حياة ميخائيل مشاقة
لقد تنقل بين الكاثوليكية، والعقلانية، ثم البروتستانتية. ولكنه كان في جوهره رمزًا بارزًا لنشوء الحداثة في العالم العربي-العثماني.
تأمل الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر يكشف لنا عن تناقض عميق. فمن جانب، كان هذا العصر هو الذي بدأت فيه ملامح المجتمع الحديث والعلماني تتشكل وتصبح ممكنة. ومن جانب آخر، شهد هذا العصر بروز هويات دينية متنافرة جديدة، كانت تقف حائلًا أمام هذا المفهوم الناشئ. ففي أقاليم الدولة العثمانية العربية، كانت هناك حركة ثقافية زاخرة بالحياة، أوجدها المثقفون من خلال الصحافة الدورية والجمعيات الثقافية والمدارس الحديثة. وفي هذه المؤسسات، كان المسلمون والمسيحيون واليهود يلتقون ويتفاعلون، ويتحاورون حول قضايا المجتمع والعلم والثقافة. بل إن بعضهم، كالمادي "شُبلي شُمَّيل"، بدأوا في الدعوة إلى العلم الحديث كبديل للدين. وفي ظل هذا الحراك الفكري، أعلنت الدولة العثمانية عام 1856 مساواة رعاياها من مختلف الأديان أمام القانون. وكان المثقفون يتبنون هذا المبدأ، ويحثون زملاءهم على التخلي عن الفوارق الدينية لصالح مفهوم "الوطن" أو "الأمة" التي تضم جميع الأديان.
إلا أن تلك الأقاليم العربية – خاصة سوريا ولبنان – لم تكن بمنأى عن الصراعات الطائفية. ففي لبنان، اندلع قتال مرير خلال أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر بين جماعات مسلحة من الدروز والمسيحيين الموارنة. وامتدت التوترات لتشمل كافة أنحاء سوريا، وتأججت بفعل تدخل القوى الأوروبية ومخاوف من تزايد نفوذها داخل الأراضي العثمانية. وفي عام 1860، وصلت هذه الضغوط إلى ذروتها، حيث شهدت دمشق مذبحة مروعة قام بها حشد من المسلمين المسلحين، وراح ضحيتها عدة آلاف من المسيحيين. في هذا الوقت، كان القادة الدينيون والمصلحون يسعون إلى إعادة تشكيل المجتمعات الدينية لتكون أكثر تجانسًا وتمييزًا عن بعضها البعض. فكان دعاة الحركة السلفية المبكرة، أمثال "محمد رشيد رضا"، يدعون إلى العودة إلى النمط النقي للزمن النبوي. وكان رجال الدين الكاثوليك، مثل البطريرك "مكسيموس مظلوم"، يسعون إلى تمييز مجتمعاتهم بشكل واضح عن المجموعات المسيحية الأخرى وكذلك المسلمين. كانت هذه المشاريع حديثة كالعلمانية والعقلانية العلمية، إذ هدفت إلى القضاء على ممارسات دينية قديمة كانت تطمس الحدود بين الأديان، كالتشارك في التبرك بالأولياء والأضرحة، أو إقامة الموالد والأعياد المشتركة.
ترك القرن التاسع عشر في العالم العربي العثماني إرثًا متناقضًا. فقد شهد ولادة مشاريع متباينة، واحدة تسعى إلى خلق مجتمع علماني يقوم على العقل والعلم، وأخرى تشدد على الهوية الدينية والإنفصال بين المجتمعات الدينية. كيف نشأت هذه التوجهات المتضاربة، وتواجدت جنبًا إلى جنب في زمن واحد؟
يمكننا الإجابة على هذا السؤال من خلال النظر في تاريخ فرد لعب دورًا في ظهور كلا المشروعين. كان "ميخائيل مشاقة" شخصية أسهمت في تشكيل كل من العقلانية العلمية والنهضة الدينية، وقد سلك طريقًا فريدًا في القرن التاسع عشر العربي. إن رحلته الغريبة من الشك إلى الإيمان تكشف لنا تحولًا يحدث في مكانة الدين داخل المجتمع العربي العثماني، وتساعدنا على فهم كيفية تشابك جذور العلمانية العقلانية مع جذور الهوية الدينية.
عندما وصل "مشاقة" إلى ميناء دمياط المصري في عام 1817، وكان حينها في السابعة عشرة من عمره، وجد نفسه في عالم مختلف تمامًا عن بلدته الجبلية اللبنانية "دير القمر". كانت دمياط مدينة نابضة بالحياة، تمثل المركز الرئيسي للتجارة بين سوريا ومصر. وعلى ضفاف النيل، كانت القوارب تفرغ حمولاتها من القهوة والأرز والأقمشة مباشرة في مداخل البيوت والخانات. فى كميناء دمياط، كان الفلاحون من فلسطين يلتقون بالأئمة من إسطنبول؛ وكان اليهود من رودس والمسيحيون الأقباط المصريون يعبرون في طريقهم إلى الحج للقدس. وفي قلب هذه التجارة، كانت هناك جماعة صغيرة ولكنها ثرية من التجار المسيحيين السوريين. انضم الشاب ميخائيل إلى هذه الجماعة، وأقام مع عمه وأخيه اللذان استقرا في دمياط، وبدأ في تعلم أصول التجارة وكسب المال.
بيد أن الرياح لم تجرِ بما اشتهت السفن، إذ كان هناك شوكة تعكر صفو المشهد. ففي كل ربيع، كان الطاعون يُطل برأسه على المدينة. وفي ذروته، كانت جنازات الموتى تتلاحق حتى تبلغ مائة موكب جنائزي يغادر المدينة. واستمر الداء اللعين في إصابة وقتل أهل دمياط لأشهر متتابعة، حتى يونيو أو يوليو. بات الطاعون كابوسًا يؤرق الجميع، لكن لم يكن هناك إجماع على كيفية التصدي له. فلجأ الكثيرون، مسلمون ومسيحيون على حد سواء، إلى الدعاء والصلاة، فيما لجأ آخرون إلى وسائل سحرية، يرسمون المربعات والرموز على جدران الغرف والمنازل كوسيلة للحماية. أما الفئة الأخرى، أو ربما ذات الأشخاص، فقد اتجهوا إلى الطب، بيد أن الأطباء لم يتفقوا على ماهية أسباب الطاعون أو طرق علاجه. فمنهم من اعتقد أنه ينتقل باللمس، وآخرون رأوا أنه ينتشر عن طريق تنفس الهواء الفاسد. وبعضهم وجد في دخان التبغ أو الأفيون وقاية فعالة، في حين رفض آخرون هذه العلاجات باعتبارها لا طائل منها. أما المسيحيون الأثرياء في دمياط، فقد سعوا إلى حماية أنفسهم من هذا الداء بأسلوب شبيه بما نعرفه اليوم من "الإغلاق"، حيث كانوا يغلقون على أنفسهم في منازلهم أو شققهم لعدة أشهر، ويغسلون كل ما يدخل إليهم من أشياء بالماء أو الخل.
وقد أدت هذه الردود المتباينة إلى نشوء خلافات بين الناس، إذ إن اتخاذ احتياطات طبية صارمة كان يُعتبر إنكارًا لسلطة الله، في حين أن الاعتماد على السحر أو الدعاء فقط كان يُعد إهمالًا خطيرًا. وفي هذه المدينة المصرية المختلطة، حيث تتداخل الثقافات والمعتقدات، كانت هذه الأنظمة العقائدية المختلفة تتواجه مع بعضها البعض، بينما كانوا جميعًا يواجهون تحدي الطاعون المشترك. بعد فترة وجيزة من وصول ميخائيل مشاقة إلى دمياط، أصيب شقيقه الأكبر أندراوس بالطاعون، لكنه تعافى بفضل الله. ومع ذلك، لاحظ ميخائيل وجود أوراق تحمل شعارات دينية فوق باب غرفة أخيه، وضعها الكاهن الكاثوليكي المحلي. وقيل له إن هذه الأوراق من المفترض أن "تمنع دخول الطاعون"، لكن كما لاحظ ميخائيل بذكائه الفطري، فشلت تلك الأوراق في تحقيق مرادها، إذ أصيب أخوه بالطاعون رغم ذلك. وعندما أعرب عن شكوكه، قيل له: "لا تكن قليل الإيمان ولا تزرع الشكوك"، لكن الشك ظل ينمو في قلبه، فقد تناقضات التعامل مع الطاعون من بين العوامل التي دفعت مشاقة إلى التشكيك في الدين نفسه.
لكن العامل الآخر الذي زاد من شكوكه كان متأصلًا في التنوع الاجتماعي الذي امتازت به دمياط. فقد كان أغنى تاجر مسيحي في المدينة، باسلي فخر، يتصل بالكهنة اليونانيين والبحارة، كما كان له علاقات مع المسافرين والعلماء الغربيين الأوروبيين. وقد قام برعاية ترجمة الأعمال الفكرية الأوروبية إلى العربية لأول مرة. وكان ميخائيل قد اطلع على بعض هذه الكتب في منزله بجبل لبنان بفضل عمه الذي كان يجلبها من دمياط، والآن قرأ المزيد منها. قدم له العلم التنويري نظامًا من "القوانين الطبيعية" يشرح بها الظواهر الطبيعية – مثل حركات الكواكب والنجوم – بدقة رياضية. وفي مقابل ذلك، بدت له "القوانين" الدينية غير منطقية وتفتقر إلى العقلانية. وقد أتم ميخائيل مشاقة رفضه للدين عندما قرأ ترجمة عربية أخرى لأحد كتب فخر. كانت هذه الترجمة هي "أطلال الإمبراطورية" للفيلسوف الفرنسي قسطنطين فرانسوا دي فولني، الذي سافر بنفسه عبر مصر وسوريا في ثمانينيات القرن الثامن عشر.
جادل فولني بأن شؤون البشر – شأنها شأن العالم الطبيعي – تحكمها "قوانين طبيعية، منتظمة في سيرها، متسقة في نتائجها". أما الأديان، فقد وصفها بأنها مجرد تحريف لهذه القوانين، ناتج عن سوء فهم للكون، وسوء فهم مستمر بفعل النخب الكهنوتية التي تسعى للحفاظ على سلطتها الخاصة. وكما قال مشاقة لاحقًا: "لقد أصبحت أعتقد أن جميع الأديان أكاذيب، وأن القوانين الدينية قد وضعتها العقول الحكيمة كزمام للجهلاء." وعلى غرار فولني، لم يرفض مشاقة فكرة وجود كائن إلهي قد خلق عجائب الطبيعة، لكنه قرر العمل "وفقًا لإرشاد النور الطبيعي" الذي "زرعه الله في داخلنا". وبالرغم من حفاظه على مظهره ككاثوليكي، لكي لا يتسبب في فضيحة لعائلته ورفاقه في الدين، إلا أنه "أصبح يرى كل ما قرأه وسمعه في كتب الطوائف أكاذيبًا وأوهامًا لا أساس لها"، غير مقبولة لـ"العقل السليم".
في الوقت الذي انجذب فيه مشاقة، ومعه عدد قليل من الشباب السوريين الكاثوليك مثل شقيقه أندراوس، نحو فكرة "القانون الطبيعي" والعقل، كان آخرون في دمياط يسعون لمواجهتهم. كتب الكاهن الكاثوليكي صبا كاتب مجموعة من المقالات تهدف إلى دحض "هرطقات" الماديين، سواء القدماء مثل ديمقريطس وإبيقور أو المعاصرين مثل فولتير وهوبز. في مواجهة هؤلاء، استخدم صبا كاتب الحجة الشهيرة من التصميم، حيث رأى أن الكون المعقد الذي كشف عنه العلم يجب أن يكون له خالق إلهي. لكنه تميز بأسلوب جديد في الدفاع المسيحي، حيث قال: "بما أن خصومي لا يؤمنون بأي كتاب مقدس ولا بنبوة، فقد جعلت العقل هو الأساس في الجدل." وبهذا، اتخذ العقل معيارًا له، وليس النصوص المقدسة أو التقاليد الكنسية -على غرار خصومه العقلانيين و اللادينيين-.
عاد مشاقة إلى جبل لبنان عام 1820، بعد أن ضاق ذرعًا بالطاعون والإغلاق الذي كان يجبره على البقاء في منزله لخمسة أشهر من كل عام. وبفضل المكانة المرموقة التي كانت لعائلته كتجار ومصرفيين لأمير جبل لبنان بشير الشهابي، وجد مشاقة نفسه قريبًا من مراكز القوة السياسية المحلية. ورغم أنه كان لا يزال في العشرينيات من عمره، تم تعيينه مستشارًا لأمراء حاصبيا في جبال لبنان الشرقية، وحصل على حقوق إيجار أراضٍ واسعة. وواصل مشاقة تعليمه الذاتي، فدرس الطب بعد أن مر بوعكة صحية، وكتب بحثًا مبتكرًا عن الموسيقى العربية. لم يتخلَ عن شكوكه حول الدين، وسجل في مذكراته مواقف عديدة سخر فيها من ادعاءات رجال الدين، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين. واستمر في موقفه هذا عندما التقى لأول مرة عام 1823 بجوناس كينج، أحد المبشرين البروتستانت الأمريكيين الذين وصلوا حديثًا إلى سوريا. استمع مشاقة إلى النقاشات التي خاضها كينج مع الكاثوليك في دير القمر، وابتسم في سره على كلا الطرفين.
جاء المبشرون الإنجيليون إلى سوريا العثمانية بنوع من التعالي الغربي، حيث اعتبروا سكانها "غير متحضرين" و"جهلة"، بحاجة إلى التنوير الديني. لكنهم جلبوا أيضًا اهتمامًا غير معتاد بمعتقدات الأفراد الذين التقوا بهم. وأثناء تجوالهم في منطقة البحر الأبيض المتوسط الشرقية، ذكروا أنهم التقوا بأشخاص لم يقتنعوا بأي من الأديان المعروفة، بجانب المسلمين واليهود والمسيحيين. ومن هؤلاء، كان هناك مهندس مالطي استشهد بفولني كمرجع لإيمانه بأن "الكتاب المقدس خدعة"، وكذلك الدكتور مرپورجو، الطبيب اليهودي البارز في الإسكندرية الذي كان يتبع المذهب الربوبي، وأيضًا الراهب الأرمني جاكوب جريجوري ورتابت، الذي نجح المبشرون في تحويله عن "آرائه الكافرة والربوبية" وجعله بروتستانتياً. ومع انتشار المبشرين الأمريكيين في مدن سوريا في الثلاثينيات والخمسينيات من القرن التاسع عشر، وجدوا مجموعات مماثلة من الشباب المسيحيين الذين كانوا غير راضين عن كنائسهم المحلية وأصبحوا "متشككين تمامًا في الدين".
لإقناع هؤلاء الشباب بجدوى الدين والمسيحية البروتستانتية، استند المبشرون البروتستانت إلى مفاهيم عقلانية من تراثهم. وكما قال الأمريكي بليني فيسك عام 1823، فإن المسيحية الحقيقية، أي البروتستانتية الإنجيلية، تمثل "الوسط الذهبي" بين "طرفي التطرف: الخرافة والكفر":بين معتقدات المسيحيين المحليين والمسلمين وغيرهم، وبين الربوبية أو الشك. وفي محاولة إقناع المسيحيين المحليين، خاصة الكاثوليك، كانوا يركزون على جوانب يرونها غير عقلانية في معتقداتهم، مثل عبادة القديسين والرموز، وتحول الخبز والنبيذ إلى لحم ودم المسيح. ولإقناع المتشككين، ركزوا على ما يرونه "أدلة" على صحة المسيحية. وكما فعل الكاهن الكاثوليكي صبا كاتب في العشرينيات من القرن التاسع عشر، استخدموا في حججهم "العقل" كمعيار، وليس النصوص المقدسة أو التقاليد.
في أربعينيات القرن التاسع عشر، تأثر مشاقة بقوة الحجج التي كانت تُطرح في ذلك الوقت. كان يعيش في دمشق، متزوجًا ويعمل كمرابي وطبيب وتاجر، وشهد تغيرات كبيرة في سوريا، منها احتلال جيش محمد علي باشا لسوريا، وبداية العنف الطائفي بعد انسحاب الجيش في عام 1841. وتحت تأثير عوامل اجتماعية وفكرية، بدأ مشاقة البحث عن الحقيقة الدينية. في عام 1842 أو 1843، عثر على كتاب مترجم للعربية من قبل المبشرين البروتستانت في مالطا بعنوان "أدلة النبوة". حاول فيه ألكساندر كيث، الوزير المشيخي الاسكتلندي، إثبات تحقق النبوات المذكورة في الكتاب المقدس، مؤكدًا أن النص يجب أن يكون مستوحى من الله. ولتعزيز حجته، قارن كيث بين الكتاب المقدس وروايات الرحالة الأوروبيين الذين زاروا الأراضي المقدسة، حيث استشهد بـ"أدلة" على دمار المدن التي قال الله إنه سيهدمها. وأرفق الكتاب بنقوش وصور فوتوغرافية تقدم دليلًا ماديًا على آثار مدن قديمة مثل البتراء ونمرود وبابل.
بعد تفكير عميق، وجد مشاقة حجج كيث مقنعة، وذلك بفضل أسلوبه العقلاني الذي كان مختلفًا تمامًا عن أسلوب "معلمي كنيستي" -كما يقول-، الذين كانوا يتحدثون عن "أمور يرفضها العقل السليم". وبعد أن أصبح أقرب إلى المبشرين البروتستانت الأمريكيين في بيروت، وإلى سوريين آخرين اعتنقوا البروتستانتية، وإلى القنصل البريطاني في دمشق، اتخذ مشاقة الخطوة الحاسمة نحو التحول العلني. في نوفمبر 1848، وأعلن إيمانه بـ"الإيمان المسيحي وفقًا للكتب المقدسة". وسرعان ما تورط في جدل مرير مع ماكسيموس مظلوم، بطريرك الكنيسة الكاثوليكية اليونانية، حيث ندد بـ"الخرافات" و"الاختراعات الكهنوتية" للعقيدة الكاثوليكية. و رغم تبنيه لشعار العقلانية، إلا أنه لم يعد يؤمن بالعقل وحده، بل أصبح يقبل الوحي الإلهي كمرشد أكثر ثباتًا، مشيرًا إلى أن الأحكام العقلانية قد تكون متقلبة وغير مؤكدة.
رغم التحديات والعواصف التي واجهها، ظل هذا الإيمان المسيحي المقرون بالعقل رفيقًا لمشاقة طوال حياته. في عام 1860، نجا بأعجوبة من هجوم عنيف على المسيحيين في دمشق في حادثة طائفية دامية، وتمكن من الهروب مع طفليه الذي حملهما على كتفيه هارباً عبر الأزقة. ورغم هذه المحنة، أعاد تأسيس نفسه في دمشق، وأصبح رجل أعمال مزدهرًا ونائبًا للقنصل الأمريكي. وحافظ على سمعته كعالم موسوعي، يجمع بين الرياضيات والموسيقى، وكتب مذكرات حية عن حياته وعصره، قبل وفاته في عام 1888.
لم يكن مشاقة مجرد شاهد على ولادة المجال العام الحديث باللغة العربية، بل كان فاعلًا رئيسيًا في تأسيسه وداعمًا للعقلانية العلمية. كان من أوائل الأعضاء في الجمعيات العلمية والثقافية في سوريا العثمانية، وكتب في منشوراتها وصحفها الدورية. ابتكر في مجال الكتابة الدينية، حيث خاطب جمهورًا متعدد الأديان، واستحدث استخدام الكتيبات المطبوعة في الجدل العلني، وكانت عقلانيته مثل نصل حاد، تنتقد المعتقدات والعادات الشعبية والممارسات الدينية بوصفها "خرافات" تستحق التجاوز.
مشاقة لم يكن مجرد مفكر عقلاني فحسب، بل كان أيضًا ناشطًا دينيًا. بالتعاون مع المبشرين الأمريكيين، سعى إلى تقديم نسخة عربية من المسيحية الإنجيلية. وكانت جدالاته القوية ضد الكاثوليكية ذات تأثير كبير في تشكيل المجتمع البروتستانتي السوري الصغير والمؤثر. حيث قدم العقائد الإنجيلية بطريقة تناسب الجمهور الناطق بالعربية، وظلت هذه الجدالات مطبوعة ومتاحة حتى القرن العشرين. ولم تقتصر كتاباته على النقاشات بين الطوائف فقط، بل وصلت إلى مسلمين وكاثوليك على حد سواء، وما زالت نسخها الرقمية متاحة على مواقع مخصصة لنشر الإسلام مثل "القرآن للجميع" و"المكتبة الإسلامية الشاملة".
وسط هذا التنوع في أعمال وإرث مشاقة، يظهر خيط مشترك يجمع بينها: إيمانه القوي بالعقل. فقد كان يعتبر العقل المعيار الذي يجب أن تقاس به أي معتقدات، سواء كانت نظرية علمية قابلة للاختبار بالتجربة أو إيمانًا بوحي إلهي يتجاوز الفهم البشري. لكن هذا التوجه العقلاني أدى إلى نتائج تبدو متناقضة. فقد كان مشاقة يقبل احتمال العيش بدون دين، فقد أمضى 25 عامًا من حياته كربوبي، وكان يحكم على المعتقدات المختلفة من منظور العقل. لكنه بعد أن اختار دينًا معينًا، صار يصر على أساسه العقلاني، ويرفض الخرافات غير العقلانية بصرامة.
لم يكن مشاقة وحده في سوريا القرن التاسع عشر الذي تبنى فكرة أن الدين يجب أن يبرر بالعقل، وأن الإيمان الصحيح هو "الوسط الذهبي" بين الخرافة والكفر. حتى ماكسيموس مظلوم، المصلح الكاثوليكي، كتب دفاعًا عن عقيدة الكنيسة ضد عالم مسلم من جامعة الأزهر، مستندًا في حججه إلى الأدلة العقلانية الفلسفية وليس النصوص المقدسة. ومع مرور الزمن بعد وفاة مشاقة في عام 1888، أصبح هذا الأسلوب في النقاش حول الدين أكثر شيوعًا في المجال العام العربي. بدأ المسيحيون والمسلمون والعلماء الماديون يناقشون العلاقة بين الإيمان والعقل، متبنين جميعًا فكرة ضرورة تحديد موقعهم على طيف يمتد بين الإيمان الأعمى والعقل الصارم.
لكن المصلحين لم يتوقفوا عند تهذيب العقائد الدينية فقط، بل سعوا أيضًا إلى تحديد الحدود الفاصلة بين المجتمعات والممارسات الدينية. مصلحون مسلمون ومسيحيون، مثل السلفية المبكرة والمبشرين البروتستانت والكاثوليك المصلحين مثل مظلوم، نددوا بما أسموه "خرافات" العامة. كانت بعض هذه الممارسات تذيب الفواصل بين المجتمعات الدينية، حيث يقصد المسلم أو الدرزي ضريح قديس مسيحي، أو العكس. وبعضها الآخر كان يمزج بين الدين والسحر، مثل تجمعات الصوفية الشعبية التي كانت تتعارض مع معايير الأخلاق العامة المتشددة والذوق النخبوي. ولإظهار أديانهم كعقائد متماسكة يمكن للأفراد العقلاء تقبلها، كان على هؤلاء المصلحين أن ينتقدوا هذه الممارسات، رغم ارتباطها بالثقافة الشعبية. ومع ذلك، كان هذا التفكيك لنسيج الثقافة الدينية المشتركة يؤدي إلى خلق تناقضات الحداثة: فمن جهة، سعوا إلى مجتمع علماني يعمه التعايش والمساواة بين الأديان؛ ومن جهة أخرى، كانوا يسعون لتأسيس مجتمعات دينية نقية ومتجانسة.
شخصية ميخائيل مشاقة تذكرنا بأن هذه التناقضات كانت نتيجة لتحول مشترك: تحول نحو تبرير العقائد الدينية بمفاهيم عقلانية، والتركيز على الإيمان الفردي بدلاً من الممارسة الجماعية. وما زالت هذه الأقطاب المتضادة بين العلمانية والنهضة الدينية تحرك النقاش الثقافي في العالم العربي حتى اليوم. قصة مشاقة تعيدنا إلى حقيقة أن هذين الاتجاهين هما وجهان لعملة واحدة، وجها الحداثة: نشآ معًا في إطار جدلي كان في الوقت ذاته صراعًا وحوارًا.
مترجم من Aeon بقلم بيتر هيليس أستاذ مساعد للتاريخ في جامعة نورثمبريا في نيوكاسل أبون تاين، إنجلترا