براهين الفلاسفة على وجود الله: دراسة بين أرسطو، و ابن سينا، و الأكويني
رغم نقد ابن سينا الحاد، تمسّك الأكويني بالبرهان الفلكي الأرسطي.
ملخص
إن هذا البحث يتناول بالدراسة والتحليل ثلاثة براهين كبرى في الفلسفة واللاهوت على وجود الله، وهي: البرهان الكوني لأرسطو، والبرهان الميتافيزيقي لابن سينا، والبراهين الخمسة لتوما الأكويني. ومن خلال هذه المقارنة، يتبين أن الفلاسفة وعلماء اللاهوت لا يختلفون في مناهجهم لإثبات وجود الله لمجرد تباين مبادئهم المعرفية، بل لأن كلًّا منهم يقيم بناءً ميتافيزيقيًا مختلفًا، يجعل من الله كائنًا أسمى يؤدي أدوارًا متباينة، ويتم تصوره بطرق متمايزة. وليس إثبات وجود الله، في سياق هذه البراهين، إلا مسألة تتجاوز الفلسفة إلى اللاهوت، إذ إن الأكويني، رغم انتقاده الحاد لابن سينا، يعود إلى البرهان الكوني الأرسطي، لكنه يتجاوزه، فيرى في الله ليس فقط المحرك الأول، بل الخالق ذاته. وهكذا، يبدو موضوع وجود الله حلقة تصل بين الفلسفة واللاهوت، وتعكس تداخل الفكر الأرسطي، كما فهمه الفلاسفة العرب، باللاهوت اللاتيني في العصور الوسطى.
مقدمة
إن هذا البحث يتناول بالدراسة والتحليل البراهين الثلاثة الكبرى على وجود الله، التي قدمها كلٌّ من أرسطو، وابن سينا، وتوما الأكويني. والغاية من ذلك ليست مجرد إعادة بناء هذه الحجج، بل الكشف عن أن مسألة إثبات وجود الله ليست محض قضية فلسفية، بل هي في جوهرها قضية فلسفية ولاهوتية معًا. وسأجادل بأن الفلاسفة وعلماء اللاهوت، إذ يسعون إلى البرهنة على وجود الله، لا يفعلون ذلك لمجرد اختلافهم في المبادئ المعرفية، بل لأنهم ينطلقون من أطر ميتافيزيقية مختلفة، تحدد لكل منهم تصورًا خاصًا لله، ودورًا متمايزًا له في نظام الوجود. وليس هذا فحسب، بل إن إثبات وجود الله في حد ذاته يحمل أهمية لاهوتية، إذ إن الأكويني، بصفته لاهوتيًا، يبتعد عن البرهان الميتافيزيقي لابن سينا ليعود إلى البرهان الكوني لأرسطو، مدفوعًا في ذلك بأسباب ذات طابع لاهوتي.
وسأبدأ باستعراض البرهان الكوني لأرسطو، مبينًا كيف أنه يقوم على الانتقال من حركة الأجرام السماوية إلى الله بوصفه المحرك الأول. وسأبين أن أرسطو، إذ يعتمد هذا البرهان، فإنه يستند إلى مبدأ معرفي ينطلق من المحسوس إلى المعقول، لكنه في جوهره يقوم على تصور ميتافيزيقي يرتكز على علم الوجود (الأونتولوجيا) وعلم العلل (الإتيولوجيا). وأؤكد أن البرهان الأرسطي هذا يضع نموذجًا لحجة استنتاج الله بوصفه علة نهائية، وهو النموذج الذي كان على الفلاسفة اللاحقين، سواء المنتقدين منهم أو المؤيدين، أن يتفاعلوا معه.
ثم أنتقل إلى البرهان الميتافيزيقي لابن سينا، موضحًا أنه لم يقتصر على انتقاد البرهان الكوني لأرسطو، بل أعاد بناءه وفق منظور ميتافيزيقي مختلف. ففي حين ينطلق أرسطو من النتيجة ليستدل على العلة، يسلك ابن سينا طريقًا آخر، فيعتمد الاستدلال القياسي، الذي يبدأ من العام لينتهي إلى الخاص. ووفق هذا المنهج، يثبت ابن سينا وجود الله لا بوصفه محركًا أول، بل باعتباره وجودًا ضروريًّا بذاته، أي أنه قائم بذاته، مستقل عن غيره، في مقابل الموجودات الممكنة التي تستمد وجودها منه.
ثم أتناول البراهين الخمسة لتوما الأكويني، مقترحًا تفسيرًا موحدًا لها. وأجادل بأن الأكويني، رغم نقده لابن سينا، يعود إلى البرهان الكوني له، الذي يستدل فيه على الله من خلال العلية السببية. لكنه لا يعود إليه لمجرد الاتفاق مع المبدأ المعرفي الأرسطي، بل لأن السببية، وبخاصة علاقة الخلق بين الله والمخلوقات، تشكل حجر الزاوية في ميتافيزيقاه. وكما يستدل أرسطو على الله بوصفه محركًا أول، فإن الأكويني يبني براهينه الخمسة لإثبات أن الله هو الخالق، من حيث إنه إما المحرك الأول، أو العلة الفاعلة، أو العلة الغائية، أو الوجود الضروري، أو المصدر النهائي لكل الموجودات. وليس الأكويني في ذلك مجرد فيلسوف، بل هو لاهوتي أيضًا، ولذلك فإنه يؤكد أن العقل الطبيعي قادر على معرفة الله، وهي الفكرة التي تشكل جوهر اللاهوت الطبيعي.
وفي الخاتمة، أظهر أن الاختلاف بين هذه البراهين الثلاثة لا يعود إلى مجرد تباين في المناهج الفلسفية، بل إلى اختلاف جذري في المبادئ المعرفية والبنى الميتافيزيقية والنوايا اللاهوتية. وأؤكد أن الفلاسفة وعلماء اللاهوت، إذ يخوضون في مسألة إثبات وجود الله، لا يفعلون ذلك من باب الشك في وجوده، بل ينطلقون من يقين ثابت، غايته ليست الإثبات بل التوضيح. فالمسألة عندهم ليست في وجود الله ذاته، بل في طبيعته وجوهره، نظرًا لوحدة الوجود والجوهر الإلهي. وهكذا، فإن البحث في وجود الله ليس غاية في ذاته، بل هو سبيل للوصول إلى جوهر الإله، ذلك الجوهر الذي تتقاطع عنده الفلسفة واللاهوت، وتتلاقى فيه أفكار أرسطو، وتأملات ابن سينا، وتأويلات الأكويني، في نسيج فكري واحد، حيث تتجاور العلل الفاعلة، والمقولات المنطقية، وأسرار العقيدة، في سياق واحد، لا يدرك كنهه إلا من أوتي من الفلسفة حظًّا، ومن اللاهوت نصيبًا.
البرهان الكوني لأرسطو على المحرك الأول
لقد اختط أرسطو لنفسه طريقًا في الميتافيزيقا، جعل من دراسته للوجود مفتاحًا لفهم نظامه الفلسفي. ففي كتاب "الميتافيزيقا" لا يقف عند حد البحث في الوجود، بل يتجاوز ذلك إلى التمييز بين مراتبه (Ἔστιν ἐπιστήμη τις ἣ θεωρεῖ τὸ ὂν ᾗ ὂν καὶ τὰ τούτῳ ὑπάρχοντα καθ' αὑτό ، 1003a21-22)، فيقرر أن هناك علمًا يتناول الوجود بما هو وجود، لا بما يلحقه من أعراض، ولا بما يعرض له من تحولات، مستخلصًا من ذلك أن لمعاني الوجود جميعها مركزًا تلتقي حوله، وقطبًا تدور في فلكه، وهو الجوهر (οὐσία). ومن هذا المنطلق، لم يكن بدٌّ من أن يقسم الجواهر إلى ضربين متمايزين: جواهر محسوسة، يشوبها التغير، ويلازمها الاضطراب، بحكم اتصالها بالمادة وخضوعها لقوانين الحركة، وجواهر معقولة، لا تنالها يد التحول، ولا يعترضها ما يعترض الجواهر المحسوسة من فساد أو تلاشي، إذ هي مفارقة للمادة، منزّهة عن الحركة.
وإذا كانت الفلسفة الأولى عند أرسطو لا يمكن أن تكون الفيزياء، بل ينبغي أن تكون ضربًا من اللاهوت، فلا عجب أن يكون موضوعها ذلك الجوهر المعقول، الذي يغاير الجوهر المحسوس، لا من حيث طبيعته فحسب، بل من حيث علّيته وضرورته أيضًا. ومن هنا، كان لزامًا على أرسطو، وقد انتهى إلى هذه التفرقة، أن يُمعن النظر في تلك الجواهر المحسوسة نفسها، ليجد بينها ما هو متولد فانٍ، كما هو شأن الكائنات الطبيعية التي تتبدل صورها، وتتناوبها أطوار الحياة والموت، وليجد بينها أيضًا ما لا يطرأ عليه الفناء، كما هو حال الأجرام السماوية، التي تتحرك في مداراتها بانتظام، دون أن يلحقها ما يلحق سائر الموجودات من تغير جوهري. ومن هذا التصنيف، خلص إلى أن الجواهر على ثلاثة ضروب: جواهر محسوسة فانية، وأخرى محسوسة غير فانية، وثالثة معقولة لا تنالها يد الحركة، وهي التي تمثل جوهر الوجود في أكمل صوره، وهي ما يسميه الله.
وما دام الأمر كذلك، فقد أصبح من المحتم أن يرتبط علم الجوهر بعلم العلل، بحيث لا يقف عند حد البحث في ماهية الوجود، بل يمتد إلى النظر في أسباب الظواهر الطبيعية، وما يكتنفها من علل، حتى ينتهي إلى البحث في علّة العلل، التي لا تحتمل العلل بعدها علة أخرى، والتي لا تكون إلا المحرك الأول، الذي لا يتحرك.
ولكن أرسطو لم يكن ليبلغ هذه النتيجة جملة واحدة، ولا أن يصل إليها دفعة واحدة، بل كان لا بد أن يستند إلى مبدأ معرفي قويم، يقضي بأن المعرفة تبدأ مما هو واضح لنا بالحس، ثم تترقى شيئًا فشيئًا، حتى تبلغ ما هو واضح في ذاته بالعقل (πέφυκε δὲ ἐκ τῶν γνωριμωτέρων ἡμῖν ἡ ὁδὸς καὶ σαφεστέρων ἐπὶ τὰ σαφέστερα τῇ φύσει καὶ γνωριμώτερα, Phys. A1 ، 184a16-18). فإذا كان الأمر كذلك، لم يكن سبيله في البرهان أن يبدأ من الأشياء الطبيعية المألوفة، بل كان عليه أن يلتمس سبيله فيما هو أرفع وأكمل، أي في تلك الأجرام السماوية، التي لم تكن عنده مجرد أجسام تسبح في الفضاء، بل كانت أقرب الموجودات إلى الله، وألصقها به، بحكم نظامها الدقيق، وحركتها المنتظمة.
وقد كانت معارف عصره الفلكية تقرر أن الأجرام السماوية تبلغ خمسة وخمسين جرمًا، وأنها تتحرك بحركات دائرية منتظمة، لا يشوبها اضطراب (ἐπεὶ δὲ τὸ κινούμενον ἀνάγκη ὑπό τινος κινεῖσθαι ، Metaph. Λ8 ، 1073a26). فكان عليه أن يقيم حجته على أساس أن كل متحرك لا يتحرك إلا بشيء آخر يحركه، وأنه لا يمكن أن يكون في الكون تسلسل لانهائي للحركة، لأن الكون عنده محدود مغلق، لا يقبل الامتداد إلى غير نهاية. وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان لا بد لكل متحرك من محرك، فقد وجب أن تنتهي سلسلة التحريك إلى محرك أول، لا يتحرك هو ذاته، بل يحرك كل شيء غيره، وهو ما يسميه الله.
ولكن هذا البرهان لا يقوم إلا على أساسين لا بد من التسليم بهما: أولهما أن التسلسل اللامتناهي للحركة مستحيل، وثانيهما أن الأجرام السماوية كيانات مادية بحتة، لا تملك في ذاتها قوة التحريك. وقد كان لهذا الافتراض الثاني أن يثير اعتراضات منذ القدم، فقد كان الاعتقاد الشائع أن هذه الأجرام السماوية ليست مجرد أجسام، بل هي كائنات تمتلك أرواحًا تحركها، كما يتحرك الإنسان بإرادته الذاتية (οὐ γὰρ ἥ γε ὕλη κινήσει αὐτὴ ἑαυτήν ، Metaph. Λ6 ، 1071b29-30). فلو صح هذا الزعم، لسقط برهان أرسطو، ولما كان ثمة حاجة إلى محرك أول. ولكن أرسطو لم يكن ليرضى بذلك، بل أصرّ على أن هذه الأجرام السماوية ليست إلا أجسامًا مادية عاجزة عن تحريك نفسها، كما أن الحجر لا يستطيع أن يرتفع من تلقاء نفسه، والطاولة لا تستطيع أن تتحرك دون دافع خارجي. ومن هنا، لم يكن بدٌّ من افتراض محرك لا يتحرك (τοίνυν ἔστι τι ὃ οὐ κινούμενον κινεῖ ، Metaph. Λ7 ، 1072a24-26)، يكون هو الذي يمنحها الحركة، دون أن يكون هو ذاته موضوعًا لحركة خارجية، وهو ما يسميه "المحرك الأول" (τὸ πρῶτον κινοῦν).
وإذا كان المحرك الأول كذلك، فليس يجوز أن يكون ماديًا، وإلا لاحتاج هو نفسه إلى محرك آخر، مما يعيدنا إلى ذات المشكلة، ويوقعنا في ذات المأزق. فلا مناص إذن من أن يكون المحرك الأول معقولًا محضًا، غير مادي، ولا جسم له، بل هو جوهر مفارق، يتصف بالكمال الخالص، ويمارس فعلًا مستمرًا أبديًا يتمثل في التفكير في ذاته (ἔστιν ἡ νόησις νοήσεως νόησις ، Metaph. Λ9 ، 1074b33-35)، وهو ما يجعله علة نهائية لكل حركة في الكون (actus purus، ἡ ἁπλῆ καὶ κατ' ἐνέργειαν، Metaph. Λ7، 1072a31-32).
وهكذا، لم يقتصر أرسطو، في برهانه الكوني، على إثبات وجود الله بوصفه محركًا أول، بل جاوز ذلك إلى تحديد طبيعته تحديدًا دقيقًا، فجعل منه جوهرًا معقولًا خالصًا، منزّهًا عن كل نقص، مترفعًا عن كل تغير، متحققًا في ذاته بالفعل المحض، لا يناله الإمكان، ولا يدركه الفساد، بل هو الغاية العليا، والعلّة النهائية، التي منها يصدر الوجود، وإليها ينتهي النظام الكوني بأسره.
ولم يكن لهذا البرهان أن يبقى محصورًا في نطاق الفلسفة اليونانية، بل كان له أن يتردد صداه في الفلسفة الإسلامية، حيث تلقاه الفلاسفة المسلمون، فكان منهم من قبله، وكان منهم من رده، كما كان شأن ابن سينا، الذي لم يسلم بأصل الحركة الأرسطية، ورأى أن البرهان يمكن أن يساق على نحو آخر. ولم يكن فكره يقف عند الفلسفة الإسلامية، بل كان له أن ينفذ إلى الفلسفة المدرسية في أوروبا، حيث وجده توما الأكويني برهانًا متينًا، فاستبقاه، وأقام عليه فلسفته اللاهوتية، وجعله الأساس الذي يُبنى عليه الإيمان العقلي بوجود الله.
البرهان الميتافيزيقي لابن سينا على الوجود الضروري بذاته
كان للباحثين في الفلسفة الإسلامية أن يتناولوا بالدرس والتحقيق برهان ابن سينا على وجود الله، فوقفوا عند سؤالين جوهريين لا غنى عنهما في سبيل فهم حقيقة هذا البرهان ومقصده: أين يمكن العثور عليه؟ وما هي طبيعته؟ وليس من الغريب أن يختلف الباحثون في الإجابة عن هذين السؤالين، فمنهم من التمس هذا البرهان في مواضع متفرقة من كتاب الشفاء، في القسم الذي خصصه صاحبه للبحث في الإلهيات، ومنهم من ذهب إلى أن البرهان قد ورد على نحو موجز في بعض الفصول، ثم جاء تفصيله في مواضع أخرى من الكتاب نفسه، فأكد أن المقاطع الواردة في الفصول الأول والثاني والخامس إلى السابع من الكتاب الأول، وفي الفصول الأول إلى الثالث من الكتاب الثامن، إنما تشكل في مجموعها هذا البرهان. أما في طبيعة هذا البرهان، فقد رأى بعضهم أنه لا يقف عند حدود البرهان الميتافيزيقي فحسب، بل يجمع بينه وبين البرهان الكوني، وهو ما يتفق مع الرأي الذي ذهب إليه ماير، الذي ألح على أن برهان ابن سينا، وإن كان في جوهره ميتافيزيقيًا، فإنه يتخذ طابعًا كونيًا في بعض أوجهه.
ولكن الأمر، على ما يبدو، لم يكن ليستقر عند هذه الحدود، فقد كان لبعض الباحثين رأي آخر، إذ رأوا أن ابن سينا لم يتبع المنهج الأرسطي في البرهان الكوني، الذي يبدأ من النتيجة ليرتقي إلى السبب، وإنما انتهج سبيلًا مختلفًا، يتدرج فيه من العام إلى الخاص، مما يجعله برهانًا ميتافيزيقيًا خالصًا، يستمد قوته من ضرورة الاستدلال، لا من الملاحظة التجريبية. وليس أدل على ذلك من أن ابن سينا قد بدأ برهانه بنقد البرهان الكوني لأرسطو، وسعى إلى بيان أوجه القصور فيه، قبل أن يقدم البديل الذي ارتآه أكثر إحكامًا وأدق تعليلًا.
وقد كان لابن سينا أن يتناول نقده هذا في تعليقه على كتاب الميتافيزيقا لأرسطو، فذهب إلى أن البرهان الكوني، وإن صح من حيث منطلقاته، فإنه لا يكفي لإثبات الله كعلّة وجودية للكون، بل لا يتجاوز إثباته كعلّة فاعلة لحركة الأجرام السماوية. وليس من شك في أن بين العلة الفاعلة والعلة الوجودية فرقًا جوهريًا، فالعلة الفاعلة إنما تتعلق بكيفية استمرار الحركة، أما العلة الوجودية فتنصرف إلى كيفية نشوء الكائنات ذاتها. ومن هنا، كان ابن سينا يرى أن أرسطو، إذ أثبت العلة الفاعلة، لم يكن قد خطا خطوة أبعد نحو إثبات العلة الوجودية، بل ظل برهانه قاصرًا عن إدراك هذه الحقيقة الجوهرية.
ولعل هذا النقد لم يكن ليقتصر على الجانب النظري فحسب، بل تجاوزه إلى الأساس المنطقي الذي يقوم عليه البرهان الكوني نفسه، إذ رأى ابن سينا أن الاستدلال القائم على الانتقال من النتيجة إلى السبب يفتقر إلى الضرورة، إذ يمكن للنتيجة الواحدة أن تصدر عن أسباب متعددة، كما أن العلاقة بين الحركة والمحرك لا تقتضي بالضرورة أن يكون المحرك الأول هو الله ذاته، بل قد يكون هذا المحرك مجرد علة جزئية، في سلسلة غير متناهية من العلل و هو ما يمكن يعاد تفسيره بأن المحرك ليس واحد. وقد أورد الباحثون في هذا الصدد قول أبي سليمان السجستاني، الذي ذهب إلى أن الاستدلال على الله يمكن أن يتم بثلاث طرق: الطريقة الفيزيائية، التي تصعد من النتائج إلى أسبابها، والطريقة الميتافيزيقية، التي تبدأ من العلة لتصل إلى المعلول، والطريقة اللاهوتية، التي تكتفي بالنظر في ذات الله، دون أن تنشغل بالعلاقات السببية.
وقد نظر أبو سليمان في هذه الطرق الثلاث، فرأى أن الطريقة الفيزيائية هي التي نهجها أرسطو حين أقام برهانه الكوني، ذلك البرهان الذي يسير فيه الباحث من النتيجة إلى السبب، فيرى الحركة في العالم، فيستنتج منها أن هناك محركًا أول لا يتحرك. ولكن هذه الطريقة، وإن كانت صالحة عند بعض الفلاسفة، فإنها لا تخلو من نقص، ولا تخلو من ضعف، لأنها لا تقوم على الضرورة، وإنما تقوم على الاحتمال، والاحتمال لا يُفضي إلى اليقين، وإنما يترك في النفس ظلًّا من الشكّ، وأثرًا من الارتياب.
وليس من العجب أن يرى ابن سينا في هذا النهج الفيزيائي نقصًا وعيبًا، وليس من الغريب أن يعدل عنه إلى النهج الميتافيزيقي، ولكنه لم يأخذ بهذا النهج كما أخذه أبو سليمان، وإنما أدخل عليه تعديلًا، وجعل البرهان يسير من العام إلى الخاص، وجعل الاستدلال لا يبدأ من النتيجة ليصل إلى السبب، وإنما يبدأ من العلة الأولى لينتهي إلى المعلول، وجعل الاستنتاج يقوم على الضرورة، لا على الاحتمال، فجعل من الله كائنًا ضروريًّا يستحيل أن يُفكَّر في عدمه، ويستحيل أن يُتصوَّر زواله.
وكان لا بدّ لابن سينا، حين عدل عن النهج الفيزيائي إلى النهج الميتافيزيقي، أن يواجه النهج اللاهوتي، وكان لا بدّ له أن يرى أن هذا النهج يقف بمعزل عن العلاقات السببية، وأنه لا يعنيه أن يبحث في السبب والمسبب، وإنما يعنيه أن يبحث في ذات الله نفسه. وكان لا بدّ له أن يرى أن اللاهوت السلبي، الذي يجعل الله خارج العلاقات السببية، لا يؤدي إلى معرفة يقينية، ولا يُفضي إلى استنتاج منطقي، وإنما يترك الفكر في حيرة، ويترك العقل في تردد.
ولم يكن غريبًا أن يوافق غوتاس على أن ابن سينا قد تخلّى عن النهج الفيزيائي الأرسطي، ولم يكن غريبًا أن يقول إن ابن سينا قد نقد هذا النهج نقدًا دقيقًا، ونقضه نقضًا متينًا، ولكنه كان مخطئًا حين ظن أن ابن سينا قد استبدل بالنهج الفيزيائي نهجًا لاهوتيًّا، لأن ابن سينا لم يكن ليأخذ باللاهوت السلبي، ولم يكن ليجعل الله مستثنًى من الضرورة العقلية، وإنما جعل من وجود الله نتيجة ضرورية للوجود ذاته.
على أن نقد ابن سينا للبرهان الأرسطي لم يكن نقدًا جزئيًّا، ولم يكن نقدًا لبعض تفصيلاته، وإنما كان نقدًا لنظامه بأسره، وكان إعادة نظر في الأسس التي قام عليها، وكان إعادة بناء للنسق الفلسفي كله، بحيث أصبح الله في هذا النسق ليس مجرد محرك أول، وإنما أصبح ضرورة عقلية، وأصبح مبدأً للوجود كله.
وقد كان هذا النقد مزدوجًا، فقد كان من جهة نقدًا للبرهان الأرسطي، وكان من جهة أخرى إعادة تعريف لموضوع الميتافيزيقا ومنهجها، ولعلنا لا نجاوز الصواب إن قلنا إن ابن سينا، في سعيه لإعادة بناء الميتافيزيقا، قد بذل جهودًا مضاعفة لإعادة تحديد موضوع هذا العلم ومنهجه. وقد لاحظ بيرتولاتشي ذلك بوضوح ودقة، إذ أشار إلى أن ابن سينا يميز بين موضوع الميتافيزيقا (mawḍūʿ = ὑποκείμενον) وغايتها (ğaraḍ = τέλος)، مستنتجًا من ذلك أن الله لا يمكن أن يكون موضوع الميتافيزيقا، وإنما غايتها فحسب. وهو استنتاج يقوم على أساس راسخ منطقًا وفلسفةً، وقد فصَّل فيه ابن سينا في غير موضع من كتاباته.
ثم إن أرسطو قد قرر، في "التحليلات الثانية"، مبدأً علميًا صارمًا مؤداه أن أي علم لا يمكنه إثبات موضوعه بنفسه، بل يجب أن يفترضه أمرًا بديهيًا لا يحتاج إلى برهان. وقد طبَّق أرسطو هذا المبدأ على علوم الحساب والهندسة، فقال إن الحساب لا يمكنه إثبات وجود الأعداد أو تقرير خصائصها الأولية، كالفردية والزوجية، وإن الهندسة لا يمكنها إثبات وجود الخطوط والأسطح والمجسمات، وإنما يجب أن تبتدئ من هذه المسلَّمات بوصفها بديهيات لا تحتاج إلى إقامة الدليل عليها. ولم يكن ابن سينا ليغفل هذا المبدأ الدقيق، فقد استوعبه واستخلص منه أن الميتافيزيقا، شأنها شأن غيرها من العلوم، لا يمكنها أن تثبت موضوعها بنفسها، بل لا بد لها من أن تنطلق من مسلَّمات أولية. وهنا كان استنتاجه الحاسم: إذا كان وجود الله ليس بديهيًا بل يتطلب إثباتًا، فلا يصح أن يكون موضوعًا للميتافيزيقا، وإنما يكون غايتها ومنتهاها.
ولكن، وإن كان وجود الله ليس بديهيًا، فثمة أشياء أخرى هي بديهية عند ابن سينا، وقد سماها "الأوائل". وهو هنا ينطلق من إعادة تعريفه لمفهوم "الأول"، الذي قرره أرسطو بأنه الكائن المعقول البحت أو المحرك الأول، أي العلة الفاعلة النهائية. وقد عدَّل ابن سينا هذا التعريف تعديلاً دقيقًا، إذ رأى أن نشاطنا المعرفي ينبغي أن يتدرج من ما هو سابق لنا إلى ما هو سابق بطبيعته. وما هو سابق لنا عند أرسطو هو المحسوس والخاص، في حين أن ابن سينا يرى أن ما هو سابق للعقل البشري هو المعقول والعام. ومن هنا قرر في كتابه "الإلهيات" (Ilāhīyyāt I.5) أن مفاهيم مثل "الموجود"، و"الشيء"، و"الضروري" مطبوعة في النفس بطبعها، فلا حاجة بنا إلى استمدادها من معارف أخرى.
وهكذا، يعيد ابن سينا تفسير المبدأ المعرفي لأرسطو، فلا يجعل "الأوائل" هي الكائنات المفارقة التي تحدث عنها أرسطو، وإنما يجعلها مفاهيم عقلية عامة، مثل "الموجود" (mawjūd = ens)، و"الشيء" (šayʾ = res)، و"الواحد" (wāḥid = unum)، و"الضرورة" (ḍarūrī = necessitas). وهذه المفاهيم، عنده، هي أول ما يعقله الذهن البشري، فهي بديهية بطبيعتها، ولذلك يجب أن تكون موضوع الميتافيزيقا. ولا غرابة في أن يؤكد ابن سينا في "الإلهيات" (Ilāhīyyāt I.2) على أن موضوع الميتافيزيقا ليس إلا "الموجود بما هو موجود"، أي الوجود من حيث هو وجود، لا من حيث هو متعين في جوهر أو عرض.
وقد جاء في نصه:
الموضوع الأساسي لهذا العلم (أي الميتافيزيقا) هو الموجود بما هو موجود، وما يُبحث عنه في هذا العلم هي الأشياء التي ترافق الموجود بما هو موجود بشكل غير مشروط. (الإلهيات I.2، ص. 10، السطور 3–6
ولكي يوضح هذه الأشياء التي ترافق الموجود بما هو موجود على وجه الإطلاق، يميز ابن سينا بين حالتين. ففي الحالة الأولى، كما ينقسم الجنس إلى أنواع، كذلك ينقسم "الموجود"، الذي يعادل الوجود في هذا السياق، إلى فئات مثل الجوهر، والكمية، والجودة. وقد نص على ذلك في (الإلهيات I.2، ص. 10، السطور 7–8). ولعل هذا التقسيم الفئوي للوجود، بما يرافقه من تصنيف للوجود في صور فيزيائية ورياضية وأخلاقية، قد يوحي لأول وهلة بأنه هو ما يجب أن تبحث فيه الميتافيزيقا، غير أن ابن سينا يقرر أن هذا ليس مقصدها ولا غايتها. ذلك أن هذه التصنيفات وإن كانت ترافق الوجود، فإنها ليست تمثل الوجود بما هو غير مشروط. ومن ثم، فإن الميتافيزيقا لا ينبغي أن تُعنى بهذه التصنيفات، وإنما عليها أن تبحث في الخصائص الذاتية التي تلازم الوجود في ذاته، دون أن تقيده بصفة فيزيائية أو رياضية أو أخلاقية. وهذا هو المنهج الذي انتهجه ابن سينا في دراسته للميتافيزيقا، وهو الذي مكَّنه من أن يعيد بناء هذا العلم على أسس جديدة، تختلف في جوهرها عما قرره أرسطو.
ولعل القارئ، إن تدبر هذا القول، أدرك أن بعض هذه الأمور التي تُبحث في الميتافيزيقا تشبه الخصائص الذاتية التي لا تتوقف على تقييد الوجود بصفة من الصفات الحسية أو الرياضية أو الأخلاقية، بل تلازمه على وجه الإطلاق. فمن ذلك الواحد والكثير، والقوة والتحقق، والعام والخاص، والممكن والضروري. وهذه الخصائص، فيما يرى ابن سينا، لا تحتاج إلى أن يُعرَّف الموجود بصفة من هذه الصفات المحدودة، وإنما هي تابعة له في ذاته، غير مشروطة باعتبار معين أو تقيد مخصوص.
وللتوضيح يميّز ابن سينا بين مستويين لدراسة الوجود:
- الأول: تصنيف الموجودات بحسب صفاتها المحددة، مثل تقسيم الشجرة إلى جوهر (كيانها الأساسي)، وكمية (ارتفاعها، عدد أوراقها)، وجودة (لون ثمارها، طعمها). هذا النوع من الدراسة يخص العلوم الطبيعية (كالفزياء أو الأحياء)، لأنه يركز على سمات ظاهرية قابلة للقياس.
- الثاني: تحليل الخصائص الذاتية للوجود المجرد، التي لا ترتبط بصفة محددة، بل تلازم أي موجود بمجرد كونه "موجودًا"، مثل كونه "واحدًا" (منفصلًا بذاته) أو "كثيرًا" (إذا نُظر إليه كأجزاء)، أو كونه "ممكنًا" (قابلًا للوجود أو العدم) أو "ضروريًا" (حتمي الوجود بمجرد تحققه). هذه الخصائص هي موضوع الميتافيزيقا الحقيقي، لأنها تتعمق في ماهية الوجود نفسه، لا في تجلياته الجزئية.
فالفارق الجوهري هو أن العلوم تدرس كيف تظهر الأشياء في العالم (بأحجامها، ألوانها، وظائفها)، بينما الميتافيزيقا تبحث في معنى الوجود كمفهوم مطلق، بغض النظر عن أي قيود مادية أو رياضية. وهذا ما جعل ابن سينا يرفض أن تكون الميتافيزيقا مجرد تصنيف للفئات، ويؤسسها كعلم يكتشف المقومات الأساسية للوجود ككل.
مثال توضيحي أخير: عندما نقول: "هذه الشجرة طولها ٥ أمتار" (كمية)، أو "ثمارها حلوة" (جودة)، فنحن نستخدم لغة العلوم. أما عندما نتساءل: "ما الذي يجعل هذه الشجرة 'موجودة' أصلاً؟" أو "هل وجودها ضروري أم ممكن؟"، فنحن نطرح أسئلة ميتافيزيقية. الأول يُجيب عن "كيف"، والثاني يُجيب عن "لماذا".
وعلى هذا الأساس، فإن الميتافيزيقا عند ابن سينا ليست سوى البحث في الموجود بما هو موجود، أي دراسة الوجود من حيث هو حقيقة مطلقة، والخصائص الذاتية التي لا تنفك عنه بحال. ومن هنا، فإن الخصائص الجوهرية التبادلية التي يذكرها، كالتقابل بين الواحد والكثير، والقوة والتحقق، والعام والخاص، والممكن والضروري، إنما هي من الأمور التي ينبغي للميتافيزيقا أن تعنى بها، لا لأنها تندرج تحت قسم من أقسام الوجود، بل لأنها تلازمه من حيث هو وجود لا من حيث هو متعين في شيء دون شيء.
وقد يبدو في هذا القول ما يذكر بتصريح أرسطو نفسه، إذ قال في الميتافيزيقا إن هناك علمًا يبحث في الوجود بما هو وجود، وفي الخصائص الذاتية التي تتبعه لزومًا (Ἔστιν ἐπιστήμη τις ἣ θεωρεῖ τὸ ὂν ᾗ ὂν καὶ τὰ τούτῳ ὑπάρχοντα καθ' αὑτό ، Metaph. Γ1 ، 1003a21-22). غير أن الفرق بينهما جليٌّ لمن تأمل، فقد ارتبطت دراسة الوجود عند أرسطو بالمبدأ أو الجوهر، كما جاء في مواضع من كتابه، لا سيما في Metaph. Γ1-3، حيث جعل الجوهر أساس البحث في الميتافيزيقا. ولم يقف عند ذلك، بل رفض في مواضع أخرى أن يكون العام جوهرًا قائمًا بذاته، كما يتضح في Metaph. Z13، إذ صرح بأن الكليات لا يمكن أن تكون جواهر (ἔοικε γὰρ ἀδύνατον εἶναι οὐσίαν εἶναι ὁτιοῦν τῶν καθόλου λεγομένων ، 1038b8-9). ومن هذا المنطلق، انتقد الأفكار الأفلاطونية والأعداد الفيثاغورية بوصفها جواهر في مواضع مختلفة من كتابه، وبالأخص في Z14 وZ16، ثم عاد إلى نقدها في الكتابين الأخيرين M وN.
ولهذا، لم يكن في وسع أرسطو أن يتناول الوجود بما هو وجود على نحو مطلق غير مشروط، ولم يكن بإمكانه أن يؤسس ما يمكن أن نسميه metaphysica generalis، أي الميتافيزيقا العامة. أما ابن سينا، فقد أخذ على عاتقه هذه المهمة، فأعاد صياغة الميتافيزيقا وصقلها، وأدخل عليها تعديلات جوهرية جعلتها تختلف في طبيعتها عن النسخة الأرسطية. وقد كان لهذا التعديل أثر بعيد امتد إلى الفلسفة المدرسية الأوروبية، فتأثرت رؤية توما الأكويني لميتافيزيقا أرسطو بهذا البناء الجديد، وانعكس ذلك على تطور الميتافيزيقا في الفكر الغربي الوسيط.
لكن ابن سينا لم يقف عند إعادة تعريف موضوع الميتافيزيقا فحسب، بل تعدى ذلك إلى إعادة تعريف منهجها ذاته، إذ أدرك أن تأسيس الميتافيزيقا كعلم عام يقتضي بناءها على منهج علمي متين، فلم يجد أرسخ من القياس المنطقي الذي قرره أرسطو نفسه. ومع أن أرسطو استخدم الطريقة القياسية في بناء العلوم كالحساب والهندسة والفلك في "التحليلات الثانية"، فإن ابن سينا وسَّع هذا التطبيق ليشمل الميتافيزيقا أيضًا، ورأى أن هذا العلم، كغيره من العلوم، يجب أن يُبنى بناءً برهانيًا صارمًا.
وقد كان ابن سينا، كما ذكرنا آنفًا، يرى أن مفاهيم "الموجود"، و"الشيء"، و"الضروري" مطبوعة في النفس طبعة أولية، أي أنها ليست مستمدة من غيرها من المعاني، بل هي سابقة في الفهم، قائمة بذاتها. وهذا أمر جليل الخطر، إذ يعني أن هذه المفاهيم لا تُستنبط من معارف أخرى أقل عمومية، وإنما العكس هو الصحيح، فالمفاهيم الأقل عمومية تُستنتج من المفاهيم العامة البديهية، كما تستنتج القضايا الخاصة من القضايا العامة.
ولك أن تضرب لهذا مثلًا واضحًا، فإنك إذا قلت: "كل البشر فانون"، وقررت أن "سقراط إنسان"، كان من المحتم أن تستنتج أن "سقراط فانٍ". وهكذا، فإن المفهوم الخاص لا بد أن يُستنبط من المفهوم العام، لا العكس. وقد بنى ابن سينا على هذا الأساس طريقته في البرهان الميتافيزيقي، فجعل من القياس المنطقي وسيلة لإثبات الوجود الإلهي، حيث يتم استنتاج الحقائق الجزئية من المبادئ الكبرى التي سماها "المبدأ الأول"، وهو الذي يكون صحيحًا في ذاته، لا يتوقف على برهان آخر، بل يكون هو أصل البرهان.
إن ابن سينا، شأنه شأن الفلاسفة العظام الذين تناولوا مسألة الوجود، يبدأ من البداهة الأولى، من الوجود بما هو موجود، أي من ذلك المفهوم البسيط الذي يدركه العقل إدراكًا مباشرًا دون حاجة إلى تعريف أو تفسير. ثم هو لا يلبث أن يقرر، مستعينًا بما أوتي من دقة في التحليل وتماسك في الاستدلال، أن الموجودات التي تأتينا إلى الوجود لا تخرج عن قسمين اثنين: الوجود الضروري والوجود الممكن. ولا ريب أن هذا التقسيم الثنائي إنما ينبع من نظرة عقلية دقيقة، إذ إنه حين ينظر في الوجود الممكن بذاته، يجده ليس بالضروري ولا بالمستحيل، وحين ينظر في الوجود الضروري بذاته، يجده ضروريًا وجوبًا، إذ لا يمكن تصور عدمه بحال من الأحوال.
ولكن ابن سينا يذهب إلى مزيد من التفصيل فيقرر أن الوجود الضروري بذاته يختلف أشد الاختلاف عن ذلك الوجود الضروري الذي يستمد ضرورته من غيره، إذ إن الأول مستقل لا يعتمد على شيء، بينما الآخر له سبب يفسر وجوده ويعلله. ومن هنا كان تقسيم ابن سينا للوجود لا يقف عند الثنائية، بل يرتقي إلى تقسيم ثلاثي بالغ الأهمية، إذ يرى أن الوجود على الحقيقة لا يخرج عن ثلاثة أنواع: الوجود الممكن بذاته، والوجود الضروري من خلال آخر، والوجود الضروري بذاته. وقد كان لهذا التقسيم الثلاثي أثر عظيم في الفلسفة اللاحقة، إذ تناوله الدارسون بالتحليل، وحاولوا تأويله وتأصيله بطرق مختلفة.
أما بيرتولاتشي، فإنه رأى في هذا التقسيم نوعًا من "التقسيم الديالكتيكي" (diairesis)، أي التقسيم المنهجي الذي يعتمد على تصنيف الأشياء وفق أزواج متضادة، حيث يتم تقسيم الوجود أولًا إلى الضروري والممكن، ثم يتفرع هذان القسمان إلى ما هو ضروري بذاته وما هو ضروي من خلال آخر. غير أن ويزنوفسكي كان له رأي آخر، إذ اعتبر تقسيم ابن سينا أشبه بمصفوفة من التمييزات المتوازية، حيث يتم تقسيم الوجود وفق اعتبارات متعددة: الضروري والممكن من حيث طبيعة الوجود، وبذاته ومن خلال آخر من حيث أصل الضرورة، وغير المسبب والمسبب من حيث العلاقة العلية، والبسيط والمركب من حيث طبيعة الوجود نفسه.
ومن هذا المنطلق، يخلص بعض الباحثين إلى أن ابن سينا، بدلًا من أن يقوم بتقسيم هرمي متدرج، عمد إلى بناء مصفوفة من التمييزات المتقاطعة، حيث يقسم الوجود من منظورين متوازيين: الضروري والممكن من جهة، وبذاته ومن خلال آخر من جهة أخرى. ومن هذا التقاطع تنشأ أربعة احتمالات، غير أن ابن سينا سرعان ما يستبعد أحدها، وهو الوجود الممكن من خلال آخر، لأنه يرى أن الإمكان لا يمكن أن يكون متحققًا إلا من خلال وجود ضروري أعلى منه.
ولكن ابن سينا لا يقف عند هذا الحد، بل يمضي في استدلاله حتى يصل إلى استنتاج في غاية الأهمية، وهو أن سلسلة الوجودات الضرورية التي تستمد ضرورتها من غيرها لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، بل لا بد لها من منتهى، وذلك المنتهى لا يكون إلا وجودًا ضروريًا بذاته، أي أنه الوجود الذي لا يستمد ضرورته من شيء آخر، بل يستمدها من ذاته، وهو ما يسميه الله. وعلى هذا، فإن الله عند ابن سينا هو الموجود الضروري بذاته الذي لا يسبقه سبب، ولا يتوقف وجوده على غيره، بل هو العلةُ الأولى لكلِّ ما سواه، وهو المبدأُ الذي لا مبدأ له، والغايةُ التي تنتهي إليها كلُّ عللِ الوجود.
وهكذا، ينتهي ابن سينا إلى إثبات وجود الله، لا من طريق البرهان الكونيّ الذي يبدأ بالسبب وينتهي بالمسبَّب، بل من طريق الاستنتاج المنطقيّ الذي ينطلق من العام إلى الخاص، ومن الوجود بما هو وجود، إلى الوجود الضروريّ الذي لا يستقيمُ قيامُ الموجودات إلا به. فهو لا يبدأ من الله، لأن وجودَه ليس بديهيًا، ولا يُتخذ نقطةً أولى في الاستدلال، بل يبدأ من فكرةٍ أوّليةٍ يقبلها العقلُ ببداهته، ثم يُجري عليها تحليلَه المنطقيّ، حتى يصلَ إلى النتيجة التي لا مفرّ منها. وهكذا، يصبحُ إثبات وجود الله في فلسفة ابن سينا نتيجةً ضروريةً لا يملك العقلُ أن يرفضها، إذا هو قبل بالمقدمات التي تبدأ منها الميتافيزيقا.
وهنا تتجلى دقة منهج ابن سينا في البرهنة، إذ إنه لا يعتمد في إثبات وجود الله على الاستدلال من النتيجة إلى السبب، كما فعل أرسطو، بل يتبع نهجًا آخر، نهجًا ميتافيزيقيًا أصيلًا، ينطلق من العام إلى الخاص. ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى معرفة الله إلا عبر إدراكه للوجود بما هو موجود، أي عبر ذلك المعطى الأولي الذي يدركه العقل إدراكًا بديهيًا. ومن هنا، فإن برهان ابن سينا لا يبدأ من الله، إذ لا يمكن جعله مقدمة أولية، وإنما يبدأ من الوجود ذاته، فينقسم إلى أنواعه المختلفة، ثم يخلص من ذلك إلى إثبات أن الله، كوجود ضروري بذاته، لا بد أن يكون موجودًا.
وهكذا، نجد أن ابن سينا يعيد بناء الميتافيزيقا بطريقة تتجاوز طريقة أرسطو التقليدية، إذ لا ينظر إلى الميتافيزيقا باعتبارها علم الجوهر والعلل، وإنما باعتبارها علم الوجود بما هو وجود. وهو إذ يقوم بذلك، لا يكتفي بمجرد إعادة تعريف موضوع الميتافيزيقا، بل يعيد تشكيل منهجها ذاته، بحيث تصبح علماً قائماً على الاستدلال القياسي المنطقي، ينطلق من الكليات ليصل إلى الجزئيات، ومن العموميات ليبلغ الخصوصيات. ومن هنا، فإن إثبات وجود الله عند ابن سينا ليس مجرد مسألة كلامية أو دينية، بل هو استنتاج عقلي ضروري ينبثق من طبيعة الوجود ذاته، بحيث يكون الله هو النهاية الحتمية لكل استدلال فلسفي متماسك. وبذلك، يحقق ابن سينا تلك الغاية التي سعى إليها كبار الفلاسفة قبله، ولكن بأسلوبه الخاص الذي يزاوج بين الدقة المنطقية والعمق الميتافيزيقي، ليؤسس برهانًا لا يزال يشغل الباحثين حتى يومنا هذا.
البرهان الكوني لتوما الأكويني على وجود الله
إنَّ البرهانَ الكونيَّ الذي قدَّمه توما الأكويني لإثبات وجود الله، والذي يُعدُّ امتدادًا لفكر أرسطو، لم يكن بمنأى عن النقد الفلسفي العميق. فقد رأى ابن سينا أنَّ طريقة أرسطو في استنتاج السبب من النتيجة تفتقر إلى الضرورة المنطقية، ولهذا عمد إلى بناء برهانه الميتافيزيقي على أساس القياس المنطقي، حيث يستخلص الضروري من العام. وهكذا، أقام ابن سينا حجَّته بحيث يستنتج وجود الله بوصفه وجودًا خاصًا مشتقًّا من الوجود العام. وعلى الرغم من أنَّ توما الأكويني لم يذكر ابن سينا صراحةً في برهانه، إلا أنَّه يمكن إعادة بناء نقده لمنهج ابن سينا استنادًا إلى مبادئه الفلسفية. فالأكويني، في نظرنا، قد يرى أنَّ طريقة ابن سينا القياسية، وإن كانت تمتلك الضرورة المنطقية، لا تثبت إلا المفهوم العقلي لله بوصفه "الوجود الضروري بذاته"، دون أن تقدِّم برهانًا على وجوده الفعلي. ولهذا، يرفض الأكويني البرهان الميتافيزيقي لابن سينا القائم على مفهوم الوجود، ويعود إلى البرهان الأرسطي الذي يعتمد على السببية. ومن هنا، ينهج الأكويني نهج أرسطو في استنتاج السبب من النتيجة ضمن براهينه الخمسة، فيما يلي، سأفحص البراهين الخمسة المقدمة في "الخلاصة اللاهوتية" (Summa Theologiae I, q. 2, a. 3)، مع التركيز بشكل رئيسي على الطرق الثلاثة الأولى، التي ترتبط بشكل أساسي بالبرهان الكوني لأرسطو والبرهان الميتافيزيقي لابن سينا.
أما الطريقة الأولى، فإنها تعتمد على مبدأ الحركة، وهي الأقرب إلى البرهان الكوني لأرسطو. بيد أنَّ الأكويني لا يبدأ هنا من حركة الأجرام السماوية كما فعل أرسطو، بل ينطلق من حركة الأجسام الطبيعية في العالم تحت القمر. ويمكن إعادة بناء هذه الحجة على النحو التالي:
من خلال التجربة الحسية، نلاحظ أنَّ بعض الأشياء في العالم تحت القمر تتحرك.
كل ما يتحرك يجب أن يكون قد تحرك بفعل شيء آخر.
2.1: إنَّ الحركة تعني انتقال الشيء من القوة إلى الفعل، ولا يمكن أن يتحقق هذا الانتقال إلا بفعل شيء آخر موجود بالفعل في حالة الفعل. فالنار، على سبيل المثال، وهي حارة بالفعل، تجعل الخشب، الذي هو حار بالقوة، حارًا بالفعل، ومن ثمَّ تحركه وتغيِّر حالته.
2.2: غير أنَّه من المستحيل أن يكون الشيء نفسه في حالة الفعل والقوة في آنٍ واحد، فلا يمكن لما هو حار بالفعل أن يكون حارًا بالقوة في اللحظة نفسها، لكنه قد يكون باردًا بالقوة.
2.3: ومن هنا، يستحيل أن يكون الشيء نفسه محركًا ومتحركًا في الصفة ذاتها وبالطريقة نفسها. وعليه، لا يمكن لشيء أن يحرك نفسه، بل لا بدَّ أن يتحرك بفعل شيء آخر.
وإذا كان هذا الشيء الآخر متحركًا هو أيضًا، فلا بدَّ أن يكون قد تحرك بفعل شيء آخر، وهذا بدوره بفعل آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية. ولكن هذه السلسلة لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، لأنَّه إذا لم يكن هناك محرك أوَّل، فلن يكون هناك أي محرك آخر، إذ لا يمكن للمحركات الثانوية أن تحرك شيئًا إلا إذا كانت نفسها متحركة بفعل محرك أوَّل، تمامًا كما لا تتحرك العصا إلا إذا تحركت بفعل اليد.
ومن ثمَّ، لا بدَّ من وجود محرك أوَّل غير متحرك بفعل شيء آخر، وهذا المحرك الأوَّل هو الله.
وقد أثارت هذه الطريقة الأولى من براهين الأكويني جدلًا بين العلماء حول دلالة مصطلح "movetur"، وما إذا كان يعني "في حالة حركة" أم "يتم تحريكه". والقراءة التي أتبنَّاها هنا هي الثانية، حيث يبدو لي أنَّ الأكويني يستخدم "movetur" بمعنى "يتم تحريكه"، تمامًا كما استخدم أرسطو المصطلح اليوناني "κινεῖσθαι" في كتابه "الميتافيزيقا" (Metaph. Λ8، 1073a26). ويبدو هذا واضحًا من قول الأكويني نفسه: "كل ما يتحرك يجب أن يتحرك بفعل شيء آخر" (omne ergo quod movetur, oportet ab alio moveri)، وهو تقليد مباشر لمبدأ أرسطو القائل بأن "كل ما يتحرك يجب أن يتحرك بفعل شيء آخر".
وفي أثناء بناء حجته، يقدِّم الأكويني مقدمتين رئيسيتين: الأولى، أن كل ما يتحرك يجب أن يتحرك بفعل شيء آخر، والثانية، أن السلسلة السببية لا يمكن أن تمتد إلى ما لا نهاية. وعلى الرغم من أنَّ العديد من الباحثين قد أشاروا إلى المشكلات التي تكتنف هاتين المقدمتين، إلا أنَّني سأركِّز هنا على المقدمة الأولى، حيث يبدو لي أن الأكويني لم يوفَّق في استنتاج (2.3) من (2.2). والسبب في ذلك، أنَّه يخلط بين مجموعتين من المفاهيم، إذ يستبدل مبدأ عدم التعايش بين القوة والفعل (2.2) بمبدأ عدم التعايش بين الحركة والتحرك (2.3). ولا شكَّ أنَّ القوة والفعل لا يمكن أن يتعايشا في اللحظة نفسها، ولكن الحركة والتحرك يمكن أن يتعايشا، بدليل أنَّ الكائنات الحية وفقًا لأرسطو، مثل النباتات والحيوانات والبشر، بل وحتى الله نفسه، يمكنها أن تحرك نفسها.
وعلى الرغم من أنَّ استنتاج الأكويني بشأن عدم التعايش بين الحركة والتحرك غير مبرهن عليه بشكل كافٍ، إلا أنَّه يظل محقًّا في التأكيد على أن الشيء ذاته لا يمكن أن يكون محركًا ومتحركًا في الصفة ذاتها وبالطريقة ذاتها. ويقدِّم الأكويني في "الخلاصة ضد الوثنيين" (SCG I, c.13) دفاعًا مقبولًا عن هذا التأكيد، إذ يجادل بأن الكائنات الطبيعية، التي تبدو وكأنها تحرك نفسها، مثل النباتات التي تنمو، والحيوانات التي تمشي، والبشر الذين يعملون، لا تحرك نفسها بصورة جوهرية، بل بصورة عرضية. فالحركة الجوهرية تقتضي أن يتحرك الكائن باعتباره كلًّا، في حين أنَّ ما نشاهده هو أنَّ النباتات والحيوانات والبشر تحرك أجزاءها، وليس ذواتها بوصفها كلًّا. وهكذا، فإنَّ الكائنات الطبيعية، التي اعتبرها أرسطو "causa sui" أو "سبب نفسها"، لا تحرك نفسها على الحقيقة، بل تبدو فقط وكأنها تفعل ذلك.
إن الأكويني يعارض، في هذا المقام، فكرة "السبب الذاتي" أشد المعارضة، وهذه في حقيقة الأمر إعادة نظر عميقة لفلسفة أرسطو، إذ إن الأخير يرى أن الكائنات الطبيعية هي تلك التي تحرك نفسها. فإذا كان الأمر كذلك عند أرسطو، فإن الكائن الطبيعي يحرك ذاته لكون علته الفاعلية تكمن في داخله، على حين أن الكائن الاصطناعي لا يملك هذه الخاصية؛ إذ علته الفاعلية تتأصل في شيء خارجه. وقد أراد أرسطو بهذا التمييز بين العلة الفاعلية الداخلية والعلة الفاعلية الخارجية أن يقيم فرقًا بين الكائن الطبيعي والكائن الاصطناعي، غير أن الأكويني لم يكن يعنيه هذا التمييز بقدر ما كان يعنيه الفرق بين المخلوق والخالق. من هنا، يجعل الأكويني العلة الفاعلية لكل مخلوق، سواء أكان طبيعيًا أم اصطناعيًا، أمرًا خارجًا عنه، إذ العلة الفاعلية لا تكون عنده إلا سببًا خارجيًا. وليس ذلك إلا ليجعل مذهبه هذا متسقًا مع مقاصده اللاهوتية وتعاليم العقيدة الكاثوليكية التي تنفي أن يكون الشيء هو علته الفاعلية، بل لا بد أن تكون علته خارجة عنه، وهي، في نهاية الأمر، الله سبحانه وتعالى. وهكذا، فإن كل شيء في هذا العالم، ما دام يتحرك، فلا بد أن يكون قد تحرك بفعل شيء آخر، وهذا الشيء بدوره قد تحرك بفعل غيره، ولكن، اتباعًا لأرسطو، يرفض الأكويني التسلسل اللانهائي، ومن ثم ينبغي أن تنتهي هذه السلسلة بمحرك أول يحرك كل شيء، ولا يتحرك هو بفعل غيره. فكما انتهى أرسطو في حجته الكونية إلى إثبات المحرك الأول، كذلك انتهى الأكويني إلى إثبات وجود الله بهذه الحجة نفسها.
أما الطريقة الثانية، فهي تقوم على التسلسل الهرمي للعلل الفاعلية، ويمكن صياغتها على النحو التالي:
يتجلى من ملاحظتنا الحسية أن الأشياء المحسوسة تتدرج في ترتيب هرمي للعلل الفاعلية.
يستحيل أن يكون الشيء علته الفاعلية، إذ لو كان كذلك، للزم أن يوجد قبل وجوده، وهو أمر مستحيل.
ومن غير الممكن كذلك أن تستمر سلسلة العلل الفاعلية المرتبة هرميًا إلى غير نهاية؛ إذ في كل سلسلة كهذه يكون هناك عضو أول يسبب العضو الوسيط، والعضو الوسيط يسبب العضو الأخير. فإذا ما افترضنا أن هذه السلسلة تمتد إلى اللانهاية، أي إذا ألغينا العلة الأولى، فإننا نكون قد ألغينا الأعضاء الأخرى جميعًا، وبالتالي فإن النتيجة نفسها تُلغى. وهذا مما لا يمكن قبوله.
وعليه، لا بد من الإقرار بوجود علة فاعلية أولى، وهي الله.
وإذا سلمنا بأن الأشياء المحسوسة لها علل فاعلية مرتبة هرميًا، فإنه يترتب على ذلك أمران، هما في حقيقة الأمر تكرار لمقدمتين من الطريقة الأولى. أولًا، كل ما يتحرك بفعل فاعل، فإنه لا بد أن يتحرك بفعل شيء آخر، وهذه نقطة جوهرية تتسق مع رفض "السبب الذاتي". ثانيًا، يرفض الأكويني التسلسل اللانهائي لسلسلة العلل الفاعلية، على نحو ما رفض التسلسل اللانهائي للحركة. ولتوضيح ذلك، يضرب جيلسون وكيني مثلاً من الطبيعة، حيث إن الابن يولد من الأب، والأب من الجد، وهكذا. غير أن جيلسون يوضح، عن حق، أنه لو اقتصرت السلسلة على العالم الطبيعي، لأمكنها أن تستمر إلى ما لا نهاية. ولكن الأكويني لم يكن يقصد بهذا النوع من السلاسل، بل كان يعني العلل الفاعلية المرتبة هرميًا، مثل الأب، والشمس، والله. فالله، بوصفه العلة الفاعلية الأولى، يحرك الأجرام السماوية جميعها، والشمس بوجه خاص، ثم تؤثر الشمس بدورها في نشأة الكائنات الحية وفنائها، بما في ذلك البشر في هذا العالم الأرضي. ومن هنا، فإن ولادة الابن من أبيه ترتبط بحركة الشمس عند حضيضها. وهكذا، فإن الأكويني يعمد إلى تنظيم العلل الفاعلية في بنية هرمية، ليقيم بها دليله على وجود العلة الفاعلية الأولى، من خلال رفض "السبب الذاتي" وإنكار التسلسل اللانهائي. وفي ذلك، يسير الأكويني على نهج أرسطو، ويستخلص من الطريقة الثانية ما استخلصه من الأولى، بحيث إن الأولى تثبت الله محركًا أولًا للحركة، في حين أن الثانية تثبته علة فاعلية أولى للوجود. ومن خلال هذه الطريقة الثانية، يمكن للأكويني أن يرد على اعتراض ابن سينا، الذي رأى أن الله ليس فقط العلة الفاعلية للحركة، بل هو أيضًا العلة الفاعلية للوجود ذاته.

أما الطريقة الثالثة، فتعتمد على التمييز بين الممكن والضروري، ويمكن إعادة بنائها على النحو التالي:
في هذا العالم الأرضي، نجد بعض الأشياء التي يمكن أن توجد أو لا توجد، إذ نراها تتولد ثم تفنى. وعليه، فهناك نوع من الوجود يسمى "الوجود الممكن".
ولكن يستحيل أن تكون جميع الأشياء على هذا النحو، لأن ما يمكن عدم وجوده، لا بد أن يكون غير موجود في بعض الأوقات.
2.1: فلو كانت جميع الأشياء ممكنة، لكان هناك وقت في الماضي لم يكن فيه شيء موجودًا.
2.2: ولو صح ذلك، لكان لا يزال لا يوجد شيء الآن، لأن الشيء الذي لا يكون موجودًا لا يمكن أن يبدأ في الوجود إلا إذا أوجده شيء آخر. وإذا لم يكن هناك شيء أصلًا، لاستحال أن يوجد أي شيء فيما بعد، وهذا غير واقع، فهو إذًا خطأ.
وبالتالي، لا يمكن أن تكون جميع الأشياء ممكنة، بل لا بد أن يكون هناك وجود ضروري.
ومن بين هذه الكائنات الضرورية، بعضها له علته في شيء آخر، وبعضها ضروري لذاته. وكما لا يمكن أن تمتد سلسلة العلل الفاعلية إلى غير نهاية، فكذلك لا يمكن أن تستمر سلسلة الكائنات الضرورية التي تعتمد في ضرورتها على غيرها إلى غير نهاية.
ومن ثم، لا بد من الإقرار بوجود كائن ضروري في ذاته، لا يستمد ضرورته من غيره، بل هو ذاته العلة الأولى لكل الكائنات الضرورية الأخرى، وهو الله.
بهذا البيان، تتضح لنا فلسفة الأكويني في إثبات وجود الله من خلال هذه الطرق الثلاث، التي تعتمد في جوهرها على نفي التسلسل اللانهائي، وإثبات العلة الأولى التي لا علة لها، والتي لا يتحقق الوجود إلا بها.
لقد بدأ توما الأكويني من تلك الكائنات الممكنة الوجود، التي لا تثبت على حال، بل تتردد بين الوجود والعدم، كما يظهر في نشأتها واضمحلالها. ثم عمد إلى المنهج المعروف بـ "الاختزال إلى العبث" (reductio ad absurdum)، ليثبت أنه، إلى جانب هذه الكائنات الممكنة، يجب أن يكون هناك كائن واجب الوجود لا يعتريه الفناء ولا يعرف التحول.
وفيما يتصل بحجة الاختزال إلى العبث، يشير ويبل إلى أن العلماء قد تباينت آراؤهم أشد التباين حول استعمال الأكويني للمصطلحين "quandoque" و"aliquando"، وما إذا كانا يدلان على اللاوجود في المستقبل أم في الماضي. ويرى ويبل أن "aliquando" تشير إلى اللاوجود في وقت ما في الماضي، وقد وافقته في ذلك، وإن كنت أختلف معه في قوله بأن "aliquando" و"quandoque" متكافئان، فأراهما مختلفان.
و لهذا، أعرض تأويلاً آخر، يستند إلى أن من المحال أن تكون جميع الأشياء كائنات ممكنة الوجود، إذ يلزم عن ذلك أنه يوجد وقت ما لم يكن فيه أي كائن ممكن الوجود. غير أن "quandoque" لم تُحدد بدقة، ومن ثم فهي قد تشير إلى اللاوجود في زمن مضى أو إلى اللاوجود في الزمن الراهن، وهنا نجد الأكويني يعالج هذين الاحتمالين:
إذا كانت جميع الأشياء كائنات ممكنة الوجود، فلا بد أنه كان هناك وقت ما في الماضي (aliquando) لم يكن فيه شيء.
وإذا كان هذا صحيحًا، فذلك يقتضي أنه لن يكون هناك شيء الآن (nunc).
لكن الواقع يناقض هذا الافتراض، فالأشياء موجودة الآن (nunc)، ولم يسبق قط أن خلت الدنيا من الوجود في أي وقت مضى (aliquando). وعليه، لا يصح القول بأنه كان هناك زمن لم يكن فيه شيء موجودًا (quandoque). ومن ثم، لا يمكن أن تكون جميع الكائنات ممكنة الوجود، بل لا بد أن يكون هناك كائن واجب الوجود.
ومع أن تأويل ويبل مقبول حتى دون التفرقة بين "quandoque" و"aliquando"، إلا أنني أميز بينهما لا لمجرد الاختلاف اللفظي، وإنما لأن تأويله يجعل من غير الواضح لماذا استخدم الأكويني تعبيرين مختلفين للتعبير عن معنى واحد، مما يخلق تكرارًا لا مسوغ له. ولتفادي هذا التكرار، أصر على التمييز بين المصطلحين.
غير أن هناك إشكالًا آخر في حجة الاختزال إلى العبث، فالمقدمة التي تنص على أن "كل الأشياء كائنات ممكنة الوجود" لا تفضي منطقيًا إلى الاستنتاج القائل بأن "لم يكن هناك شيء في الماضي ولن يكون هناك شيء الآن"، بل تقود فقط إلى أن "من الممكن ألا يكون هناك شيء في الماضي، ومن الممكن ألا يكون هناك شيء الآن".
وهنا يكمن موطن الخلل، إذ يركز الأكويني تركيزًا أحاديًا على إمكانية اللاوجود لدى الكائنات الممكنة، متجاهلًا إمكانية وجودها. ومع ذلك، سواء أكان التشديد على إمكانية الوجود أم على إمكانية اللاوجود، يظل الأكويني قادرًا على البرهنة على أن الكائنات الممكنة لا يمكن أن تبدأ في الوجود إلا من خلال كائنات أعلى مرتبة، أي الكائنات الواجبة الوجود.
وهذه الكائنات الواجبة، إذ تستمد ضرورتها من كائن آخر، فإن كيني قد أصاب حين عادل بينها وبين الأجرام السماوية، والنفوس البشرية، والملائكة. ولما كان تسلسل الكائنات الواجبة التي تستمد ضرورتها من غيرها لا يمكن أن يمتد إلى غير نهاية، وجب أن يكون هناك كائن واجب الوجود يستمد ضرورته من ذاته، وهو الكائن الواجب الوجود بذاته، أو الله.
وفي نهاية المطاف، لا يكتفي الأكويني بإثبات وجود الله، بل يصوره بوصفه الكائن الواجب الوجود بذاته.
ومع أن الطريقة الثالثة للأكويني تبدو للوهلة الأولى مشابهة لإثبات ابن سينا الميتافيزيقي، إلا أنني أرى أنها أقرب ما تكون إلى الإثبات الكوني لأرسطو.
ذلك أن ابن سينا يعتمد في منهجه على القياس المنطقي، حيث ينطلق من الوجود العام ليصل إلى الوجود الخاص، أي من الوجود في إطلاقه إلى الله كوجود واجب بذاته. أما الأكويني، فلا يلجأ إلى القياس المنطقي في طريقته الثالثة، بل يسير من وجود خاص إلى وجود خاص آخر، أي من الكائن الواجب الوجود من خلال غيره إلى الكائن الواجب الوجود بذاته.
على خلاف ابن سينا، الذي يعد الإمكانية والضرورة نمطين للوجود ويميّز بين نوعين من الكائنات—الممكن والواجب—فإن الأكويني، بعد التسليم بوجود الكائنات الممكنة، يستخدم حجة الاختزال إلى العبث لإثبات ضرورة وجود كائنات واجبة تستمد ضرورتها من غيرها.
وعند هذه النقطة فقط، يقترب الأكويني من ابن سينا، إذ يطرح الكائن الواجب الوجود بذاته ويحدده بالله، حيث أن تسلسل الكائنات الواجبة من خلال غيرها لا يمكن أن يمتد إلى غير نهاية، بل لا بد أن ينتهي إلى كائن واجب الوجود بذاته. وهكذا، فإن منهج الأكويني يتبع في جوهره النمط الأرسطي في الانتقال من وجود خاص إلى وجود خاص آخر.
وكما أن أرسطو قد استدل على الله بوصفه المحرك الأول من خلال الأجرام السماوية، فإن الأكويني، في طريقته الثالثة، يستدل على الله بوصفه الكائن الواجب الوجود بذاته من خلال الكائنات الواجبة من خلال غيرها، كالأجرام السماوية، والنفوس البشرية، والملائكة.
أما الطريقة الرابعة، فتعتمد على تسلسل الأشياء في مراتبها، حيث يرى الأكويني أن بين الأشياء ما هو أكثر أو أقل خيرًا أو كمالًا أو شرفًا من غيره. وليس هذا التفاوت إلا تبعًا لمدى اقتراب الأشياء من كائن هو الأكمل في جميع هذه الصفات.
ويستند الأكويني، استنادًا إلى أرسطو، إلى القول بأن الأسمى في الخير والحق والنبل هو الوجود الأعلى. ويضرب لذلك مثل النار، فكما أن النار، وهي أشد الأشياء حرارة، هي العلة في وجود الحرارة في غيرها، فكذلك الكائن الأتم في صفاته هو علة وجود جميع الأشياء التي تشترك معه في تلك الصفات بدرجات متفاوتة.
ومن ثم، يستنتج الأكويني أن هناك كائنًا هو مصدر كل وجود وخير وكمال، وهو الله. وكما لاحظ كيني بدقة، فإن جميع المفسرين التوماسيين، رغم اختلافهم في تأويل الطريقة الرابعة، يتفقون على أن الأكويني يقترب هنا، سواء أكان ذلك لخير أو لشر، من التصور الأفلاطوني.
وأنا أوافق كيني على أن الأكويني، وإن بدا ظاهريًا متبعًا لأرسطو، إلا أنه في حقيقة الأمر يستقي فكرته من الأفلاطونية، التي تقر بوجود ترتيب هرمي للكائنات، حيث تتجاوز المعقولات المحسوسات، وتعلو الأفكار الأرفع مقامًا على الأفكار الأدنى، حتى نبلغ قمة الهرم، حيث تتموضع الفكرة العليا، التي يسميها أفلاطون فكرة الخير. وهذه الفكرة، بحسب رمزية الشمس التي قدمها أفلاطون، هي مصدر كل وجود ومعرفة، إذ تمنح جميع الكائنات وجودها ومعرفتها، فتكون بذلك علّة الوجود وعلّة الإدراك.
فيما أرى، إنَّ ما يقصده الأكويني بذكر الله هنا لا يبتعد كثيرًا عن فكرة الخير عند أفلاطون. فكما أن الخير عند أفلاطون هو أصل كل وجود، ومصدر كل كمال، فكذلك إله الأكويني، الذي هو المبدأ الأسمى، والمثل الأعلى، والوجود الأكمل. وبذلك، وعلى نهج الأفلاطونية، يسلك الأكويني سبيلًا في وصف الله، فيعتمد "via eminentiae"، أي طريق التعالي. ومن هذا المنطلق، نجد أن الصفات الإلهية تُصاغ في أسمى درجاتها، حيث يوصف الله بأنَّه الأكمل والأعظم والأسمى في كل صفة. ومن هنا، لا أرى غرابة في تحفّظ كيني ودقّته حينما يؤكّد أنَّ الأكويني يقترب في فكره من الأفلاطونية، مع استبعاد الأفلاطونية المحدثة، على الرغم من أنَّ كثيرًا من أتباع هذه المدرسة لا يفرّقون بين الاتجاهين. وقد أشار ويبل إلى أنَّ الأكويني، في منهجه الرابع، يعتمد على مصادر أفلاطونية وأفلاطونية محدثة، دون أن يُعنى بالتمييز بينهما.
وفي هذا السياق، نجد فرقًا جوهريًا بين الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة. فبينما نجد الأكويني، متبعًا نهج الأفلاطونية، يعرض تصوُّره لله بأسلوب إيجابي مطلق (via eminentiae)، حيث يقدّمه على أنَّه الوجود الأسمى، القابل للإدراك بالعقل البشري، فإنَّ الأفلاطونية المحدثة تسلك طريقًا مغايرًا، إذ ترفض أن يُقدَّم الله بوصف إيجابي، وترى ضرورة اللجوء إلى الأسلوب السلبي المطلق (via negationis). فالله، وفق تأويل أفلوطين لفكرة الخير الأفلاطونية المحدثة، يتجاوز الوجود والعقل كليهما (τἀγαθὸν καὶ τὸ ἐπέκεινα νοῦ καὶ ἐπέκεινα οὐσίας، التاسوعات V. 1.8.6-8)، ولذلك فهو ليس موجودًا بالمعنى المتعارف عليه، ولا يمكن إدراكه بالعقل البشري، فيظلَّ بذلك مستعصيًا على الفكر والتعبير.
ومن هنا، يتضح لنا أنَّ الأفلاطونية المحدثة تؤسّس للاهوت سلبي، فيما تضع الأفلاطونية الأساس للاهوت طبيعي. ومن ثم، نجد أنَّ الأكويني، في تناوله لهذا التصوُّر، لا يتبنَّى الفكر الأفلاطوني المحدث، بل يميل إلى الأفلاطونية.
تقوم الطريقة الخامسة على مبدأ الغائية، فحينما نلاحظ أنَّ الأشياء الطبيعية تعمل دائمًا، أو في أغلب الأحيان، وفق نظام معيّن يهدف إلى تحقيق غاية محدّدة، ندرك أنَّ هذا النظام لا يمكن أن يكون وليد الصدفة، بل هو نتيجة توجيه محكم. فالأشياء التي لا تمتلك الوعي لا يمكنها أن تسعى نحو غايتها إلا إن كان هناك عقل موجّه يُرشدها. ومن هنا، نستدلّ على أنَّ هناك عقلًا مدبرًا، هو الذي يقود جميع الأشياء الطبيعية نحو غاياتها، وهذا العقل هو الله.
إنَّ هذا الدليل يرتكز، في جوهره، على مفهوم الغائية الطبيعية، الذي يفترض أنَّ الأشياء تعمل وفق نظام محدّد، وتسعى إلى تحقيق الكمال. ولكن، إذ كانت هذه الأشياء غير عاقلة، فلا بدَّ لها من موجّه حكيم وخارق للطبيعة، وهذا الموجّه هو الله.
لقد قدم أتباع توماس الأكويني تفسيرات مختلفة للطرق الخمسة، فمنهم من انصرف إلى تحليل طريقة واحدة، ومنهم من جمع بين طريقتين أو أكثر دون أن يحيط بها جميعًا (ماكدونالد 1991؛ شيلدز وباسناو 2016). أما آخرون، فقد سعوا إلى تقديم تفسير شامل لمجموع الطرق الخمس (جيلسون 1957، 2002؛ كيني 1969؛ مارتن 1997؛ ويبل 2000؛ باول 2012؛ دي هان 2013).
وقد لخَّص ويبل محاولات التفسير في ثلاث مقاربات رئيسية:
البحث عن المصادر التاريخية التي يمكن أن يكون الأكويني قد استقى منها أفكاره.
اختزال الطرق الخمس إلى نسق منطقي موحَّد.
ردّ الطرق الخمس إلى الأسباب الأربعة (ويبل 2000، ص. 497–99، هامش 161، 162، 163).
أما كيني (1969، ص. 36)، فقد اختار المقاربة الثالثة، حيث يرى أنَّ "الطرق الخمس تعتمد جميعها على هيكل استدلالي واحد، يُطبّق على الأسباب الأربعة، بحيث تُمثّل كل طريقة من هذه الطرق تفسيرًا لأحد أنواع السببية" (دي هان 2013، ص. 147–52). وقد اتفقتُ معه في بعض هذه النقاط، خاصة فيما يتعلّق بالطريقتين الأوليين اللتين تقومان على مفهوم السببية الفعالة، والطريقة الخامسة التي تستند إلى السببية الغائية. لكنَّني أتحفّظ على افتراضه بأنَّ الطريقة الثالثة ترتكز على السببية المادية، وأنَّ الطريقة الرابعة تعتمد على السببية الصورية؛ إذ أرى أنَّ تحليل الأكويني في الطريقة الثالثة يقوم على مفهوم الوجود الواجب بذاته، وليس على السببية المادية.
أما بالنسبة للطريقة الرابعة، فأرى أنَّ الأكويني لا يرتكز على السببية الصورية الأرسطية، بل على السببية النموذجية الأفلاطونية. وعلى الرغم من أنَّ ويبل (2000، ص. 473–74) يعتبر أنَّ السببية الصورية والنموذجية شيء واحد، إلا أنني أعتقد أنَّ ثمة اختلافًا جوهريًا بينهما. ففي الفلسفة الأرسطية، تتحدُّ المادة والصورة لتكوين المركب المحسوس، بينما في الفكر الأفلاطوني، يكون الكائن المحسوس مجرد انعكاس للنموذج الأصلي، مما يدلُّ على اختلاف السببية النموذجية عن السببية الصورية.
لقد سعى العديد من المفكرين التوماسيين، ومنهم كيني، إلى البرهنة على أنَّ الأكويني قد استلهم أفكاره من أرسطو. غير أنَّني أرى أنَّ فكر الأكويني يتجاوز الأرسطية، إذ استمدَّ بعض أفكاره من ابن سينا، كما نجد في الطريقة الثالثة، واستقى من الأفلاطونية، كما يتضح في الطريقة الرابعة. ولذلك، فإنَّ تفسير إثبات الأكويني الخماسي لا يمكن أن يُحصر في الأسباب الأربعة الأرسطية وحدها.
إنني أميل إلى ما ذهب إليه جيلسون (1957، ص. 76–77)، حينما لخَّص السمات المشتركة بين الطرق الخمس في ثلاث نقاط رئيسية. أولًا، يرى جيلسون أنَّ كل طريقة تبدأ بملاحظة العالم المحسوس، إذ إنَّ الأكويني يعتقد أنَّ الوجود لا يمكن إدراكه إلا من خلال الاستدلال عليه من وجود آخر. ومن هنا، يستنتج الأكويني وجود الله من خلال ما نراه من الحركات والأسباب والواجبات والدرجات والنظم.
كما يشير جيلسون إلى أنَّ جميع الطرق الخمس تعتمد على مبدأ السببية، وترفض فكرة التسلسل اللانهائي. وبذلك، فإنَّ الأكويني يستنتج وجود الله بوصفه العلة الأولى والمحرّك الأول، تمامًا كما فعل أرسطو حينما استدلَّ على المحرّك الأول من حركة الأجرام السماوية.
فإذا نحن بدأنا بالنظر في إثبات الكوني الأرسطي، وما دفع الأكويني إلى استعادته، فإنما نحن نأخذ في بحث دقيق يقتضي منا كثيرًا من التمحيص. ذلك أن الأكويني رأى في هذا الإثبات حقيقة راسخة، وأراد أن يعيد بناءه بعد أن رماه ابن سينا بالنقد من ثلاث زوايا: معرفية وميتافيزيقية ولاهوتية.
أما عن البعد الأول، وهو البعد المعرفي، فقد كان الأكويني مقتنعًا بضرورة الانتقال من الأثر إلى السبب، كما تقتضي المبادئ الأرسطية. فهو يرى أن المعرفة البشرية لا تبدأ مما هو سابق للعقل، كما ذهب ابن سينا، بل مما هو سابق للإحساس، وفقًا لما قرره أرسطو. وهكذا، فإن كل طرقه الخمس تبدأ من المحسوس، باعتباره معطى أوليًا للحس البشري، ثم تنتقل إلى المعقول، باعتباره سابقًا بالطبيعة، ومن ثم، فإن الله يُستدل عليه باعتباره سببًا أولًا لا غنى عنه لوجود الأشياء.
وأما البعد الميتافيزيقي، فقد رأى الأكويني أن السببية تلعب دورًا محوريًا في الفلسفة الإلهية، فهي التي تربط المخلوقات بخالقها. ومن هذا المنطلق، لم يوافق على التمييز الذي أقامه ابن سينا بين الوجود الممكن والوجود الواجب، بل استبدله بتمييز أكثر واقعية، وهو تمييز السبب والمسبب، أو الخالق والمخلوقات. ذلك أن ما رآه الأكويني في تصور ابن سينا لم يكن إلا مفاهيم عقلية مجردة، بينما رأى أن الخالق والمخلوقات يشكلان حقيقة واقعة.
ثم نأتي إلى البعد اللاهوتي، حيث اعتمد الأكويني في بناء حجته على التراث الأرسطي، الذي يرى أن العقل الطبيعي قادر على إدراك الله. لكنه لم يكتفِ بذلك، بل أضاف إليه اللاهوت السلبي واللاهوت الوحياني. فالأول يؤكد أن الله لا يمكن الإحاطة به إلا من خلال معرفة ما لا يمكن أن يكون عليه، والثاني يؤكد أن البشر لا يصلون إلى الله بعقولهم فحسب، بل إن الله نفسه ينزل إليهم بإرادته، فيفتح لهم باب المعرفة الإلهية عبر الوحي. وهكذا، فإن فلسفة الأكويني لم تغلق باب التصوف، بل جعلت له موضعًا في التجربة الدينية.
في ضوء هذه المعطيات، كيف كان تصور الأكويني لمسألة وجود الله؟
لم يرَ الأكويني أن وجود الله يمكن أن يُستدل عليه بمجرد فكرة أو مفهوم، كما ذهب أنسلم في إثباته الوجودي، ولا أن يتم استنتاجه من طبيعة الوجود نفسه، كما فعل ابن سينا، بل رأى أن السبيل الوحيد إلى إثباته هو استقراء العالم المحسوس، ومن ثم الانتقال إلى علته الأولى. وكما استدل أرسطو على الله باعتباره محركًا أولًا من حركة الأجرام السماوية، استدل الأكويني على الله باعتباره خالقًا للمخلوقات، وأسس إثباته الخماسي، حيث يظهر الله مرة محركًا أولًا، ومرة كوجود واجب، ومرة كسبب فعال، ومرة كسبب غائي، ومرة كسبب وجودي.
وإذا تساءلنا عن سبب عودته إلى هذا الإثبات الكوني الأرسطي، وجدنا أن الأمر لا يقف عند مجرد تبنيه للمبدأ الأرسطي القائل بضرورة الانتقال من المحسوس إلى المعقول، بل لأن مفهوم السببية، في معناها المتعلق بالخلق، كان ركنًا أساسيًا في فلسفته الميتافيزيقية. والأهم من ذلك كله، أن الأكويني تبنى التقليد الأرسطي الذي يؤسس للاهوت الطبيعي، وهو اللاهوت الذي يؤكد قدرة الإنسان على معرفة الله من خلال العقل.
إستنتاجات
أما بعد، فإن البحث في إثبات وجود الله لم يكن في حقيقته، ولا ينبغي أن يكون، قضية وجودية بالمعنى المباشر للوجود، ذلك أن الفلاسفة واللاهوتيين الذين انصرفوا إلى هذه القضية لم يذهبوا إلى إنكار وجوده، ولم يكن في حسبانهم أن يكون موضعًا للشك أو الريبة، وإنما كان غرضهم أن يبينوا كيف يتسنى للعقل البشري أن يدرك هذه الحقيقة الإلهية، وأن يتصل بها من طريق الفكر والنظر. فإثبات وجود الله، إذن، مسألة تتصل قبل كل شيء بالإدراك والمعرفة، وترتبط أشد الارتباط بالمبادئ المعرفية التي يقوم عليها التفكير الفلسفي.
وقد كان أرسطو من الفلاسفة الذين رأوا أن العقل الإنساني لا يمكنه أن يتجاوز المحسوس إلى المعقول إلا في ضوء مبدأ معرفي دقيق، وهو أن الاستدلال لا يكون إلا من الأثر إلى السبب. ومن هنا، أقام أرسطو برهانه الكوني مستندًا إلى حركة الأجرام السماوية، فاستنتج أن لها محركًا أول لا يتحرك، وأن ذلك المحرك الأول هو الله. وعلى هذا المنوال، سار الأكويني، ولكنه لم يقتصر على ذلك، بل جعل لإثباته خمس طرق، كلها تنتهي إلى وجود الله كخالق للمخلوقات. وأما ابن سينا، فلم يأخذ بهذا المنهج، بل آثر أن يسلك طريقًا آخر يعتمد فيه على الاستدلال من العام إلى الخاص، فرأى أن الوجود ينقسم إلى واجب وإلى ممكن، وأن الممكن لا بد له من واجب يعلو عليه، وذلك الواجب هو الله.
فأرسطو، إذن، يستدل من الأثر إلى السبب، وابن سينا يستدل من العام إلى الخاص، والأكويني يجمع بين هذين المنهجين في بناء إثباته الخماسي. وليس ذلك لأنهم قد اختلفوا في مناهجهم فحسب، بل لأنهم أيضًا قد أقاموا ميتافيزيقاهم على أسس مختلفة، وأكدوا على مسائل شتى ضمن أطرهم الفلسفية. فقد كان أرسطو يرى أن العلاقة بين الله والعالم تقوم على الحركة والتحريك، فكانت السببية عنده هي مفتاح تفسير الوجود، وكان علم الوجود وعلم الأسباب هما الركيزتين الأساسيتين لفلسفته. وأما الأكويني، فقد رأى أن السببية، لا من حيث الحركة فقط، بل من حيث الخلق، هي ما يربط بين الخالق والمخلوقات، فجاء إثباته امتدادًا للإثبات الأرسطي، ولكنه اتخذ طابعًا لاهوتيًا يجعل علاقة الإنسان بالله قائمة على المعرفة العقلية.
غير أن ابن سينا لم يكن يلتفت إلى السببية بقدر ما كان يهتم بمفهوم الجهة، فقد رأى أن الضرورة والاحتمال هما الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه أي بحث في الوجود، ولذلك كانت الميتافيزيقا عنده علمًا عامًا يشمل الوجود كله، لا باعتباره مترابطًا بعلاقات سببية، بل باعتباره منقسمًا إلى واجب وممكن.
وقد أعاد الأكويني، على ضوء هذا كله، إحياء الإثبات الكوني الذي تركه ابن سينا، لا لمجرد التصحيح أو التعديل، بل لأنه أراد أن يجعل العلاقة بين الله والبشر تخضع لمنهج عقلاني، بحيث يكون للعقل الطبيعي قدرة على إدراك الله من خلال اللاهوت الطبيعي.
فإذا انتهينا من ذلك كله إلى استخلاص النتائج، وجدنا أن الاختلاف بين أرسطو، وابن سينا، والأكويني، لا يقتصر على طبيعة الإثباتات التي قدموها، بل يمتد إلى المبادئ المعرفية التي اعتمدوها، والأنساق الميتافيزيقية التي أقاموها، والنوايا اللاهوتية التي سعوا إلى تحقيقها. فإثبات أرسطو كوني يعتمد على السببية، وإثبات ابن سينا ميتافيزيقي يعتمد على الجهة، وإثبات الأكويني خماسي يجمع بين السببية والجهة في آنٍ معًا.
لكن يبقى سؤال أخير: ماذا يثبت إثبات وجود الله في نهاية الأمر؟ لم يكن الخلاف بين هؤلاء الفلاسفة واللاهوتيين حول وجود الله ذاته، بل كان حول كيفية وجوده. وما تفعله هذه الإثباتات في جوهرها ليس سوى تحديد لطبيعة الله، لأن وجوده وجوهره متحدان لا ينفصلان. فأرسطو، حين أقام إثباته، قدّم الله باعتباره محركًا أولًا، بينما قدّمه ابن سينا باعتباره وجودًا واجبًا بذاته، أما الأكويني فقد جمع بين هذين التصورين، فلم يكتفِ بجعل الله محركًا أولًا أو سببًا فاعلًا، بل جعله في آنٍ واحد واجبًا بذاته، وسببًا غائيًا، ووجوديًا لكل الموجودات.
أما السؤال عن ما يثبته إثبات وجود الله فعليًا، فجوابه عندي كما يلي:
إن الفلاسفة الذين اجتهدوا في إقامة هذه البراهين لم يكونوا يشككون في وجود الله، وإنما كانوا يبحثون عن طبيعة هذا الوجود، وكيفية إدراكه. فإثبات وجود الله ليس غايته أن يقرر أنه موجود فحسب، بل أن يحدد طبيعته وجوهره، ذلك أن وجود الله عندهم لا ينفصل عن ماهيته. وقد ذهب أرسطو إلى أن الله هو المحرك الأول من حيث السببية، وذهب ابن سينا إلى أنه هو الواجب الوجود من حيث الجهة، وأما الأكويني، فقد جمع بين الأمرين معًا، فجعل الله محركًا أول، وسببًا فعالًا، وسببًا غائيًا، وسببًا وجوديًا لكل شيء. وقد كان جيلسون مصيبًا حين قال إن الأكويني، إذ ينتقل من الوجود إلى الجوهر، إنما يجعل من إثبات وجود الله وسيلة لتحديد ماهيته، وبهذا المعنى، فإن كل براهين الوجود الإلهي، سواء عند أرسطو، أو ابن سينا، أو الأكويني، إنما تهدف في جوهرها إلى الكشف عن طبيعة الله وحقيقته. وإذا كانت هذه البراهين قد أفضت إلى تصورات مختلفة عن الذات الإلهية، فإن هذا الاختلاف لا ينفي بحالٍ من الأحوال وحدة الله وتفرده، بل يكشف عن تنوع الطرق التي يسلكها العقل البشري في سعيه إلى إدراك ما لا تدركه العقول إدراكًا كاملًا، ولكنه يظل دائم السعي إلى معرفته والاقتراب منه.
مترجم من brewminate بقلم الدكتورة شين ليو أستاذ مشارك في الفلسفة جامعة نانجينغ
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي