دليلك للحياة على طريقة شكسبير
إن قراءة فرويدية للكوميديا والمآسي الشكسبيرية تكشف لنا كيف يمكننا احتضان إخفاقات الحياة وانتكاساتها.
كثيرٌ منا يتذكر المقولة الشهيرة لماركس عن التاريخ الذي يعيد نفسه: "في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة." فإعادة الأحداث قد تبدو أحيانًا عبثية أو مجرد محاولة يائسة لاستعادة ما فُقد، أو لتلبس عباءة الكرامة التي كانت في الماضي لتغطية تفاهة الحاضر. عندما قال ماركس هذه العبارة، كان يشير إلى السياسة المروعة التي شهدتها فرنسا في القرن التاسع عشر، ولكن ملاحظته تنطبق أيضًا على مجموعة واسعة من الظواهر السياسية، مثل محاولات استعادة سيادة الدول، ولجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، أو حتى الحفاظ على نزاهة العالم الروسي الدائمة.
في كتاب مشترك لستيفن غرينبلات وآدم فيليبس، يُدعوننا الكاتبان للتعمق أكثر في فهم جذور المأساة. وفقًا لشكسبير وفرويد، المأساة تحدث عندما نجد أنفسنا بدون أي موارد، سواء داخلية أو خارجية، تعيننا على إعادة تخيل ما هو ممكن، أو على تحويل الأحداث بطريقة جديدة. كلا المؤلفين يكتب بأسلوب حيّ، حيث يجذب غرينبلات القارئ بفصوله السهلة والمستفزة في آن واحد، بينما يقدم فيليبس حكمته بأسلوب بليغ، وإن كان أحيانًا معقدًا إلى درجة تجعل استيعاب حججه أكثر صعوبة.
لكن الكتاب ككل يبقى مُرضيًا، حيث يقدم تحليلات متعمقة ورائعة عن الكوميديا والمأساة في أعمال شكسبير. يشرح غرينبلات كيف نبدأ ككائنات بشرية في عالم “الفرص الأولى”، أي تلك الإمكانيات الموروثة التي لا نختارها بأنفسنا، مثلما لا نختار من هم والدينا أو ما يحدث لنا قبل أن نكون في سن يسمح لنا بالاختيار أو الفهم.
هذا العالم من الفرص الأولى هشٌ جدًا، أكثر مما نعتقد. نحن مثل أطفال يلعبون على حافة الهاوية، حيث تُصور الكوميديا المخاطر التي نتجنبها والفرص التي ننقذها في اللحظات الأخيرة من التدمير. على سبيل المثال، تُصور مسرحية "مهزلة الأخطاء" قصة توأمين انفصلا في الطفولة ويتقابلان في ظروف مضحكة وخطيرة عند البلوغ، وهو نموذج للكوميديا التي تستعيد العلاقات المقطوعة "بمعجزة." أما "حلم ليلة منتصف الصيف"، فهي تعرض صراعًا كان من الممكن أن يؤدي إلى كارثة، ولكنه يُحل بطريقة سحرية، في مسرحية تتأرجح بين الخيانة والتقلبات العاطفية. في الحياة الواقعية، قد تكون هذه الأحداث مصدرًا للألم العميق والاضطراب، ولكن في عالم المسرح، يتم لفها في إطار حلم يمكن نسيانه بمجرد أن يعود الجميع إلى أماكنهم المناسبة.
الكوميديا في مسرحيات شكسبير، إلى جانب أشياء كثيرة أخرى، تجسد بذكاء ما يمكن أن تفعله الدراما. فهي تدعونا لتخيّل الكارثة بكل تفاصيلها، ثم تدفعنا للاستسلام لقوة تسعى بجد لتحقيق السلام وإعادة الأمور إلى نصابها. من خلال هذا التفاعل مع الهشاشة، نتعلم أن نتخيل الأسوأ بشجاعة، وفي النهاية نكتشف في داخلنا صمودًا لم نكن نعلم بوجوده.
لكن الثمن الذي يُدفع مقابل ذلك هو النسيان. يجب أن يُنسى الحلم، وتتجاوز لحظات الرعب والخسارة، ويُخفى الأذى الذي لحق بمن تورطوا في هذه الأحداث. شكسبير، بعبقريته الأدبية المسرحية، لا يرضى بهذه النهاية؛ فالكوميديا في أعماله تميل إلى إظهار العناصر المنكرة أو المكبوتة بطريقة غير مريحة، كما في شخصية مالفوليو في مسرحية "الليلة الثانية عشرة". الدراما تتطلب أكثر من ذلك؛ فالمأساة تقترب من الخطر والخوف من زاوية مختلفة تمامًا.
في المأساة، الفرصة الأولى تُفقد ولن تستعاد. لا مجال للخداع هنا. السؤال يصبح: ما الذي يمكن أن تأمله عندما تفشل وتجرح بعمق؟ البطل المأساوي هو من لا يستطيع إدراك أنه لم يعد آمنًا أو بريئًا. عليه أن يجد مجالًا للفرص الثانية، لكنه لأسباب ما لا يستطيع ذلك. الفرصة الثانية هي تلك اللحظة الناضجة والساخرة التي تدرك فيها أن الفشل حقيقي، وأنه لا يمكن الهروب منه بمجرد إعادة الأحداث من البداية. في معظم المآسي الكبرى، كما يلاحظ غرينبلات، هناك لحظة يُمنح فيها البطل فرصة للخروج من دورة الفشل العقيم التي وقع فيها، ولكن بوعي محدود أو غياب الوعي، ترفض الشخصيات اغتنام تلك الفرصة. والفرصة الثانية الوحيدة المتبقية هي الموت.
وكما هو متوقع في عبقرية شكسبير، فإن الحكاية المأساوية ليست الكلمة الأخيرة. مسرحياته الأخيرة تقدم احتمالية جريئة تتجاوز حتى مسار الرفض المميت. في "حكاية الشتاء"، نرى نسخة مكبرة من مأساة عطيل عن الخيانة والشك، حيث لا يُعطى البطل حتى العذر الذي كان لعطيل؛ بل إنه يقتل زوجته وأطفاله دون سبب وجيه. ومع ذلك، تنكسر الأعراف المسرحية وتتجاوز المنطق المعتاد عندما ننتقل إلى مستقبل تُستعاد فيه الحياة المفقودة بشكل غير متوقع، ويُمنح البطل المذنب فرصة ثانية غير مستحقة. هذا المستقبل يبدو سحريًا وغير واقعي مثل أي شيء في الكوميديا، لكنه لا يتظاهر بأن الفوضى التي وقعت لم تحدث. يقترح غرينبلات أن قصة الرجل العجوز الحزين الذي فقد طفله وانفصل عن زوجته وابنته، ثم يجد فرصة جديدة للعيش وسط هذا الألم، ربما تعكس رحلة شكسبير نحو التصالح مع الموت بعد عودته إلى ستراتفورد. هذا الرأي قد يثير انتقادات بين العلماء، ولكن من الصعب تجاهل ما إذا كانت هذه تأملات السيرة الذاتية أكثر من مجرد صدفة. الدراما نفسها تصبح الفرصة الثانية للكاتب، أو على الأقل وسيلة لتخيلها، بطريقة سحرية ولكنها تبدو طبيعية وضرورية مثل "الأكل"، كما يقول ليونتيس.
لكن لتحقيق هذا الاحتمال، يجب أن "توقظ إيمانك"، كما تخبر بولينا ليونتيس في المسرحية. أي أن عليك التخلي عن رغبة السيطرة والإكراه على العالم. بكلمات أخرى، عليك أن تتخلى عن أوهام القوة المطلقة التي نحتفظ بها في طفولتنا المبكرة.
من هنا ننتقل إلى الفصول النفسية التحليلية من الكتاب، حيث يستكشف آدم فيليبس من خلال علم النفس التحليلي كيف نتجنب أو ننكر أو نرفض الفرصة الثانية. ويربط ذلك بالدراما الأساسية حول كيفية تعامل الطفل مع انسحاب الأم إلى عالم يتجاوز حاجاته. إنها المسألة الأساسية للنمو والتفرد.
فرويد -كما يقول فيليبس- هو الطبيب الذي يشرح لنا الفرصة الثانية الأكثر جوهرية: اكتشاف أن الحب يمكن أن يكون لشخص آخر غير الوالدين. لكن التفاصيل الدقيقة لهذه العملية، كما يعترف فيليبس، تعود إلى التصورات البارعة لدونالد وينيكوت عن تجربة الطفولة. في رؤية وينيكوت، يبدأ الطفل بتكوين فكرة عن الأم، ويعتقد أنه يخلق الطعام بصراخه واحتجاجاته، وأنه بدون ذلك، لا يحصل على طعامه. لكن عندما تنسحب الأم، كيف يتعامل الطفل؟ بالطبع، يتخيل عودتها، لكنه أيضًا ينمو تدريجيًا ليدرك أن الأم، لكي تُرضيه، يجب أن تكون كيانًا منفصلًا، خارجًا عن سيطرته الكاملة. هكذا، في نسخة وينيكوت، تبدأ "الفرص الثانية" عندما يفهم الطفل الناشئ أن العلاقة مع العالم ليست قائمة على السيطرة المطلقة ولا الاستسلام السلبي.
يجب على الأم أن تثبت أنها جديرة بالثقة بما يكفي حتى لا يشعر الطفل بالهجران الدائم. هنا تلعب الذاكرة دورًا مهمًا في بناء قصة جديدة، تُدمج فيها التحديات الجديدة ضمن نمط من التخلي والتعافي. وكما يقول فيليبس، فإن جوهر الفرصة الثانية يكمن في القدرة على التعلم. يعني ذلك إعادة صياغة تجاربنا الأولى في إطار من الرغبة والالتزام، وهي عملية مؤلمة، لكنها تتيح لنا فرصة للنمو بدلاً من أن تبقينا في دائرة مشاعر تمنعنا من التقدم و النضج.
لهذا، يشير فيليبس إلى أن الفرصة الثانية قد لا تبدو دائمًا إيجابية للشخص الذي تعرض للأذى أو الصدمة. هناك مقاومة داخلية قوية للشفاء، كما أشار فرويد عندما تحدث عن التعافي باعتباره "خطرًا جديدًا". يمكننا العودة إلى عالم الخيال حيث يمكننا إنكار أو عكس كل خسارة صادمة بقوة إرادتنا، أو أن نتعامل مع الفرصة الثانية كطريق سهل للخروج من المعاناة، بدلاً من أن تكون فرصة حقيقية لإعادة التفكير أو إعادة التوجيه. ولكي تكون الفرصة الثانية مفيدة، يجب أن نرى اتصالاً مع عالم الفرص الأولى، وأن نتعرف على نفس الإيقاعات من الشوق والنضال؛ دون ذلك، قد لا نثق في العالم أو في أنفسنا للتفاعل بشكل يفتح مسارات جديدة. هذا يتطلب أن يكون عالم الطفولة قد وفر القدر الكافي من الحب والاستقرار العاطفي، ليجعل العودة إليه غير مدمرة.
يوسع فيليبس فكرة عوالم الفرص الأولى والثانية التي قدمها غرينبلات في فصول شكسبير. لكن القواسم المشتركة واضحة: دائمًا ما يلوح إغراء العودة إلى عالم نفسي حيث لا حدود للاختيارات، ولا نتائج حتمية للأفعال. إنه عالم تستعرض فيه الذات خيارات غير ملوثة بالفشل أو بالتلاعب الخارجي.
بالنسبة لفيليبس وغرينبلات، هذه العودة تمثل أحد أركان المأساة: خوف ماكبث من أن يُكشف، رعب كليوباترا من أن تتحول إلى مشهد مسرحي، محاولات عطيل اليائسة لحماية سمعته قبل انتحاره، أو إصرار هاملت على أن يعيش هوراشيو ليخبر قصته بدقة. كل هذه المشاهد تشير إلى الإصرار المأساوي على التحكم في العالم الخارجي أو جعله يتماشى مع قصة الذات.
لكن، إذا كان فيليبس على حق، فإن هذه المشاهد المأساوية تُفسر بشكل أعمق على أنها تعكس ما يحدث داخلنا جميعًا. إنها ليست مجرد اضطرابات درامية، بل هي خلفية لكل قراراتنا وأفعالنا في تحديد هويتنا، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي. إنها تدور حول الأوهام المتعلقة بالقوة والامتياز، والصراعات المتعلقة بالعرق والجنس، والأزمات النفسية في سن المراهقة، والتنمر في العمل، والعلاقات الزوجية الفاشلة، والقلق اليومي. غرينبلات وفيليبس يحذران من فكرة العودة إلى "البراءة الأولى"، ويشيران إلى أن الفرصة الثانية لا تعني الخلاص الكامل. فالفرص الثانية ليست حلاً نهائيًا، بل مجرد خطوات جديدة في طريق مستمر.
رغم أنهما لا يعترفان بذلك بشكل صريح، إلا أن بعض الأساطير الدينية تقدم رؤى مشابهة. على سبيل المثال، العبارة الشهيرة في طقوس عيد الفصح "felix culpa" (أي "الخطيئة المحظوظة" التي تشير إلى خطيئة آدم الأولى) تحمل فكرة عميقة بأن الفقدان أو السقوط قد يكون ضروريًا للنمو والتطور. كما أن النظرة المسيحية المبكرة لحياة وموت المسيح، باعتبارهما إعادة تجسيد لفشل آدم، تُظهر هذا المفهوم بوضوح. فالمسيح قاوم الإغراء الذي سقط فيه آدم، الذي أراد أن يكون "مثل الله" وقويًا غير معرض للأذى، بدلًا من أن يتقبل طبيعته البشرية والفانية.
هذه الفكرة سواء في الخطاب الديني أو في المنظورات العلمانية التي يعرضها غرينبلات وفيليبس، تثير سؤالًا مهمًا حول معنى أن نكون بشرًا: أن نعيش بوعي ضمن حدود لم نختَرها، وأن ننظر في سلوكنا بجرأة لنرى كيف تعلمنا أن نتحمل الأذى أو نؤذي الآخرين. عندما نتأمل ما حولنا، نجد أن الكثير من الفوضى الأخلاقية والسياسية في مجتمعاتنا تنبع من الخوف من الشفاء، والخوف من مواجهة الفرص الثانية. إنها تعكس عدم الرغبة في التعلم، والتمسك بنظرة يائسة إلى الماضي، عندما كنا نعتقد أننا جميعًا أقوياء ومعصومين في أعيننا.
مترجم من newstatesman