نحن نقول أن الصهيونية، هي معاداة السامية. فما الذي نعنيه بذلك؟ الصهيوني لا يميز بين اليهود لكونهم يهودًا؛ فإن كانوا قوميين، استقبلهم بالأحضان، وإن لم يكونوا كذلك، أزاحهم عن طريقه. بل إذا صرح يهودي قائلاً "أنا لست صهيونيًا"، رد عليه الصهيوني قائلاً: "إذن أنت لست يهوديًا". إنها دعوة إلى الولاء المطلق للمشروع القومي، وفيها يعيد الصهيوني صياغة اليهودية من دين سماوي إلى قومية مبتذلة تقوم على هوية عرقية مصطنعة. لكن، حتى في هذا الإطار، لا يكفي الانتماء العرقي ليكون المرء يهوديًا في نظر الصهيوني. من هنا، نجد الصهيوني ينظر إلى اليهود المناهضين للصهيونية كأعداء أشد خطراً من أي خصم آخر سوى الفلسطيني، إذ يمثل هؤلاء، في نظر الصهيوني، طابورًا خامسًا في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين.
غير أن الصهيونية تشترك مع معاداة السامية في ما هو أعمق من مجرد كراهية لفئة معينة من اليهود؛ إنها مرض اجتماعي ونفسي، ونمط تفكير ينتمي إلى حداثة رجعية، تميزها عن سائر أشكال العنصرية وكراهية الأجانب، رغم أنها تشاركها في بعض الخصائص الشاملة. فالصهيونية معاداة للسامية، لأنها تستمد قوتها من تلك المعاداة الأوروبية التي سعت لإبادة اليهود في الهولوكوست. إنها ليست مجرد استنساخ لمرض في سياق جديد، بل هي استمرار لأساليبه وتكتيكاته.
ومثلما أن معاداة السامية لا تستهدف فئة معينة بشكل ثابت، فإن الفئة المكروهة قد تتغير بتغير السياق. كما قالا أدورنو وهوركهايمر: "بحسب التشكيل، يمكن أن يتبادل الضحايا أدوارهم... بحيث يمكن لكل منهم أن يحل محل القاتل، بنفس الشغف الأعمى للقتل، بمجرد أن يشعر بسلطة تمثيل القاعدة". منذ النكبة، أصبح الصهيوني هو الذي يمثل القاعدة، والفلسطيني هو الضحية الجديدة—لقد تبدلت الأدوار. ومن هنا، لفهم الصهيونية، لا بد من فهم علاقتها بمعاداة السامية، وليس بالفاشية فقط، على الرغم من أن جورج حبش قال في عام 1984: "الصهيونية هي الفاشية بعينها". بل وعلاوة على ذلك، وبالنظر إلى المذابح التي يتبعها تسلل معاداة السامية إلى أجهزة الدولة، وبالنظر إلى مجازر الإبادة التي ألحقتها الصهيونية، يجب أن نقول، لتحديث عبارة من موشيه بوستون: أي تحليل للصهيونية لا يأخذ في الحسبان إبادة الفلسطينيين لا يمكن أن يكون كافيًا.
وفي هذه الأجواء، يبدو لي أنه من الضروري أن نلاحظ أمرين. أولاً، إذا بدت اللغة المستخدمة هنا جافة ("الفلسطيني"، "الصهيوني")، فهذا لأنني أتناول بالتحليل نوعين من الشخصيات: النوع الفلسطيني من منظور النوع الصهيوني. وحيث قد لا يرى بعض الصهاينة أنفسهم في بعض هذه الملاحظات، قد يرون أنفسهم في أخرى. وإذا لم يروا أنفسهم في أي منها، فإنهم إما ليسوا صهاينة حقًا أو أنهم فشلوا في إدراك ما يتضمنه هذا المشروع. ثانيًا، العودة إلى أدبيات معاداة السامية في النظرية النقدية بعد الحرب، ليست فقط لتطبيق فهمنا لهذا التكوين النفسي للصهيونية، بل لتوضيح الاستمرارية بين الصهيونية والنظم الإبادية والاستعمارية التي عرفتها أوروبا في القرن العشرين. فخلال وبعد الحرب العالمية الثانية والهولوكوست، قام مفكرون مثل ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، وجان أمري، وفرانز نيومان، بدراسة المجتمع النازي وعلم النفس الاجتماعي لمعاداة السامية، وقد توسعت هذه الدراسات لاحقًا على يد باحثين آخرين. هؤلاء المفكرون رفضوا بوجه عام الفكرة المريحة بأن النازية كانت ظاهرة فريدة، بل أبقوا الباب مفتوحًا لاحتمال وقوع هولوكوست جديد تحت "تعريف" مختلف، ووضعوا الهولوكوست في سياق الحداثة الرأسمالية نفسها. لقد سعوا للإجابة على أسئلة عامة: لماذا حدث الهولوكوست لهذه الجماعة، في هذا المكان، في هذا الزمان؟ ما نوع الأشخاص الذين يتولون مشروعًا كهذا؟ وما نوع المجتمع الذي ينتجهم؟ وبدلاً من محاولة فهم الصهيونية المعادية للسامية ككل، فإن ما يلي هو سلسلة من الرسومات التي أتمنى أن تكون ذات صلة بالحالة الراهنة.
أدعوك لقراءة مقال : من هو الضحية : الكشف عن الواقع المظلم وراء مسرحية ضحايا ومجرمي الحرب
Ψ
قبل السابع من أكتوبر، كان بين 170-200 ألف فلسطيني يعملون في إسرائيل، وحوالي 75% منهم كانوا يحملون تصاريح عمل، معظمها تمنح للفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية المحتلة. وبعد السابع من أكتوبر، تم فصل جميع العمال الفلسطينيين تقريبًا، وألغيت تصاريح عملهم، وتقلصت حرية حركتهم التي كانت بالفعل محدودة. وكانت الآثار الاقتصادية لذلك هائلة، لا سيما في قطاعي البناء والزراعة، حيث كان يعمل غالبية الفلسطينيين. إنها صورة من صور القسوة الصهيونية أن يجد الشعب الفلسطيني—وهو شعب ذو تعليم عالٍ—نفسه محصورًا في أعمال يدوية منخفضة الأجر في اثنين من القطاعات الاقتصادية التي استُخدمت لتسريع نزع ملكيته. ولعل المثال الأوضح على هذا هو قطاع البناء، الذي يمثل 6-7% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، والذي كان يعمل في ديسمبر 2023 بنسبة 30% فقط من قدرته قبل أكتوبر، حيث توقفت نصف مشاريع البناء كليًا.
بالرغم من أن المصالح التجارية نجحت في ممارسة ضغوطها على الحكومة للسماح بعودة زهيدة لبعض الفلسطينيين إلى العمل في ديسمبر، فإن الحلول المتاحة لمشكلة اعتماد إسرائيل على اليد العاملة الفلسطينية، وهي مشكلة لطالما أرقَت الصهاينة، تكمن في زيادة استيراد الأيدي العاملة الأجنبية من آسيا وأوروبا الشرقية، خصوصًا من تايلاند والهند. وليس من الغريب أن إسرائيل قد استخدمت الديون التي نتجت عن الرسوم الباهظة التي فرضها الوسطاء على العمال في بلدان الأصلية لإيقاعهم في شراك ظروف عمل قاسية واستغلالية، يعززها عزلهم الجغرافي. هذا هو المظهر النموذجي للعبودية الحديثة. وحتى وإن كانت العمالة المستوردة الرخيصة ستعيد قطاع البناء إلى مساره، فإن الحرب أدت إلى خفض التصنيف الائتماني لإسرائيل، وهبوط حاد في وارداتها وصادراتها، وتوقف شبه كامل لصناعة السياحة، وإلغاء متسارع لصفقات الأسلحة عبر العالم، فضلاً عن تدهور العلاقات التجارية مع تركيا، مما أدى إلى انكماش يقارب 20% من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي.
مع هذه المعطيات، يمكن القول إن الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل حاليًا ضد الفلسطينيين تضر بمصالحها الاقتصادية في المدى القريب والبعيد، التي تُضحى بها في سبيل رغبتها في الإبادة. بيد أن فرض الإفقار الاقتصادي على الفلسطينيين يجب أن يُفهم كجزء من مسعاها للإبادة. وباستخدام القوة الغاشمة للحصار، نجحت إسرائيل في عزل العديد من الفلسطينيين عن الاقتصاد العالمي—بشكل كامل في حالة غزة، وبشكل متزايد في الضفة الغربية. حتى أولئك الذين تمكنوا من تشغيل أعمال تجارية ذات طابع دولي يواجهون تأخيرات أو حظرًا فعليًا من مواقع تحويل الأموال مثل باي بال، حيث تتحكم إسرائيل في الواردات والصادرات والوصول إلى السلع وتقييدها. هذه القيود تحد من وصول الفلسطينيين إلى المواد الخام، مما يؤثر على أنواع الصناعات التي يمكن لفلسطين دعمها ويحد من قدرتها على التنمية الاقتصادية.
ويؤدي العزل الاقتصادي الذي يعيشه الفلسطينيون إلى تعزيز اعتمادهم على السلع والوظائف الإسرائيلية. غير أن هذا الاعتماد يسير في كلا الاتجاهين—فإسرائيل تعتمد على اليد العاملة الفلسطينية، مما يجعل الفلسطينيين ضروريين لاستمرار عمل الاقتصاد الإسرائيلي، ويخلق عوائق تحول دون إقصائهم الاجتماعي الكامل (ليس فقط لأن هذه اليد العاملة تتطلب التفاعل الاجتماعي مع الشعب الإسرائيلي). وكما كتب باتاي في "الهيكل النفسي للفاشية": "المال هو الذي يقيس كل عمل ويجعل الإنسان وظيفة لمنتجات قابلة للقياس. ووفقًا لحكم المجتمع المتجانس، كل إنسان يساوي ما ينتجه". في المجتمع الرأسمالي، تصبح الإنتاجية شرطًا أساسيًا للقبول في الحياة الاجتماعية. ولتحقيق الإقصاء الاجتماعي الكامل القائم على العرق، يجب جعل الفئة المستهدفة غير ذات جدوى اقتصادية. وكما لاحظ فايز صايغ أنه في وقت مبكر من عام 1895، "كان هرتزل منشغلًا بوضع خطة لتهجير السكان المعدمين عبر الحدود بحرمانهم من العمل".
وقد أدركت ألمانيا النازية هذا الأمر أيضًا: ففي عام 1938، أكمل "قانون القضاء على اليهود من الحياة الاقتصادية في ألمانيا" العمل الذي بدأ قبل ثلاث سنوات عبر قوانين نورمبرغ، التي جردت اليهود والجماعات الأخرى من جنسيتهم وكرست لمبدأ الفصل العرقي في القانون. وكما كتب أدورنو وهوركهايمر: "البائع اليهودي الوسيط يصبح الصورة الكاملة للشيطان فقط عندما يتوقف عن الجدوي اقتصاديًا". في المجتمع الذي يقوم على الفصل العنصري، حيث تُعتبر الفئة المستهدفة دون البشر أو على الأقل لا تستحق الحقوق أو أى اعتبار، يظل إعطاءه الأجر أحد الوسائل الأخيرة للتحقق من إنسانيتهم: فقد تكون الحيوانات منتجة، ولكنها لا تحصل على أجر. محاولة القضاء على اليد العاملة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي تمثل واحدة من الخطوات الأخيرة على طريق نزع الإنسانية الكاملة للفلسطينيين في نظر الصهاينة، وهي خطوة مهدت الطريق للإبادة الجماعية الحالية.
ولهذا فإن، الصهيونية ليست نظامًا يقوم في جوهره على الاستغلال الاقتصادي العرقي، رغم أنها تستفيد من هذا الاستغلال: إنها أولاً وقبل كل شيء برنامج للاستيلاء على الأراضي. يمكننا رؤية الهجوم المزدوج على تقرير الفلسطينيين لحقهم الاقتصادي وملكية الأراضي في التدمير المنهجي الذي تمارسه إسرائيل على بساتين الزيتون الفلسطينية. حيث يقوم المستوطنون، غالبًا وهم مسلحون أو محميون من قبل وكلاء مسلحين من الدولة، باقتلاع أو حرق أو قطع أشجار الزيتون، بوتيرة متزايدة منذ عام 2019. الهدف هو تهجير الفلسطينيين من أراضيهم عبر تدمير مصادر رزقهم التي تنتجها الأرض والتي رعاها الفلاحون الفلسطينيون على مدار قرون، في محاولة لـ"تهويد" المنطقة. وبينما يهرب الفلسطينيون من العنف غير المقيد، مجبرين على ترك أراضيهم بتهديد السلاح، تظهر المستوطنات اليهودية في أعقابهم، وهي مستوطنات غير قانونية بطبيعة الحال، لكنها مدعومة من الدولة حتى يتم الاعتراف بها ودمجها في النظام القانوني المنظم للملكية. (عملية تقنين المستوطنات غير القانونية، على أي حال، هي إلى حد كبير عملية شكلية حيث أن وجودها وتوسعها هما السبب الرئيسي لوجود المشروع الصهيوني). وعندما يرفض الفلسطينيون الرحيل ولا يمكن إجبارهم، يُقتلون.
إن هذا النمط من العنف والتجريد من الملكية الذي يعاني منه الرعاة والمزارعون على حد سواء، يحمل في طياته رمزية خاصة حين يتعلق بتدمير بساتين الزيتون، إذ لا يمكن فهمه إلا ضمن إطار المشروع الاستعماري الذي يسعى إلى إعادة تشكيل الأرض وفق صورته الخاصة. ويتطلب هذا الأمر أولاً إخلاء الأرض من ماضيها وما تحمله من ذكرياتٍ وتاريخٍ طويل. فلقد روجت الصهيونية لأسطورة أن فلسطين كانت "فارغة" قبل أن يأتي اليهود ليطوروها، وأن وجودهم هو الذي جعل "الصحراء تزهر". وهذا الترويج ليس إلا تكرارًا للأسطورة الأوروبية التي تذرعت بمفهوم "الأرض الخالية" لتبرير استعمار الأمريكتين وإبادة سكانها الأصليين. ومع ذلك، يمكن القول إنه في وجهة نظر ما، كانت فلسطين فارغة؛ نعم كانت فارغة من المستعمر الأوروبي، ولذلك كان يجب ملؤها بمشروعه الجديد. كل أثر من "الماضي" -سواء في الأطعمة التقليدية للسكان الأصليين أو في بساتين الزيتون التي يعود بعضها إلى ما قبل ظهور الحركة الصهيونية- يشكل تذكيرًا صارخًا بوجود سكان أصليين لتلك الأرض. والاستعمار الاستيطاني لا يقر بحق إلا للمستعمرين، ويزعم أنهم السكان الشرعيون الوحيدون للأرض، وأنهم كانوا دائمًا كذلك. حيث ترمز بساتين الزيتون بالنسبة للصهيوني إلى زراعة الفلسطينيين للأرض، وفي بعد ديني، ترمز إلى السلام، ولكنها ترمز أيضًا إلى وجود يسبق حكمهم ويتحدى تاريخهم بأكمله.
في نظر الصهيوني، الفلسطيني ليس سوى رأسمالي فاشل. فقد أخفق في تحويل غزة إلى وجهة سياحية غربية مثل أبو ظبي، وفقًا لإعلان إسرائيلي حديث يتم تداوله في وسائل الإعلام الأمريكية، حيث يُوجه إليه الاتهام بالفشل الذي يُصاغ بعناية ليخترق العقلية الأمريكية. وبسبب هذا الفشل السياسي والاقتصادي، يمكن وفقًا لمنطق السوق القضاء عليه. ولأنهم لا يستطيعون الادعاء بأن الأرض الفلسطينية غير مملوكة أو غير مأهولة، فيعيد الصهيوني النظر في نظرية شبه لوكية (نسباً لجون لوك) حول الملكية: لم يمزج الفلسطيني عمله مع الأرض بما يكفي، ولذلك يمكن، بل ويجب، الاستيلاء عليها.
والواقع أن الفلسطينيين قد مزجوا عملهم بالأرض، لكنه أمر لا يعترف به الصهيوني. إذ لا يعترف الصهيوني إلا بنوع معين من العمل، ويبدو أن الزراعة وحتى الصناعة الخفيفة لا تقع ضمن هذا الاعتراف. لقد تم تحديث مفهوم الأرض الخالية ليناسب العصر النيوليبرالي: فبدلاً من اكتشاف أرض لا يملكها أحد، أدت عقود من الحصار الإسرائيلي إلى حرمان الفلسطينيين من الوسائل التي تمكنهم من "مزج" عملهم بشكل كاف مع الاقتصاد العالمي. الصادرات الصناعية الثقيلة أو التكنولوجية الهامة والمؤسسات المالية الكبيرة غير موجودة: من خلال إنكاره الاقتصادي وخنقه، يشكل الصهيوني الفلسطيني في صورة الرجعية غير الحديثة التي تخيلها دائماً. والمنطق يتبع انعكاسًا شبه تام لدلالات معاداة السامية الكلاسيكية في القرن العشرين. حيث اليهود، الذين كانوا محصورين في الأعمال المالية، أصبحوا مرتبطين بالربا ورأس المال، وبالتالي بالتجريد: ضد "الوطن"، ضد "القيم المجتمعية". والآن، ووفقاً لمجرى الزمن الحالي، يقول الصهيوني إن الفلسطينيين ليس لديهم قدرة على تبادل المال، ولا قدرة على تجريد رأس المال، فهم مرتبطون بالأرض أكثر من اللازم - كانوا دائماً كذلك، وسيظلون دائماً كذلك، مجرد فلاحين، يثورون ضد التطور، وقادرين فقط على العيش بالكفاف-. نجد الآن هناك مقترحات علنية لتطوير الساحل الغزاوي إلى منتجعات للقتلة قيد التنفيذ: الضباع تلعق شفاهها بالفعل.
Ψ
العنف الصهيوني ليس رداً على نزع إنسانية الفلسطينيين أيديولوجيًا بل متزامنًا معه: إن القتل طريقة يتحول فيها الإنسان الفلسطيني إلى "شيء"، ثم يُمنع من القدرة على الطعن في كذبة نزع صفة الإنسانية أيدلوجياً منه، والتي لا تتطلب لمعارضتها أكثر من نظرتهم. القتل يهدئ ضمير الصهيونية في أنها تعتقد بأن الإنسان الذي تراه ليس إنساناً على الإطلاق، فيجب على الصهيوني أن يمارس عنفاً جديداً وأعظم باستمرار لتجنب هذا الإدراك النهائي والحتمي. النهي عن القتل مطلق، ولكن بالنسبة للقاتل المقتنع بأخلاقه ("الجيش الأكثر أخلاقية في العالم")، يصبح من خلال القتل نفسه أن الضحية أقل من أن يوصف بإنسان.
عبارة "حيوانات بشرية"، التي قالها وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في المراحل الأولى من الإبادة الجماعية الحالية، تستحق التأمل. حيث قال "نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك". ماذا يعني التصرف وفقاً لذلك؟ يجب أن يُختَزل الإنسان إلى جوهره الحيواني، إلى "الحياة المجردة من أى شئ" بحسب مصطلحات أغامبين. الحصار الكامل على غزة من قبل إسرائيل يشمل حرمان الناس من الغذاء الكافي، والتدمير شبه الكامل لكل مركز حضري، ثم قصف مخيمات الخيام التي نتجت عن ذلك، وتدمير البنية التحتية للطاقة في القطاع، مما أدى إلى فشل الوصول إلى المياه النظيفة في المنطقة التى كان الوصول إليها قبل الحرب محدوداً بالفعل. مياه الصرف الصحي تجري في الشوارع، والمياه النظيفة تكاد تكون معدومة، والناس يموتون من الجوع أو يضطرون إلى أكل علف الحيوانات. صراع من أجل البقاء، من أجل الغذاء، من أجل المأوى، من أجل الماء. والأهم من ذلك، أن الصهيوني يريد أن يكون هذا الصراع محصوراً فى ذلك فقط. إن النضال من أجل الاستقلال السياسي أو الاعتراف بالحقوق يمكن خوضه نيابة عن الحيوانات، ولكن ليس من قبل الحيوانات نفسها، التي تفتقر إلى القدرة على التفكير المتقدم، لكنها تحتفظ بالقدرة على العنف.
حتى قبل السابع من أكتوبر، وأثناء الحصار الإسرائيلي على غزة بين عامي 2007 و2010، لم تكتفِ إسرائيل بمنع دخول الطعام الكافي إلى غزة، بل تعمدت دراسة الحد الأدنى من السعرات الحرارية التي يمكن أن يأخذها سكان القطاع دون الوقوع في شبح سوء التغذية أو الموت الجماعي السريع. لقد بقي انعدام الأمن الغذائي المُفتعل إسرائيليًا مشكلة مستمرة في غزة منذ ذلك الوقت، وكأنما أرادت إسرائيل أن تتحكم في الحياة والموت بيدها. وتطلق إسرائيل على استراتيجيتها المتمثلة في قصف قطاع غزة بشكل متقطع تسمية "جز العشب". هذا التلاقي بين حساب السعرات الحرارية، وجز العشب، واستخدام مصطلح "الحيوانات البشرية"، يكشف عن مدى تجريد الفلسطيني من إنسانيته تحت الفكر الصهيوني. هنا، اللغة المستخدمة تحمل طابعًا زراعيًا بحتًا. "مثل الأغنام إلى المسلخ"، حيث يظهر المعسكر الاعتقالي كأنه ابن عم لمزرعة مسالخ الماشية. ضف إلى ذلك أنظمة الذكاء الاصطناعي في الجيش الإسرائيلي، التي تم الإعلان عنها بأسماء "جوسبل" و"لافندر" (الأولى تم الكشف عنها من قِبَل إسرائيل نفسها، والثانية تم تسميتها فقط من خلال تقرير لمجلة +972)، تسرع من عملية تحديد الأهداف إلى سرعات غير إنسانية، مما يطور المنطق الإبادي لحراس معسكرات الاعتقال في عصر الأتمتة. إن عملية إبعاد الجنود عن الفعل الجسدي للقتل تتم أساسًا من خلال الاعتماد على القصف الجوي. إضافة إلى ذلك، قامت إسرائيل مؤخرًا باختبار بنادق تعمل بالذكاء الاصطناعي، تستخدم معالجة الصور المدعومة بالذكاء الاصطناعي لتقييم الأهداف وتحديدها، وتترك القرار النهائي بالضغط على زر النار للجندي البشري فقط—وهذه البنادق يتم اختبارها في نقاط التفتيش (رغم الإعلان أن هذه البنادق تُطلق ذخائر أقل فتكًا، إلا أن التجربة تقول إن هذه الذخائر يمكن أن تكون مميتة). وباستخدام أنظمة "جوسبل" و"لافندر" والبنادق الذكية وغيرها—مثل الطائرات بدون طيار المجهزة ببنادق—يتم تحييد الجنود الإسرائيليين إلى حد كبير عن عملية الاستهداف المباشر وكذلك القتل.و لكن في هذه الحالة، يكون القرار النهائي بقتل الهدف بيد الجندى الصهيوني أيضاً، ولكن هذا القرار يتم تمهيده بواسطة مراحل من التكنولوجيا والمسافة الجسدية البعيدة. إن فكرة مناقشة تفويض القتل للآلات بدلاً من البشرلا يمكن تبنيها إلا بعد الاتفاق مسبقًا على حتمية القتل. وبمجرد أن يتم حسم السؤال الأخلاقي والسياسي لصالح القتل، تتبقى فقط أسئلة التكلفة واللوجستيات: رؤية مظلمة للقرن الحادي والعشرين باعتباره مسلخ بشري ضخم.
في منشور حديث على مدونة "تايمز أوف إسرائيل"، تساءل كاتب: "إذن، ماذا تفعل مع كلب مسعور، الذي، بسبب مرضه الخطير، يصبح مسعورًا ويهاجم البشر. من فضلك، لا تفهمني خطأً: أنا لا أقارنهم بالحيوانات. سيكون ذلك إهانة للحيوانات." منذ الإقصاء القريب للفلسطينيين من الحياة الاقتصادية في إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، تعامل الصهيوني معهم كـ"حيوانات بشرية"، وليس فقط كحيوانات تساعد فى العمل، بل كـ"مفترسين أو آفات". بمجرد أن يُرفع النهي عن قتل الحيوانات (سواء كان ذلك من أجل الاستهلاك الإعلامي أو الحماية الذاتية أو لأي سبب آخر)، يصبح التخلص من المفترسين أو الآفات أمرًا منطقيًا وفقًا للبديهيات الاقتصادية البسيطة، لأن المفترس أو الآفة ليس مفيدًا مثل حيوان العمل، بل هو ضار أو على الأقل عقبة. بعض صور الدعاية التي ظهرت بعد السابع من أكتوبر أظهرت جنودًا إسرائيليين يعثرون على كلاب وقطط اعتبروها "نظيفة جدًا" لأن تُوجد فى غزة، ويُروج لها كحيوانات إسرائيلية مفقودة—وهذا يمثل تجريدًا للفلسطينيين من إنسانيتهم عبر تصويرهم على أنهم "أقل من الحيوانات الأليفة"، كما يشير بشكل غير مباشر إلى فكرة "النقاء العرقي". بالعودة إلى أدورنو وهوركهايمر: "الشرط المسبق لحب الفاشيين للحيوانات والطبيعة والأطفال هو شهوة الصياد. المداعبة الكسولة لشعر الأطفال وفرو الحيوانات تعني: هذه اليد يمكنها التدمير." فكرة أن هذه الحيوانات يمكن أن تكون ملكًا للفلسطينيين لا تخطر ببال الصهاينة: الحيوانات لا تربي حيوانات أخرى كحيوانات أليفة، بل البشر يفعلون ذلك—وفي كل حال يصورون، هذه الحيوانات نظيفة جدًا لتكون ملكًا للفلسطيني "القذر". في الواقع، سعى الصهيوني في كل منعطف إلى فرض القذارة على الفلسطيني ليجعل منه صورة الحيوان البشري الذي يعيش خارجًا ويستحم في مياه قذرة. وهذا الواقع تم اختلاقه عبر الحرمان من المياه، وخنق الخدمات البلدية والوقود اللازمين لضخ مياه الصرف الصحي، وأخيرًا، التدمير المستمر لكل المساكن البشرية في قطاع غزة.
على النقيض من صور الحيوانات الأليفة "المنقذة"، لجأ دعاة "الهاسبارا" منذ السابع من أكتوبر إلى استخدام صور الفئران أو الصراصير في الدعاية المعادية للفلسطينيين، خاصة فيما يتعلق بالمقاتلين الذين يعملون ضمن شبكة أنفاق حماس. إن التفوق الجوي الإسرائيلي أجبر المقاومة الفلسطينية على النزول تحت الأرض، والآن يستخدم دعاة الهاسبارا هذا التكيف التكتيكي لتأكيد ما كانوا يعتقدونه دائمًا: أن الفلسطيني هو حيوان يجب اقتلاعه من الأرض، ثم دفنه تحتها مرة أخرى: حيث الآن في مقابر جماعية، يتم إدراج صور الفلسطينيين المقتولين في صور مركبة من قبل دعاة الصهيونية. في أعقاب "مجزرة الطحين" الأولى—حيث فتحت القوات الإسرائيلية النار على الفلسطينيين الذين كانوا يتزاحمون للحصول على المساعدة، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 118 شخصًا—ظهرت مقاطع فيديو للطائرات بدون طيار، نشرتها القوات الإسرائيلية، حيث يظهر التصوير بالأشعة تحت الحمراء بالأبيض والأسود الضحايا كأشكال سوداء مشتعلة—لغة بصرية تستحضر مشهد الصيد، وكأنهم نقاط على الشاشة تُمحى في لحظة.
الصهيونية كمشروع استيطاني استعماري كانت دائمًا مهيأة لرؤية ضحاياها كحيوانات. ليس فقط لأنهم حيوانات يمكن قتلها، بل لأن الاستعمار الاستيطاني يقوم على هيمنة الطبيعة: يعيد تشكيل التربة الأصلية على صورة المستعمر. حيث يدعي الصهاينة الإسرائيليون أنهم "جعلوا الصحراء تزهر"، وفي الحقيقة، فعلوا ذلك من خلال تدمير الأراضي الزراعية الفلسطينية، وحجز معظم موارد المياه في المنطقة، ثم تحويل تلك الموارد إلى زراعة محاصيل أجنبية عن تربتها تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه. تشارك منظمات مثل الصندوق القومي اليهودي، إلى جانب الحكومة الإسرائيلية، في برامج التحريج في صحراء النقب في محاولة لتهجير السكان البدو، مع تغطية ذلك بغطاء بيئي صديق للبيئة. هذا التحريج يدمر أيضًا النظم البيئية الصحراوية وتحول المزيد من الموارد المائية من الفلسطينيين. يجب أن يُفهم "جعل الصحراء تزهر" في هذا السياق على أنه يعني التدمير المستمر لأنظمة الغذاء والنظم البيئية الأصلية. وكما قال أدورنو وهوركهايمر: "عندما تكون هيمنة الطبيعة هي الهدف الحقيقي، تظل الوصمة البيولوجية هي الوصمة النهائية، الضعف الذي تطبعه الطبيعة على البشر، هو العلامة التي تدعو إلى العنف." يُنظر إلى الفلسطينيين كحيوانات بشرية من أجل تحويلهم إلى جزء من الطبيعة، ولتعزيز إحساس الصهاينة بالتفوق العرقي بشكل مبالغ فيه. بوصفهم مرتبطين بالأرض، يُنظر إلى الفلسطينيين كمواد يجب استخدامها أو استئصالها. ولكن بوصفهم بشرًا، يتحدون الطبيعة ويتحكمون فيها، فإنهم يزيحون هذه الوصمة عنهم. فيرد الصهيوني بإعادتهم إلى الأرض كجثث.
Ψ
معاداة السامية في القرن العشرين تبدأ أولاً من خلال عزل اليهود كغرباء، ثم يتم تحويل هذا الاختلاف العرقي المفترض إلى اختلاف وطني. لكي يُعتبر اليهودي بلا جذور، كطابور خامس ضد الأمة أينما كان يعيش، بغض النظر عن ارتباطاته وجذوره التاريخية في أرض معينة، يجب أولاً أن يُنظر إليه كعنصر متميز عرقيًا عن الأمة، التي تُعرف الآن كعرق (أي دولة قومية). تعيد معاداة السامية الصهيونية هذه العملية، ولكن مع انعكاس واضح. فعندما واجه الصهيوني أرضًا مأهولة قبل وصوله، كان عليه كاستعماري أن يخترع جذورًا في تلك الأرض (أو يُثبت ادعاءه يتزييف على التاريخ القديم) لإزاحة الفلسطينيين القائمين (والذي كان يشمل اليهود الأصليين منهم أيضًا). هكذا يتحول الاحتجاج ضد تهمة انعدام الجذور إلى تأييد للضرورة القومية العرقية، ويجد هذا الصوت صدى في موافقة الغرب أن يهود أوروبا ليس لهم جذور هناك، وبالتالي يخلقون جذورًا لهم في مكان آخر.
إن عملية تصوير اليهود الأوروبيين كعرق متميز ونزع هويتهم الوطنية لم تكن لتتحقق لولا بناء صورة لهم كعرق "سامي" منفي من أرضه الأصلية. ولكن لا يمكن تقديم ادعاء مماثل ضد الفلسطينيين؛ ولهذا كان لا بد من اتباع نهج مزدوج لإسقاط هويتهم الوطنية: أولاً، بتحويل فلسطين إلى دولة يهودية، وثانيًا، باقتلاع الفلسطينيين من جذورهم الضاربة في عمق الأرض.
ولكي تُنشأ الدولة اليهودية، تبنّى الصهاينة مبدأ الاستمرار في بناء الهوية العرقية اليهودية التي بدأها مضطهدو اليهود أنفسهم. ففي كتابه "الاستعمار الصهيوني في فلسطين"، يلخّص فايز صايغ المشكلة بقوله: "العنصرية ليست سمة مكتسبة لدولة المستوطنين الصهيونية، وليست صفة عابرة في المشهد الإسرائيلي، بل هي سمة أصيلة ودائمة، متجذرة في صلب الأيديولوجية الصهيونية." ينشأ ذلك من قبول الصهاينة واحتفائهم بالعداء الأوروبي تجاه اليهود، من خلال رفضهم القاطع لاستيعاب اليهود في المجتمعات غير اليهودية، واعتمادهم على مبدأ أساسي للانعزال العرقي، الذي يطالب بالنقاء العرقي والتفرد العرقي في الأرض التي يفترض تحقيق هذا الانعزال فيها. وقد استمر هذا النوع من التفكير حتى يومنا هذا في خطابات العديد من المسؤولين الإسرائيليين، ,ونجد له جذوراً في أعمال مارتن بوبر، أحد أوائل الصهاينة والفلاسفة اليهود البارزين. ففي مقاله "اليهودية واليهود" عام 1911، جادل بوبر بأن جوهر اليهودية يكمن في "مجتمع الدم... الذي يحافظ على استمراريته في الماضي اللامتناهي... وأن أعمق طبقات كياننا تحددها الدماء؛ وأن تفكيرنا الداخلي وإرادتنا تتلون بها." بالنسبة لبوبر، فإن قوة الدم اليهودي واستمراريته لا يمكن تحقيقها بالكامل إلا في فلسطين. لقد كتب أن "التعبير الكامل عن الدافع الوحدوي اليهودي الخالد... لن يتحقق إلا بعد إعادة تأسيس و تأكيد استمرارية الحياة في فلسطين، حيث نشأت المفاهيم الكبرى لهذا الدافع الوحدوي في الأصل." هكذا، يتلاقى الدم مع التربة.
ورغم أن أفكار بوبر لم تكن الاتجاه السائد في الفكر الصهيوني في ذلك الوقت، أو حتى في فترة النكبة، إلا أن التاريخ يبدو وكأنه قد لاحقها. فمنذ ظهور الدراسات الجينية، تم استبدال المفهوم العنصري للدم بالمفهوم الأكثر تجريبية المفترض للحمض النووي في المخيلة الصهيونية. وقد اكتسب هذا الأمر أهمية متزايدة في أعقاب النكبة وتأسيس إسرائيل، حيث أصبحت تلك الدراسات ضرورة مُلحة أمام الدولة الإسرائيلية الناشئة التي تواجه مجتمعات مهاجرة بدت مختلفة جذريًا من منظور النخبة الأشكنازية السياسية والعلمية. ومن هنا يمكننا أن نرى كيف تم تحفيز الاختبارات الجينية بسبب العنصرية داخل المجتمع اليهودي، والتي لا تزال مستمرة سياسيًا واقتصاديًا—فكر في المصائر الاقتصادية المختلفة لليهود المزراحيين والأشكنازيين في إسرائيل، أو في وحشية الشرطة الموجهة ضد الجالية اليهودية الإثيوبية. وربما كانت الفروقات الشكلية أكثر أهمية من الفروقات الثقافية، حيث كان العرق، الذي يُفهم عمومًا على أنه يتوافق مع العلامات الشكلية، بحاجة إلى الدم أو الحمض النووي لملء الفجوة التي خلفتها الفروقات المرئية. وكانت الدراسات الجينية المبكرة في الدولة الإسرائيلية إذن مشروعًا بيوسياسيًا ذو أهمية، حتى وإن لم يكن موجَّهًا بشكل دقيق، لصالح دولة حديثة التأسيس وصراع نخبها المتنوعة لإنتاج أمة يهودية يُفترضون أنها موجودة بالفعل.
لقد دفع العمل مكاسب أيديولوجية. ففي دراسة أُجريت عام 2010 ونُشرت في مجلة "الجينات البشرية الأمريكية"، زعمت أنها وجدت "تجمعات سكانية يهودية مميزة، كل منها يشترك في أصل شرق أوسطي، وتداخل مع السكان الشرق أوسطيين المعاصرين، ودرجات متفاوتة من المزيج الأوروبي وشمال الأفريقي"، وسرعان ما استولى عليها الصهاينة بعد نشرها لتصبح رابطًا يُنشر بشكل متكرر من قبل البوتات الإسرائيلية على الإنترنت لإثبات أصالة اليهود في فلسطين. ولم يمنع الصهاينة من استغلال الفرصة لتعزيز الادعاء بوجود عرق يهودي نقي بيولوجيًا. ومع ذلك، قاموا بالخلط بين الادعاء السياسي بالذاتية الجغرافية (أي النزعة القومية الإسرائيلية مقابل الوجود اليهودي الطويل الأمد في الشرق الأوسط الحالي)، وافترضوا أن مجموعة واحدة فقط يمكن أن تكون أصلية في موقع معين، وأن هذه الأصالة تبرر التفوق العرقي داخل تلك الجغرافيا. ويظهر هذا التوجه في مقطع فيديو صهيوني حديث يتحدث عن "حضارة يهودية عمرها 4,000 سنة"، وعن إسرائيل كـ"المكان الذي وُلد فيه شعبنا." وكما كتب المنظر فيرنر بونيفيلد في "ملاحظات حول معاداة السامية"، "إن معاداة السامية تدعو إلى نوع مختلف من المساواة، حيث ترتكز على انتماء الفرد إلى مجتمع فولكي، وتستند إلى "ملكية" الأرض والتربة التي تُعرَّف برابطة الدم. وفي النهاية، يشكل الدم والتربة رابطة المجتمع، الفولك، مما يُعتبر ملكية مرتبطة بالدم ومفهوماً أسطورياً للمجتمع."
إن مركزية العرق والأصل في الفكر الصهيوني تشبه بشكل مدهش مركزية العرق والفولك في الفكر المعادي للسامية. وكما جاء في كتابات بوبر، فإن الدم يبرر امتلاك التربة التي انبثق منها، ووحدة التربة تبرر وحدة الدم الذي يُسمح له بالعيش عليها. ولكن خيال الأرض الوطنية يجب أن يتماشى مع الدم، ويُعاد تشكيله في صورته الموحدة. وكما يشير صايغ، "الصهيونية هي إيمان بوحدة قومية لجميع اليهود، الذين يُعرفون بهذا المصطلح بناءً على أصلهم المشترك المزعوم. لا الدين ولا اللغة يشكلان الرابطة القومية المزعومة لليهود وفقًا للعقيدة الصهيونية." هذا التحديد العرقي يُنتج ثلاث نتائج مترابطة: العزلة العرقية، الحصرية العرقية، والتفوق العرقي." رفض الصهاينة استيعاب اليهود في أوروبا بشكل قاطع، ,وبهذا رفضوا أيضًا استيعابهم في السكان الفلسطينيين. هذا المبدأ للعزلة العرقية عن شعوب أوروبا تطلب بالمثل العزلة العرقية داخل فلسطين، ولكن هذه المرة من موقع السلطة على الدولة. وبدلاً من الهجرة، كان الحل هو الطرد.
أحد الادعاءات الأساسية للصهيونية هو أنه بينما توجد العديد من الدول العربية أو الإسلامية (حيث غالبًا ما يستخدم الصهاينة هذه المصطلحات بالتبادل)، هناك دولة يهودية واحدة فقط: أي أن الفلسطينيين لديهم العديد من الأراضي التي يمكنهم الذهاب إليها، بينما ليس لليهود سوى واحدة. يكشف هذا الادعاء الأساسي للأيديولوجية الصهيونية أن تحويل اليهود إلى عرق كان ضروريًا ولكنه غير كافٍ لترسيخ مفهوم الدم والتربة في اليهودية؛ يجب أيضًا اقتلاع الفلسطينيين من جذورهم، وبنفس الطريقة التي تم بها اقتلاع اليهود قبل أن يصبحوا عرقًا يهوديًا، حيث تم تدمير خصوصياتهم الثقافية المحلية والشتاتية في ظل الهوية الصهيونية الجديدة. لقد جُرد الفلسطينيون في الخيال الصهيوني من خصائصهم العرقية، وأعيد تشكيلهم ليصبحوا عربًا أو مسلمين فقط (يميل الصهاينة، على الأقل في الاتصالات الدولية، إلى تجاهل السكان المسيحيين الفلسطينيين في محاولة لربط الحرب ضد الفلسطينيين بالحرب العالمية على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة، وكذلك لتجنب إغضاب علاقاتهم اليمينية المسيحية القوية). ولكن الفلسطينيين في المنفى سواء في الأردن أو لبنان أو مصر: هم في منفى واضح، لأنهم لا يزالون يرون البيوت والقرى التي طُردوا منها. وهكذا، يقوم الصهاينة، مثل المعادين للسامية الأوروبيين قبلهم، بتصوير الفلسطينيين على أنهم شعب بلا جذور، في الوقت الذي تعمل فيه الآلة الحربية الصهيونية على طردهم من أرضهم. ويجب أن يُنظر إلى تدمير المقابر الفلسطينية والمواقع الأثرية في هذا السياق: كعمل مادي لتدمير أدلة الارتباط بالأرض.
حتى اليهود ليسوا في مأمن من أيديولوجية الدم والتربة الصهيونية. ومع ترسيخ سلطة الدولة الإسرائيلية وتماسك العرق اليهودي، يمكن تجاهل الديناميكيات العرقية الداخلية للصهيونية في أي وقت لصالح الديناميكيات الوطنية. الأرض، التي كانت دائمًا الجائزة، تأخذ الأولوية على الدم. وقد صرح الروائي جوشوا كوهين مؤخرًا لمجلة "نيو ريبابليك" أن "معظم اليهود المناهضين للصهيونية لن يكونوا يهودًا بعد جيل من الآن... الغالبية العظمى من هؤلاء اليهود لا يتحدثون أيًا من اللغات اليهودية. لا يعرفون النصوص اليهودية ولا يعيشون في إسرائيل. وإذا كانوا سينجبون أطفالًا، فهناك احتمال بنسبة خمسين بالمئة أنهم لن يربوهم كيهود. فبالنسبة لهؤلاء اليهود أن يعارضوا الصهيونية، وأن يحفظوا لأنفسهم كآخر تعبير عن يهوديتهم هو إدانة إسرائيل—علي أن أحييهم، ربما حتى أنحني لهم. هذا هو قمة الوقاحة ('الكتسباه' النهائي.)" (قمة الوقاحة) في تصور كوهين الصهيوني، يستمر الدم في ربط جميع اليهود بالمشروع الصهيوني، ولكن في المقام الأول الأرض فقط هي التي تعطي الدم معنى. رفض الصهيونية يعادل رفض فكرة بوبر عن "الدافع الوحدوي اليهودي الخالد": رفض جيناتهم الخاصة، التي تؤثر على الشخص لتحديد مصيره.
رغم ما قد يبدو عليه حديث كوهين من حدة، إلا أنه يحتوي على جانب من الحقيقة: التاريخ اليهودي يتجه بشكل عام نحو العلمنة والتحول إلى مجتمع ثقافي وقانوني. يشير كوهين إلى النفور الذي يشعر به العديد من اليهود، وخاصة الإسرائيليين، تجاه اليهود الأرثوذكس المتشددين. فهناك طابع عقائدي يظهر في اليهودية الأرثوذكسية المتشددة، وهو ما يشبه العقيدة الصهيونية لكن بمحتوى مختلف. وربما يكون هذا التشابه، إلى جانب رفض المتشددين الأرثوذكس الانخراط في الجيش، هو ما يعمق العداء بين هاتين المجموعتين في المجتمع الإسرائيلي. في نهاية المطاف، اليهودية، وفقًا للتفسيرات الدينية مثل المدراش، تضع القانون في نطاق البشر وليس السماء، مما يجعلها تنظر بعين الشك إلى أي تطرف ديني، خاصة من منظور الفداء الذي يظهر كإلغاء للخصوصية. ويرى كوهين أن القومية تمثل جوهر التنوير في التقليد المدراشي اليهودي الذي يعيد المجتمع إلى شكل من الجماعة، ويجعل القانون أداة للسلطة. ومع ذلك، فإن الصهيونية، بحماسة ذلك المعتنق الجديد تاريخياً الذي لم يتأكد بعد من قبوله عالمياً، تصر على أن الأمة فوق كل شيء، بما في ذلك اليهودية نفسها.
Ψ
"العنف، الذي تقوم عليه الحضارة، يعني اضطهاد الجميع من قبل الجميع، والمصاب بجنون الاضطهاد يضع نفسه في موقف ضعف فقط من خلال إلقاء اللوم على جاره في ما يرتكبه الجميع، في محاولة يائسة لجعل ما لا يقاس قابلًا للقياس."
—أدورنو، "الحد الأدنى من الأخلاق"
إنّ من الأوهام الشائعة في هذا الزمان، أن يُنظر إلى الصهيونية على أنها مجرد انعكاس للهوس بالاضطهاد. فدعاة هذه الفكرة لا يستسيغون أن يعترفوا بالتوافق الصريح للصهيونية مع الاستعمار الاستيطاني والإبادة والعنصرية، فيصرّون على أن الصهيونية ليست سوى رد فعل مبالغ فيه، ولكنه مفهوم، على الاضطهاد الحقيقي الذي تعرّض له اليهود في أوروبا. ويؤكدون أن ما نراه من مظاهر العنف ما هو إلا نتيجة لتطرف بعض العناصر الخارجة عن السياق في إسرائيل، التي دفعت الصهيونية إلى حالة من الهوس. غير أن هذه الجوانب الأكثر بُغضًا من الصهيونية تكاد تكون مكبوتة بالكاد، ولا يحتاج الأمر إلا لحدث مثل السابع من أكتوبر لتطفو تلك الجوانب على السطح، حتى بين أولئك الذين يدّعون أنهم من "اليسار الإسرائيلي". ومن المؤكد أن هناك بعض الحقيقة التاريخية في القول بأن الهولوكوست ومعاداة السامية في أوروبا كان لهما دور في تعزيز الصهيونية، ولكن الصهيونية لم تكن مجرد رد فعل على معاداة السامية، ويكفي أن نتأمل قليلاً في تصريحات هرتزل عن الاستعمار لندرك ذلك.
ورغم ذلك، فإن جنون الاضطهاد يلعب دورًا جوهريًا في النفسية الصهيونية الحديثة، كما هو الحال في كل الأيديولوجيات الفاشية أو المعادية للسامية. فهو نظام متكامل من التفسيرات حيث يُرى كل محفز من خلال عدسة الدفاع عن النفس ضد أعداء وهميين. حتى أبسط الأمور يمكن أن تتحول، في ذهن المريض بهذا الجنون، إلى تهديد يهدد حياته ذاتها. فتتجمد الذات في صورة ثابتة لا تستطيع إعادة تشكيل العالم إلا في صورة نفسها، فيصبح العالم بالنسبة لها مجرد عالماً من الأشباح المغلقة في ذهنها، مسلوبًا من خصائصه الفريدة. وهناك إحساس أيضاً بأن جنون الاضطهاد يتعامل مع العنف والسيطرة التي تحافظ على النظام الاجتماعي القائم، وينقلها إلى المجموعة المستهدفة، ليحولهم إلى أعداء افتراضيين. إنها كذبة نرجسية يرويها المريض لنفسه ليواجه بها حقيقة الاضطهاد الذي يشارك فيه بفعالية وليس مجرد ضحية له. ومع ذلك، تعيد هذه الكذبة تشكيل الجاني إلى ضحية نقية، بكل ما تحمله هذه الصفة من وزن أخلاقي. وفي الوقت نفسه، يتحول ضحايا العنف الذي يمارس المريض هذا الجنون عليهم إلى جناة، ومن وجهة نظر هذا النظام المغلق من البارانويا، يصبح الضحية مطاردًا، وتهديدًا دائمًا له بالعنف.
كان للصهيونية علاقة عداء مادية بالفلسطينيين، حيث كانت تطمح إلى الأرض التي رفض الفلسطينيون أن يُطردوا منها. ولكن منذ النكبة، ومع احتلال الصهيونية لمعظم فلسطين، تحوّل هذا العداء الموضوعي بين الصهيوني والفلسطيني إلى جنون اضطهاد. فرغم انتصار الصهيونية، إلا أنها لا تزال غير قادرة على التخلي عن دور الضحية: كلما استولت على مزيد من الأرض، زادت في شعورها بأنها تحت هجوم. وهذا يعكس "نظرية البكاء في التاريخ اليهودي"، التي ابتدعها المؤرخ سالو بارون، للإشارة إلى التركيز المبالغ فيه على المعاناة في سرد التاريخ اليهودي. ويبدو أن هذه النظرية تؤثر بعمق على الهوية الصهيونية، التي تتشكل بطريقة سلبية بحتة، إن التماهي النفسي مع النازيين أو المستعمرين الأوروبيين غير مقبول اجتماعيًا، لذلك يحدث هذا التعرف عبر تكوين سلبي: نحن لسنا "اليهودي المرتجف" الذي تم إبادته في المحرقة، نحن لسنا اليهودي "المتخلف" في الشتات أو اليهودي المثالي الساذج في البوندية، نحن لسنا الفلسطيني أو العربي "المتخلف" الذي يعيش تحت حكم أجنبي. تميل الهوية التي تم تشكيلها بهذه الطريقة إلى هوية مكبوتة مع أولئك الذين جعلوا هؤلاء الآخرين السلبيين ضحايا في المقام الأول. وفي الوقت نفسه، يلوح شبح الضحية التي يشكل ضدها الصهيوني نفسه في الأفق كتهديد مخيف في كل منعطف. من خلال تجاوز ضحية تاريخهم بشكل دائم باستخدام المزيد من العنف، غير قادر على تركها وراءهم. حتى كمنتصرين—على المستويين القومي والدولي—يتمسكون بالتاريخ الباكي: لم يعد يواجهون اضطهادًا هيكليًا في فلسطين أو في الغالبية العظمى من العالم، ولكن يظل الرؤية الصهيونية للعالم ثابتة. غير قادرين على استيعاب حقيقة أن الاضطهاد الهيكلي قد أفسح المجال للكراهية الفردية، وبالتالي يتم إعادة تشكيل الأخير إلى تهديد الأول (انظر ردود فعل الصهاينة المبالغ فيها على حتى أصغر استخدام أو استخدام زائف لـ"الأطروحات المعادية للسامية" من قبل السياسيين الأمريكيين). الاعتراف بهذا التغيير في وضع اليهودية العالمية، التي يدعي الصهاينة أنهم يمثلونها، من شأنه أن يلحق ضررًا لا يمكن إصلاحه بالتصور الذاتي الصهيوني: بعد أن تجاوزوا أخيرًا دورهم كضحايا، سيضطر الصهيوني إلى مواجهة التماهي المكبوت مع مضطهديهم السابقين، بل وإعجابهم الضمني بهم.
لكن للحفاظ على هوس الاضطهاد في غياب الاضطهاد الفعلي، يلجأ الصهيوني إلى اختراع تهديدات جديدة، فتتصاعد خطابات العداء. هذا ما نراه في خطابات السياسيين الإسرائيليين منذ السابع من أكتوبر: "نحن أبناء النور، وهم أبناء الظلام"، كما قال نتنياهو؛ و "هذه حرب بين النور والظلام"، كما قال جالانت؛ و"هذه حرب تهدف إلى إنقاذ الحضارة الغربية"، كما قال هرتسوغ. وكلما فقد الصهاينة الضحية الحقيقية، زاد عداؤهم لأولئك الذين يعتبرونهم أعداءهم. وربما عندما لم يعد هناك فلسطينيون ليقتلوهم، سيدرك الصهيوني ما أصبح عليه. ولكن على الأرجح أن هذه الصورة السلبية التي يمكن أن تكشف الحقيقة ستختفي، مما سيؤدي إلى تحقيق السلام النفسي. وبعد أن حولوا العالم إلى الجحيم الذي تخيلوه، سيحاولون إسكات صوت الضحية لكي ينسوا هذا الجحيم تمامًا.
وفي هذه الأثناء، يعتبر الصهاينة صوت الضحية دائمًا تهديدًا. وكما كتب أدورنو وهوركهايمر، "معاداة السامية تقوم على الإسقاط الكاذب... إذا جعل المحاكاة نفسها تشبه محيطه، فإن الإسقاط الكاذب يجعل محيطه يشبه نفسه... الدوافع التي لا يعترف بها المريض، رغم أنها جزء منه، يُنسب إلى الضحية المتوقعة." وأثناء دفاعه عن تصعيد العنف الإسرائيلي في غزة في أكتوبر 2023، ارتدى السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان شارة صفراء على شكل نجمة داود، كرمز للاضطهاد الذي تعرض له اليهود تحت الحكم النازي. ووعد بأنه سيرتديها حتى تدين الأمم المتحدة "فظائع حماس وتطالب بالإفراج عن رهائننا". ففي كل فلسطيني، يرون هتلر: ومن ثم يصبح كل شيء مسموحًا به. وأخيرًا، حصل الصهيوني على الفظاعة التي طالما تاق إليها، فظاعة تعطي شكلاً ملموسًا لفانتازيات اضطهادهم وتطلق رغبتهم في القتل: رد فعل إبادي يتنكر كدفاع عن النفس، كما هو الحال مع العنف الإبادي. الدافع للإبادة الجماعية الذي لا يمكن للصهيوني الاعتراف به يُنسب إلى الضحية. فتتحول النجمة إلى تهديد، وليست مجرد عرض من أعراض جنون الاضطهاد.
وفي هذا المجتمع الذي يعاني من فجوة التفاوت بشكل متزايد، نرى جنون الارتياب يزداد تفاقمًا. فالعنصر الاقتصادي، وإن لم يكن ظاهرًا بشكل كبير، إلا أنه لا يمكن إنكاره. حيث يتميز المجتمع الإسرائيلي بوجود فجوة هائلة في الدخل، سواء من حيث القياس المطلق أو بالمقارنة مع الدول الأخرى الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ويعيش هذا المجتمع في ظل أزمة تكاليف المعيشة وأزمة الإسكان، وهما جزء من واقع مجتمع عسكري ضخم. هنا، يتم توجيه كل شاب يهودي، وبعد قرار المحكمة العليا بإلغاء إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، يخضع الجميع لتلك التجربة القاسية من خلال مفرمة اللحم النفسية للانضباط العسكري المتصلب. هذه العملية تولد كمية هائلة من الطاقة والغضب المكبوت، والذي يُوجه نحو الفلسطينيين في طقوس من العنف والإذلال، وتأتي هذه الممارسات كنتيجة حتمية للصراعات الطبقية المتفاقمة داخل إسرائيل.
إن المجتمع الإسرائيلي يواجه تدهورًا اقتصاديًا معززًا بتقديس القتال العسكري، غير أن ميدان هذا التقديس يكاد يكون منعدمًا. وهكذا نجد الجنود-المواطنين يكرسون أنفسهم للحفاظ على نقاط التفتيش وممارسة التعذيب العشوائي ضد الفلسطينيين العزل. كما وصف طفل صغير في الفيلم الوثائقي "جنين، جنين"، وعندما يواجهون مقاومة مسلحة، يظهر جبنهم بشكل واضح. وكلما اشتدت المقاومة، ازداد حماسهم لضرب الفلسطينيين بالطائرات بدون طيار، إذ يجد الصهيوني في هذا التفوق التكنولوجي الذي يعكس تفوقهم الاقتصادي نوعًا من العزاء والافتخار القومي.
الصهيونية، بعقدتها العميقة بالاضطهاد، تسعى باستمرار لتحويل العداءات نحو عقدة اضطهادٍ مزمنة ومتجذرة. في قلب هذا الهوس يكمن تناقضٌ يعكس الطبيعة المزدوجة لمعاداة السامية في القرن العشرين. فعلى الرغم من أن اليهودي يُرى كقويٍ بشكل مستحيل، إلا أنه يُصوَّر في الوقت ذاته كضعيف ومثير للشفقة. هذا التصوير المتضارب يعكس بدوره صورة الرأسمالية والبلشفية، مما يدفع الصهيونية إلى إعادة تشكيل هذه الصور التقليدية في إطارٍ جديد. في هذا السياق، يُبرز الصهيوني صورة "الفاشي الإسلامي" كرمزٍ جديد يتسم بوحشية بدائية، وفقر وقذارة، لكنه في الوقت ذاته يمثل تهديدًا حقيقيًا وقويًا بالإبادة الجماعية. هذا "الفاشي الإسلامي" يُصوَّر ككيانٍ ضعيفٍ جسديًا لكنه يمتلك قوة هائلة تُهدد بالدمار الشامل، ممثلة في استعداده للموت والقتل معًا. وعندما تكتمل صورة هذا الفاشي في ذهن الصهيوني، يُخيل إليه أنه يسيطر على العالم الإسلامي بأكمله، ويكتسب بذلك قوة هائلة بأعداد لا تُحصى. كما يصور الصهيوني المثقف اليساري، الذي كان هدفًا مفضلًا لدى معادي السامية في القرن العشرين، كشخصية ضعيفة جسديًا وعقيمة فكريًا، ومع ذلك يُشكل تهديدًا عالميًا بقدرته على التلاعب بالمؤسسات الدولية والإعلام والأكاديميا لتغذية التحيز المناهض للصهيونية. تحت تأثير هذا التصور المزدوج، تتخذ الصهيونية موقفًا هجوميًا، حيث تقوم بتوجيه انتقاداتٍ لاذعة للمثقف اليساري وتضعه في مواجهة مع "الفاشي الإسلامي"، معتبرة أن كليهما يسعى لتدميرها من زاويتين متضادتين. الأول يُهاجم إسرائيل بشكلٍ مباشر، باعتبارها تجسيدًا لقيم الديمقراطية والمساواة الغربية، في حين يسعى الثاني إلى ضرب الصهيونية في جذورها القومية. هذا الحصار الأيديولوجي المزدوج، الذي تُصوره الصهيونية كتهديدٍ وجودي، يتيح لها تشتيت الطاقات العدائية وإعادة توجيهها نحو أهداف مختلفة بحسب الظروف. وقد تعلمت الصهيونية كيفية دمج هذا الهوس بالاضطهاد في إطار نظام متكامل من التفسير، مما يجعله مرنًا وقادرًا على مقاومة المنطق والعقل.
Ψ
السؤال اليهودي، في حقيقته،هو سؤال عن اليوتوبيا. فهو يسأل: هل يمكن للبشرية أن تحقق التحرر الجماعي كمفهوم شامل يوحد الاختلافات؟ الصهيونية تجيب بالنفي، والفلسطينيون يدفعون الثمن. مع كل جريمة قتل جديدة، وكل عملية طرد، يدلى الصهاينة بأصواتهم لصالح معاجاة السامية و يؤكدون رفضهم للشمولية ويدعمون الخصوصية ضد العالمية. وبذلك، يحولون العالم إلى جحيم دائم، كما وصفا أدورنو و هوركهايمر.
وبهذا التحول، تفرغ الصهيونية محتوى اليهودية التاريخي من معناه -حيث يختفي مفهوم القانون أمام القوة، ومفهوم الوطن أمام الأمة العرقية و مفهوم المسيانية الذي يصلح أخطاء الماضي. إذ تؤكد الصهيونية على أن مفهوم القوة ضد القانون، وتجد في القانون الدولي والمحاكم الدولية عدوًا يجب محاربته - ففكرة أن هناك قيدًا خارجيًا على أفعال إسرائيل تُشبه بالنسبة للصهيوني القيود التي كانت مفروضة على اليهود قبل ظهور الصهيونية. وتجد الصهيونية في كل غريب تهديدًا، وفي القانون الدولي نوعًا من الخضوع والاستسلام.
وبذلك، ترفض الصهيونية مبدأً توراتيًا أساسيًا: "وَإِذَا نَزَلَ عِنْدَكَ غَرِيبٌ فِي أَرْضِكُمْ فَلاَ تَظْلِمُوهُ. كَالْوَطَنِيِّ مِنْكُمْ يَكُونُ لَكُمُ الْغَرِيبُ النَّازِلُ عِنْدَكُمْ، وَتُحِبُّهُ كَنَفْسِكَ، لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ." هذا المبدأ، الذي يتضمن مطلبًا دينيًا ورؤية لتحرر الإنسان من حضارة قائمة على الهيمنة، يجد رفضًا تامًا من قبل الصهيونية. فهي ترفض فكرة "الكل للجميع"، وتؤكد على "كل فرد لنفسه"، مما يفرغ اليهودية من معناها الحقيقي.
اليهودية كانت واعية تمامًا لعواقب هذا التفكير، إذ كانت ترى الحضارة كـ"اضطهاد للجميع من قِبل الجميع". والاضطهاد التاريخي لليهود، ورفض أوروبا السماح لهم بالدخول إلى الشمولية، أعطى محتوى اليهودية أهمية فورية وحيوية. أما الآن، فإن العنف الذي تمارسه الصهيونية ضد الفلسطينيين يستمد قوته من هذا الوعي الأوربي المكبوت، وبهذا المعنى، ليس الفلسطيني، بل الناجي من المحرقة، هو الذي يشكل الصورة السلبية الأساسية للآخر إذ يعتبر الناجون من الهولوكوست الصورة السلبية الأساسية للآخر التي تشكل الصهيونية نفسها ضده. فاليهود الذين اعتقدوا أنهم في أمان في وطن بلا انتماء قومي، اليهود الذين هم الصورة (الكاذبة) لضعف بلا مقاومة،، يشكلون تحديًا لا تستطيع الصهيونية تحمله، مما يدفعها لممارسة العنف ضدهم.
إن الصهيونية، في إساءتها الحقيقية للناجين من الهولوكوست، وفي استخدامها المتواصل لذكرياتهم لتبرير إبادة جماعية أخرى، تعطي حياة لقول والتر بنجامين: "لن يتمتع المؤرخ الذي يُشعل شرارة الأمل في الماضي بموهبة الفهم إلا إذا كان مقتنعًا بأن حتى الأموات لن يكونوا آمنين من العدو إذا انتصر. ولم يتوقف هذا العدو عن الانتصار."
من المتوقع أن مناحم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي السادس، الذي أشرف على مجازر الثمانينيات في لبنان، قد قال: "أنا لست يهوديًا بركبتين مرتجفتين. أنا يهودي فخور بتاريخ حضاري يمتد لـ 3700 عامًا." وقبل بيغن، قال دافيد بن غوريون، الأب المؤسس لإسرائيل: "ادعوني معاديًا للسامية، لكن علي أن أقولها ... نحن مملوءون بالخزي مما يحدث في ألمانيا وبولندا وأمريكا، حيث لا يجرؤ اليهود على المقاومة. هل لا يمكننا أن نكون شجعانًا في أي مكان في العالم؟... نحن لا ننتمي إلى ذلك الشعب اليهودي. لا نريد أن نكون ذلك النوع من اليهود."
إن اليهودي الذي تم تعريفه بركبتين مرتعشتين، قد أُقصي من التاريخ اليهودي الجديد ومن العرق اليهودي الناشئ. ولقد كان بن غوريون، في عام 1939، يختنق بالخجل منهم، وما هي إلا سنتان حتى اختنق يهود أوروبا في غرف الغاز. هنا يظهر تشابهٌ عجيب، لا مع اليهود، بل مع أولئك النازيين الذين أهلكوهم. وهذا التشابه يرتد مباشرة نحو الفلسطينيين، فيصبحون، عبر تشبيه متعمد، مرتبطين بازدراءٍ بضحايا النازيين السلبيين. ولعلَّ الصهيوني يظن أن هذا التشابه قد ينجح؛ لكن الفلسطينيين يرفضون ذلك في كل مناسبة. فالمقاومة المسلحة تمثل رفضًا قاطعًا من الفلسطينيين للاستسلام لمصيرهم البائس، ذلك المصير الذي نسبه الصهيوني زورًا إلى اليهود (فبينما يحتفل الصهيوني بانتفاضة غيتو وارسو كدليل على صمود اليهود ومقاومتهم، والتي كانت بحد ذاتها عملًا انتحاريًا من أجل كرامة الإنسان، إلا أنها تعتبر لحظة فريدة، ونموذجًا - مثل الانتحار الجماعي في مسعدة قبلها - في ما يُنظر إليه عمومًا على أنه تاريخ يهودي حديث للضحية البحتة). هذا الرفض للضعف الذي كان يُعتبر وصمة، والذي استُخدم أيضًا لإشعال العنف، يثير غضبًا أشد: إنه ذلك الخجل من أن هؤلاء "الضحايا" قد تفوقوا على الصهاينة في ميدان التاريخ.
الدرس الذي استقاه الصهاينة من الهولوكوست هو أن الحضارة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدولة القومية، التي تمنح الحق في الإقصاء، ولو اقتضى الأمر القتل فليكن. فالدولة القومية، كما يدعي الصهيوني، هي الآلة التي تُنتج الخصوصية، وكان نقص الدولة القومية هو الذي جعل الهولوكوست ممكنًا؛ متجاهلين، أو بالأحرى محتفلين بأن الهولوكوست نُفذ باسم الدولة القومية. وهكذا، يصبح التصور الصهيوني للتاريخ قائماً على الدولة القومية كهدفٍ نهائي؛ حيث يُعتبر التقدم هو تلك المسيرة البطيئة نحو زيادة الخصوصية للدول القومية، لتكون "لكل منها خصوصيتها"، وكل هذا هو كارثة واحدة نهائية.
Ψ
الهسبارا، وهي كلمة عبرية تشير إلى الحرب الإعلامية التي يخوضها النظام الصهيوني وأنصاره، وتعني تقريبًا "الشرح" أو "التوضيح". ومنذ السابع من أكتوبر، يبدو أن دعاة الهسبارا، سواء كانوا دعاةً صريحين أو كُتاب تقاريرٍ خبيثة في وسائل الإعلام الجماهيرية، قد فقدوا قدرتهم على الإقناع، فلجأوا إلى تصرفات هستيرية متزايدة في فجاجتها وكذبها الفاضح، في مسعى لتعزيز الدعم المتضائل للمشروع الصهيوني في الغرب. ومن المعروف أن الهسبارا تستهدف أساسًا الجمهور الغربي، حيث تقدم حكومات الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وخاصة ألمانيا، بالدعم الأيديولوجي والمادي لإسرائيل.
وفي بداية الحرب الحالية، روج دعاة الهسبارا لمكالمات هاتفية زائفة نُسبت إلى أعضاء من حماس يعلنون فيها مسؤوليتهم بلغة عربية مكسرة عن الفظائع الصهيونية. ومن بين الأمثلة الكاريكاتورية التي رددها دعاة الهسبارا، ما قالته أنات بيركو، عضو حزب الليكود في الكنيست، بأن الهوية القومية الفلسطينية مزيفة لأن الأبجدية العربية لا تحتوي على حرف "P" فى Palestine، متجاهلة بذلك أن "Palestine" هي ترجمة أنجلو-ساكسونية لـ "فلسطين"، والمفارقة أن اللغة العبرية نفسها تفتقر إلى حرف "J" في "Judaism". فماذا يعني هذا لإددعائهم لليهودية كهوية قومية؟
لكن التساؤل عما إذا كانت الدعاية دائمًا بهذا السوء هو في الحقيقة سؤال مغلوط. فالهسبارا، مثل كل دعاية فاشية، تستمد قوتها ليس من محتواها العقلاني، وليس من قدرتها على الإقناع، بل على العكس تمامًا. وكما كتب أدورنو، فإن الزيف الظاهر واللامعقولية للدعاية الفاشية يتم الإستمتاع بها بشكل ساخر وسادي، إذ إنها دليل على أن القوة وحدها هي التي تحدد مصير الفرد في الرايخ الثالث، أي القوة التي لا تخضع لأي موضوعية عقلانية.
الهسبارا لا تعتمد على الحجة بقدر ما تعتمد على التكرار الآلي للشعارات مثل "يعيش شعب إسرائبل"، "نحن الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، "سيكون هناك وقف لإطلاق النار غدًا إذا أطلقت حماس الرهائن"، و"حرروا غزة من حماس"، وما إلى ذلك. هذا التكرار المستمر والحصري للشعارات والكليشيهات يعمل على تشكيل نوعٍ استريوتيبي مجسم من المجتمع الصهيوني وأنصاره. ففي حين تتطلب الحجة العقلانية تفاعلًا ذاتيًا، فإن ترديد الشعارات يتطلب الحفظ فقط. وعلى المستوى المجتمعي، يظهر نوع من المساواة: نتشارك في أمة، وفي مصير، لأننا نتشارك هذه الأفكار، والعكس صحيح. ومن خلال التكرار، يتكتل الناس في كتلة واحدة ويتبنون نفسية جماعية مطيعة.
وبنفس الطريقة، فإن انفصال الهسبارا عن الحجة العقلانية مع تزايد الإبادة الجماعية للفلسطينيين يكشف عن جوهرها الشبقي: الهيمنة العمياء، حتى في ميدان العقل. ومع عودة الهيمنة الجسدية على الفلسطينيين مرة أخرى إلى العمى القاتل الذي وُلدت منه، كذلك تعود الدعاية التي تبررها. وتحت وطأة الأفعال الحقيقية التي يقوم بها الصهاينة، تنهار الواجهة المصنوعة من الأكاذيب والتلميحات التي بناها الصهاينة: من إسرائيل كأمة ديمقراطية ليبرالية، وكمعقل للتسامح في بحر من الكراهية، وكـ "أكثر جيش أخلاقي" في العالم، ومن فلسطين كأمة رجعية وأصولية وعاجزة عن تحقيق السلام. في هذه اللحظات الحاسمة، لابد من التأكيد أكثر من أي وقت مضى على تلك الوحدة الزائفة وقوتها المشتقة.
إن الكذبة التي يروجها دعاة الهسبارا، وهي أن كل فلسطيني يخفي وراءه شبح هولوكوست جديد، تعمل كأسطورة قومية تأسيسية للنظام الصهيوني، وكنبوءة زائفة تسعى لتبرير أعمالهم، وقد استغلها هؤلاء الدعاة منذ السابع من أكتوبر إلى أقصى حد. لقد أصر الرئيس بايدن على أن اليهود في كل مكان لن يكونوا آمنين دون وجود إسرائيل، مما زاد من مصداقية هذه الفرضية التي يروج لها دعاة الهسبارا من خلال تأثير بيان مكتب البيت الأبيض. وقد أشار الفيلسوف أدورنو إلى أن "الشك في مصداقية سيكولوجية المجموعة الخاصة بهم هو ما يجعل حشود الفاشيين بلا رحمة ولا يمكن الاقتراب منها." ولإسكات ما تبقى من العقلانية في المجتمع الصهيوني وبين أنصاره، يجب على دعاة الهسبارا أن يستمروا في تصعيد الأمور، خشية أن "ينهار العرض بأكمله." وكذلك، يجب على الدولة الإسرائيلية أن تحافظ على حالة العنف المستمرة والمتقطعة في المجتمع العسكري. فإن إيقاف القصف لفترة طويلة سيفتح المجال لصوت الضمير، صوت الفلسطيني، ليخترق ضجيج العنف. وهذا يتطلب ليس فقط القتل الجماعي للفلسطينيين، بل أيضًا موت اليهود داخل إسرائيل وخارجها. كلاهما ضروريان لدعاة الهسبارا، وبعد السابع من أكتوبر الذي حطم أسطورة إمكانية الفصل العنصري دون عواقب، يجب أن يتزايد كلاهما. فالعرض يجب أن يستمر.
ولكن، هنالك أسباب أخرى تجعل دعاة الهسبارا يتصرفون بهذا الشكل الفاضح؛ فهم يسعون لتحقيق غايتين: الأولى هي التحريض، والثانية هي تغطية الحقيقة بالأكاذيب. فعندما تُكتشف الأكاذيب (وهي دائمًا تُكتشف)، يكون الضرر في الغاية الأولى قد وقع بالفعل، ولكن الضرر في الجبهة الثانية يبدأ للتو. يصبح العنف المروع الذي يُلحق بالفلسطينيين مشوبًا بدعاية الفظائع، والجمهور الأجنبي يصبح جاهزًا للشك. وتصبح الاتهامات مسألة أخذ ورد، وتضيع الحقيقة في لعبة مساواة شكلية يروج لها دعاة الهسبارا.
بعد التخرج من المدرسة، انضمت زميلة لي في الدراسة إلى الجيش الإسرائيلي، حيث خدمت كحارسة عند نقاط التفتيش. وعندما عادت إلى الولايات المتحدة، سمعتها تقول: "العرب يكذبون دائمًا؛ هذا جزء من ثقافتهم." هذا القول يعيد إلى الأذهان صورة البربري، الذي لا يستطيع التحدث بلغة سليمة صادقة. "الدعاية الموجهة لفلسطين- Pallywood" هو المصطلح الذي يستخدمه الصهاينة للإشارة إلى الفيديوهات الدعائية التي يُزعم أن الفلسطينيين يصورونها لعرض الفظائع الإسرائيلية لكسب التعاطف. هذا الاتهام يكشف عن الطريقة التي يُستقبل بها هذا النوع من الفيديوهات التي تعرض العنف الحقيقي: في البداية تُعتبر "مزيفة"، ثم عندما يتضح أنها حقيقية، تصبح وسيلة ترفيه. بالنسبة للإسرائيلي الذي لا يستطيع الوصول إلى حدود غزة لمشاهدة القصف في الوقت الفعلي، فإن هذه السينما من المعاناة تصبح البديل المتاح.
إن مصطلح "باليوود" يُعبر عن الفكرة التي يروجها دعاة الهسبارا: لا تصدقوا الفلسطينيين عندما يتحدثون عن معاناتهم، فكل ذلك مجرد مسرحية لأجل استهلاك الآخرين عاطفياً (لغسل أدمغة الغرب الساذج، أو لتحريض العرب على العنف ضد إسرائيل، أو لإثارة وتحفيز الصهيوني ضد الضعف و"الأكاذيب"). ومن بين العلامات الأساسية للدونية التي يوصم بها الصهاينة الفلسطينيين، تلك الكذبة التي تقول: إنهم يكذبون. فهم -بحسب هذه الدعاية- لا يمكنهم الانتماء إلى مجتمع الحقوق، لأن هذا المجتمع يتشكل من خلال تبادل اللغة المبنية على الصدق. فالحقوق والقانون هما حوار يعتمد على توقعات الصدق والتواصل. يمكن للفلسطينيين أن يتحدثوا، والعالم يمكنه سماعهم وفهمهم، لكن يجب بناء عدم الفهم و عدم الثقة بعد حدوث التواصل. هذا الشكل من نزع الإنسانية أكثر تطورًا من التركيز على أي صفة أخرى محددة، والتي بالطبع يقوم بها الصهيوني أيضًا لتحقيق هدفه. هذا الشكل يضمن أنه يمكن إسقاط أي صفة على الفلسطيني، وأن أي فظاعة يمكن إنكارها. قال جو بايدن في أواخر أكتوبر "ليس لدي أي فكرة أن الفلسطينيين يقولون الحقيقة حول عدد القتلى"، رغم الثبات والموثوقية الموثقة لوزارة الصحة الفلسطينية في غزة. حتى الموتى لن يكونوا بأمان: المقابر الجماعية هي ببساطة، بالنسبة للصهيوني، مجرد افتراءات أخرى معادية للسامية.
كل هجوم على الفلسطينيين، الذي يُرى مسبقًا على أنه زائف، يعكس ديناميكية الضحية والجاني. يصبح الضحية الفلسطيني هو الجاني من خلال تحريضه ضد الإسرائيلي الذي بدوره يصبح ضحية من خلال كشف عنفه المزعوم بأنه مزيف. كل هجوم، إذًا، يعزز ضرورة الهجمات المستقبلية - كل وفاة فلسطيني تعزز نفسها كجزاء مستحق. المعاناة، عندما يتم جعلها غير مفهومة و غير موثوقة، تقدم نفسها للصهيوني كغضب أعمى. الفلسطيني يصبح البربري على بوابات الدخول. حيث يقول الفلسطيني "أنا أطرد من منزلي، أخي قُتل"، الصهيوني يسمع فقط "بار بار بار"."
Ψ
منذ بدء الإبادة على غزة، وقد شهدنا على الجنود الإسرائيليين يسجلون أنفسهم - بشكل متكرر وغريب - وهم ينهبون الملابس الداخلية من المحال والمنازل الفلسطينية. يرتدون تلك الملابس، يعلقونها على عرباتهم العسكرية، ويعرضونها كغنائم للنصر. ولقد كان هذا الفعل وسيلة لتأنيث العدو بأكمله، وذلك من خلال استخدام لغة بصرية مشبعة بالكراهية ضد النساء ليقولوا "هؤلاء المقاتلون ليسوا إلا نساء، انظروا، لقد انتصرنا." إنه تعبير عن الهيمنة عبر اغتصاب رمزي، حيث ترمز الملابس بدون مرتديها إلى عملية الإزالة القسرية التي تُنفذ حرفيًا في السجون. إنها كذلك وسيلة "لتغريب" الفلسطينيين، الذين يتم تصويرهم في الخيال الصهيوني، مثل معظم المسلمين، كمكبوتين جنسيًا ومتخلفين ثقافيًا. يقول الجنود، "انظروا"، في أعماقكم، نعلم أنكم تريدون أن تكونوا مثلنا، في أعماقكم تحبون هذا." ويتخيلون أن الحياة الجنسية للفلسطينيين مدفوعة بمشاعر غربية محضة، مناقضة للمشاعر الإنسانية. فالعدو الحيواني يتكاثر فقط؛ وفي تلك الملابس الداخلية، يجد الصهيوني الفكاهة، كما يجدها في مشهد خنزير يضع أحمر الشفاه، مما يفسر ضحكهم. هذا الاختراق للخصوصية يحمل رسالة بأن لا مكان آمن.
إن تعرية الرجال الفلسطينيين قسرًا، التي يقوم بها الجنود الإسرائيليون بهستيريا من السعادة و يقومون بتسجيلها، هي في جوهرها وسيلة لتحقيق أهداف شبيهة بتلك التي تعتمد على استخدام العنف الجنسي. وكما أشارت صوفيا جوليكين في حديثها عن ممارسات التعذيب الجنسي في الولايات المتحدة، فإن "الاغتصاب هو دائمًا فعل جنسي، ليس بالضرورة لأن الدوافع الجنسية أو الرغبة تلعب دورًا فيه، بل لأن الاغتصاب يجسد تلك الفروق الاجتماعية التي ترتبط بالجنس". وعلى الرغم من أن جوليكين ركزت على الاغتصاب في روايتها، فإنها تشير إلى أن تكتيك "التعري القسري" يهدف أيضًا إلى إيضاح وتوسيع تلك الفجوة في القوة بين المعتقلين والمحققين، فيسعى إلى تدمير استقلالية الضحية، وإضعاف رجولته، والتقليل من إحساسه بالذات، في حين يتمتع المحققون بسلطة مطلقة على أجساد المعتقلين، تمكنهم من فعل ما يشاؤون بها. وفي ضوء هذه الرؤية، يمكننا أن نرى أن سرقة الجنود الإسرائيليين للملابس الداخلية النسائية هي تعبير عن اغتصاب رمزي، وهي كذلك إشارة إلى العصور التي كانت فيها النساء تعد من غنائم الحرب، وكأنهن مجرد ممتلكات يتم انتزاعها. وينبع تجريد الرجال الفلسطينيين قسريًا من دافع مماثل؛ حيث يتعرض الرجال الفلسطينيون للعنف الجنسي على أيدي الجنود الإسرائيليين بهدف تأنيثهم، وتحويلهم إلى "نساء اجتماعية"، وتعزيز تلك العلاقة القهرية التي ترسخ ديناميكية المستعمِر والمستعمَّر. ويجدر بالذكر أن حالات الاغتصاب والاعتداء الجنسي والإذلال الجنسي في السجون الإسرائيلية هي حالات كثيرة ومتكررة، مما يعزز هذا الهدف الدنيء. ولعل الإصرار الصهيوني على ترويج مزاعم غير مثبتة عن حدوث اغتصاب جماعي في السابع من أكتوبر يمثل إسقاطًا كاذبًا لرغباتهم المكبوتة، تلك الرغبات التي لا تزال تتردد في دواخلهم، وتحفزهم على تعزيز تلك الأوهام الباطلة حول النصر والتفوق، والتي لا تجد لها أساسًا سوى في خيالاتهم المضطربة.
وبنفس السياق، فإن هذا الإصرار يكشف عن الجرح النفسي العميق الذي يسببه التأنيث في مجتمع مشبع بالذكورية والعسكرة. وكما تشير عالمة الاجتماع أوتا كلاين، "القوة والاستعداد للدفاع عن الشرف من خلال القتال كانت السمات المطلوبة لخلق صورة اليهودي الجديد." وهذه السمات تم تعزيزها وتضخيمها في أعقاب الهولوكوست، الذي تم تصوره وفقًا للمفاهيم الصهيونية-الذكورية كهزيمة مؤنثة." (وفي مايو، نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية مقابلة مع صانع أفلام إسرائيلي بعنوان "نحن نتعامل مع هولوكوست جنسي بينما يحدث." وفي يناير، قامت منظمة "المعارضة السلمية ضد الكراهية"، وهي منظمة كندية تأسست على يد اثنين من المغتربين الإسرائيليين، بأداء عام حيث "رجل يرتدي زي مقاتل حماس قاد امرأة ترتدي قميصًا أبيض وسروالًا رماديًا في الشارع - يداها مربوطتان معًا، ومنطقتها التناسلية ملوثة بالدماء... وورائها لوحة تقول: 'هكذا تبدو فلسطين الحرة." وقد تبنى الصهاينة السراويل الملوثة بالدماء كرمز بصري لاتهامات الاغتصاب الذي يتم تصديرها للجمهور الغربي. وفي إسرائيل المعاصرة، حيث الخدمة العسكرية إجبارية، تكتب كلاين أن "الخدمة العسكرية جزء متأصل من النضوج، وهي طقوس انتقال لبلوغ الذكورة." ويمكن رؤيتها كـ "مرحلة بيولوجية زائفة من النضوج الذكوري." ومن ثم، فإن الفشل في المعركة أو عدم الخدمة يُعتبر فشلًا في بلوغ سن الرشد - حيث يُعد الجندي الإسرائيلي المهزوم غير مكتمل الرجولة بعد تعرضه لاختلال في عملية النضوج الذكورية.
وفيما يتعلق بالعنف الصهيوني المتجسد في ممارساته الشنيعة، لا يمكن الاكتفاء بتفسيره من خلال العوامل الجندرية وحدها، وإن كان هناك جانب جندري يفسر جزءًا من هذا العنف، وهو تصوير السابع من أكتوبر بوصفه حدثًا تأنيثيًا جماعيًا. فالصهيوني يرى في هذا الحدث تجسيدًا للهزيمة العسكرية على مستوى رمزي. ويقوم الجندي بتأكيد رجولته عبر ممارسته للعنف، ليشفى بذلك الجرح النفسي الذي ألمَّ به. أما الصهيوني المدني، فقد تعرض للجرح النفسي ذاته دون أن تتاح له الفرصة للخلاص من خلال ممارسة العنف المباشر. وهكذا، يتجاوز العنف الصهيوني حدوده الجغرافية ليصبح ظاهرة عالمية، حيث يجد الصهيوني خارج إسرائيل نفسه مضطرًا إلى اللجوء إلى العنف بنفسه، كما شاهدنا في الهجمات الكيميائية والهجمات بالسيارات على الطلاب المتظاهرين في الولايات المتحدة. أو يجد متنفَّسًا في دعم العنف الذي تمارسه الدولة، كما يتجلى في قمع الشرطة للفلسطينيين والمتظاهرين المناهضين للصهيونية. أو في تبني كامل وتماهي مع آلة الحرب الصهيونية عبر الإيماءات الرمزية والمادية مثل الاحتجاجات، رفع وارتداء الأعلام الإسرائيلية، جمع التبرعات، أو الدعم العلني لأبشع الفظائع الإسرائيلية، سواء الحالية أو المستقبلية. وبالنسبة للجندي الذكر والمدني الصهيوني، يُعتبر العنف طقسًا ذكوريًا يستخدم كوسيلة للتواصل والتضامن، بدءًا من تعزيز الشعور بالضحية، وصولًا إلى القتل.
مترجم من parapraxismagazine بقلم الكاتب Jake Romm