ضد التواضع
يتم الترويج بأهمية التواضع الفكري باعتباره مفتاح التفكير الجيد. قصة باربرا مكلينتوك تثبت خلاف ذلك
تصوّر أنك تنشد أن تصبح إنسانًا أفضل. أليس هذا هدفًا شائعًا بين كثير منا؟ لكن، كيف السبيل إلى تحقيقه؟ لعلك تفكر في السعي إلى التحلّي بمزيد من السخاء، فتلزم نفسك بتقديم جزء من دخلك للأعمال الخيرية. أو ربما تشرع في اكتساب المزيد من الصبر، فتتدرب على الإنصات لشريك حياتك عوضًا عن التعجل في الرد عليه بحدة. إن هذه النصائح البسيطة ليست سوى انعكاس لتقليد أخلاقي قديم، يرى في السخاء والصبر فضيلتين تُثريان شخصية الإنسان وتسهمان في ازدهاره. فالعيش الطيب، كما يقول أصحاب الأخلاق الفاضلة، يستدعي تنمية هذه السمات وتطبيقها في الحياة.
غير أن حسن العيش لا يكتمل إلا بحسن التفكير. فإن لأرواحنا بعدًا فكريًا لا يقل أهمية عن البعد العملي، وما من حياة مزدهرة بحق إلا إذا جمعت بين هذين البعدين. فهل لنا أن نتحدث عن فضائل فكرية، مثلما نتحدث عن الفضائل الأخلاقية؟ وهل هناك سمات فكرية، إن تحلّى بها المرء، جعلته مفكرًا بارعًا؟ أرسطو، هذا الفيلسوف الذي لا تزال أفكاره زادًا لفلاسفة الأخلاق المعاصرين، أجاب بالإيجاب. ففي كتابه الأخلاق النيقوماخية، أشار إلى أن الجانب الفكري من الروح يتطلع إلى بلوغ الحقيقة، وأن الفضائل الفكرية هي تلك التي تؤهل هذا الجانب لتحقيق هذا الهدف. فإن كان الأخلاقي الفاضل يحثنا على التحلي بالسخاء والصبر والاعتدال والشجاعة، فإن فيلسوف المعرفة يدعونا إلى أن نكون متأملين ومنصفين، مثابرين ومنفتحين. بل إن بعضهم يرى أن فهمنا لطبيعة المعرفة ذاتها يتوقف على إدراكنا لهذه الفضائل؛ فإن كنت أعلم أن الحمض النووي له شكل لولبي مزدوج، فذلك لأنني أتبنّى ما سيتبناه إنسان ذو فضيلة فكرية في مثل ظروفي.
ولكن، كما هو حال كل شيء في هذه الحياة، تمر الفضائل بموجات من الصعود والهبوط. وقد برزت في الآونة الأخيرة إحدى الفضائل الفكرية كموضوع حديث بين الفلاسفة وعلماء النفس والصحفيين. إنهم يحثوننا جميعًا على التحلي بمزيد من التواضع الفكري. ولئن اختلفت تعريفات المفكرين لهذا التواضع، فإنهم يتفقون على بعض السمات المشتركة. فالمتواضعون فكريًا يدركون قابليتهم للخطأ ("لقد كنت مخطئا في الماضي")، ويُظهرون قبولهم لعدم اليقين ("قد لا نعرف أبدا الحقيقة الكاملة لما حدث")، ويعترفون بجزئية الأدلة وغموضها، وبحدود قدرتهم على تفسيرها. كأن يقولوا: "ربما تظهر معلومات جديدة"، أو "قد أكون أخطأت في فهم هذه البيانات".
اللافت أن التواضع الفكري لم يكن محل نقاش واسع بين عام 1800 وحتى بداية الألفية الجديدة. لكن بحلول عام 2010، بدأ الاهتمام بهذا المفهوم يتزايد بشكل ملحوظ. يبدو أن هذا الاهتمام يعكس قلقًا معرفيًا متعلقًا بتدفق المعلومات في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. وإنه لأمر منطقي أن يُقال إن التواضع الفكري يعالج ما أفرزته هذه الوسائل من مشكلات. فقد كتب الفيلسوفان مايكل هانون وإيان جيمس كيد: "عندما يتحلى المواطنون بالتواضع الفكري، يصبحون أقل استقطابًا، وأكثر تسامحًا واحترامًا للآخرين، ويُظهرون تعاطفًا أكبر مع خصومهم السياسيين". وأشار عالم النفس مارك ليري إلى أن "المتواضعين فكريًا يعمّقون التفكير في المعلومات التي تتعارض مع آرائهم، ويمحصون صحة ما يواجهونه من بيانات".
غير أن الدراسات التي تدعم هذه الرؤى المشرقة ليست خالية من التساؤلات. فكثير من الأبحاث تعتمد على تقارير ذاتية للمشاركين، حيث يُطلب منهم تقييم مدى اتفاقهم مع عبارات مثل: "أنا مستعد للاعتراف إذا كنت لا أعلم شيئًا". بيد أن المشكلة ليست فقط في ضعف قدرتنا على تقييم أنفسنا، بل تكمن تحديدًا في أن أولئك الذين يفتقرون إلى التواضع قد يمنحون أنفسهم تقييمات مرتفعة. فمن ذا الذي يُظهر التواضع حقًا ثم يزهو به؟ إن قول المرء: "أنا متواضع جدًا" لا يعدو كونه مفارقة طريفة.
ومع ذلك، فلا مراء في أهمية التواضع الفكري. فهو قادر على كبح بعض أسوأ ميولنا البشرية. فكثيرًا ما نبسط التعقيدات، ونميل إلى تصديق الروايات المألوفة والمريحة، متجاهلين غموض الأدلة وصعوبة الوصول إلى الحقيقة. تُسقطْ الخبرة في مجال معين بشكل غير مبرر على مجالات أخرى. يتم التغاضي عن الإخفاقات السابقة – مثل الاستدلالات الخاطئة أو الأخطاء في التفسير المكاني. أولئك الذين يقدرون التواضع الفكري، ولهم فضل في ذلك، يناشدوننا أن نكون حذرين من هذه الميل البشري الغالب.
هذا النموذج الذي يعرض فهمًا عميقًا للنفس البشرية، يكشف عن ميل الإنسان إلى التسرع والغطرسة، وكأنهما سمتان جوهريتان في طبيعته. لكن ليس هذا وحده مما يُضعف بنياننا النفسي؛ فنحن أيضًا عرضة للجُبن وخداع الذات، وهذان العيبان لا يقلان خطورة عن التسرع والغطرسة. عندما تظهر هذه العيوب الأخرى، يصبح التواضع الفكري – الذي قد يكون حارسًا يحمي من الانزلاق – مجرد قناع نتستر به لنخفي مواطن ضعفنا. ولعل رواية سيمون دي بوفوار الماندارين، التي أُصدرت في منتصف القرن الماضي، تُجسد هذه الديناميكية بتصوير أدبي رائع. تبدأ الرواية مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تُطل الحياة من جديد برائحة زهر البرتقال وزيت الطهو، بينما تُدّندن ألحان الغيتار، وتُحتسى القهوة الحقيقية بعد سنوات من الحرب والحرمان.
في هذا السياق، تتبع الرواية حياة مجموعة من المثقفين اليساريين، وهم يتصارعون مع إرث الحرب الثقيلة، ويحاولون دمج التزاماتهم السياسية بمشاريعهم الشخصية. وبينما يمضي السرد، يظهر في منتصف الرواية شخص غريب قادم من روسيا، يُقدَّم على أنه مسؤول سوفييتي رفيع المستوى يُدعى "جورج". ينشق هذا الرجل الغامض إلى الغرب، ويُقال إنه يحمل معه "معلومات خطيرة" تهدد النظام السوفييتي الذي ظل ملاذًا للأمل لدى العديد من شخصيات الرواية. فيرى هنري – أحد هؤلاء المثقفين – أن الاتحاد السوفييتي هو الفرصة الوحيدة لتحرر البشرية من الفقر والعبودية والغباء، وأن أي تقاعس في مساعدته سيكون خيانة لهذا الحلم.
يُقدم جورج لهنري وصديقه روبرت وثائق تكشف حقيقة مُروعة؛ فالاشتراكية الروسية التي كانت تمثل شعلة الأمل لهؤلاء المثقفين، تعتمد على نظام قاسٍ من معسكرات العمل القسري. وهنا تنقسم ردود الفعل بين هنري و روبرت. يواجه هنري الحقيقة بألم، ويُدرك بعد تفحصه للأدلة المتعددة – من شهادات رسمية ومراقبين دوليين وترحيلات موثقة – أنه لا يمكن التشكيك فيها. ويصل إلى قناعة صادمة بأن آماله في الاشتراكية الروسية قد تحطمت، ويُفكر بأسى أن "الرجال في روسيا أيضًا يُجبرون رجالًا آخرين على العمل حتى الموت."
أما روبرت، فإنه يختار الشك. يبدو مترددًا وغير مستعد لاتخاذ موقف حاسم. يُبرر موقفه بأن الأدلة المتوفرة غير كافية لإصدار حكم نهائي، وأن الحسم في مثل هذه الأمور يتطلب مزيدًا من التحقيق. وفي حديثه مع زوجته آن، تُبدي الأخيرة ميلًا إلى معارضة موقفه، وترى أن الأدلة كافية لاتخاذ قرار، بل وضرورة إعلان الحقيقة. لكن روبرت يتمسك بموقفه، ويصر على أنه بحاجة إلى معرفة أكثر دقة قبل اتخاذ أي خطوة. وهنا تختار آن الصمت، مُقرّة بأنها تفتقر إلى الكفاءة اللازمة للاعتراض.
في ضوء هذه الشخصيات الثلاث، يظهر هنري باعتباره الأكثر جدارة بالإعجاب، رغم تسرعه في الحكم مقارنة بروبرت وآن اللذين تمسكا بفضيلة التواضع الفكري. لكن هذه المفارقة تُثير تساؤلات عميقة حول طبيعة التواضع الفكري كفضيلة. هل التواضع الفكري، إن لم يكن مقرونًا بالشجاعة، يُصبح عيبًا يُخفي وراءه الجُبن؟ أم أن الشجاعة الفكرية، إن لم تكن مصحوبة بالتواضع، قد تُفضي إلى التهور؟
ولكن، كيف يمكن رسم الحد الفاصل بين التواضع الفكري والجُبن، أو بين الشجاعة الفكرية والتهور؟ نحن نميل إلى اعتبار هنري شجاعًا لأنه أصاب في حكمه، بينما نرى روبرت جبانًا لأنه أخطأ. لكن، ماذا لو كانت وثائق جورج مزورة، أو جزءًا من مؤامرة دُبّرت لتشويه صورة الاتحاد السوفييتي؟ في مثل هذا السيناريو، كان التواضع الذي أبداه روبرت سيبدو حكمة، بينما كانت شجاعة هنري ستظهر كتهور. وهكذا يتبين لنا أن الحكم على فضيلة التواضع الفكري أو الرذيلة المرتبطة به لا يمكن فصله عن السياق والنتائج. فلا يمكننا أن نحكم على الشخص إن كان متواضعًا أم جبانًا، شجاعًا أم متهورًا، إلا إذا علمنا إلى أين قادته خياراته؛ هل وصل إلى الحقيقة أم ظل بعيدًا عنها؟
لدينا من الأسباب ما يدعونا إلى التوقف عند دعوى أنصار الفضيلة المعرفية الطموحة، تلك التي تزعم أن إدراكنا لمعنى المعرفة يتأتى من فهمنا للفضائل العقلية. ومع ذلك، لا يمنعنا هذا من الإقرار بأن التواضع الفكري فضيلة حقيقية يجب أن نسعى إلى تحقيقها وتطويرها في نفوسنا.
ولكن ماذا لو تكشّف لنا أن رموزنا الفكرية وأيقونات الحياة العقلية المثلى، الذين نعتبرهم نماذج يُحتذى بها، لا يتمتعون بشيء من التواضع؟ بل ماذا لو اكتشفنا أن تطور المعرفة لم يتحقق عبر التواضع، بل كان ثمرة عناد وإصرار لا يلين؟ ليس في هذا الحديث شطط أو مبالغة، وإنما نجد في تاريخ العلم نفسه شواهد تؤيد هذه التساؤلات. فبدلًا من أن يكون التواضع الفكري عنصرًا أساسيًا في ازدهار الفكر، قد يكون عاملًا من عوامل تراجعه وانحساره.
خذوا، على سبيل المثال، عالمة الوراثة باربرا مكلينتوك. بدأت شغفها بعلم الوراثة وهي طالبة في جامعة كورنيل في عشرينيات القرن الماضي، وكرّست حياتها لفهم التركيب الكروموسومي لنبات الذرة. وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهتها في الحصول على منصب أكاديمي دائم، استطاعت أن تبني لنفسها مسارًا علميًا فريدًا في مختبر كولد سبرينغ هاربور في لونغ آيلاند. وهناك، تميّزت عن أقرانها بنهجها غير التقليدي؛ ففي حين كان معظم علماء الوراثة آنذاك يدرسون ذبابة الفاكهة دروسوفيلا لدوراتها التناسلية السريعة (حيث تنتج ذبابة الفاكهة جيلا جديدا كل 10 أيام)، تمسّكت مكلينتوك بدراسة نبات الذرة التقليدي، مما أتاح لها الوقت الكافي للتعمق في فهم طبيعة هذا النبات.
وقد عبّرت مكلينتوك عن صلتها بنباتاتها بقولها: "أعرف كل نبتة في الحقل معرفة حميمة." كان هذا النوع من التفاعل العميق والحميم مع موضوع الدراسة سمة بارزة في أسلوبها العلمي، مما جعل زملاءها ينبهرون بحدة ملاحظتها ودقة إدراكها. فقد كانت ترى، من خلال المجهر، تفاصيل دقيقة في الكروموسومات لا يراها الآخرون. وكان أسلوبها في العمل يقوم على التأنّي والتركيز الشديد، حتى أنها شعرت وكأنها تندمج مع الكروموسومات التي تفحصها. وقالت في وصف تجربتها: "حين تنظر إلى هذه الأشياء، تصبح جزءًا منك. وتنسى نفسك."
في أوائل خمسينيات القرن الماضي، بدأت مكلينتوك تقدم نتائج مثيرة للدهشة، أربكت المجتمع العلمي آنذاك. فقد كانت الافتراضات السائدة بين علماء الوراثة تقوم على قاعدتين أساسيتين: الأولى، أن موقع الجين على الكروموسوم ثابت لا يتغير، والثانية، أن الجينات تعمل كوحدات مستقلة، يحمل كل منها تعليمات ثابتة تُنفذ بطريقة واحدة. ولكن مكلينتوك أثبتت خطأ هذين الافتراضين. فقد اكتشفت أن الجينات يمكن أن تُفعّل أو تُعطل، وأن تفاعل الجينات مع "العناصر الضابطة" هو ما يحدد كيفية عملها. وهذه العناصر نفسها ليست ثابتة الموقع، بل قادرة على "القفز" من مكان إلى آخر على الكروموسوم.
وقد وضّحت المؤرخة العلمية شارون بيرتش مكجرين أهمية هذه الاكتشافات بقولها: إن هذه العناصر القافزة يمكنها، مثلًا، أن توقف عمل جين الصبغة في مرحلة مبكرة من النمو، مما يؤدي إلى ظهور أوراق عديمة اللون. أما إذا توقفت في مرحلة متوسطة، فقد تصبح الأوراق مخططة أو مرقطة. وهكذا، قد تكون لنبتتين الكروموسومات ذاتها، لكن مظهرهما مختلف تمامًا؛ إحداهما ذات أوراق أحادية اللون والأخرى منقطة.
وعندما قدّمت مكلينتوك أفكارها لأول مرة، قوبلت بذهول وسوء فهم. ففي محاضرة ألقتها في مختبر كولد سبرينغ هاربور، استغرقت ساعة كاملة في شرح اكتشافاتها، لكنها واجهت صمتًا مطبقًا من الحضور، وهو ما وصفته المؤرخة مكجرين بأنه "سقوط مدوٍّ". أما هارييت كريتون، زميلتها، فقد قالت إن المحاضرة كانت كأنها "رصاصة ثقيلة وقعت دون أن تحدث أي أثر." وفي عام 1953، نشرت مكلينتوك أفكارها في ورقة علمية، لكنها لم تلقَ اهتمامًا يُذكر. بل تعرضت للسخرية، ووُصف مشروعها بالجنون، وأُطلقت عليها ألقاب مهينة.
أمام هذا الموقف، كان من المتوقع أن تتراجع مكلينتوك أو تعيد النظر في أفكارها، كما يفعل معظم الناس عند مواجهة مثل هذا الكم من النقد وسوء الفهم. ولكنها لم تفعل ذلك. بل تجاهلت منتقديها، وقررت أن النشر مضيعة للوقت، وتوقفت عن تقديم أعمالها في المختبر.
ولكنها، رغم العقبات التي اعترضت طريقها، لم تفكر يومًا في التخلي عن مشروعها. ولعل في إصرارها هذا ما يجعلها شبيهة بأولئك الذين قد يُنظر إليهم باعتبارهم "غريبي الأطوار"، ولكنها كانت تدرك، بعمق يقيني، أنها على حق. وقد أكدت ذلك لاحقًا حين قالت: "كنت أعلم أنني على حق". وما كان هذا الإصرار إلا طاقة خلاقة دفعتها إلى الأمام، وحصدت به ثمرة جهدها بعد ثلاثين عامًا من عرضها الفاشل في كولد سبرينغ هاربور، إذ حصلت على جائزة نوبل لاكتشافاتها في العناصر الجينية المتنقلة، وكانت أول امرأة تنال تلك الجائزة منفردة في مجال علم وظائف الأعضاء والطب عام 1983.
لقد عاشت مكلينتوك حياة فكرية متميزة، حياة لا يمكن وصفها إلا بالازدهار. غير أنها لم تكن مثالًا على التواضع الفكري. فقد أبدت تجاهلًا لما أبداه أقرانها من عدم فهم لعملها، وأيقنت أن عبقريتها هي ما يقودها. كان اعتزازها بفهمها الفطري لنباتاتها يشع من كل ما ترويه عنها. تخبرنا إيفلين فوكس كيلر أن مكلينتوك استطاعت التنبؤ بما ستراه تحت المجهر داخل نواة النبات من مجرد تأملها للنبات في الحقل. تقول: "قبل أن أفحص الكروموسومات، كنت أتجول في الحقل وأخمّن لكل نبات ما سأراه… ولم أخطئ أبدًا، إلا مرة واحدة". وعندما ظنت أنها قد أخطأت أثناء النظر عبر المجهر، غمرها شعور بالعذاب لم يهدأ إلا حين هرعت إلى الحقل واكتشفت أنها سجلت رقم نبات آخر غير الذي فحصته. كان هذا الإدراك بمثابة خلاص من ألمها، فقالت: "شعرت حينها بالارتياح".
وقد يُقال إن مكلينتوك، رغم نجاحها، كان يمكن أن تحقق حياة أفضل لو كانت أكثر تواضعًا. ولكن هذا القول يفتقر إلى القوة الحقيقية. إذ إن منهجها الفريد في علم الوراثة، ذلك المنهج الذي مكّنها من تجاوز الأفكار التقليدية التي أعمت معاصريها، لم يكن ليولد لو لم تكن على يقين بقدراتها. وقد عبرت عن ذلك بوضوح عندما ذكرت أن عملها تطلب "ثقة تامة". وهنا تقدم مكلينتوك درسًا يجسد فكرة نيتشه في كتابه ما وراء الخير والشر، حيث أشار إلى أن أسمى دوافع الإنسان تتداخل مع نوازعه الأكثر ظلمة وشرًا. لقد كان حب مكلينتوك لنباتاتها، مع غرورها، وإبداعها، وعنادها، كيانًا متكاملًا لا يمكن تجزئته إلى عناصر منفصلة.
فما الخيارات إذن لمن يريد أن يدافع عن التواضع الفكري كفضيلة؟ قد يُقال إن مكلينتوك كانت عبقرية، والعباقرة يُسمح لهم بما لا يُسمح به لغيرهم. فالخصائص التي تؤدي إلى الازدهار الفكري للعباقرة قد لا تكون ذات نفع للجميع. لأن نوع الازدهار "عالي الجودة" المتاح لمكلينتوك ببساطة غير متاح لبقيتنا. لقد ازدهرت ، نعم ، لكنها لا تستطيع أن تكون نموذجا يحتذى به للكائنات "العادية" مثلنا.
ولكن تقسيم البشر إلى "عليا" و"دنيا" أمر مرفوض من حيث المبدأ. وحتى إذا قبلنا بهذا الانقسام، فسيظل الاقتراح معيبًا. لقد التقينا جميعا بأغبياء يعتقدون أنهم عباقرة - أغبياء ، إذا أعطيت نصف فرصة ، يعرفون أنفسهم على أنهم ينتمون إلى "النوع الأعلى". بشكل عام ، فإن أولئك الذين سيستفيدون أكثر من جرعة من التواضع الفكري هم الذين يصنفون أنفسهم على أنهم يقفون خارج حدودها.
ومع ذلك، فإن فكرة عدم محاولة تقليد السمات الشخصية لمكلينتوك تحمل في طياتها شيئًا من الصواب. إن الإعجاب بمكلينتوك ينبغي أن يكون إعجابًا بقدرتها الفذة على مزج مجموعة فريدة من المواهب والعيوب، لتصوغ منها شخصية فكرية قادرة على الإبداع وإنتاج المعرفة. وهذه المهمة، وإن كانت تتبدى كإنجاز نادر، هي في الواقع التحدي الذي يواجه كل واحد منّا. لكن الأهم أن ندرك أن مواهبنا وعيوبنا، فضلًا عن ظروفنا، تختلف اختلافًا كبيرًا عن تلك التي عاشتها مكلينتوك أو غيرها. وفي ظل هذا التنوع الواسع، يصبح تحديد الفضائل الفكرية – تلك الصفات المستقرة التي يمكن أن تضمن حياة فكرية مزدهرة – أشبه بمحاولة تحديد الألوان التي يجب على الفنان استخدامها ليبدع لوحة جميلة. فكما يمكن لأي لون أن يُستخدم، في يد فنان بارع، لإنتاج لوحة رائعة، أيضاً يمكن لأي سمة شخصية، تقريبًا، أن تكون عونًا على اكتساب المعرفة إذا تهيأت لها الظروف الملائمة.
ومن ثم، فإن التواضع الفكري ليس فضيلة بذاته؛ بل إن الفضائل الفكرية، في عمقها، ليست موجودة بالصورة التي يتصورها البعض. فالسمات الشخصية قد تكون أحيانًا موافقة للمعرفة، وأحيانًا أخرى قد تعيقها. ولكن ليس هناك قواعد عامة يمكن بها تحديد أي السمات تنتمي إلى أي من الفئتين. وبالتالي، لا يمكن تصنيف سماتنا الفكرية على أنها "جيدة" أو "سيئة" بشكل قاطع. والبحث عن الفضائل الفكرية يشبه السعي وراء كتاب قواعد أو وصفة سحرية تضمن لنا أن نسلك الطريق الصحيح نحو الحقيقة. ولكن في واقع الحياة الفكرية، لا وجود لمثل هذه القواعد أو الوصفات؛ فلا يوجد سبيل مضمون يحمينا من الأخبار الزائفة أو من وهم الثقة الزائدة بالنفس. إن القلق المعرفي، الذي رافق الفلسفة منذ نشأتها، يستحق استجابة أكثر عمقًا من مجرد التوجيه الأخلاقي بأن نكون متواضعين.
مترجم من Aeon بقلم راشيل فراسيري هي أستاذة مشاركة في الفلسفة بجامعة أكسفورد
Loved this❤️❤️