«كان ليدوينكا يطل أحيانًا على عملي، وكنت أطل أحيانًا على عمله»
هكذا قال فرديناند بورشه يومًا وهو يتحدث عن تصميم سيارة فولكس فاجن
شاء الله أن تكون أول سيارة أمتلكها في حياتي من نوع فولكس فاجن بيتل، تلك السيارة التي قد سبقني تصميمها إلى الوجود قبل ميلادى بثلاثين عامًا، أما حين رأت النور كانت أكبر مني بسبع سنين. والغريب أن إنتاج هذا الطراز استمر ستة وثلاثين عامًا بعدها، حتى أصبحت هذه السيارة من أكثر السيارات انتشارًا في العالم.
اقتنيتها في شهر يناير من عام 1967، بعد أن أنهيت دراستي الجامعية، وبدأت العمل، وادخرت شيئًا من المال، ثم فعلت ما فعله كثير من من المهندسين المعماريين الشبان آنذاك: خرجتُ في رحلة طويلة إلى أوروبا.
كانت السيارة قد بلغت السابعة من عمرها حين اشتريتها بثلاثمائة دولار، من مدينة هامبورغ في ألمانيا، بعد أن وصلت إليها عبر سفينة شحن من مدينة كيبيك الكندية. ومن هناك، بدأت رحلتي الطويلة بصحبة أحد أصدقائي، دون أن تتعطل السيارة مرة واحدة، فسافرنا من باريس إلى فالنسيا، مسافة تُقارب التسعمائة ميل. صحيح أن السيارة سُرقت لاحقًا في فالنسيا – وتلك حكاية أخرى – لكن ما يعنيني هنا أنني، رغم أنني لم أقد مثلها من قبل، وجدت قيادتها سهلة ميسّرة، وأدواتها واضحة لا تعقيد فيها.
كانت لوحة القيادة بسيطة، تتوسطها ساعة كبيرة لقياس السرعة، وبداخلها عداد للمسافة المقطوعة. وثلاثة أضواء صغيرة تنبّه السائق: الأزرق للمصابيح العالية، والأحمر لعطل في المولد، والأخضر لانخفاض ضغط الزيت. ولم يكن في السيارة جهاز لقياس حرارة المحرك، لأنه يٌبَّرد بالهواء لا بالماء، ولا حتى مؤشر لمستوى الوقود، بل إن السائق كان يعرف أن الوقود قد نفد عندما يبدأ المحرك بالتقطيع، وعندها يسحب رافعة صغيرة أسفل لوحة القيادة لتحويل الوقود إلى الخزان الاحتياطي، الذي يكفي لمسافة 64 كيلومتراً تقريبًا.
وكان هناك مقبضان بلاستيكيان أبيضان؛ أحدهما يتحكم في المصابيح، والآخر في مسّاحات الزجاج. أما إشارات الانعطاف فكانت تُفَعَّل بذراع صغيرة في جانب المقود، والمصابيح الأمامية تُخفّض بالضغط على زر في أرض السيارة. وكانت هناك منفضة للسجائر، لكنها بلا ولاعة، وبجانب ناقل السرعة، مقبض صغير لتدفئة الهواء في السيارة، عبر أنبوب يمر بالقرب من العادم. وفي أول مرة توقفتُ فيها للتزود بالوقود، بحثت عن فتحة الخزان، لأكتشف أنها تحت الغطاء الأمامي، لأن المحرك كان في الخلف، لا في الأمام.
تذكرت هذه السيارة العزيزة يوم اصطحبني صديقي "جيري" في سيارته الجديدة من نوع تويوتا بريوس. كان الأمر مختلفًا تمامًا. لا عداد سرعة كما اعتدت، ولا مؤشرات تقليدية، بل شاشة كبيرة تعمل باللمس، يسمّونها "شاشة عرض متعددة المعلومات"، مليئة بالأيقونات والأرقام والصور. ذكّرتني بلعبة إلكترونية، تُظهر معلومات عن كل شيء: ضغط الإطارات، واستهلاك الوقود، والملاحة، والترفيه، بل حتى الوقت والتاريخ وحالة الأبواب. وفي مكان ما، كان هناك رقم صغير يُظهر السرعة.
قيل لي إن إضافة مثل هذه المعلومات لم تعد مكلفة، ولهذا بالغ المصممون في الإضافة حتى امتلأت السيارة بتفاصيل كثيرة لا يحتاجها السائق. ولعل هذا ما جعل دليل الاستخدام الخاص بهذه السيارة الجديدة يمتد على نحو ثمانمائة صفحة، بينما لم يتجاوز دليل فولكس فاجن القديمة تسعين صفحة، منها عشرون فقط لتشغيل المصابيح والمسّاحات! وأخبرني جيري أن الوكالة نظّمت دورة تدريبية لأصحاب السيارات الجدد ليتعلموا كيف يتعاملون مع هذه الشاشة المعقدة.
لا شك أن الإنسان يمكن أن يعتاد مع الزمن على هذه الأجهزة الحديثة، ولكنني – وأنا أسترجع ذكرياتي – أحنّ إلى تلك البساطة الهادئة، التي كنت أراها في سيارتي القديمة من طراز فولكس فاجن، حين كانت الأمور تُفهم بالفطرة، ولا يحتاج المرء فيها إلى دليل، ولا إلى دورة تدريب.
كانت السيارة التي اشتريتها من مدينة هامبورغ الألمانية تحمل لوحة ترخيص مميزة مخصصة للتصدير، تتخذ شكلًا بيضاويًا، تعلوها الحرف الكبير "D"، اختصارًا لكلمة دويتشلاند، أي: ألمانيا. لم أكن أظن أن هذه الحروف الصغيرة ستجلب إليّ نظرات الاستهجان، لكن ما إن بدأت رحلتي في هولندا متجهًا نحو باريس، حتى أخذ بعض المارة، لا سيما كبار السن، يرمقونني بنظرات ممتلئة بالامتعاض كلما أوقفت السيارة وسألت عن الطريق.
لم يكونوا ينظرون إليّ أنا، بل إلى اللوحة المعلقة على سيارتي. فقد كانت ذاكرتهم لا تزال تحتفظ بآثار الاحتلال الألماني إبان الحرب، وكأن الزمن لم يمحُ بعد مرارة تلك السنين.
ولعل المفارقة أن هذه السيارة نفسها كانت ثمرة فكرة نبتت في ذهن رجل لا يُذكر اسمه إلا اقترن بالخوف والدمار، إنه أدولف هتلر. ففي عام 1933، وعند افتتاحه لمعرض برلين للسيارات، وكان حينها قد تولى منصب مستشار الرايخ حديثًا، أعلن عن سياسة وطنية جديدة، أراد بها أن يجعل ألمانيا أمة تتحرك على عجلات، تسيرها السيارات.
وما يثير العجب أن ألمانيا – رغم أنها كانت مهد اختراع السيارة قبل نصف قرن من ذلك التاريخ – كانت متأخرة في عدد السيارات التي يمتلكها الناس، مقارنة ببقية الدول الأوروبية. فكان طموح هتلر أن يرى سيارة في كل بيت، وأطلق على هذه السيارة المنتظرة اسم "فولكس فاجن"، أي "سيارة الشعب"، داعيًا المصانع إلى تصميم سيارة بسيطة، رخيصة، يسهل على كل أسرة اقتناؤها.
لكن الرجل الذي اختير ليجسد هذه الرؤية لم يكن ألماني الأصل تمامًا. فقد وُلد المهندس فرديناند بورشه عام 1875، في بلدة صغيرة تُدعى مافرزدورف، تابعة لمقاطعة بوهيميا، ضمن الإمبراطورية النمساوية المجرية. وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، صار من رعايا الدولة الجديدة: تشيكوسلوفاكيا. وكان أبوه يملك ورشة متواضعة لتشكيل الصفائح المعدنية، فنشأ الطفل بين أدوات الحدادة، وتعلم صنعة أبيه، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل واصل طلب العلم، فكان يحضر دروسًا مسائية في الكلية التقنية القريبة.
كان شغوفًا بالكهرباء، حتى إنه صنع بنفسه مولدًا كهربائيًا صغيرًا، فأصبح بيتهم أول بيت مضاء بالكهرباء في تلك البلدة.
وفي الثامنة عشرة من عمره، ذاعت أخبار ذكائه، فشفع له أحد وجهاء البلدة، وقُبِل للعمل في شركة "بيجا إيجر" بمدينة فيينا، وكانت متخصصة في المعدات الكهربائية. وبعد أربع سنوات من العمل والتدريب، عُرض عليه التعاون مع شركة أخرى تُدعى "جاكوب لونر وشركاه"، وهي من كبرى شركات صناعة العربات الفاخرة. وأُوكل إليه تصميم المحرك ونظام نقل الحركة لأول سيارة كهربائية تعمل الشركتان على إنتاجها.
وقد يتساءل المرء: ولماذا كانت كهربائية؟ لأن الناس في ذلك الوقت لم يكونوا قد استقروا على نوع الوقود الأفضل لتشغيل السيارات. فالبعض فضّل البخار، وهو ما اعتاده العالم منذ أيام جيمس وات في القرن الثامن عشر، وآخرون رأوا في البنزين طاقة المستقبل، بينما آمن فريق بالكهرباء.
أنصار البخار وجدوا فيه مصدرًا آمنًا ومجربًا، فقد استُخدم منذ منتصف القرن التاسع عشر في تشغيل الحافلات والجرارات وعربات الإطفاء. وكان الكيروسين، وقوده الأساسي، متوفرًا أكثر من البنزين الذي كان نادرًا آنذاك.
ومن أوائل من صنعوا مركبات تعمل بالبخار كان الفرنسي أميدي بوليه، الذي وُلد عام 1844، وتوفي سنة 1917. صنع مركبة سماها "المطيعة" (لوبيسانت)، وكانت قادرة على نقل اثني عشر راكبًا. وفي عام 1873، قرر أن يُثبت نجاح اختراعه، فانطلق بها من بلدته "لو مان" إلى باريس، قاطعًا مسافة 150 ميلًا في 18 ساعة، مع فترات راحة وتوقف للتزود بالماء، بل ودفع بعض الغرامات التي فرضها عليه رجال الشرطة بسبب "السرعة الزائدة"، إذ وصلت سرعته إلى 40 كيلومتراً في الساعة! وحين وصل إلى العاصمة، أُلغيَت تلك الغرامات تكريمًا له.
ورغم تفوق البخار في البدايات، إلا أن عيوبه كانت جلية؛ فغلاياته ضخمة، وتتطلب إشرافًا مستمرًا، كما أن محركه يعمل بالاحتراق الخارجي، أي أن الحرارة لا تُولّد داخل المحرك نفسه، مما يجعله أقل كفاءة من محركات البنزين ذات الاحتراق الداخلي.
ولذلك، لم يكن مستغربًا أن يكون أول من نجح في صناعة مركبة بمحرك احتراق داخلي هو كارل بنز، المولود عام 1844، حيث أنجز هذا الإنجاز في عام 1885.
كانت تلك المركبة عجيبة الشكل، تُشبه درّاجة بثلاث عجلات لكنها ضخمة في حجمها، وتضمّ مقعدًا مُبطّنًا يستند إلى هيكل أنبوبي من الفولاذ. وكانت العجلات الثلاث موصولة بأسلاك متشابكة، ومغطّاة بإطارات مطاطية صلبة. تولّت العجلة الأمامية مهمة التوجيه وحدها، بينما ارتبطت العجلتان الخلفيتان بمحرك صغير عبر سلسلة تنقل الحركة. وقد صمّم كارل بنز هذا المحرك بنفسه، فجعل له أسطوانة واحدة، يعمل بأربع حركات متتابعة، وكان قادرًا على تحريك مركبة يبلغ وزنها نحو 272 كيلوجرام، بسرعة تبلغ 16 كيلومتر في الساعة، رغم أن قوّته لم تكن تبلغ حصانًا واحدًا كاملًا.
وقد ثُبّت المحرك إلى جوار عجلة أفقية ضخمة مهمتها حفظ التوازن أثناء التشغيل، وكانت القيادة تتم من خلال ذراع توجيه لا عجلة قيادة. أما الفرامل وتفعيل الطاقة فكانا عبر رافعة يُحرّكها السائق بيده، إذ لم تكن هناك دواسات مثلما نعرفها اليوم. وتحت المقعد، وُضع زر يتحكّم في جهاز "الكاربراتير"، الذي يخلط الهواء بالوقود استعدادًا للاحتراق داخل المحرك.
وفي العام التالي، دخلت سيارة "بنز – براءة الاختراع" مرحلة الإنتاج، لكنها لم تلقَ قبولًا في الأسواق، وظلّ الإقبال عليها ضعيفًا. وحين أرادت زوجته، بيرثا بنز، أن تُسهم في إنجاح المشروع، أقدمت على مغامرة جريئة من تلقاء نفسها، لم تُعلم بها زوجها. وكانت قد ساعدت في تمويل المركبة من مهرها، فقرّرت أن تُظهر للناس إمكاناتها، فأخذت نموذجًا أوليًّا من السيارة في أغسطس سنة 1888، وانطلقت تقوده بنفسها من مدينة مانهايم حيث كانت تعيش، إلى بفورتسهايم، بلدتها الأصلية، في رحلة طويلة امتدّت 105 كيلومتراً.
ولم تكن محطات الوقود معروفة آنذاك، فتوقّفت بيرثا عند إحدى الصيدليات واشترت زجاجات من "الإيثر البترولي"، وهو سائل كان يُستخدم في التنظيف، لتملأ به خزان الوقود. وكانت الرحلة بصحبة ولديها المراهقين، وقد استغرقت نحو اثنتي عشرة ساعة، اضطرّ فيها الولدان في بعض المناطق المرتفعة إلى النزول من المركبة ودفعها بأيديهما حتى تتحرّك.
ومع ذلك، لم يَنقلب العالم رأسًا على عقب بظهور هذا المحرك الجديد، إذ لم تُحدث سيارات البنزين ثورة فورية. ففي تلك الأيام، كانت السيارات الكهربائية أكثر هدوءًا، وأسهل تشغيلًا، ولا تحتاج إلى تعشيقات معقّدة، ولا تُصدر أصواتًا شبيهة بالانفجارات. ومن بين تلك السيارات الكهربائية، كانت مركبة "إيجر-لونر"، التي شارك الشاب فرديناند بورشه في تصميمها، مثالًا لافتًا. كانت ذات مقاعد طويلة تتّسع لأربعة أشخاص، وهيكلٍ مرتفع، وعجلات خشبية متشابكة الأسلاك، وسقفٍ قماشي قابل للطي، أشبه بعربات الخيول القديمة التي تُعرف بالفايتون. ولم تكن السيارات قد اتّخذت بعد شكلها المعروف لدينا اليوم.
وكان محرّكها الكهربائي بقوّة ثلاثة أحصنة، موضوعًا خلف العجلات الخلفية، قادرًا على دفع السيارة بسرعة 32 كيلومتراً في الساعة. غير أن بطاريّاتها كانت موضوعة تحت المقعد الخلفي، وكانت تمثّل نقطة الضعف الأساسية في التصميم، إذ لم تكن تُتيح مدىً يزيد عن 50 كيلومتراً قبل الحاجة إلى إعادة الشحن، في وقتٍ كانت فيه الكهرباء محصورة في المدن، مما جعل استخدامها في الأرياف صعبًا، وأحيانًا غير ممكن.
وفوق ذلك كلّه، كانت البطاريات ثقيلة للغاية، مصنوعة من الرصاص ومحلول الحمض، وتتكوّن من أربع وسبعين خلية، حتى بلغت نحو ثلث وزن المركبة، الذي وصل إلى 1360 كيلوجرام. ولهذا كانت السيارة بطيئة، وخصوصًا عند صعود التلال، كما كانت هذه الحمولة الثقيلة سببًا في سرعة تآكل الإطارات الهوائية.
ورغم أن سيارة "إيجر-لونر" كانت من أوائل السيارات في بلاد النمسا والمجر، إلا أنها لم تُنتج على نطاق واسع، حتى بعد أن صُنعت منها أربعة نماذج تجريبية. ومع ذلك، أثمرت هذه المحاولة عن فائدة عظيمة؛ إذ لفت الشاب بورشه أنظار شركة لونر بموهبته النادرة، فعيّنته رئيسًا على قسم تصميم السيارات الكهربائية، وهو قسم حديث النشأة آنذاك.
وكان بورشه في تلك الأيام موظفًا بسيطًا في شركة إيجر، لا يكتفي بعمله، بل كان يواظب على حضور الدروس المسائية في الجامعة التقنية في مدينة فيينا. وكان يُعاني من مشقة التنقل على دراجته، فخطر له أن يصنع محركًا كهربائيًّا صغيرًا، ثبّته في محور الدراجة الخلفي، فصار يدفع العجلة ويساعده في الحركة. وكان ذلك إنجازًا عجيبًا من شاب لم يبلغ العشرين عامًا بعد.
ثم ما لبث بورشه أن سجّل براءة اختراع لمحرك كهربائي محوري، صمّمه خصيصًا ليناسب السيارات. وكان هذا الاختراع بمنزلة ثورة حقيقية في عالم الحركة، لأن هذه المحركات الصغيرة، حين تُثبّت مباشرة على العجلات، تغني عن الحاجة إلى ناقل للحركة، وتُخفف من وزن المركبة، مما يحسّن الأداء ويزيد الكفاءة. وقد صنعت شركة لونر واحدة من أولى سياراتها الكهربائية خصيصًا لثري إنجليزي، وجعلت في كل عجلة من عجلاتها الأربع محركًا محوريًا. لكن هذه المركبة، رغم سبقها، بدت في مظهرها كأنها "صندوق بطاريات يسير على عجلات"، إذ كانت تَحمل بطارية ضخمة تزن نحو 2 طن من الرصاص والحمض!
ولما كانت هذه البطارية ثقيلة جدًّا، ولا تُمكّن السيارة من قطع مسافات طويلة، بدأ بورشه يُفكر في حلّ جديد. فعمل على تصميم سيارة هجينة، تجمع بين المحركات الكهربائية ومحرك يعمل بالوقود. لم يتخلَّ عن المحركات المحورية، بل ثبتها في العجلتين الأماميتين، وكان لكل منهما قدرة تصل إلى 2.7 حصان، لكنه أضاف محركًا صغيرًا يعمل بالاحتراق الداخلي، ليكون احتياطيًا عند نفاد طاقة البطارية. وقد استخدم بطارية من الرصاص والحمض، مكوّنة من أربع وأربعين خلية فقط، أي بنصف حجم البطارية السابقة. ووُضعت هذه البطارية أسفل الهيكل الفولاذي، داخل صندوق معلق بنوابض تمتص الصدمات، حفاظًا على سلامة ألواح البطارية الرقيقة.
وكانت هذه البطارية قادرة على دفع السيارة لمسافة تصل إلى 80 كيلومتراً. فإذا انتهى شحنها، ما على السائق إلا أن يُشغّل مفتاحًا صغيرًا، فيبدأ تشغيل محركين صغيرين يعملان بالاحتراق، لكلٍّ منهما أسطوانة واحدة ونظام تبريد بالماء. وقد وُضع المحركان خلف المقعد، ولكل منهما مشعاع في أحد جانبي مقدمة السيارة. وكان كل محرك يُدير مولدًا كهربائيًا، يغذّي بدوره أحد المحركين المحوريين، ويُعيد شحن البطارية في الوقت ذاته. فإذا امتلأت البطارية، أمكن إطفاء المحركين الاحتياطيين.
وأما لوحة القيادة، فقد كانت بسيطة للغاية، تحتوي على مقياس للجهد الكهربائي، وآخر لقوة التيار. وكان هناك ذراع صغيرة يتحكم بها السائق في تدفّق التيار، أي في سرعة المركبة، بينما تقوم عجلة القيادة بتوجيه العجلات الأمامية. وقد بلغت سرعة هذه السيارة العجيبة 32 كيلومتراً في الساعة، لكن مداها صار غير محدود، ما دام الوقود متوفرًا. وقد أُطلق عليها اسم لاتيني: سيمبر فيفوس، أي "دائم الحياة".
وحين عُرضت هذه السيارة في معرض باريس سنة 1900، أحدثت ضجّة واسعة، فنالت على إثرها ميدالية ذهبية. ولم تكتفِ شركة لونر بعرض السيارة، بل استعملت النظام الهجين نفسه في سيارات كبيرة، مثل عربات الإطفاء والحافلات، وصنعت نسخة منها للركاب، وإن كان سعرها مرتفعًا لا يناسب عامة الناس. أما بورشه، الذي لم يكن فقط مهندسًا بل أيضًا من سائق في سباقات السيارات، فمضى في تطوير حلمه، وصنع سيارة سباق هجينة، فوضع المحركات المحورية في العجلات الأربع، وكانت تجربة فريدة وناجحة بحق.
ومن العجائب اللافتة أن أدولف هتلر، الذي كان سببًا في دفع ألمانيا إلى عصر السيارات الحديثة، لم يتعلم قيادة السيارة قط، مع أنه كان مولعًا بها، مفتونًا بسباقاتها. ففي معرض السيارات الذي أُقيم في برلين سنة 1933، أعلن عن خطته لتوفير السيارات الصغيرة لعامة الناس، كما أعلن عن مشروع قومي طموح، هدفه أن يجعل من ألمانيا الدولة الرائدة في سباقات السيارات على مستوى أوروبا.
وكان المهندس فرديناند بورشه لا يزال أسير شغفه بسباقات السيارات، لا يهدأ له خاطر إلا بابتكار جديد. فصممت شركته سيارة سباق ذات شكل انسيابي يُشبه قطرة الماء، بمحرك جبار ذي ست عشرة أسطوانة، مدعوم بشاحن توربيني يزيد من قوته وسرعته. ولمّا أراد أن يرى مشروعه النور، تعاون مع شركة "أوتو يونيون"، التي عُرفت لاحقًا باسم "أودي". وبعد وقت قصير من المعرض، اجتمع بورشه وممثلو الشركة، والتقوا بهتلر نفسه لطلب التمويل. وقد وُجد بين الرجلين قاسم مشترك، إذ نشأ كلاهما في فيينا، وكان كلٌّ منهما شغوفًا بالسيارات، فتقاربت وجهات النظر، ونالت الشركة الدعم.
وبفضل هذا الدعم المالي، شاركت سيارات "أوتو يونيون"، إلى جانب سيارات "دايملر-بنز"، في سباقات الجائزة الكبرى الأوروبية، واستطاعت أن تفرض سيطرتها على تلك المنافسات لعقدٍ كامل. ولكن الأثر الأعمق كان في توثيق صلةٍ متينة بين بورشه والمستشار الألماني، وهي صلة ستفتح له أبوابًا أوسع في قادم الأيام.
ومع أن فكرة "السيارة الاقتصادية" التي طرحها هتلر لم تلقَ حماسًا من الشركات الكبرى للسيارات في ألمانيا، ولم تُبدِ اهتمامًا صادقًا بالمشروع الذي أراده أن يصل إلى عامة الناس، فإنها لم تُعارضه صراحة. بل شعرت بأنها ملزمة أن تُظهر التعاون مع الزعيم، فكلف اتحاد الشركات التجاري شركة بورشه بتولي مهمة التصميم.
وقد وضع هتلر شروطًا صارمة لا مجال فيها للمساومة: أن تتسع السيارة لراكبين بالغين وثلاثة أطفال، وأن يكون محركها مبردًا بالهواء بدلًا من الماء، وأن تبلغ سرعتها مئة كيلومتر في الساعة، وألا تستهلك أكثر من سبعة لترات من الوقود لكل مئة كيلومتر.
إلا أن أصعب الشروط لم يكن من الجوانب الفنية، بل في السعر. فقد أصر هتلر على أن يبقى ثمن السيارة دون ألف رايخ مارك، أي ما يعادل أربعمئة دولار أمريكي. وكان ذلك في وقت بيعت فيه أرخص سيارة أمريكية، وهي فورد سيدان كاملة بمحرك V8، بأقل من خمسمئة دولار. ومع أن هذا المبلغ قد يبدو معقولًا، فإن السوق الألمانية آنذاك كانت مختلفة؛ فقد كانت أرخص سيارة فيها، وهي سيارة "أوبل" الصغيرة، تُباع بألف وخمسمئة رايخ مارك. فكيف يمكن خفض السعر إلى ثلث ذلك؟!
واجه فريق بورشه هذا التحدي، وأنجز نموذجًا أوليًا بسرعة. غير أن فرديناند بورشه لم يكن ممن يحبذون التوفير على حساب الجودة، ولم يكن يقبل بالحلول الوسط، فزادت تكلفة السيارة نتيجة ما أدخله من تقنيات متطورة، حتى بلغت ألفًا وأربعمئة وخمسين رايخ مارك. وعندها فقد الاتحاد التجاري حماسه، وقرر إيقاف المشروع.
لكن بورشه لم يرضَ بهذا المصير، بل تجاوز الجميع، وقاد بنفسه نموذجين من السيارة إلى مقر هتلر الجبلي المعروف بـ"بيرغهوف" في بافاريا، وذلك في يوليو من عام 1936. وهناك، أُعجب هتلر بالسيارتين الصغيرتين، ولم يُعر كثيرًا من الاهتمام لمسألة السعر، بل منحه عقدًا رسميًا لاستكمال التصميم، كما لو أنه يقول له: سر في مشروعك كما تشاء، وأنا أتكفل بالباقي.
في عام 1936، وافق هتلر على التصميم النهائي للسيارة الشعبية، وبدأ تنفيذ المشروع في العامين التاليين، حيث صُنعت ثلاثون نسخة أولية من السيارة يدويًا، بتعاون مع شركة "دايملر-بنز". وأُخضعت تلك النماذج لاختبارات دقيقة هدفت إلى تقليل كلفة التشغيل وتحسين الأداء.
وفي عام 1938، أصبح التصميم جاهزًا للإنتاج، وتميز بالمواصفات التالية:
محرك خلفي يبرد بالهواء، بقوة خمسة وعشرين حصانًا، ويعمل بأربع أسطوانات. وقدرة هذا المحرك أن يدفع السيارة بسرعة تقارب 100 كيلومترا في الساعة لفترات طويلة.
تصميم "بوكسر"، حيث تتقابل الأسطوانات على جانبي عمود المرفق، وهو نمط سبق أن استخدمه كارل بنز، لكن بورش طوّره بإضافات حديثة.
هيكل معدني قوي، بُني على شكل عمود فقري يحتوي داخله ناقل الحركة.
استخدام أعمدة الالتواء بدلًا من النوابض التقليدية في نظام التعليق، ما منح السيارة متانة وقدرة على التحمل.
ناقل حركة بأربع سرعات، في حين أن معظم السيارات الاقتصادية كانت تكتفي بسرعتين أو ثلاث.
نظام تدفئة أساسي، جاء ضمن التجهيزات القياسية، على خلاف أغلب السيارات حينها، التي لم توفر التدفئة إلا كخيار إضافي.
أما عن مظهر السيارة، فقد نهض به المهندس النمساوي إيرفين كوميندا (1904–1966)، فوضع تصميمًا لهيكل فولاذي بالكامل، فيه من البراعة والجمال ما جعله يثبت في الذاكرة. استلهم كوميندا ملامح السيارة من نماذج سابقة: كان غطاء المحرك يشبه سيارة NSU T32، أما مؤخرتها الانسيابية فقد أخذها من تصميم Zündapp T12. لكنه لم يتركها كما هي، بل دمج كل هذه العناصر، فخلق منها شكلًا جديدًا يُشبه الخنفساء، وأزال من التصميم كل ما لا ضرورة له. كانت انحناءات السيارة ناعمة، ملساء، تُذكّر الناظر بها بفن الآرت ديكو، وبمنحوتات النحات جوزيف لورينزل، ولوحات الرسامة تامارا دي ليمبيكا، وأعمال رينيه لاليك الزجاجية. ورغم أن عبارة "كلاسيكي خالد" قد استُهلكت لكثرة ما قيلت، فإنها — في هذه الحالة — لا تبدو مجرد مجاز، بل هي وصف دقيق لهذه السيارة التي دخلت التاريخ، وظلت صورتها محفورة في الذهن كرمز للجمال والبساطة والإتقان.
وبعد أن ضاق هتلر ذرعًا بتباطؤ الشركات الخاصة، قرر أن يتولى أمر إنتاج السيارة الشعبية بنفسه، فأعرض عن الرأسماليين، وأسس كيانًا جديدًا يتبع الدولة مباشرة. وقد تم تمويل المشروع عبر "جبهة العمل الألمانية"، وهي منظمة أنشأها النظام النازي بدلًا من النقابات التي أُلغيت. وكان لتلك الجبهة ذراعٌ ترفيهي تُدعى "القوة عبر الفرح"، تتولى تنظيم العطلات الرخيصة للأسر الكادحة، وتشرف على المنتجعات الجبلية والشاطئية، بل وحتى على السفن السياحية الخاصة. وهكذا ربط النظام السيارة الجديدة بهذا البرنامج الترفيهي، ومن هنا جاءت تسميتها بـ "فاجن كيه دي إف" (KdF-Wagen)، أي سيارة الفرح، لا مجرد وسيلة نقل يومي.
وكان هذا الربط مقنعًا في بلدٍ مثل ألمانيا، حيث كانت وسائل النقل العام منتظمة ومتاحة للجميع، ولم يكن أغلب الناس بحاجة ماسة لسياراتهم الخاصة. ولذلك، صُمّمت السيارة لتُستخدم في عطلات نهاية الأسبوع، على الطرق الواسعة الجديدة. وظهرت الإعلانات الأولى تُصوّر السيارة وسط الطبيعة، وأمام خيام الرحّالة، وكأنها تدعو الناس إلى النزهة لا إلى العمل.
أما التصنيع، فقد تولّاه المهندس فرديناند بورش، في مصنعٍ بُني خصيصًا في قرية صغيرة تُسمى "فالرسليبن"، ضمن ولاية ساكسونيا السفلى. وكان الطموح كبيرًا، إذ وُضعت خطة لإنتاج 150 ألف سيارة سنويًا، على أن يتضاعف الإنتاج خلال خمس سنوات. ولم يُبنَ المصنع فقط، بل أُنشئت بجواره مدينة خاصة للعمال سُمّيت "مدينة كيه دي إف فاجن"، وهي التي ستُعرف لاحقًا باسم "فولفسبورج"، بدايةً من سنة 1945.
لكن الحرب العالمية الثانية لم تترك المجال لهذه الأحلام، فما إن اندلعت حتى تحوّلت الأولويات. فتم إيقاف إنتاج السيارة الشعبية، ولم يُصنع منها سوى 630 سيارة فقط. وأُعيد توجيه المصنع لخدمة الجيش، فبدأ بإنتاج مركبات عسكرية، ثم تحوّل لاحقًا إلى تصنيع صواريخ "V-1" الطائرة، وهي من أخطر الأسلحة التي استخدمها الألمان آنذاك.
ولم يقتصر العمل في المصنع على أبناء البلاد، بل استُخدم أكثر من نصف العمال من الأسرى والعمال القسريين الذين جُلبوا من شرق أوروبا، وعملوا في ظروف قاسية، لا تليق بالكرامة الإنسانية.
ومع نهاية الحرب، تعرّض المصنع للقصف، لكنه لم يُدمّر كليًا، بل بقي خط التجميع سليمًا، كأنما أُريد له أن يعيش ليستأنف مهمته لاحقًا. وبعد الهزيمة، أصبحت المنطقة تحت سيطرة البريطانيين، وكانت هناك نية لتفكيك المصنع ونقل معداته، لكنه في النهاية بقي في مكانه. وتولّى الجيش البريطاني إدارته، وبدأ بإنتاج سيارات عسكرية. ثم، شيئًا فشيئًا، عادت الأمور إلى طبيعتها.
وفي عام 1949، استعادت ألمانيا السيطرة على المصنع، وعادت خطوط الإنتاج إلى صناعة السيارات المدنية. ومن هنا بدأت المرحلة الجديدة، حيث انطلقت السيارة باسم جديد هو: فولكسفاجن، أي "سيارة الشعب".
وبفضل الله، تحقق النجاح، ووصل الإنتاج إلى مليون سيارة في منتصف خمسينيات القرن الماضي. ومع الوقت، خضعت السيارة لبعض التحسينات، من بينها:
محرك أقوى قليلًا،
سرعة قصوى بلغت 112 كيلومتراً في الساعة،
واستبدال النوافذ الخلفية المقسومة بنافذة جانبية ربع بيضاوية.
ومع كل تلك التعديلات، بقيت السيارة محتفظة بشكلها المعروف الذي يُشبه الخنفساء، ذلك الشكل الذي أصبح رمزًا عالميًا، وعلامة لا تُنسى في عالم الصناعة، تذكّر الناس دومًا بجمال البساطة، وقوة التصميم.
مترجم بتصرف من كتاب The Driving Machine: A Design History of the Car للكاتب Witold Rybczynski
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي