بطريقة مريرة. فكيف يمكن، وسط الخراب والمباني المهدمة، وصف حكاية خرافية أكثر من كونها مجرد قصة طفولية بسيطة؟ لقد بلغ أدب الرواية في القرن العشرين أقصى درجات وعيه بالشكل، كما في أعمال مثل جيد وويلز، حيث سعى الكتّاب لبناء عالم داخلي وخارجي جديد قبل الحرب، لكنه انتهى إلى طريق مسدود داخل جحيم "النهاية". فلم تعد الرواية أكثر من حكاية خرافية، ولا شيء أكثر من ذلك. لكن — وهذه "لكن" هي أسلوب هذا النص الغريب، المجرد، الواقعي والهلوسي — ما البديل؟ نختم بخبر نوساك عن رجل شهد القصف، وربما لم يكن هو نفسه، حيث احتمى في قبو ثم فرّ منه خوفًا من الحريق. أما من ماتوا، فكانوا أولئك الذين رفضوا المغادرة. "ثم خرجنا"، قال الرجل: نجوت، ولكن نجاته لم تكن خاتمة القصة، بل كانت النهاية بلا نهاية: "انهار بعض الناس في الشارع. لم نكن قادرين على مساعدتهم". وفي النهاية، هناك من نجا وهناك من لم ينجُ، وكان حكمهم الانفصال الأبدي. وقد لفت انتباه نوساك قول هذا الرجل: "من الآن فصاعدًا، لن نطرح السؤال: هل يصمد عملك في الريف أو على البحر؟ بل سيكون السؤال: هل يصمد أمام هذه المقبرة؟"
الحياة و المصير : شهادة الأدب على الحرب والشمولية
لقد شهد الكاتب السوفيتي فاسيلي غروسمان الحرب عن كثب، ورآها بعينيه. وُلد في عام 1905، في أسرة يهودية لا تعرف من الدين إلا اسمه، وكان والده مهندسًا كيميائيًا ميالًا إلى اليسار، كما كانت تميل طبقات من المثقفين في تلك الفترة. وقد تلقى غروسمان تعليمه وتكوينه في هذا المجال الصناعي. وكان فتى حماسيًا للثورة منذ صغره، وكان من مؤيديها. وفي ثلاثينيات القرن العشرين، أصبح اسمه معروفًا ككاتب صاعد، فأصدر روايتين من الطراز السوفيتي الخالص، إحداهما كانت قصة عن عمال المناجم الذين أظهروا بطولات خارقة. لم تقتصر شهرته على بلاده فقط، بل تمت ترجمة بعض قصصه إلى الإنجليزية، وطُبعت إلى جانب أعمال كتّاب مشهورين مثل شولوخوف. وعندما اندلعت الحرب، اختار غروسمان أن يعمل مراسلًا في صحيفة الجيش الأحمر "النجم الأحمر"، وهي صحيفة كانت تقرأ على نطاق واسع من قبل المدنيين والجنود على حد سواء.
كان غروسمان في الجبهة في صيف 1941، عندما فوجئ الجيش السوفييتي بالغزو الألماني، الذي توقعه الجميع، باستثناء ستالين على ما يبدو. تلقى الجيش السوفييتي هزيمة تلو الأخرى. وعرف غروسمان أن العديد من الجنود تم أسرهم وقتلهم، لأنهم مُنعوا من التراجع. وعلم أيضًا أن الأوكرانيين، الذين عانوا من المجاعة المتعمدة في ثلاثينيات القرن العشرين، قد رحبوا بالجيش الألماني. وكان يعرف أن والدته، التي كانت لا تزال في بيرديتشيف، البلدة الأوكرانية ذات الأغلبية اليهودية التي نشأ فيها، كانت قد سقطت خلف الخطوط الألمانية، فغابت أخبارها وانقطع أثرها.
فرض الألمان حصارًا شديدًا على مدينة لينينغراد، دام أكثر من 800 يوم، مات فيه أكثر من مليون ونصف شخص، غالبيتهم من المدنيين، واقتربوا من موسكو، لكن الشتاء حال دون تقدمهم. غير أن الهجوم لم يتوقف، ففي صيف 1942، بدأ الألمان في التقدم نحو الجنوب، وبحلول أغسطس، كانوا على مشارف ستالينغراد، المدينة الصناعية على ضفاف نهر الفولغا. وبعد قصف المدينة، كانوا على وشك احتلالها، وهو ما كان سيمكنهم من التوغل شرقًا أو التوجه شمالًا. لكن، بفضل بعض الكتائب السوفيتية التي كانت تدافع عن جزء صغير من المدينة على الضفة الغربية للنهر، وبفضل عبّارة واحدة كانت تربطهم بالجيش الأحمر على الضفة الشرقية، تمكن السوفييت من تطويق الجيش الألماني السادس في فبراير 1943 وأسرهم. كانت تلك أول هزيمة حاسمة لألمانيا في الحرب، ورآها المؤرخون نقطة تحول في مسار المعركة ضد هتلر. ومنذ تلك اللحظة، لم يُلقِ هتلر أي خطاب علني بعد.
كان غروسمان في ستالينغراد طوال الأشهر الخمسة التي استغرقتها المعركة، وكانت تقاريره تقرأ في جميع أنحاء العالم. وقد أنهى روايته "الشعب الخالد"، التي صورت بطولة الجيش الأحمر في مقاومته للغزاة، والتي تُرجمت ونُشرت عالميًا. وكانت تقاريره من المدينة المحاصرة من بين القليلة التي وصلت منها أخبار موثوقة إلى الحلفاء الغربيين. وعندما وضعت الحرب أوزارها، تابع تقدم الجيش الأحمر نحو برلين. وهناك، في طريقه، شاهد المقابر الجماعية في أوكرانيا، وأدرك، بما لا يدع مجالًا للشك، أن والدته كانت من بين الذين قُتلوا أو دُفنوا أحياء. وكان حاضرًا عندما اكتُشف ما تبقى من معسكر تريبلينكا، فبحث وسأل ودوّن، وأعد تقريرًا مفصلًا قُدّم كدليل في محاكم نورمبرغ. ثم شارك مع إيليا إرينبورغ في إعداد "الكتاب الأسود لليهود السوفييت"، الذي كان سجلًا لجرائم الإبادة التي ارتكبها النازيون. وفي البداية، كان المشروع محل ترحيب من السلطات، لكن ستالين غيّر موقفه لاحقًا، لأن مشروع الكتاب كان يتضمن شهادات حول التعاون بين بعض شعوب الاتحاد السوفيتي والنازيين في قتل اليهود. أوقف ستالين المشروع، ولم يُنشر الكتاب كاملًا إلا في عام 1991، بعد وفاة غروسمان وزوال الاتحاد السوفييتي.
ومع ذلك، اعتبر غروسمان النصر السوفييتي انتصارًا أخلاقيًا، انتصارًا للروح الروسية على الفاشية. كما اعتبره انتصارًا على أشباح الماضي السوفيتي. كان يعتقد أن الثورة الروسية أطلقت قوى الإنسانية، ووعدت الناس بتحقيق إنسانيتهم المشتركة. لكن الفاشية تحدّت هذه الروح، كما تحدّاها ستالين نفسه عندما حول الثورة إلى وحش لا يقل عن هتلر في قسوته. كان غروسمان قد رأى عمته تُرسل إلى معسكرات الغولاغ بتهمة "الانحراف الفكري"، وكان على علم بالمجاعة التي اجتاحت أوكرانيا في تلك الفترة، وما تسببت فيه من كراهية. وكان يعرف أن ستالين، عندما طهّر جيشه من جنرالاته، جعل البلاد عرضة للخطر. ورغم أن الإرهاب الستاليني قد أضعف قدرة روسيا على مواجهة هذا الخطر، إلا أن البلاد انتصرت في النهاية. وعادت إنسانيتها لتظهر من جديد، وأصبحت هذه العودة بمثابة التذكير الحقيقي بمعنى الثورة.
جمع غروسمان ما كتبه وما شاهده، وعزم على صياغة رواية عن المعركة الكبرى التي خاضها وطنه. وقد عاد، أثناء الحرب، مرارًا إلى قراءة رواية "الحرب والسلام" لتولستوي، وكان يقول إن هذه الرواية وحدها كانت تُعينه في تلك الظروف القاسية. وكان يرى أن القرن العشرين، وقد بلغ ذروته، بحاجة إلى رواية توازي تلك التي خطّها تولستوي عن القرن الذي سبقه.
كادت الرواية أن تُسمّى باسمها المباشر: "ستالينغراد". وكان موضوعها المعركة الكبرى التي جرت هناك. لكن ما لبثت أن تحولت إلى معركة من نوع آخر، معركة خاضها غروسمان في سبيل الكتابة، ثم معركة أخرى في سبيل النشر، وقد امتدت كلتاهما لتستنزفا ما تبقى من حياته.
بدأ غروسمان مشروعه بعزم لا يلين. وبحلول عام 1948، كان قد أنجز مسودة أولى للجزء الأول من الرواية، الذي يصور تراجع الجيش الأحمر أمام الزحف النازي، وكان يعرضه آنذاك على دور النشر. فالرواية، في جوهرها، تعيش على تحدٍ يُظن مستحيلًا، ثم تغلبٍ يبدد هذا الظن. وروسيا، في صيف 1941، واجهت تحديًا هائلًا بالفعل. أما غروسمان، فقد كان تحديه أن يُظهر هذا المشهد دون أن يشير ولو تلميحًا إلى أن جزءًا من المصيبة كان من صنع يد ستالين وسوء تدبيره. وكان الجو السياسي يزداد اختناقًا، مع اشتداد الحرب الباردة واقتراب موجة قمع جديدة. مرّت الأعوام، وغروسمان يفاوض النقاد والمؤيدين، يبدل ويغير، ويقاوم الضغوط. رفض أن يحذف شخصية فيكتور شتروم، ذلك الفيزيائي اليهودي الذي كان، في صورة من الصور، ظلًا من ظلال المؤلف نفسه، ورفض أن يمحو عائلته من الرواية. لكنه اضطر، في المقابل، إلى إدخال فصل كامل عن عمال مناجم سيبيريا الأبطال. ولم تُنشر الرواية حتى عام 1952، لا تحت اسم "ستالينغراد"، بل تحت عنوان أكثر حذرًا: "من أجل قضية عادلة"، وهو اقتباس من خطاب متحدٍ ألقاه مولوتوف في مواجهة الغزو الألماني. نُشرت الرواية على شكل مسلسل، ثم صدرت في كتاب في ربيع العام التالي، ولاقى العمل استحسانًا واسعًا. لكن سرعان ما انقلب المد، وتعرضت الرواية لهجوم ضارٍ، إذ اندلعت حملة جديدة من الرعب السياسي، كان ستالين يحركها بحجة وجود مؤامرة من بعض الأطباء اليهود لاغتيال قادة الدولة. غير أن موت ستالين في تلك اللحظة أنقذ غروسمان، على الأرجح، من مصير لا يُحمد. وظلت "من أجل قضية عادلة" تُطبع وتُعاد طباعتها في عهد خروتشوف، الذي دان فيه عبادة الفرد، وأطلق بعض سجناء المعسكرات. لكن الطبعات اللاحقة كانت تُنقح كل مرة، فتُحذف منها أي إشادة تُعدّ الآن زائدة لذكر ديكتاتور الأمس.
وكانت "من أجل قضية عادلة" قد وصلت بالقارئ إلى أعتاب معركة ستالينغراد، إلى لحظة اندلاعها، لكنها لم تمضِ معه إلى لحظة انتصارها. أما الآن، وبعد أن خبر غروسمان الموت وخالط أيام الانفراج النسبي في ما سُمّي بـ"الذوبان"، فقد عاد بعزيمة جديدة ليكمل عمله الكبير. وقد قدم في جزئه الأول شخصيات تمثل كل طبقات المجتمع السوفيتي: من الفلاحين إلى عمال المناجم، ومن المهندسين والعلماء إلى المفوضين السياسيين والجنود، ومن أبناء البروليتاريا إلى شخوص المثقفين القدامى. كما ضم الرواية ظهورًا خاطفًا لا يُنسى لهتلر وهيملر. لقد كان يقدم بانوراما كاملة للحرب الشاملة. لكنه، في ظل الإمبراطورية الستالينية، اضطر لتجنب الإشارة إلى معسكرات الإبادة والقتل الجماعي؛ فقد كانت قريبة من الحقيقة أكثر مما يمكن احتماله. ومع ذلك، لم يخلُ الجزء الأول من ومضة تكشف عن تلك المأساة: فقد روى غروسمان قصة والدة فيكتور شتروم، تلك التي كانت، كما كانت والدته هو، تعيش في بيرديتشيف، ووجدت نفسها، مثلها، محاصرة خلف خطوط الاحتلال الألماني. وطال الانتظار، ولم يصل إلى فيكتور خبر عنها، حتى جاءت رسالة بعد شهور، قال غروسمان إنها تحوي كلماتها الأخيرة. وما هي تلك الكلمات؟ هذا ما تركه الكاتب لضمير القارئ وخياله.
ما كان غروسمان يريد لروايته الختامية "الحياة والمصير" إلا أن تكون امتدادًا طبيعيًا لما بدأه في "من أجل قضية عادلة". وهنا، أعاد إلينا الصوت الغائب لوالدة فيكتور، فكتب على لسانها ما لم تستطع أن تقوله بلسانها قبل أن تُباد. وفي هذا الجزء الجريء دخل غروسمان إلى المعسكرات: تلك التي أقامها الألمان، وتلك التي بناها الروس. قارن بينهما بجرأة من لا يخشى شيئًا. فالمستبدان، ستالين وهتلر، يبدوان له وجهين لعملة الشر الشمولي. وهنا تظهر شخصية بلشفي قديم، يتصارع مع نفسه ومع ذكرياته عن الثورة، ويصف لحظة القبض عليه وتعذيبه والاعتراف الذي انتُزع منه بالقهر. وفيكتور يبدأ في فهم يهوديته، ويصطدم بوجه معاداة السامية. وفي معسكر ألماني، نجد قديسًا بسيطًا يُدعى إيكونيكوف، يتجادل مع رفيق قديم في الثورة، يكتب رسالة صغيرة عن "أعمال اللطف غير المجدية" وكأنها الحجة الأخيرة في وجه الصرامة الثورية. تهتز قناعات المفوض السياسي، كما لو أنه يسمع صوتًا جديدًا لأول مرة. وتصف الرواية خيبات الزواج، ومآسي الحرب، وتفاصيل الحياة اليومية التي طهّر منها الرقباء صفحات الرواية الأولى. ورغم أن "الحياة والمصير" مكتظة بالموت، فإنها لا تنطق إلا بالحياة والحرية. رواية فسيحة، فلسفية، مشبعة بروح صوفية مادية، كتبت بأسلوب هادئ لا يعلو صوته، وعين لا تخطئ التفاصيل الإنسانية. والشخصية الأقرب إلى غروسمان تُدعى فيكتور، وهو اسم مقصود، لا شك في ذلك، لإثبات نقطة. مكملًا قصة ستالينغراد وواضعًا إياها في منظور، تملأ الحياة والقدر سجلًا لمعاناة لا تُوصف وتقف كفضح للشر. إنها أيضًا، مع ذلك، تأكيد على القوة الإنسانية الدائمة، التحويلية، الثورية.
كان غروسمان يظن أن روايته ستُنشَر؛ دفع بها إلى مجلة عام 1960 واثقًا أنها ستُقبل. لكنه كان واهِمًا. ففي زمن "الذوبان"، أُتيحت حرية معينة في تفسير الثورة، لكن الحديث عن الدولة الثورية وسلطتها ظل ممنوعًا، سواء بالفعل أو بالكلمة. كانت السلطات مشتعلة غضبًا من تهريب رواية "دكتور زيفاغو" لباسترناك إلى الغرب، والغضب تضاعف عندما نال باسترناك جائزة نوبل. وفي الوقت نفسه، بدأت سلطة خروتشوف تتآكل أمام عودة حرس ستالين القديم. وفي فبراير 1961، جاء رجال المخابرات إلى باب غروسمان، صادروا الرواية، استجوبوه طويلاً، بحثوا عن نسخ أخرى وصادروها جميعًا. ضُرب غروسمان في روحه، ومع ذلك لم يتوقف عن المحاولة، ورفع الأمر حتى إلى كبير الأيديولوجيين ميخائيل سوسلوف، دون جدوى. بقيت الرواية في الأدراج، أطول من أسطورة نوساك. وفي عام 1975، أخرج صديقه ليبكين نسخة مخفية وسلّمها إلى فوينوفيتش، الذي هرّب نسخة مستنسخة إلى الخارج. نُشرت الرواية في فرنسا سنة 1980، ثم ظهرت الترجمة الإنجليزية سنة 1985، ولم تُنشر في روسيا إلا سنة 1988، قبيل سقوط الاتحاد السوفيتي. أما غروسمان، فقد مات عام 1964.
كان بإمكان الناظر في مجلدي رواية فاسيلي غروسمان عن ستالينغراد – "من أجل قضية عادلة"، التي نالت من يد الرقيب، و"الحياة والمصير" التي اتسعت حتى غدت كالبحر المترامي، حرةً غير مقيّدة – أن يراهما إما كعمل واحد ضخم لا يتجزأ، أو كشقين متعاظمين من ملحمة واحدة. وفي الحالتين، فإن هذين المجلدين يسجلان إصرار غروسمان المتزايد، عبر سنوات من التزييف والكتمان، على أن يقول الحقيقة، على أن يكشف الغطاء عن كل شيء. وإذا كانت مهمة الرواية في القرن العشرين هي فضح الزيف والرياء، فإن الحقيقة التي أراد غروسمان أن يبلغها كانت أبعد من مجرد فضح؛ كانت حقيقة إيجابية، نادرة الظهور في فن الرواية، كما أشرنا في بدء هذا الفصل.
ولم يكن غروسمان يقتدي في مشروعه هذا إلا بما فعله تولستوي في "الحرب والسلام"؛ الرواية التي لم تكد تستقيم على قدميها حتى أوقفها صاحبها، وأقحم فيها ذلك الهجوم الشهير على نظرية الرجل العظيم في التاريخ. ولم يكن تولستوي وحده في هذا المسار، فقد عرف القرن التاسع عشر روائيون ابتعدوا عن الدراما نحو الوعظ، كمانزوني في "المخطوبون" حين صبّ جام غضبه على عجز الدولة عن ضبط الأسعار، أو كفيكتور هوغو في "البؤساء"، وقد جعل منها موسوعة لرأيه هو.
وإن التوتر الذي نراه في هذا المزج بين السرد والتفسير هو في صميم الجمالية الواقعية الاشتراكية التي نشأ غروسمان في أحضانها شابًا في الثلاثينيات، تحت عين غوركي، مفتونًا ببابل. ولكن الملفت في تولستوي، أنه بدا وكأنه قد ضاق ذرعًا بما نسج من رواية، فأوقفها فجأة ليقول كلمته. وما لبث أن أعلن تبرؤه منها، بل ومن الرواية كلها، زاعمًا أنها تفتقر إلى الوضوح الأخلاقي، وأنها ليست أهلاً للثقة في نقل الحقيقة.
أما غروسمان، فقد فعل خلاف ذلك. لقد بثّ آراءه – عن معنى الالتزام الثوري، وعن السخرية من الزيف الثوري، وعن قوة الفن الحقيقية – في أفواه شخصياته. وإذا كان حواره يبدو في بعض الأحيان متكلفًا، فإن له قدرة لا تُنكر على خلق شخصيات لا تُنسى، وعلى التقاط أدق تفاصيل الحياة التي تُعاش. ومع ذلك، فإن القارئ لا يستطيع أن يقرأ روايته دون أن يخال أن ما يُعرض عليه من مشاهد حية هو، في حقيقته، ستارٌ مرفوع، وما أن نمعن النظر، حتى ندرك أن هذا الستار إنما وُضع ليرتفع، فإذا نحن أمام الأهم، أمام صورة الكاتب وقد أصبح شاهدًا حيًا، وأمامنا نحن وقد أصبحت لنا، من هذه الصورة، مسؤولية لا مفر منها.
وهكذا، وإن كان الكتاب يحكي من القصص طائفةً كثيرة، فإنه مع ذلك مغمور بإحساس ثقيل من زمن الحرب، كأن زمن القصّ قد ولّى، وكأن النفوس قد ملت الحكايات، وآن لها أن تصغي إلى ما هو أعمق من القول وأشد وقعًا من الحكاية. وهذا – إن تدبّرته – يبدو بيّنًا في ملمح من ملامح بنية الرواية، قد يكون قد وقع من المؤلف صدفة وهو لا يشعر، أو ربما دُفع إليه دفعًا بما خشيه من رقيب أو توقّعه من رقابة. فلعل الخوف من أعين السلطة، أو تدخل الرقيب الثقيل، هو الذي حمل غروسمان على أن يُعرض عن إدراج رسالة والدة فيكتور إلى ولدها في رواية "من أجل قضية عادلة"، بينما رأى، حين لاح له أن الرقابة ستخف أو تُخفف، أن يُظهرها كاملة في رواية "الحياة والمصير".
أكان هذا ما جرى حقًا أم لا؟ الله أعلم. ولكن الثابت أن ظهور الرسالة مرتين – إشارةً في الأولى، ونصًا صريحًا في الثانية؛ صمتًا ثم صوتًا – يُبدي بجلاء موضعها المركزي في بنية العمل، حتى حين تصوّر على أنها كتابة من نوع آخر، ذات وقع مختلف في النفس عن الرواية التي تحتضنها. ففي "من أجل قضية عادلة"، تصل الرسالة إلى فيكتور وهو غارق في علاقة آثمة، آخذ بها الهوى من عنق، لا يُبالي بضمير ولا خلق. يقرؤها، ثم تُترك لنا حرية التخيل: ماذا قرأ؟ لا نعلم. لكن الصمت المهيمن يُصبح أكثر جهرًا من الكلام، ويُفهم من سياق ما جرى أن فيكتور انسحب من تلك الورطة، كأن الرسالة كشفت له زيف الوهم، وسُخف الكذب، وأجبرته على مواجهة حقيقة لم تُكتب، لكنها كانت واضحة: موت الأم، وما جرّه عليها موتها من مصير، مثلها كمثل آلاف من نساء قومها. لقد أسكتت الرسالة تلك الحقيقة، وأخفتها عن اللسان، وإن لم تُخفها عن القلب.
في "الحياة والمصير"، ظهرت الرسالة أمامنا، مكتوبةً بأحرفٍ من دموع، نقرؤها بأبصارنا، ونسمع ما كان صامتًا بالأمس. نسمع صوت الأم، ذلك الصوت الذي لا نسمعه في الحقيقة، ولن نسمعه أبدًا، لأن ما نقرأه هو صوت غروسمان، لا صوت الأم. ومع ذلك، فإن في تاريخ الرواية، كجنس أدبي، لم يكن ثمة تقليد أصدق – أو يُحسب صادقًا – من أن تُعرض رسالة كهذه، رمزًا للصدق الخالص، والصوت الإنساني الذي لا يشوبه افتعال.
ولظهور الرسالة مرتين، على نحوين مختلفين، قوة لا تُقاوم. فقد طغت على ما تحكيه الشخصيات من حكايات عن حيواتهم، بل حتى على السرد الكبير الذي يتولاه غروسمان نفسه. لقد واجهتنا بشيءٍ غير القصص، ونقلت إلينا نظامًا آخر للكلمة، لا يقوم على الحكاية بل على المعاناة؛ لا على السرد، بل على الحقيقة. وهذه هي الحقيقة، كل الحقيقة.
تستطيع – إن شئت – أن تتخيل نابوكوف، وقد كان من جيل غروسمان، وشهد مثل ما شهد من موت ودمار، بل وعاش من أجل هذا الدمار، وقد رأى أن صدق الرواية خرافة، وأن اصطناعها فن، وأن من يراها غير ذلك فهو في ضلال بعيد. فربما كان ليسخر من إخلاص غروسمان، ويحسبه خطأً تصنيفيًا يُضحك. ولكن هذا الازدراء – أو هذا الفهم الآخر – هو ما جعل رواية غروسمان تتفرد، وتتميز في مقامها.
فغروسمان ما كان يرى الرواية حكاية تُروى، بل حياة تُعاش، وضميرًا يعمل، وواجبًا أخلاقيًا لا مناص منه. وما خرج من كتبه كان أحيانًا مفزعًا مرعبًا، يصف لنا كيف تُباد امرأة يهودية وحيدة على يد من حسبتهم يومًا جيرانًا وأصدقاء، أو كيف تتفجر ستالينغراد تحت القصف، فلا تبقى فيها حياة ولا سكينة. ولكنه – إلى جانب ذلك – لم ينس أن يضحك، أو يضحكنا. ففي الرواية مشاهد هزلية، وفيها كل ما تنتظره من رواية ذات طبقات: الحب، والخوف، والأمل، واليأس، والنزاع، والانتصار. ثم فوق هذا كله، شيء آخر. شعور عميق بالمعاناة، والتزام بالإنسانية، لا يكاد يُوصف.
ولكن السؤال يبقى: هل يمكن للرواية أن تكون مفيدة حقًا؟ أم لعل رواية غروسمان كانت – على حد تعبير جان بول سارتر سنة 1948 – روايةً مضادة، تهدم الشكل الأدبي من داخله، وتنتقد الرواية بما هي رواية، استجابة مؤلمة لما رآه الشاعر والاس ستيفنز عن هذا الزمان، من أنه يُلحق بكل حي عنفًا روحيًا لا يُحتمل؟
مهما يكن، فإن في ما فعله غروسمان فائدة عظيمة. فإنه لم يسجل كيف بدا الناس وكيف تصرفوا فحسب، بل سجل ذلك على وجهٍ يجعل من ملاحظته الدقيقة التزامًا بالحياة، وإيمانًا بها، وتمسكًا بها ضد الفناء. نعم، هكذا هي الحياة: فتياتٌ يرقصن في خجل على ضوء القنابل التي تدمّر المدينة، أرأيت؟ الحياة هكذا – تُكافح لتبقى، وتُقاوم الموت الذي يملأ الجو، وموت القلب الذي يزحف في الصدور.
تشريح المشهد الأكثر إيلاماً في الأدب الروسي
ومن خيوط رواية الحياة والمصير ما يقود القارئ إلى معسكرات الموت الألمانية، تلك التي أضحت في الذاكرة البشرية موضع رعب لا يُمحى، ووصمة لا تُغسل. أما في من أجل قضية عادلة، فقد ظهرت لنا سوفيا ليفينتون، الطبيبة الجراحة، والعزباء المنقطعة، المقيمة في ستالينجراد، والتي كان لها في بيت زوج فيكتور شتروم موضع من القرب لا يخفى، فردًا من العائلة، وأُختًا غير شقيقة، بل أقرب. في يوم شاقٍ بئيس، وقد أنهكتها المعاناة في المستشفى، عادت بسيارة لم تقصدها، فسلكت بها طريقًا خاطئًا، فسقطت في قبضة الألمان.
ثم انتهى بها الحال بين جموع من اليهود، يُساقون كما تُساق الأنعام إلى حيث لا رجعة. وكان بينهم صبي صغير يُدعى ديفيد، قد افترق عن أسرته، وضاع في الزحام. فأخذته سوفيا تحت جناحها، كما تأخذ الحمامة فرخها الخائف تحت الجناح الرفيق. ثم في الحياة والمصير، تتبعهم غروسمان، خطوةً بخطوة، إلى محطتهم الأخيرة، إلى غرفة الغاز، حيث تنتهي الحكاية:
كان ديفيد يراقب الباب يُغلق: بلطف، بانسيابية، كما لو جذبه مغناطيس، اقترب الباب الفولاذي من إطاره الفولاذي. أخيرًا صارا واحدًا.
في الأعلى خلف شبكة مستطيلة في الجدار، رأى ديفيد شيئًا يتحرك. بدا كجرذ رمادي، لكنه أدرك أنها مروحة بدأت بالدوران. شعر برائحة خفيفة، حلوة إلى حد ما.
كانت سوفيا تضمه إليها. تضم الصبي الصغير في عناقٍ عجيب، تعرفه الأيدي الألمانية التي اعتادت هذا المشهد، فعند تفريغ الغرفة من الجثث، لم يكونوا يفكرون في تفكيك الأجساد، فقد تعانقت الأرواح في لحظة الفزع، ولم يفككها الموت. كانت تنتظر موتها، ولكنها لم تكن وحيدة:
عيناها — اللتان طالما قرأتا هومر، وإيزفستيا، وهاكلبيري فن، وماين ريد، والتي طالما أبصرَتا الطيب والخبيث، وشهدتا الأوز في مراعي كوسك، والنجوم فوق مرصد بولكوفو، ولمعان الفولاذ الجراحي، والموناليزا في اللوفر، والطماطم واللفت في صناديق السوق، والماء الأزرق لإيسيك كول — هاتان العينان لم تعودا تنفعانها.
أما ديفيد، فلم يتوقف عن النظر. ظل يتلفت، ويحدق، ويشتبك مع العالم من حوله:
هذا العالم، حيث يمكن لدجاجة أن تركض بلا رأس، حيث كان هناك حليب في الصباح وضفادع يمكنه جعلها ترقص بإمساك أقدامها الأمامية — هذا العالم ما زال يشغله.
ظل هكذا، محتضنًا بأيدٍ دافئة، قوية، حانية. لم يشعر بظلمة تغشى عينيه، ولا بقلبه يفرغ من نبضه، ولا بعقله يخبُو ويُطفأ. لكنه قُتل، قُتل في لحظة لم يشعر بها، واختفى عن الوجود. لم يبقَ منه شيء.
وشعرت سوفيا بجسده يخور في ذراعيها. مرة أخرى كانت قد تخلفت عنه ... هذا الصبي، بجسده الخفيف، الشبيه بالطائر، غادر قبلها.
«لقد صرتُ أمًّا»، فكرت. فكرت في نفسها، وقد صارت الأم التي لم تكن. فكرت في الصبي الذي لم تلده، ولكنه مات بين ذراعيها كأقرب الأبناء.
وهنا، يصبح توزيع هذا المشهد، في الرواية، من الدقة والتكثيف، بحيث لا عيب فيه ولا نقص، حتى ليكاد يُحتمل. ويود القارئ — على شدّة ألمه — أن يصرف وجهه عن هذا المشهد، لعله لا يرى. وربما كنتُ أنا — وأنا أتأمل — أصرف بصري عن فجيعة العاطفة، لأُمعن الفكر في مسألة زاوية الرؤية، تلك المسألة الشكلية، التي كان لها في رواية القرن العشرين موضع مهمّ، حتى كأنها هي التي تُحدد جوهر الرواية لا مادتها.
لكن، أليس غروسمان نفسه يدعونا، في هذا المشهد، إلى أن نتأمل زاوية الرؤية، لا بمعناها الفني المجرد، بل في علاقتها بفعل الرواية، بقدرتها على سبر النفس، والغوص في القلوب والعقول؟ إنه لم يرَ المشهد بعينه، لم يكن شاهدًا فيه، لكنه وصفه، لا وصف الغافل، بل وصف الصحفي، بل وصف الإنسان، الذي يعرف كيف يكتب عن شخصين يموتان وحدهما، على بعد آلاف الأميال، ومع ذلك، يشبهاننا تمامًا، أو يكادان.
نراه يُرينا عيني سوفيا، لا كجهاز بصري جامد، بل كمرآة لتجربة إنسانية كاملة. وقد قيل لنا إن هاتين العينين قرأتا، وجربتا، وأبصرتا العالم من زوايا مختلفة، زاوية الجريدة، وزاوية هومر، وزاوية الأدب الأمريكي، فحاولتا أن تُؤسسا رؤية، أن تَفهما هذا العالم الذي لا يُفهم.
ونراها، في آخر لحظة، تنظر إلى نفسها، لا كمجرد طبيبة أو أسيرة، بل كأم. ثم نرى فيها حسًّا من السخرية، لا يزال حيًّا، ولم يُقتل بعد، ونشعر به نحن بدورنا، لا كسخرية خفيفة، بل كأسًى عميق مرير، يخالطه الحزن ولا يُفصح.
ونرى ديفيد، عقلُه مشوش، ولكنه مشغول بالحياة، بتفاصيلها الغريبة، حتى في لحظاته الأخيرة. تلك الضفادع التي يُرْقصها، رمزٌ للقسوة الطفولية التي تمضي على خط واحد مع القسوة المتعمدة التي حملت هذا الصبي إلى غرفة الموت.
نرى كل ذلك، وربما تلوح لنا في الخلفية صور هانسل وغريتيل، الأخ والأخت في الغابة، وربما تومض لنا صورة العذراء والطفل، وإن لم تُذكر، فالإيحاء بها في الروح حاضر.
ونفهم، في النهاية، أن كل زوايا الرؤية تنتهي هنا، في هذا الموضع، حيث لا جدوى من النظر، ولا فائدة من العدسة، فالحقيقة قد تجلت، وبلغت نهايتها.
مترجم من كتاب Stranger than fiction
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي