تحت سماء التوقعات ،
أولئك الذين انتظروا البرق والرعد،
وجدوا أنفسهم غارقين في خيبة الأمل
في حين أن الذين أملوا في علامات وبوق الملائكة
لا يزالون يرفضون تصديق أن اللحظة قد حانت بالفعل.
ـــ تشيسلاف ميلوش "أغنية عن نهاية العالم"
الاستماع إلى نبضات عصرنا تكشف لنا عن شعور عميق بالانحدار الذي يغمر الحياة العامة في الدول الغربية. هناك إحساس واسع الانتشار بأننا، كمجتمع عالمي، نقف على حافة الهاوية. التخوف من كارثة مناخية، و الهوس بالحروب، و الاضطرابات الاقتصادية، و الاستقطاب الاجتماعي، و الأزمات النفسية، وانتشار الإدمان كلها تشكل لوحة قاتمة من المشاعر الجماعية، مؤلفة سيمفونية من الكآبة والانهيار.
وسائل الإعلام الكبرى تسهم في تعميق هذا الشعور، تضخمه وتقدم هذه المخاطر وكأنها مجرد فضائح جديدة لنجوم هوليوود. ورغم هذا الشعور العميق بالأزمة، لا يزال هناك إيمان بأن هذا الجزء من العالم هو النموذج الذي يجب أن يحتذي به الجميع، حتى ونحن نقترب من حافة الخطر.
لكن هل هذا التناقض مجرد وهم بصري أم أنه يخفي شيئًا أعمق؟ ربما يشير هذا الشعور بالانحدار إلى شيء أعمق مما يبدو على السطح. قد يكون هذا الإحساس بالغموض والضياع مجرد تغطية لحقيقة أخرى أكثر خفاءً، حقيقة يصعب الوصول إليها دون مواجهة خطر الانهيار الكامل. الشعور بعدم الاكتمال ليس نابعًا فقط من تصور أن "العالم" ينهار، بل ربما ينبع من تجربة عميقة لهذا العالم نفسه، تجربة تتجاوز حدود ما نعتبره "العالم". وكما هو الحال مع بطل فيلم "ترومان شو"، يبدو أننا تجاوزنا حدود العالم الذي عرفناه وبدأنا نشعر بشيء غريب يتحرك ببطء تحت السطح، يشير إلى أن هذا الكون الصغير الذي عشنا فيه ليس سوى جزء ضئيل من الصورة الكاملة.
ثورات مضادة وسط غفلة الجميع
الحقيقة الصادمة هي أننا كمجتمع مررنا بتغيرات عميقة دون أن نلحظها، وهذه التغيرات أعادت تشكيل فهمنا للعالم بشكل جذري. في الواقع، يمكن وصف هذه التحولات بأنها "ثورات مضادة". بدلاً من جلب روح التغيير والانفتاح على آفاق جديدة، كما قد تتوقع من الثورات، أخذت هذه التحولات مسارًا معاكسًا. رغم أن المدافعين عن هذه التحولات غالبًا ما استخدموا لغة ثورية وتصورات تقدمية، إلا أن النتيجة كانت تعزيز نظام هرمي مغلق، حيث تُمنح الامتيازات والحقوق لقلة مختارة.
أول هذه الثورات المضادة كان تحول الرأسمالية في الغرب. وقد كتب الكاتب الإيطالي بيير باولو بازوليني عن هذا التحول قبل الآخرين قائلاً: "الرأسمالية اليوم تخوض ثورة داخلية كبرى، تتحول بشكل ثوري إلى رأسمالية جديدة”. بخلاف ما كنت أعتقده سابقًا، أستطيع القول إن الرأسمالية الجديدة تنافس القوى التي تتجه نحو اليسار، بل إنها، بطريقة ما، تتحرك نحو اليسار نفسها. والغريب في الأمر، أنها تحتضن كل ما يتحرك نحو اليسار أمامها. في مواجهة هذه الرأسمالية الجديدة، التقدمية والوحدوية، ظهر شعور غير مسبوق بـ‘وحدة’ العالم".
التحول الذي نتحدث عنه يتمثل في إزالة الحدود أمام تراكم رأس المال، وهو انتقال شهد إطلاق طاقة اجتماعية ضخمة تبدو وكأنها عملية تحرر شاملة. يمكن تشبيه هذا التحول بمن يسحب الكرسي من تحته، ولكنه أثناء سقوطه يقتنع بأنه تعلم الطيران. إذا تأملنا في تغييرات "روح الرأسمالية الجديدة"، سنجد أن هذا الوصف ليس بعيدًا عن الواقع. في هذا السياق، نجد أن الحركات الطلابية مثل أحداث مايو 1968 والثقافات المضادة التي ظهرت، ورغم طابعها المتقدم، كانت تحمل في طياتها تناقضات عميقة. فبدلًا من أن تقدم بدائل ثقافية فعالة، ربما ساهمت هذه الحركات في إضعاف البدائل الاقتصادية والسياسية الحقيقية. الصراعات الثقافية والهوياتية التي نراها اليوم تدور في فراغ اجتماعي نشأ منذ تلك الفترة، مما يجعل حتى أكثر التحالفات تناقضًا ممكنة. لدرجة أن الاستخبارات المركزية وشركات الأسلحة تبرر وجودها الآن بالدفاع عن الشمولية وحقوق الأقليات.
التحول الثاني الذي حدث بينما كنا غافلين هو الثورة الإدارية. ظهرت طبقة جديدة في ظل النيوليبرالية، وهي الطبقة المهنية الإدارية الجديدة لشركات (PMC)، التي أصبحت الآن العمود الفقري للرأسمالية. هذه الطبقة تمكنت من القضاء على أي احتمالات لإصلاح النظام أو تغييره. كما توضح كاثرين ليو، تعمل هذه الطبقة كوكيل للطبقة الحاكمة الجديدة التي تسيطر على الفضائل العلمانية. عند مواجهة أي أزمة تسببت فيها الرأسمالية، تقوم هذه الطبقة بتوجيه الصراعات السياسية نحو سلوكيات فردية، مثل "رد الجميل" الشخصي، وتحول الأزمات إلى لحظات أخلاقية فردية بدلاً من التغيير السياسي الفعلي. (…) وحتى إن كانت سياساتها تقتصر على التظاهر بالفضيلة، فإن الهلع الأخلاقي يصبح وسيلة لحث أعضائها على المزيد من اليقظة السياسية الزائفة.
في هذا النظام المصمم خصيصًا لطبقة PMC، تصبح الديمقراطية أداة لتحقيق مصالح المدراء، والثقافة ما يتناسب مع أذواقهم، والسياسة ميدانًا لتحقيق طموحاتهم. أما الأخلاق، فهي الساحة التي يثبتون فيها تميزهم. هذا التحول ليس مجرد سيطرة بسيطة على المجتمع، بل هو نتاج لحركات معقدة تشمل تدفق رأس المال، وتغير المؤسسات الحكومية، وثورة في السلوكيات، لينتج نظامًا موحدًا يحتكر القيم الاجتماعية الأساسية ويضمن استمرارها.
علامات الانتقال من الديمقراطية إلى الأوليغارشية تظهر بوضوح، لكن المهم هو أن هذا التحول يحدث بموافقة المجتمع، لأنه يعبر عن تطلعات مصطنعة تم تحقيقها. بهذا المعنى، فإن هذه الثورة المضادة ديمقراطية، لأنها جاءت برغبة الناس، حيث سلموا مصيرهم طواعية لطبقة مختارة تعتبر التواصل مع العامة عبئًا بدلًا من فخر. يبدو وكأننا نسير أثناء نومنا، نتابع الاتجاهات التي تحددها لنا تلك الطبقة.
نشهد الآن ثورة مضادة ثالثة تأتي كنتيجة طبيعية لسابقاتها. بما أن الديمقراطية تعني اليوم ما تريده أقلية من الطبقة الإدارية، والشعبوية تمثل ما كانت الديمقراطية تعنيه في الماضي، فلا غرابة في أن نعيش هذا التحول دون وعي. يمكن وصف هذا الانتقال بأنه من الرأسمالية إلى الإقطاعية التكنولوجية، كما يرى يانيس فاروفاكيس، أو يمكن فهمه على أنه ميلاد جديد لنوع من الفاشية الحديثة، كما توقع بازوليني في السبعينيات. في كلتا الحالتين، هذا التحول يؤكد نهاية وجود البدائل، ليصبح النظام مسيطرًا ومنظمًا بشكل لا يسمح بتحديه، مشبهًا بعض رؤى الخيال العلمي الديستوبي.
بالنسبة للعامة، لم تكن هذه التحولات واضحة، وغابت عن وعي المعلقين الذين تم تسخيرهم لدعم التغييرات بدلًا من نقدها. لذا، ليس مفاجئًا أن ثورة المحافظين الجدد، التي تكمل هذه التحولات، مرت دون أن يلاحظها أحد، رغم أنها الآن تسيطر على الساحة السياسية الغربية بأكملها. هذه الثورة تعمل على تجميد الخطاب السياسي وتحويله إلى روايات خيالية مثل "حرب النجوم" أو "سيد الخواتم"، لتشويه أي بدائل محتملة. حتى إن كانت هذه البدائل تقدم تعديلات بسيطة على النموذج القائم، فإنه يتم تصويرها كأنها تجسيد للشر المطلق وتهديد وجودي للعالم.
هذا الخطاب يهدف أساسًا إلى الحفاظ على رؤية فرانسيس فوكوياما بشأن نهاية التاريخ بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. هذه الرؤية، التي تبدو وكأنها توقف لصراع القوى الكبرى، كانت في جوهرها تعبيرًا عن نوع من الميسيانية المجنونة التي ادعت أن العالم قد وصل إلى نهاية الصراع. في هذا السياق، تم تصوير الدولة الأمريكية على أنها التجسيد النهائي لهذا النظام العالمي، مما يوضح أن هذا العالم الافتراضي الذي يُفترض أنه كان يجب على الجميع أن يتكيف معه ليس سوى واجهة زائفة تديرها نخبة إدارية ومالكون جشعون.
المشاعر المتزايدة المرتبطة بفكرة "الألفية الجديدة" التي نراها اليوم لا تشير فقط إلى التهديدات التي تواجه استمرار الحياة على الأرض، بل تعكس أيضًا الصعوبات التي يواجهها النظام الحالي في الحفاظ على وجوده كما كان بعد الثورات المضادة. ما يحدث الآن ليس مجرد اضطراب مؤقت في مسار التقدم، بل يبدو وكأنه صدمة قوية قد تكون مقدمة لتحول عميق في النظام. ورغم أننا لا نزال غير قادرين على تصور هذا التحول بشكل كامل، إلا أننا بدأنا نشعر بتأثيراته.
نحن نعيش في ظل نظام مبني على فكرة "لا بديل"، وهو الآن يبدو وكأنه يواجه جدارًا صلبًا دون أن يبطئ من حركته. هذا النظام، الذي يفتقر إلى بدائل أيديولوجية واضحة، يعاني في إيجاد حلول سياسية، اقتصادية، أو اجتماعية. بالتالي، يحاول النظام التعامل مع مشكلاته باستخدام نفس الأدوات التي أنتجتها، مما يزيد من تعقيد الأمور بدلاً من حلها. وفي النهاية، يتم إلقاء اللوم على أطراف خارجية كما لو كانت هي المسؤولة. أردت عالماً بلا بدائل؟ ها هو بين يديك!
حتى كارثة المناخ، رغم أنها تمثل تهديدًا حقيقيًا، إلا أنها تُستغل بطريقة تتماشى مع المنظومة الحالية، كما حدث سابقًا مع أزمة اللاجئين. المشكلة ليست في المناخ نفسه أو اللاجئين، بل في النظام الرأسمالي الذي يفاقم أزمات البيئة والهجرة. ومع ذلك، فإن المؤسسات التي تحاول مكافحة هذه الأزمات لا تجرؤ على مواجهة الجذور الحقيقية للمشكلة، وهي الهيمنة الأمريكية المسلحة، لأنها تعتمد بشكل كبير على هذا النظام للحفاظ على مكانتها العالمية.
هذه الرؤية تشير إلى أن الشعور بالخطر الذي يولده التيار الرئيسي في النقاشات العامة يهدف إلى تقييد الخيال الجماعي. فالخيال بشأن نهاية العالم يبدو أسهل من تخيل إصلاح جذري للنظام القائم. وهكذا، تصبح المشاعر الأبوكاليبسية (الخوف من نهاية العالم) وسيلة جديدة تستخدمها السلطة لترسيخ سيطرتها.
إضفاء الشرعية على الهيمنة
نتيجة لسلسلة من الثورات المضادة التي تمت دون وعي جماعي واضح، ظهر نظام عالمي موحد نجح في إخفاء الآليات الحقيقية التي تحرك السياسة. كان الهدف الرئيسي لمهندسي هذا النظام هو إنشاء سلسلة من الحواجز التي تمنع أي تغيير حقيقي. لم تكن القوة العسكرية وحدها كافية لتحقيق هذا الهدف، بل اعتمد النظام على مجموعة من العادات الفكرية والعاطفية والاجتماعية التي تمكنت من طمس أي إمكانية لظهور بدائل حقيقية، مثلما يقوم المخدر بتخدير الألم لدى المريض. في هذا العالم، لا يوجد حتى مكان مخصص للثورات الحقيقية، رغم وجود دعوات كثيرة للتغيير والمراجعات الجذرية والتحولات العميقة.
بالإضافة إلى ذلك، يمتلك هذا النظام بُعدًا قانونيًا يظهر في المؤسسات التي تم إنشاؤها لتعكس معتقدات وتوقعات ما يُسمى بـ"العالم المتحضر"، أو "العالم" اختصارًا. فالمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY) كانت واحدة من هذه المؤسسات، حيث تأسست بعد انتهاء الحرب اليوغوسلافية كمحكمة دولية لمحاكمة المتهمين بجرائم الحرب. رغم ادعائها بأنها تمثل انتصارًا للعدالة والقانون، إلا أن العديد من المراقبين لاحظوا أنها كانت تعبيرًا عن تحيزات سياسية وانتهاكًا لمبادئ القانون الدولي، كما تنص عليها ميثاق الأمم المتحدة.
على الرغم من أن المحكمة استندت إلى مبدأ "المساواة السيادية بين جميع الدول"، فإنها أثارت تساؤلات حول طبيعة العدالة التي تطبقها. عندما لم تتم محاكمة من قصفوا يوغوسلافيا بشكل غير قانوني عام 1999، أصبح من الواضح أن المحكمة كانت مفوضة لتوجيه الاتهامات إلى الضحايا فقط، وليس إلى المعتدين. كانت المحكمة بمثابة "حرب بوسائل أخرى"، حيث تم استخدام القانون الدولي كأداة لتحقيق أجندات القوى الكبرى.
محاكمة سلوبودان ميلوسيفيتش، المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وإبادة جماعية، كانت الحدث الأبرز في تاريخ المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة. لكن كما يوضح جون لافلاند، كانت تلك المحاكمة في جوهرها مسرحية زائفة. فقد تصرف الجميع منذ البداية وكأن ميلوسيفيتش قد أُدين بالفعل، وتم تحميله مسؤولية كل الفظائع التي شهدتها حرب البلقان، رغم أن العديد من شهود الادعاء كانوا غير موثوقين، وبعضهم اعترف بتعرضه لضغوط وابتزاز من قبل المدعين. كما أن ميلوسيفيتش لم يُمنح الحق الكامل للدفاع عن نفسه، إذ أُجبر على توكيل محامٍ عام، واستمرت المحاكمة حتى في غيابه. ورغم هذه العيوب، تبقى المشكلة الأساسية في أن المحكمة نفسها كانت تفتقر إلى الأسس القانونية الصحيحة منذ البداية. ورغم التأييد الواسع الذي حظيت به، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنها كانت شرعية.
أظهر لافلاند أن تأسيس المحكمة كان بمثابة خطوة لتحدي المبادئ الأساسية للقانون الدولي، خاصة سيادة الدول. فقد تم إنشاء كيان يتجاوز النظام القانوني المحلي، مانحًا للمحكمة صلاحيات تتيح لها محاكمة القادة الدوليين بغض النظر عن القوانين المحلية في دولهم. وهكذا، اٌستبدل النظام "الأفقي" للقانون الدولي، المبني على الاتفاقيات المتبادلة بين الدول، بنظام "عمودي" إجباري. وبما أن المحكمة تم إنشاؤها بقرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإن ذلك يعني أن مجموعة قليلة من الدول باتت قادرة على إنشاء هيئة قضائية لمحاكمة القادة دون الحاجة إلى موافقة الدول المعنية.
وعلى الرغم من أن مؤسسي المحكمة غالبًا ما يشيرون إلى محاكمات نورمبرغ كنموذج لأعمالهم، فإنهم في الواقع انقلبوا على المبادئ التي قامت عليها تلك المحاكمات. فعلى سبيل المثال، كانت اتفاقية منع الإبادة الجماعية تطالب بأن تتم المحاكمات أمام السلطات الوطنية، كما حدث في محاكمات النازيين في ألمانيا. لكن في حالة المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، تم منح الصلاحيات لمحكمة دولية مدعومة من دول الناتو، مما جعلها تبدو وكأنها محكمة عسكرية على يوغوسلافيا المهزومة في حرب غير قانونية. إضافة إلى ذلك، فإن وسيط المؤسسات الوطنية كان ضروريًا لأن المحكمة يفترض أن تستند إلى العقد الاجتماعي وتكون خاضعة لسيطرة ديمقراطية ولو بشكل شكلي. ولكن في هذه الحالة، لم يتحقق ذلك.
في النهاية، تحولت المحكمة الدولية التي كان من المتوقع أن تحقق العدالة بعد النازية إلى أداة لتعزيز هيمنة الدول الغربية، وخاصة حلف الناتو، على السيادة القانونية العالمية. وتجاهلت المحكمة تورط دول مثل ألمانيا والولايات المتحدة في تفكيك يوغوسلافيا، وبدلاً من ذلك ركزت على خلق صورة جديدة لعدو يشبه هتلر. ويزداد هذا المشهد إحراجًا عندما نلاحظ عدم قدرة المحكمة على إثبات التهم الموجهة إلى ميلوسيفيتش، مما جعل جلسات الاستماع الطويلة تدعم روايته القائلة بأن المحاكمة كانت سياسية بامتياز.
كيف يدير "العالم" شؤونه
تأسيس المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، وكذلك المحكمة الجنائية الدولية في عام 2002، كان بمثابة "آخر وعد بالعالمية" قدمته حضارتنا المتدهورة، وفقًا للناقد المخضرم خوان برانكو. ولكن تلك العالمية كانت انتقائية ومنحازة، كما أظهرت أعمال هذه المؤسسات. فهي لم تمثل مجتمعًا دوليًا حقيقيًا، بل عكست إرادة أقوى الفاعلين الدوليين الذين استخدموا هذه المؤسسات لإقامة نظم تخدم مصالحهم.
تتجلى هذه الهيمنة في مفهوم "العالم" الذي نستخدمه دون وعي عند الإشارة إلى عزل أو إدانة شخص ما. هذا "العالم المتحضر" هو الغرب الذي يمارس سيطرة مطلقة على بقية العالم. لاحظ بيتر هاندكه هذا الأمر أثناء متابعته لمحاكمة ميلوسيفيتش عن قرب. وقد تعرض هاندكه لهجوم من وسائل الإعلام بسبب دعمه للمتهم، ولكنه أكد أن معظم الاتهامات التي وُجهت إليه لا أساس لها من الصحة.
من خلال دراسة أنشطة المحكمة، توصل هاندكه إلى أن هذه المؤسسة تحاكم المتهمين باسم "العالم"، حيث يتولى من أسسوا هذا العالم دور المدعيين والقضاة في الوقت نفسه. وبذلك، يصبح موظفو المحكمة أطرافًا في النزاع، مدعومين من قبل "المجتمع الدولي" المتمثل في الاتحاد الأوروبي، الناتو، والولايات المتحدة، ويستحيل أن يستخدموا سلطاتهم ضد هذا المجتمع، بل فقط ضد بقية العالم الذين أصبحوا بلا صوت تقريبًا. بهذا الشكل، نحن أمام "عالم مقلوب" يتحكم فيه من يملك القوة.
في هذا "العالم" الذي تم تشكيله بهذه الطريقة، لم يعد السؤال عن حقيقة ما جرى في يوغوسلافيا أو توزيع المسؤولية بين الأطراف المختلفة ذا أهمية. الأهم هو الصورة التي يريد "العالم" عرضها على نفسه وإعادة تشكيل الواقع بناءً عليها. ومن يرفض هذه الصورة يتعرض للتهمة بناءً على نفس تلك الصورة. هذا النظام يشكل دائرة مغلقة، حيث يصبح القاضي في الوقت نفسه هو المتهم والشرطي، والشهود يتحولون إلى المدعيين، والصحفيون يتقمصون دور القضاة، والمتهم يكون مدانًا مسبقًا. القانون يتحول إلى مجرد عبثية، والمحاكمات تصبح عدالة زائفة.
هاندكه، الذي درس القانون في شبابه، يبرز السمات المؤسسية الفريدة للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، التي لم تعد مجرد محكمة جنائية، بل أصبحت مسرحًا لـ "العالم" تُدار فيه السلطة الديمقراطية باسم من يعتبرون أنفسهم ممثليها. هذه السلطة الذاتية لهم لا تخضع للمساءلة أو النقد. المنتصرون يكتبون التاريخ ويشكلون "العالم" وفقًا لصورتهم الخاصة.
المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، وكذلك المحكمة الجنائية الدولية، تتمتعان بصفة "شبه العالمية"، حيث تلغي سيادة الدول تحت ذريعة تمثيل البشرية. لكنهما تتجنبان محاكمة الدول الكبرى التي قد تكون مسؤولة عن زعزعة الاستقرار وخلق ظروف تؤدي إلى جرائم حرب في دول فاشلة سياسيًا. خوان برانكو يجادل بأن هذا يخلق حالة من الفوضى تشبه "حالة الطبيعة" وفقًا لنظرة هوبز، حيث تذوب السلطات المحلية وتنشأ حالة من العنف والفوضى المستمرة، كما هو الحال في الكونغو.
في هذا السيناريو الهوبزي، تصبح السياسة شيئًا من الماضي، ويفسح المجال لصراع دائم من أجل البقاء في ظل الفوضى المتزايدة. الدول التي تعاني من هذه الحالة ليست فقيرة أو تفتقر إلى الموارد، بل على العكس، فهي غنية بالإمكانات، مما يجعلها أهدافًا لتجار الأسلحة والكارتلات الدولية والشركات الكبرى والمتمردين المدعومين من القوى الدولية. هذه الأزمات الدائمة، التي تبدو وكأنها استثناءات، هي في الواقع القاعدة. المحاكم الدولية التي كان من المفترض أن تنظم هذه الأوضاع تعززها من خلال انتقائيتها، مما يؤدي إلى دعم الفوضى التي تستفيد منها القوى الكبرى والجماعات الإجرامية.
برانكو يرى أن المحكمة الجنائية الدولية، بدلاً من أن تسعى لتحقيق العدالة، أصبحت وسيلة لتبرير التفوق الأخلاقي للمنتصرين بعد الصراع. وهذا ما ظهر جليًا في الحرب في يوغوسلافيا ومحاكمة ميلوسيفيتش، حيث قامت المحكمة بتبرير قصف الناتو ليوغوسلافيا من خلال تسليط الضوء على جرائم ميلوسيفيتش. يطرح برانكو تساؤلاً جوهرياً: "ما هو الحق الذي نملكه لمحاكمة مقاتلي العالم المتروك للحداثة، الذين لم يكن بإمكانهم أن يصبحوا مقاتلين لولا تمويلهم وتسليحهم من قبل قوى خارجية ومتعددة الجنسيات؟" وبالفعل، فإن الدول التي تدعم المحكمة الجنائية الدولية مالياً تستفيد من العدالة الانتقائية لهذه المحاكم، مما يكشف أن هذه المؤسسات لا تمثل عالمية حقيقية بل تعمل كغطاء لمصالح الأقوياء.
في ظل السياسات العالمية، يبرز "قانون حماية أفراد الخدمة الأمريكية" الذي أقرته الولايات المتحدة عام 2002، والمعروف أيضًا بـ "قانون غزو لاهاي"، كدليل على مدى السلطة التي يمكن أن تتبناها هذه السياسات. ينص القانون بشكل صريح على استخدام القوة العسكرية لتحرير أي أمريكي أو مواطن من دولة حليفة يحتجز من قبل المحكمة الدولية في لاهاي. بمعنى آخر، تضمن الولايات المتحدة الحماية التامة لمواطنيها، سواء ارتكبوا جرائم حرب في أفغانستان أو العراق، أو شاركوا بشكل منظم في هذه المهام.
في الوقت الراهن، مع ارتكاب إسرائيل لجرائم إبادة جماعية في غزة، يعيش "العالم" صدمة بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في جرائم حرب ضد الإسرائيليين. جاء الرد سريعًا من أكثر من عشرة أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي الذين هددوا المدعي العام كريم خان وعائلته بعقوبات. كما ذكرت صحيفة "الغارديان"، قامت المخابرات الإسرائيلية بالضغط والتهديد ضد مكاتب المحكمة على مدى تسع سنوات. وفي مقابلة حديثة، أشار خان إلى أن سياسيًا أمريكيًا أخبره أن المحكمة الجنائية الدولية أُنشئت في الأساس لأجل إفريقيا ولأشخاص مثل بوتين.
وعندما أصدرت المحكمة مذكرة اعتقال بحق بنيامين نتنياهو وآخرين، تجاهلت الإدارة الأمريكية القانون الدولي ورفضت الاعتراف بقرار المحكمة. وأعلن مايك جونسون، رئيس مجلس النواب الأمريكي، أن الولايات المتحدة لن تضع أي هيئة دولية فوق سيادتها. من المثير للسخرية أنه قبل عام واحد فقط، أشاد جو بايدن بإصدار المحكمة مذكرة اعتقال بحق فلاديمير بوتين، وهو ما ترفضه إدارته الآن. مرة أخرى، يظهر أن الأداة المعطوبة بالسنبة لهم هي التي تكشف عن أداء طبيعتها الكاملة.
تحت أفق النهاية الوشيكة
في محاولة لتوقع أبعاد الكارثة المناخية، لجأ بعض الباحثين إلى استقراء الماضي والتجارب التاريخية المماثلة. يرى إدواردو فيفييروس دي كاسترو وديبورا دانوسكي أن فهم فكرة "نهاية العالم" يتطلب منا العودة إلى تجربة الشعوب الأصلية في الأمريكتين خلال الاستعمار. فقد واجه السكان الأصليون، الذين كانوا أكثر عددًا من الأوروبيين، فقدانًا هائلًا بسبب الفيروسات، مثل الجدري، والأسلحة، والقوانين الدينية مثل المعاهدات والمراسيم البابوية، وصولًا إلى الكتاب المقدس. ووفقًا للتقديرات، فإن ما يصل إلى 95% من سكان القارة فقدوا حياتهم خلال قرن ونصف من الغزو. وبهذا، بدأت الحضارة الغربية واستفادت من استغلال الشعوب الأصلية.
تشير العديد من الدلائل إلى أن الصدمة الثقافية والاجتماعية التي رافقت الاستعمار قد تكون على وشك أن يعيشها المركز المهيمن في النظام العالمي الحالي. فالأزمات المتعددة ستجبر الحكومات على استخدام وسائل قمعية أكثر ضد المجتمعات الفقيرة، إضافة إلى العصيان المتزايد من دول ما يسمى بـ "باقي العالم" ضد الغرب. لم يقتصر هذا العصيان على روسيا والصين وإيران فحسب، بل شمل أيضًا دولًا في غرب إفريقيا وجنوب آسيا. باتت نهاية "العالم" الذي نظم فيه الأوليغارشيون الغربيون أنفسهم بارتياح تلوح في الأفق.
قرارات المحكمة الجنائية الدولية الأخيرة بشأن إسرائيل تبرز هذا التحول بوضوح، حتى وإن اعتبرها البعض مجرد خطوة عقابية لا تغير من السياسة العامة للمحكمة. كما أشار علي أبو نعمة في "الانتفاضة الإلكترونية"، فإن إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين وحماس في الوقت نفسه يمثل لحظة تاريخية، رغم التفاوت في حجم المعاناة التي تسببت فيها الجهتان. ومع ذلك، من المتوقع أن يتم توجيه اتهامات ضد عدد أكبر من نشطاء حماس مقارنة بالسياسيين الإسرائيليين. علاوة على ذلك، القادة الإسرائيليون المستهدفون لم يعودوا مفضلين لدى الإدارة الأمريكية، التي تسعى إلى خلق توازن بين الأطراف المتورطة في النزاع لمحو أي أثر لتواطئها في الإبادة الجماعية.
جدير بالذكر أن المحكمة الجنائية الدولية لم توجه تهمة الإبادة الجماعية ضد القادة الإسرائيليين، وإنما اكتفت باتهامهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، مما يعكس نوعًا من التوازن غير المبرر مع قادة حماس. وقد تم التركيز على عمليات الاغتصاب التي نُسبت إلى حماس في 7 أكتوبر، بينما تم تجاهل مزاعم تعذيب الأسرى الفلسطينيين، ما يشير إلى تأثرها بتقارير مضللة تمت دحضها مراراً. كما لم يتم الاعتراف بعدم شرعية المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، مما يفتح الباب أمام مزاعم أن الصراع قد بدأ بالكاد العام الماضي.
رغم التحفظات الكبيرة على هذه القرارات، يدرك علي أبو نعمة أن محاكمة ممثلي "العالم" تمثل لحظة فارقة في التاريخ. فلا عجب أن يعبر جو بايدن فورًا عن استيائه من هذا التوازن "الزائف". الحقيقة هي أن أي توازن بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وأي مساواة واقعية بين الطرفين، سيكون أمرًا فاضحًا بالنسبة له. فهو يعد من أبرز ممثلي الغطرسة الغربية التي تطبق بصرامة عالمية، حيث أن ما نفعله "نحن" في وضح النهار يجب أن تقضي "أنتم" عقوبة طويلة بسببه بمجرد التفكير فيه.
ربما ينبع الحزن الجماعي من الشعور بأن هذا "العالم" غير المتكافئ، الذي تعودنا عليه، يقترب من نهايته. وأنه مع ازدياد رغبة "باقي العالم" في إعادة تنظيم النظام العالمي، قد يكون الحفاظ على القواعد القائمة ممكنًا فقط بثمن حرب عالمية ثالثة ونهاية نووية، ناهيك عن تكاليف السباق الجديد للتسلح. ومهما حاول السياسيون والمعلقون تأكيد تمسكهم بالديمقراطية والعدالة، فإن أي شخص خارج دوائرهم لم يعد يؤمن بذلك. ويقودنا هذا الوضع إلى خيار وحيد، وهو قبول نهاية هذا "العالم" بكل ما يترتب عليه. وكما يقول المثل البولندي الشهير: "لن يكون هناك نهاية أخرى للعالم". يبقى لنا إلى حد ما أن نقرر ما إذا كانت النهاية الوحيدة المتاحة هي نهاية "العالم".
مترجم من thephilosophicalsalon بقلم PAWEŁ MOŚCICKI