غزة: البعد العالمي للإبادة في رؤية ويليام روبنسون
إحدى السمات البارزة في التحليل السياسي والاجتماعي الراديكالي هي القدرة على وضع "الأحداث الصاخبة" التي تهيمن على العناوين الرئيسية ضمن سياقات تاريخية وهيكلية أعمق. إن الإبادة الجماعية في غزة، بالإضافة إلى قمع وتجريم التضامن مع فلسطين، سواء في الجامعات الأمريكية أو في الساحة العالمية، ما هي إلا مشاهد جزئية لقصة أكبر تتعلق بالأزمة الرأسمالية العالمية. الوحشية التي تكشفها الإبادة الجماعية تثير موجات غضب عالمية لأنها تعكس بوضوح المخاطر الكبرى المترتبة على التفاعلات مع تلك الأزمة، من كينيا إلى الأرجنتين، ومن فرنسا إلى الولايات المتحدة، ومن بنغلاديش إلى نيجيريا.
على الصعيد الهيكلي، تتجلى هذه الأزمة في شكل أزمة تراكم مفرط. فالركود الاقتصادي المزمن يفرض ضغوطًا متزايدة على القوى السياسية والعسكرية الموالية لرأس المال العابر للحدود الوطنية، مما يدفعها إلى فتح مساحات جديدة للإستثمار والتراكم. وفي الوقت ذاته، عليها أن تتعامل مع حركات التمرد التي تنبع من الاستياء الشعبي المتزايد تجاه النظام العالمي القائم. لكن هذه الأزمة ليست اقتصادية بحتة؛ فهي سياسية أيضًا. تزايد الفقر وانعدام الأمن وسط الطبقات العاملة والشعبية، بعد عقود من الانحلال الاجتماعي الذي أحدثته النيوليبرالية من تقويض لشرعية الدولة، وزعزعة استقرار الأنظمة السياسية القومية، وتعريض سيطرة النخبة للخطر. كل هذا يمهد الطريق لصعود حركات اليمين الفاشي الجديدة. الحروب في أوكرانيا وغزة، إلى جانب الحرب الباردة المتصاعدة بين واشنطن وبكين، تسرع من عملية الانهيار العنيف للنظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية.
تواجه الرأسمالية العالمية أزمة حادة في مجال إعادة الإنتاج الاجتماعي. نصف القرن الأخير من العولمة شهد عملية عميقة لإعادة هيكلة الرأسمالية، تتضمن جولات جديدة من التراكم البدائي والطرد القسري حول العالم. مئات الملايين من البشر تم تهجيرهم من الريف في دول العالم الثالث، وفي المقابل، شهد العالم الأول تراجعًا في التصنيع. هذه الأزمات أدت إلى تضخم عدد العمال المهمشين، والذين يقدرون الآن بمليارات البشر. مستوى اللامساواة العالمي بلغ ذروته؛ 1% من سكان العالم يسيطرون على 52% من الثروة، في حين يسيطر 20% على 95% من تلك الثروة، وتبقى الـ 80% المتبقية تتنافس على 5% فقط من الموارد المتاحة. هذا التفاوت الهائل يولد بيئات اجتماعية هشة تتفكك فيها الدول والمناطق بأكملها، مع نزوح ملايين البشر نتيجة الصراعات، وتغير المناخ، والانهيار الاقتصادي، والاضطهاد السياسي و العرقي و الديني.
يتحول رأس المال الفائض إلى عمل فائض، حيث توسع أزمات التراكم الفائض التناقضات بين قطبي المجتمع. كما أشار كارل ماركس في "رأس المال"، عملية التطور الرأسمالي تؤدي باستمرار إلى إنتاج "فائض سكاني" نسبي يتجاوز حاجة رأس المال للتوسع الذاتي. هذه الظاهرة هي القانون العام للتراكم الرأسمالي، حيث أدت عقود العولمة والنيوليبرالية إلى تهميش وإقصاء أعداد هائلة من البشر. التقدم التكنولوجي، بما في ذلك الأتمتة والذكاء الاصطناعي، إلى جانب النزوح الناتج عن الأزمات الاقتصادية والمناخية والسياسية، سيساهم في زيادة أعداد البشر الفائضين عن الحاجة في السنوات القادمة. هؤلاء الذين تحوّلوا إلى بروليتاريين لكنهم أصبحوا عديمي الفائدة لرأس المال سيتم احتواؤهم من خلال أدوات الدولة البوليسية العالمية، التي هدفها النهائي هو الإبادة.
إسرائيل اليوم تمثل الرمز الأكثر قوة وإيلامًا لمصير الفائض البشري. فبعد حصار غزة في عام 2007، توقفت البروليتاريا الفلسطينية عن العمل كعمالة رخيصة في الاقتصاد الإسرائيلي. تحول القطاع إلى سجن مفتوح، وأصبح سكانه غير ذوي فائدة لرأس المال الإسرائيلي والعابر للحدود. لم تعد غزة تمثل أكثر من عقبة أمام التوسع الرأسمالي في الشرق الأوسط، ويمكن التخلص من سكانها بالكامل. الهجوم الفلسطيني في 7 أكتوبر 2023 جاء في توقيت كان يتم فيه تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، مما كان سيؤدي إلى استقرار إقليمي ويعمق التكامل الاقتصادي الإسرائيلي-العربي، ويفتح الباب لجولة جديدة من الاستثمارات العابرة للحدود في المنطقة.
رغم أن الهجوم أوقف تلك الخطط مؤقتًا، إلا أن الحكومة الإسرائيلية بدأت، حتى في ظل الإبادة الجماعية، في منح تراخيص لشركات الطاقة العالمية للتنقيب عن الغاز والنفط قبالة سواحل غزة، بينما أعلنت شركات العقارات عن بناء مساكن فاخرة على أنقاض الأحياء المدمرة. وتحدث جاريد كوشنر علنًا عن إمكانيات الاستثمار العقاري في غزة. في النهاية، يبدو أن الحصار الإسرائيلي يمثل شكلًا من أشكال التراكم البدائي من خلال الإبادة الجماعية، حيث يتم تطهير الأرض لصالح رأس المال العالمي على حساب سكانها الأصليين من خلال ارتكاب فعل الإبادة الجماعية.
دافع إبادة رأس المال
إذا ما كانت تلك الظروف التاريخية المحددة التي تحيط بحرب غزة هي التي تشكل الإطار العام للفهم، فإنها تقدم لنا أيضًا مفتاحًا لفهم أعمق لطبيعة العلاقة بين العولمة والأزمة الرأسمالية، تلك العلاقة التي تُفعّل دائماً الإمكانات الكامنة لرأس المال في سعيه نحو الإبادة. فغزة، كغيرها من المناطق المنتشرة في مختلف بقاع العالم، يجب أن تُطهَّر من اجل التوسع الرأسمالي. هنا، الطبقة الحاكمة في رعب دائم من انتفاضات جماهيرية تهدد الاستقرار في ظل احتجاجات شعبية لا تنفك أن تتزايد. إن غزة ليست إلا نموذجًا مصغرًا، وإن كان في أشد صوره تطرفًا، لإستراتيجيات الطبقة الحاكمة في خلق مناطق جديدة من الاحتواء، حيث يتم إبادة الفائض السكاني الذي يقف عقبة في وجه التوسع الرأسمالي العابر للحدود.
وغزة، بما هي عليه من كونها معسكر اعتقال عملاق في الهواء الطلق، تُجسّد حالة قصوى لإدارة الفائض البشري، لكن هذه المناطق ليست حصرية لها؛ فالسجون الضخمة تنتشر اليوم في أنحاء العالم. في عام 2023، دشنت الحكومة السلفادورية سجنها العملاق، مركز احتجاز الإرهاب، الذي يُعد الأكبر في العالم، حيث يستوعب أربعين ألف سجين، أغلبهم من الشباب العاطلين والفقراء. إن كانت غزة تقدم لنا صورة الإبادة، فإن السلفادور تمنحنا نموذج السيطرة على الفائض البشري عبر استثمار حالة الخوف وانعدام الأمن في مواجهة الجريمة والعنف الاجتماعي، وهما النتيجتان المباشرتان للفقر المزمن والبطالة والحرمان.
تنتشر السجون الضخمة كوسيلة سريعة لاحتواء فائض البشرية. وبعد سجن السلفادور، أعلنت كل من البرازيل والصين وتركيا وتايلاند والفلبين والهند، إلى جانب دول أخرى، عن خطط لبناء سجون مشابهة تستوعب عشرات الآلاف. بين عامي 2016 و2021، أُنشئ ما لا يقل عن 137 سجنًا جديدًا في تركيا. وفي سريلانكا، أعلنت الحكومة في 2021 عن خطط لبناء مجمع سجون على مساحة 200 فدان، يستوعب 100 ألف شخص، أي أكثر من ثلاثة أضعاف عدد السجناء في ذلك العام. ورغم وجود ما يقرب من 200 سجن خاص حول العالم يهدف إلى تحقيق الربح، فإن السجون الجديدة غالبًا ما تُبنى بشراكة بين القطاعين العام والخاص، حيث تتولى الشركات بناء السجون وإدارتها، وتستفيد ماليًا من ذلك.
وفي الكونغو، أدت النزاعات المسلحة والوجود العسكري المتعدد الجنسيات إلى تهجير أكثر من سبعة ملايين شخص في السنوات الأخيرة، معظمهم من المقاطعات الشرقية. والهدف الخفي من ذلك هو فتح الطرق أمام استخراج الموارد الطبيعية الهائلة التي تذخر بها البلاد، من الذهب والماس إلى الكولتان والقصدير والنفط. غالبًا ما تُوصف هذه الحروب على أنها نزاعات عرقية أو محلية، إلا أنها في جوهرها حروب عابرة للحدود تقودها الدول والشركات الرأسمالية للاستيلاء على الثروات. هنا يظهر بُعدان متكاملان للدولة البوليسية العالمية: التراكم العسكري عن طريق الحرب والغزو، والتراكم عبر القمع الجماعي للطبقات العاملة.
لقد أصبحت الحدود الجغرافية اليوم أقل تعبيرًا عن السيادة الوطنية وأكثر تعبيرًا عن أماكن التركيز المكثف للفائض البشري المطرود. فمع عسكرة هذه الحدود، بُني ما لا يقل عن 63 جدارًا حدوديًا في نصف قرن من العولمة الرأسمالية لاحتواء الفائض البشري أو منعه من الحركة. وعلى جانب آخر، يواجه المهاجرون عبر الحدود الوطنية استغلال المتاجرين بالبشر وتجار المخدرات والعصابات الإجرامية. الحدود تحولت إلى ساحات معركة، ومناطق موت. وقد وثقت دوريات الحدود الأمريكية أكثر من 7000 حالة وفاة على الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة منذ 1998 وحتى 2023، وإن كانت الأرقام الفعلية على الأرجح أعلى من ذلك بكثير، إذ لم يُسترد العديد من الجثث، ولم تُحسب تلك الوفيات التي حدثت أثناء رحلات الهجرة الطويلة عبر أمريكا الوسطى والمكسيك. أما في البحر الأبيض المتوسط، فقد غرق أو اختفى أكثر من 20 ألف شخص بين عامي 2014 و2023.
غزة، والكونغو، وغيرها من تلك الأماكن التي تصفها الجغرافيا السياسية بجحيم الأرض، ليست إلا نواقيس خطر تدق في الزمن الحاضر، وتُنبئ بما قد تؤول إليه الأحوال في العقود المقبلة. إذ يُخشى أن تُصبح الإبادة الجماعية أداة ناجعة في يد رأس المال لحل التناقض المستعصي بين فائض رأس المال وفائض البشرية. وبكلماتٍ أكثر وضوحًا، قد تُفضي الفوضى السياسية وعدم الاستقرار المزمن إلى تهيئة ظروف ملائمة تمامًا لنمو رأس المال. وكيف لنا أن نتجاهل هذا النداء؟ حيث الشعوب الكادحة التي كانت أحزابها تمثلها يوماً تتجه الآن إلى الإستجابة لنداءات الأيديولوجيات القومية العرقية، وتستسلم لهيمنة الشخصيات الكاريزمية. في الوقت ذاته، تُحكم الدولة البوليسية العالمية سيطرتها عبر آليات المراقبة والقمع، مستفيدةً من التكنولوجيا المتطورة والمتزايدة تطورًا. وبينما تواصل مجتمعاتنا المعاناة والخراب، نجد كوكب الأرض ذاته يصبح أكثر عداءً لسكانه، غير صالحٍ للحياة بالنسبة لغالبية سكان العالم.
هذه هي الصورة الكبرى التي تقف وراء الانتفاضة المتزايدة تضامنًا مع فلسطين، تلك الإنتفاضة التي اندلعت خلال الأشهر الأخيرة في الحرم الجامعي وخارجه. لقد شنّ الإداريون في الجامعات هجمات شرسة على حرية التعبير والحرية الأكاديمية، واستدعوا الشرطة والقوات شبه العسكرية لقمع الاحتجاجات الطلابية السلمية. لكنهم لم يفعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، بل كانوا يستجيبون للتهديد الذي تمثله موجة التضامن مع فلسطين على مصالح رأس المال العابر للحدود الوطنية والدولة الرأسمالية، خاصةً ذلك المركّب الصناعي العسكري-الأمني-الاستخباراتي-التكنولوجي الضخم. الجامعات البحثية تتلقى تمويلًا ضخمًا من الشركات التي ترتبط بشكل وثيق بالدولة، وبوكالاتها العسكرية والأمنية والاستخباراتية. جامعتنا في كاليفورنيا بسانتا باربرا تتلقى تمويلًا بملايين الدولارات من شركات مثل نورثروب غرومان، ولوكهيد مارتن، ورايثيون، وجنرال ديناميكس، وكاتربيلر، وهوليت باكارد، وغيرها، بالتنسيق مع وكالات الدولة. هذه الشركات تستثمر بشكل كبير في إسرائيل، وتتعاون مع قوات الدفاع الإسرائيلية لتطوير التكنولوجيا العسكرية المستخدمة في الإبادة الجماعية.
إن مطالب الطلاب وأعضاء هيئة التدريس بأن تتخلى جامعاتنا عن استثماراتها في هذه الشركات يُعد تهديدًا مباشرًا لمصالح الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود. فلا عجب إذن أن نرى مجموعة من أصحاب المليارات في مدينة نيويورك يأمرون العمدة إريك آدامز بإرسال الشرطة لاقتحام جامعة كولومبيا وغيرها من الجامعات في المدينة. لقد أوضح أليكس كارب، الرئيس التنفيذي لشركة بالانتير، المخاطر الكبيرة التي كانت تراها الطبقة الرأسمالية العالمية في تلك الاحتجاجات. فبالانتير، الشركة التكنولوجية الكبرى التي يقع مقرها في وادي السيليكون، وقعت اتفاقًا مع وزارة الدفاع الإسرائيلية في أوائل عام 2024 لتزويد قوات الدفاع الإسرائيلية بتقنيات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية التي استُخدمت في الإبادة الجماعية في غزة. وقال كارب: "الاحتجاجات في الحرم الجامعي ليست مسرحية هامشية، بل هي المسرحية الرئيسية. إذا خسرنا المعركة الفكرية، فلن نتمكن من نشر أي جيش من الغرب مرة أخرى."
ويليام آي. روبنسون، أستاذ علم الاجتماع البارز بجامعة كاليفورنيا بسانتا باربرا. هذا المقال نسخة معدلة من مقال نُشر في نشرة صيف 2024 لقسم علم الاجتماع العالمي والعابر للحدود في الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع.