في حضرة الإنسانية: عظمة أندريه بلاتونوف
يعد بلاتونوف واحدًا من أعظم الكتاب الروس، خاصة فيما يتعلق بالشخصيات التي جلبها إلى العالم.
لقد مرت خمسون عامًا منذ بدأت ترجمة أعمال الكاتب أندريه بلاتونوف، وكانت هذه التجربة بمثابة رحلة عميقة أثرت فيّ بشكل كبير. أكثر ما أمتن له هو الأشخاص الذين أدخلهم بلاتونوف إلى عالمي، سواء كانوا من وحي خياله أو شخصيات حقيقية.
وُلد بلاتونوف في الأول من سبتمبر عام 1899، ابنًا لعامل سكك حديدية كان يعمل في تذهيب قباب الكنائس. نشأ في منطقة تجمع بين الريف والمدينة على أطراف فورونيج في روسيا. ورغم دعمه للثورة في شبابه ورغبته في أن تُسهم أعماله في بناء المجتمع السوفييتي، إلا أن رؤيته الناقدة وروحه الساخرة كانت عائقًا أمام كتابة ما يُرضي السلطات. فكانت النتيجة أن نصف أعماله نُشرت وتعرضت للنقد، بينما ظل النصف الآخر غير معروف حتى بعد وفاته في عام 1951 بسبب مرض السل الذي أصابه نقلاً عن ابنه.
تعرفت على بلاتونوف لأول مرة في عام 1974 أثناء إقامتي في فورونيج بمنحة من المجلس الثقافي البريطاني. أهداني صديق روسي مجموعة من أعماله التي نُشرت في الستينيات. في البداية، أربكني أسلوبه، لكنه أثار فضولي وقررت قراءة المزيد. وعندما عدت إلى إنجلترا، طلبت نسخًا من روايتيه "تشيفينغور" و"الحفرة"، التي كانت متاحة فقط في دور نشر المهاجرين آنذاك. كذلك، استعرت مجموعة من الحكايات الشعبية التي نشرها بلاتونوف في أواخر الأربعينيات، وقد استحوذت هذه الحكايات على إعجابي فورًا، وأثرت فيّ كثيرًا.
لقد التزم بلاتونوف بمصادره في أغلب الأحيان، وأضاف إليها فقط بعض التفاصيل النابضة بالحياة والحكمة، ولكن هناك حكاية واحدة تُدعى "بدون أذرع" تعامل معها بلاتونوف بحرية تامة. هذه الملحمة الصغيرة تنتهي بنغمة غنائية مؤثرة، حيث ترتفع فيها قوى الحب. فبعد سنوات طويلة من التجوال، وبعد أن تحملت البطلة آلامها وعاشت معركة رهيبة، أنقذت البطلة ابنها الوحيد دون أن تدرك هويته، ثم اجتمعت مع ابنها وزوجها. وببطء وتردد، بعد سنوات من الانفصال، تعرف الثلاثة على بعضهم البعض. ويواصل بلاتونوف فيقول:
أرادت "بدون أذرع" أن تعانق زوجها، فقد انفصلت عنه طوال الدهر، لكنها تذكرت أنها بلا أذرع. فقدت ذراعاها بعد أن وقفت بجانب ابنها في المعركة. لكنها لم تستطع الصمود، فمدت يديها نحو زوجها. لقد أحبته دومًا؛ ولم تنساه قط. وفجأة، وكأنها من قلبها، نمت ذراعاها بقوة وعانقت زوجها بهما. ومنذ تلك اللحظة، بقيت ذراعاها معها إلى الأبد.
يُنظر إلى أعمال بلاتونوف غالبًا على أنها تعكس جوًا من الكآبة، وهذا ليس مستغربًا نظرًا لما تكتظ به أعماله من شخصيات مشوهة وأيتام وانتحاريين. لكنني رأيته دائمًا كاتبًا يعمق تأملاته في قوة الحياة. قصة "بدون أذرع" تركت في نفسي أثرًا قويًا كرمز ليس فقط للتحمل البطولي، بل للحب الذي يستمر رغم كل الصعوبات. ومع مرور الوقت، بدأت أفهم أن كل أعمال بلاتونوف يمكن أن تتلخص في سؤال واحد: كيف يمكن لمن بترت أرواحهم وأجسادهم أن يجدوا الكمال؟ وكيف يمكن للمنبوذين والمغتربين أن يستعيدوا شعورًا بالانتماء، ليكوّنوا أسراً ويعيدوا بناء التواصل مع الآخرين؟
منذ بداية مسيرته الأدبية، في ظل المجاعات والتفكك الاجتماعي، يبدو أن بلاتونوف طرح هذا السؤال المعقد على نفسه، وكان مفكرًا وفنانًا دقيقًا، لا يرضى بإجابات بسيطة. ومع ذلك، يمكننا ملاحظة تطور في كتاباته، من التشاؤم واليأس في أواخر عشرينيات القرن الماضي إلى الكمال والشفاء في أعماله اللاحقة.
في روايته "تشيفينغور" (1927-1929)، نجد البطل عاجزًا عن تحقيق الحب والارتباط الدائم، حيث ينتهي به الأمر إلى الانتحار في البحيرة التي غرق فيها والده قبل عشرين عامًا. أما في قصة "نهر بوتودان" (1937)، فنرى أول محاولة لبلاتونوف لإنهاء القصة ببقاء الزوج والزوجة معًا، بعد أن أنقذ كل منهما الآخر من النزعة إلى الانتحار. وفي "العودة" (1946)، تظل الأسرة متماسكة بصعوبة، وفي "بدون أذرع" (1947) يتجلى أقوى تعبير عن انتصار الحب رغم كل العقبات.
أخبرني الناقد والعالم الراحل فيتالي شنتالينسكي ذات يوم أن الكاتب العظيم هو من يساهم في الثقافة العالمية بشخصية تبقى في الذاكرة، حتى لمن لم يقرأ أعماله. ورأى في بلاتونوف كاتبًا عظيمًا، خاصة بعد أن قدم في "تشيفينغور" تصويرًا للشعب الروسي كيتيم جماعي، محروم من أمه الأرض وأبيه السماوي بفعل الثورة. هذا المفهوم ترسخ في ذهني حين تذكرت مشهدًا من الرواية، حيث يثور فلاح غاضب على أحد البلاشفة المتعصبين، قائلاً: "تعطينا الأرض، ثم تأخذون كل ما نزرعه. حسنًا، فلتختنقوا بتلك الأرض.الأفق هو الأرض الوحيدة التي تبقت لنا نحن الفلاحين الآن. من تظنون أنكم تخدعون؟" ويظهر هذا الفلاح في مشهد قصير، ولكن الشخصيات الثانوية كثيرًا ما تكون هي التي تُفصح عن أفكار بلاتونوف بشكل أعمق من الشخصيات الرئيسية.
في عام 1999، وبينما كان الناتو يقصف صربيا، كنت أتحدث مع شنتالينسكي الذي كان قلقًا من أن هذه الحملة ستزيد من قوة المتطرفين في الحكومة الروسية. وللأسف، كان محقًا. "اليتيم الجماعي" الذي صوره بلاتونوف سرعان ما استسلم لضابط سابق في الـ KGB، الذي قدم نفسه كالأب القوي الحامي.
على مر السنين، بقيت شخصية اليتيم الجماعي حاضرة في ذهني، كما أصبحت شخصيات بلاتونوف جزءًا من عالمي العقلي. تبدأ رواية "تشيفينغور" بتصوير رجل حرفي يعيش على حافة عالمين متضادين؛ عالم الفلاحين الروس والعالم الجديد الذي تمثله المدن والآلات.
في المدن الإقليمية القديمة، تلك التي تغرق في أطرافها المتداعية، حيث يلتقي البشر وجهاً لوجه مع الطبيعة،كان هناك رجل بنظرة حادة وعينين مثقلتين بالحزن. رجل يملك القدرة على إصلاح أي شيء وتجهيز كل ما يقع بين يديه، ومع ذلك عاش حياته دون أن يجهز شيئًا لنفسه. كل شيء، من المقالي البالية إلى الساعات المتوقفة، قد مر بين أصابعه. لم يرفض يومًا إعادة تلبيس حذاء ممزق، أو صب الرصاص لصيد الذئاب، أو حتى صنع ميداليات زائفة لتباع في معارض القرى القديمة. لكنه رغم براعته هذه، لم يصنع أبدًا شيئًا له—لا بيتًا ولا أسرة. كان يقضي صيفه في أحضان الطبيعة، محافظًا على أدواته في كيس بسيط، يستخدمه كوسادة، ليس لراحته، بل لحماية أدواته الثمينة. وعندما يقترب الصباح، كان يضع ورقة من نبات الأرقطيون فوق عينيه لتحميه من أشعة الشمس المبكرة. أما في الشتاء، فقد كان يعتمد على ما جمعه من مكاسب الصيف، ويدفع للحارس أجره من خلال دق ساعات الليل. ولم يكن يهتم بالناس ولا بالطبيعة، بل بالأشياء التي صنعها البشر بأيديهم، فكان يتعامل مع الناس والحقول بعناية غير متطفلة، يحترمها دون أن يتجاوز حدودها. في ليالي الشتاء الطويلة، كان أحيانًا ينشغل بصناعة أشياء لا حاجة لها: أبراج من الأسلاك، سفن من الحديد المموج، منطادات من الورق والغراء. أعمال كان ينجزها لمتعته الخاصة، فقط ليشبع روحه بصنع شيء جديد. بل وكان يؤجل أحيانًا الطلبات التي تصله؛ فعندما يُطلب منه إصلاح برميل، قد يكون مشغولًا بتصميم ساعة خشبية، مؤمنًا بأنها ستعمل دون الحاجة إلى آلية، فقط بالاعتماد على دوران الأرض البطيء.
عندما توفي رفيقه المؤقت فجأة، وجد زخار بافلوفيتش -بطل الرواية- نفسه في منعطف جديد من حياته. قرر الاستقرار في مدينة فورونيج، حيث قبل وظيفة كمنظف في مستودع لصيانة القاطرات. في البداية، غمره الإعجاب بعالم جديد من الحرفية، عالم شعر وكأنه يعرفه منذ الأزل. كانت الآلات وأصواتها تجذبه بشكل لا يقاوم، حتى ظن أنه وجد مكانه الأبدي. لكن هذا الحلم سرعان ما تلاشى، إذ دفعته مواجهة مع شاب متسول إلى إدراك حقيقة مريرة: لا توجد آلة في العالم يمكنها أن تحل معضلة الألم الإنساني.
في شبابه الباكر، عمل بلاتونوف لفترة وجيزة كمساعد لسائق قطار. كانت القطارات تمثل له أكثر من مجرد وسيلة نقل؛ كانت شغفًا يسري في دمه، ورافقه هذا العشق حتى نهاية حياته. ربما لن يكون مبالغة القول إن بلاتونوف نجح في تصوير روح تلك الحقبة—بداية عصر السكك الحديدية—بجاذبية فريدة ووعي عميق.
ومن بين أعمال بلاتونوف التي تميزت بروحها الشعرية، تتألق روايته القصيرة "الروح". تدور أحداث الرواية في تركمانستان السوفيتية خلال عشرينيات القرن الماضي، في زمن قاسٍ طغت عليه المجاعة والجفاف. في الفصل الثالث، نلتقي بالطفل نزار، الصغير الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره. كانت والدته قد استسلمت لليأس بسبب المجاعة، وقامت، مضطرة، بالتخلي عنه، غير قادرة على احتمال رؤيته يموت جوعًا أمام عينيها.
كان نزار يقف على حافة تلك الأرض القاحلة، يحدّق في الصحراء الممتدة أمامه حيث كانت الرياح الهائمة تتسلل بين التلال الرملية الهادئة، كأنها تبحث عن مأوى، منفية من مكان بعيد. وقد كان الطفل يستمع إلى هذه الرياح، يتبعها بعينيه، يرغب في رؤيتها والاقتراب منها، ولكنه لم ير شيئًا. صرخ من أعماق قلبه، وكأن صوته يعبر عن وحدته، لكن الرياح اختفت في صمت، ولم تجبه. في تلك اللحظة، لمح نبتة صغيرة خشنة، شجيرة تُدعى "نبتة التمبلويد"، تتدحرج بلا وجهة، تتقدم ببطء على الرمال، وكأنها تستسلم لقدَرٍ لا مفر منه. كانت النبتة تبدو شاحبة، منهكة من طول الترحال، بلا مأوى أو سند، مثلها مثل نزار. اقترب منها ومد يده الصغيرة ليلمسها برفق وقال: "سأذهب معك، فأنا وحيد أيضًا. تفكرين عني وسأفكر عنك." وبدأ نزار يتبع تلك النبتة المتجولة، يسير خلفها، غير مكترث للوقت، حتى غطى الليل المكان. حينما حل الظلام، تمدد نزار على الرمال، منهكًا، وظل ممسكًا بالنبتة، وكأنه يخشى أن تتركه هي أيضًا. غفا الطفل في أحضان الليل، ولكن عند استيقاظه صباحًا، غمره شعور بالخوف. اختفت النبتة من جانبه، وكأنها قد هربت أثناء الليل. كان على وشك أن يبكي، إلا أنه لمحها فوق كثيب رملي قريب، تتحرك ببطء. ركض نزار نحوها، ولم يتركها تفلت منه مرة أخرى. وفي ذلك اليوم، قادت النبتة نزار إلى راعٍ رحيم. قدّم له الراعي طعامًا وماءً، وربط النبتة بعصاه لكي تستريح. ولمدة طويلة، سار نزار مع الراعي، حتى قرر الراعي أخيرًا اصطحابه إلى المدينة. هناك، سلمه للسلطات السوفيتية، إذ لم يكن هناك من يرغب في احتضان الطفل سوى الدولة، تلك الدولة التي تجمع كل من تخلى عنهم الآخرون ونسيتهم الحياة.
ما يجعل هذا المقطع مؤثرًا في نفسي هو ذكرى نقاش عميق دار بيني وبين صديقتي المحللة النفسية روزماري ديفيز. لقد رأت في هذا المقطع تجسيدًا نقيًا لفكرة "التداعي الحر" التي تحدث عنها فرويد. فإذا وجد الإنسان نفسه غارقًا في مشاعره، فمن الأفضل أن يترك نفسه للفكرة الأولى التي تراوده، تمامًا كما فعل نزار حين تبع نبتة التمبلويد. إن الأفكار، مهما بدت عشوائية أو غريبة، تستطيع بمرور الوقت أن تقودك إلى الطريق الذي تحتاج إلى السير فيه.
وفي النصف الثاني من رواية "الروح"، يكبر نزار ليصبح شخصية أسطورية، كأنه موسى جديد يظهر في القرن العشرين. وكما تخلت أم موسى عنه، تقود الظروف نزار ليصبح قائدًا لشعبه التائه، متجولًا في طريق البحث عن وطنهم. عندما قرأت الرواية لأول مرة أثناء إقامتي في فورونيج، شعرت وكأنني أمام نص ديني قديم، مزيج من الملحمة، والصلاة، والتأمل الفلسفي العميق.
لطالما اعتبر المنشقون السوفييت والعلماء الغربيون روايتي بلاتونوف "تشيفينغور" و"حفرة الأساس" من أعظم أعماله؛ حيث عكست أقوى أشكال السخرية وأعمق التجارب الأسلوبية. إلا أن أعماله الأخيرة، التي اتسمت بوضوح وبساطة ظاهريين في آخر 15 عامًا من حياته، لم تحظ بالاعتراف اللازم إلا في السنوات الأخيرة، إذ أدرك النقاد عمقها وفرادتها. ومن بين تلك الأعمال تأتي القصة القصيرة "العودة"، التي نُشرت عام 1946، وواجهت هجومًا لاذعًا من الصحافة السوفيتية. فالقصة، التي تناولت عودة ضابط من الحرب إلى وطنه، لم تكن تتماشى مع نبرة التفاؤل الإجباري التي كانت تهيمن على الأدب في تلك الفترة بعد انتصار ستالين.
تروي القصة كيف أن الكابتن إيفانوف، بعد عودته إلى بيته، وجد نفسه في دوامة من الحيرة والغضب. بعد خلافه مع زوجته ليوبا ليلًا، قرر أن يهجر عائلته ويبدأ حياة جديدة مع ماشا، الفتاة التي قابلها خلال رحلته إلى وطنه. وعندما استقل القطار في الصباح الباكر، بدأ القطار يتحرك به، لكنه لم يستطع الاستمرار. فقد رأى طفلين صغيرين يركضان نحو السكة الحديدية، ولم يدرك في البداية أنهما طفليه. ولكن في تلك اللحظة، تبدّل شيء في داخله، فاستجاب لنداء قلبه وقفز من القطار. وكما أدرك زخار بافلوفيتش، أن العمل فى السكك الحديدية لن تأخذه إلى حياة جديدة، أدرك إيفانوف أن لا شيء في الحياة أغلى من واقعه.
تتناول قصة "العودة" أيضًا موضوع الخوف من الاستبعاد. كل شخصية تعاني بطريقتها الخاصة من العزلة والانفصال. يشعر إيفانوف بـ"اليُتم" بعدما ترك الجيش. وحين عاد إلى بيته واحتضن زوجته ليوبا، شعرت ابنته الصغيرة بالخوف. وحتى بعد العودة، كان إيفانوف يتأرجح بين مشاعر الشك والغيرة إذ خُيّل إليه أن ليوبا قد خانته، وأن بتيا ابنه البالغ من العمر 11 عامًا قد اغتصب دوره الأبوي في المنزل. وليلًا، بينما كان بتيا يسترق السمع إلى شجار والديه، شعر بنوع من النقد تجاههما، ثم شعر بالرفض، فانهار هو أيضًا. وكان هذا التسلسل من الرفض المتبادل والاستبعاد ينتهي برحيل إيفانوف نحو محطة السكك الحديدية.
إن بلاتونوف كتب هذه القصة بحساسية بالغة، مما جعلها تحفّز القراء للتعاطف مع أي من الشخصيات. البعض يرون أن الشخصية المحورية هي ليوبا، لأنها تمثل الصراع الداخلي للمرأة التي تجد نفسها أمام زوج لا يفهمها. وآخرون يعتقدون أن إيفانوف هو الشخصية الرئيسية، ويقدرون قدرة بلاتونوف على تصوير الصعوبات التي واجهها ملايين الجنود في عامي 1945 و1946 وهم يكافحون لإيجاد موطئ قدم لهم في عالم لم يعد مألوفًا. وهناك من يرى أن بتيا، الطفل الذي يجبر على النضوج المبكر، هو بطل القصة كما صور لي ذلك قارئ يهودي نجا من الحرب فى بولندا كطفل مختبئ فى الغابات.
مثل صديقه فاسيلي غروسمان، لم يؤمن بلاتونوف بالفن من أجل الفن فقط، بل أراد أن تكون أعماله ملاذًا للناس في حياتهم اليومية. قصة "العودة" بسيطة، حكيمة، ومليئة بالتفاؤل الهادئ. ورغم ذلك، كانت سببًا في إبعاد بلاتونوف عن المشهد الأدبي السوفيتي، إذ لم يُسمح له بعد نشرها إلا بكتابة قصة واحدة للأطفال وبعض الحكايات الشعبية المعدلة.
عندما يعمل المترجم الأدبي مع كاتب، فإنه يعيش في عالم ذلك الكاتب لعدة أشهر، وربما حتى سنوات. هناك بعض الكُتاب الذين أحترمهم وأقدر إبداعهم، ولكنني لا أود أن أترجم لهم؛ لأنني سأشعر بالاختناق إذا بقيت في عالمهم لفترة طويلة. غير أن عالم بلاتونوف كان مختلفًا تمامًا؛ إذ اتسم بانفتاح غير محدود، وكأنك تسبح في بحر من الأفكار والخيال. وقد جاءت التسعينيات وبداية الألفية الجديدة مليئة بالفرص المثيرة في دراسة أعماله. حضرت العديد من الندوات والمؤتمرات في موسكو، وسانت بطرسبرغ، وفورونيج، وقد أصبح العديد من العلماء الروس الذين قابلتهم هناك أصدقاء أعزاء. أشعر بالامتنان لبلاتونوف، لأنه لم يفتح لي باباً نحو أدبه فقط، بل قادني أيضًا إلى علاقات إنسانية غنية.
ولكن فوق كل شيء، أجد نفسي ممتنًا لهذه الفرصة الفريدة التي سمحت لي بالاقتراب من بلاتونوف نفسه؛ إذ لا توجد طريقة أعمق لمعرفة الكاتب أكثر من الغوص في كلماته، والاستماع الدقيق لموسيقاه الداخلية، وهو ما يفرضه عمل المترجم.
أحد أبرز تجليات بلاتونوف الذاتية تبرز في قصته "وطن الكهرباء" (1939)، التي تعكس جانبًا من حياته التي عاشها في تلك الفترة الصعبة. في عام 1921، وفي أعقاب كارثة الجفاف والمجاعة الكبرى، قرر بلاتونوف أن يترك الأدب مؤقتًا، ليغمر نفسه في مجال آخر. أصبح متخصصًا في استصلاح الأراضي. وبين عامي 1923 و1924، ورغم الفوضى وندرة الموارد، استطاع بلاتونوف بناء محطتين صغيرتين للطاقة الكهرومائية وأخرى تعمل على الفحم، كما تولى مسؤولية استصلاح مساحات شاسعة من الأراضي وبناء عشرات الآبار.
تجسد "وطن الكهرباء" تلك التجارب الحياتية، إذ ترى ملامح شخصيته موزعة بين شخصيتين رئيسيتين في القصة: زاريونوف، رئيس السوفييت في القرية الذي يتحدث بنغمة ملتهبة شعرية، والمهندس الواقعي الذي يروي القصة بحكمة ورؤية عملية.
القصة تنبض بالحياة، وتنقل أجواء الريف الروسي في زمن مليء بالأمل الكبير واليأس العظيم. يميز العمل روح الفكاهة التي تتخلله، لكن الأهم هو التعاطف العميق الذي يظهره بلاتونوف تجاه شخصياته: زاريونوف، المرأة العجوز التي تصلي من أجل المطر رغم أنها لم تعد تؤمن بإله، وسكان القرية الفقراء الذين يعيشون في فقر مدقع. والأكثر تأثيرًا هو تعاطف بلاتونوف تجاه شبابه، إذ يختم القصة بجملة تحمل الكثير من الشجن: "نزلت العجوز من بين ذراعي بجوار إحدى الأكواخ. ودعتها، قبلتها على وجهها، وقررت أن أكرس حياتي لها، لأن في الشباب دائمًا ما يبدو أن الحياة وافرة، وأنها ستكون كافية لمساعدة كل عجوز."
لطالما قيل إن أعمال بلاتونوف عصية على الترجمة. ولكنني أؤمن أن عبقريته تتجاوز حاجز اللغة، وأن تأثيره العميق يصل حتى إلى القارئ بعد قراءة بعض من جمله المترجمة.
من بين أعماله التي تظل محفورة في الذاكرة، هناك قصة "تاكير" (1934)، التي تجري أحداثها في تركمانستان السوفيتية، والتي قرأت مقتطفات منها في مناسبات عديدة، تاركة أثرًا عميقًا في نفوس الحاضرين:
جلست زارين-تادج على أحد جذور شجرة الطائرة، متأملة في تلك الشجرة العتيقة التي حملت في جسدها ما لا يُحتمل. لاحظت الحجارة المتناثرة وقد اندمجت في جذع الشجرة، صاعدة ببطء مع نسيجها. في لحظة من لحظات الفيضان الربيعي، لا بد أن النهر العاتي قد جرف هذه الصخور من أعالي الجبال وقذف بها في قلب الشجرة، لكن الشجرة لم ترفض ما ألقاه القدر في طريقها. احتضنت الحجارة ببطء وصبر، وأحاطتها بلحاء متين، حتى أصبحت جزءًا من كيانها. لم تحاول طرد ما قد يبدو غريبًا ومؤلمًا، بل تكيفت مع ذلك العبء الثقيل، واستمرت في النمو، رافعة بصمت وهدوء تلك الصخور التي كان من المفترض أن تسحقها.
يبدو لي أن هذا المشهد يجسد شخصية بلاتونوف نفسه، حتى وإن لم يكن قد قصد ذلك عن وعي. فكما امتصت شجرة الطائرة الحجارة وتكيفت معها، استطاع بلاتونوف أن يستوعب كل ما ألقي عليه من محن وتجارب قاسية، واستمر في "النمو" رغم كل شيء.
أتساءل كيف كان سيرد بلاتونوف على الحرب الحالية؟ أتخيل أنه كان سيرد بسخرية لاذعة، مثل تلك التي نقرأها في قصته "بدون أذرع": "ابن وُلِد بلا أذرع في قرية من الطيبين، لكن الحرب التي كان يقاتل فيها والده لم تكن قد انتهت بعد. ففي تلك الأيام، كانت الحروب تستمر لسنوات طويلة". إنها جملة تفيض بالسخرية المريرة التي تعكس عبثية الحروب وتكرارها اللانهائي.
ثم أعود بذاكرتي إلى قصته للأطفال، "فتاتان"، التي يختزل فيها بلاتونوف حكاية بسيطة تحمل بين طياتها رمزية عميقة. فتات خبز وفتات بارود، عالقان في لحية صياد، يتجادلان حول أيهما الأقوى. في النهاية، يفوز فتات الخبز، لأنه يغذي الإنسان ويصبح جزءًا منه، بينما يتفجر فتات البارود داخل عصفور صغير بائس، ليكون في النهاية طعامًا لكلب الصياد. هذه القصة البسيطة، التي تحمل رسالة واضحة ضد العنف والدمار، كانت آخر ما نشره بلاتونوف في حياته.
بعد نشرها في صحيفة الأطفال "برافدا بايونير" في يناير 1948، تعرضت القصة لانتقادات لاذعة من صحيفة "برافدا"، التي اعتبرت مضمونها "مسالمًا بشكل مفرط" وغير مناسب للأجواء السياسية في ذلك الوقت.
مترجم من مجلة prospectmagazine للمترجم Robert Chandler