هل الفقر نتاج نقص المال أم نقص الشخصية؟
هل يمكن أن يكون الفقر مرآة لنقص فى تكوين الشخصية أم هو مجرد مرآة لنقص فى المال ؟
في الثالث عشر من نوفمبر عام 1997، شهدت ولاية كارولينا الشمالية حدثًا استثنائيًا حينما افتُتح كازينو جديد تحت سفوح جبال سموكي العظيمة. وعلى الرغم من سوءِ الأحوال الجوية، احتشد الناس بالمئات أمام أبوابه، وامتدت صفوفهم طويلاً كأنما يسعى كل فرد منهم إلى مغامرة جديدة أو حلم طال انتظاره. ومع تزايد الزحام، لم يجد مدير الكازينو بدًّا من أن يناشدهم عبر وسائل الإعلام بالبقاء في منازلهم، ولكن هيهات أن يردعهم المطر أو البرد.
لم يكن هذا الاهتمام الجماهيري محض صدفة، فقد كان هذا الكازينو مختلفًا تمامًا عن تلك الأماكن التي تدور حولها الشائعات وتديرها العصابات. إنه كازينو ومنتجع هاراهز تشيروكي، وهو مشروع فاخر تمتلكه قبيلة الشيروكي الشرقية وتديره بكفاءة، فكان هذا الافتتاح بمثابة خاتمة لصراع سياسي استمر عشر سنوات. ولقد خشي البعض أن يكون القمار نقمة على القبيلة، كما تنبأ أحد قادتها قائلاً: "القمار سيكون سبب هلاك الشيروكي." ولم يتوانَ حاكم ولاية كارولينا الشمالية عن محاولة عرقلة المشروع بكل الوسائل الممكنة.
لكنَّ الأيام أثبتت عكس ذلك تمامًا. فما لبث الكازينو أن أصبح مصدرًا للرفاهية بدلاً من الهلاك. فقد حقق المشروع أرباحًا هائلة، بلغت 150 مليون دولار عام 2004، وارتفعت إلى ما يقارب 400 مليون دولار بحلول عام 2010. واستُخدمت هذه الأرباح لتشييد مدرسة جديدة ومستشفى ومحطة إطفاء تخدم القبيلة، غير أن النصيب الأكبر من تلك الأرباح ذهب مباشرة إلى أفراد القبيلة أنفسهم، الذين بلغ عددهم 8000 رجل وامرأة وطفل. بدأت التوزيعات بمبلغ 500 دولار سنويًا، ولكنها ارتفعت سريعًا لتصل إلى 6000 دولار لكل فرد بحلول عام 2001، مما شكّل نقلة نوعية في دخل الأسر التي كانت تعاني من شظف العيش.
وفي خضم تلك التحولات الاجتماعية، كانت الدكتورة جين كوستيلو، الأستاذة بجامعة ديوك، تجري أبحاثها منذ عام 1993 حول الصحة النفسية للأطفال في جنوب جبال سموكي العظيمة. إذ كانت تتابع حالة 1420 طفلاً يخضعون لاختبارات نفسية سنوية. ولم يكن غريبًا أن تُظهر النتائج أن الأطفال الذين نشأوا في بيئات فقيرة يعانون من مشاكل سلوكية أكثر من غيرهم، فقد كان هذا الأمر معروفًا منذ أن أشار عالم النفس إدوارد جارفيس في دراسته الشهيرة عام 1855 إلى العلاقة بين الفقر والمرض العقلي. ومع ذلك، ظلت الأسئلة الأكثر عمقًا بلا إجابة: أهو الفقر الذي يولّد المشكلات النفسية، أم أن العوامل الجينية هي السبب الحقيقي وراء هذه المعاناة؟
الدجاجة أم البيضة
وفي تلك الحقبة، كانت الأوساط العلمية تميل إلى إرجاع المشكلات العقلية إلى العوامل الجينية، مما يعني أن توزيع الأموال على الفقراء لن يكون أكثر من مجرد مسكّن للأعراض، دون معالجة الجذور العميقة للمرض. ولكن ماذا لو كان الفقر نفسه هو السبب؟ هنا أدركت كوستيلو أن افتتاح الكازينو يمثل فرصة نادرة لدراسة هذه المسألة، لا سيما أن ربع الأطفال المشاركين في بحثها ينتمون إلى قبيلة الشيروكي، وأكثر من نصف هؤلاء يعيشون تحت خط الفقر.
ما إن مرت فترة قصيرة على افتتاح الكازينو، حتى بدأت كوستيلو تلاحظ تغيرات إيجابية مذهلة. فقد تراجعت المشكلات السلوكية لدى الأطفال الذين خرجوا من دائرة الفقر بنسبة 40%، ليصبحوا في مستوى أقرانهم الذين لم يعانوا الفقر قط. كما انخفضت معدلات جرائم الأحداث بين الشيروكي، وتحسنت معدلات تعاطي الكحول والمخدرات، وارتفعت نتائجهم الدراسية. لأول مرة، صار أطفال الشيروكي يقفون على قدم المساواة مع أقرانهم غير القبليين، كأنما أعادت هذه التغيرات كتابة مستقبلهم، وفتحت لهم أبوابًا جديدة نحو حياة أفضل.
عندما نظرت كوستيلو إلى البيانات التي جمعتها، كان أول رد فعل لها هو الاستغراب والدهشة التي بلغت حد عدم التصديق. فقد قالت فيما بعد: "كان من المتوقع أن تكون التدخلات الاجتماعية ذات تأثيرات محدودة وضئيلة، ولكن هذا التدخل قد أتى بنتائج هائلة تفوق كل التصورات."
وتوصلت كوستيلو إلى أن الأرباح السنوية الإضافية، التي بلغت 4000 دولار لكل فرد، لم تكن مجرد أرقام مالية عابرة، بل مثلت تحولاً حقيقيًا في حياة الأطفال. إذ أظهرت الإحصائيات أن هذه الزيادة المالية أدت إلى تحقيق عام إضافي من التعليم بحلول سن الحادية والعشرين، كما أسهمت في تقليص احتمالات السجل الإجرامي بنسبة 22% قبل بلوغ الأطفال سن السادسة عشرة.
ومع مرور عقد كامل على افتتاح الكازينو، كشفت دراسة كوستيلو أن التأثير الإيجابي كان أشد وضوحًا بين الأطفال الأصغر سنًا، حيث تبين أن هؤلاء الذين خرجوا من دائرة الفقر في مراحل مبكرة من حياتهم تمتعوا بصحة عقلية أفضل حينما بلغوا سن المراهقة. وضمن الفئة العمرية الأصغر في الدراسة، لاحظت كوستيلو انخفاضًا ملحوظًا في السلوك الإجرامي، لدرجة أن أطفال الشيروكي في دراستها أصبحوا أكثر انضباطًا من نظرائهم في المجموعة الضابطة.
لكن التأثير الأعمق كان في كيفية تغير علاقة الآباء بأطفالهم. قبل افتتاح الكازينو، كان الآباء يعيشون نمطًا قاسيًا من العمل الموسمي الشاق صيفًا، والبطالة المرهقة شتاءً. أما الآن، فقد مكّنهم الدخل الجديد من توفير المال وسداد الفواتير مقدمًا، مما خفف من وطأة التوتر. ومع ذلك، لاحظت كوستيلو أن الآباء لم يقللوا من ساعات العمل، بل ظلوا يعملون بنفس المعدلات، لكن الفارق كان في جودة الحياة؛ فقد أصبح لديهم المزيد من الوقت والطاقة لتكريسه لأطفالهم.
وأكدت فيكي إل برادلي، إحدى أفراد القبيلة، أن الأثر الأبرز للمال كان في تخفيف الضغط النفسي عن العائلات، إذ تحول القلق بشأن المال إلى طاقة إيجابية موجهة نحو الأبناء. وكما عبرت عن ذلك بعبارات دقيقة: "هذا الدخل ساعد الآباء على أن يصبحوا آباءً أفضل."
وفيما يتعلق بالسؤال المحوري حول أصل مشكلات الصحة العقلية بين الفقراء: هل هي مسألة جينية أم ثقافية؟ خلصت كوستيلو إلى أن الإجابة تكمن في الجمع بين العاملين. فالضغوط الناتجة عن الفقر تزيد من احتمال تعرض الأشخاص الذين يحملون استعدادًا جينيًا للإصابة باضطرابات نفسية. ومع ذلك، فإن النتيجة الأكثر أهمية التي أبرزتها الدراسة هي أن الجينات قد تكون ثابتة ولا يمكن تغييرها، ولكن الفقر يمكن التغلب عليه.
لماذا يتخذ الفقراء قرارات سيئة؟
إن حلم القضاء على الفقر ليس سوى انعكاس لأقدم الأماني الطوباوية التي راودت البشر. ولكن السعي لتحقيق هذا الحلم يتطلب مواجهة صريحة لأسئلة تبدو قاسية. لماذا يكون الفقراء أكثر عرضة لارتكاب الجرائم؟ لماذا يميلون إلى السمنة، والإدمان على الكحول والمخدرات؟ ولماذا يتخذون في كثير من الأحيان قرارات يُنظر إليها على أنها سيئة؟
قد تبدو هذه التساؤلات جافة وربما قاسية، لكن الحقائق تُظهر أن الفقراء يقترضون أكثر، يدخرون أقل، يدخنون بكثرة، يمارسون الرياضة بدرجة أقل، يستهلكون الكحول بشكل أكبر، ويتبعون أنماط حياة أقل صحة. بل إنهم، حينما تُتاح لهم دورات تدريبية لإدارة الأموال، غالبًا ما يكونون الأقل إقبالًا عليها، ويُظهرون أداءً أضعف في التقدم للوظائف، بدءًا من كتابة طلبات التوظيف وصولاً إلى الحضور للمقابلات بملابس غير ملائمة.
وصفت مارغريت تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، الفقر ذات يوم بأنه "نقص في الشخصية". قد يبدو هذا القول قاسيًا أو حتى متجنيًا، ولكنها بذلك عبّرت عن رؤية ليست بالغريبة في عالم السياسة. فحتى وإن كان القليل من السياسيين يجرؤون على التعبير بهذه الصراحة، إلا أن الفكرة الجوهرية التي تقول إن الحل للفقر يكمن في الجهد الفردي ليست أمرًا استثنائيًا. من أستراليا إلى إنجلترا، ومن السويد إلى الولايات المتحدة، تسود قناعة عميقة الجذور بأن التغلب على الفقر هو مسؤولية الفرد أولاً وأخيرًا. وعلى هذا الأساس، ترى الحكومات أن واجبها ينحصر في الدفع بالمحتاجين إلى الاتجاه الصحيح، عبر تقديم الحوافز، وفرض العقوبات، والأهم من ذلك، تعزيز التعليم. بل إن التعليم يُعدّ في نظر الكثيرين المفتاح السحري لحل معضلة الفقر؛ شهادة الثانوية العامة، أو حتى أفضل، كالشهادة الجامعية، يُنظر إليها كجسر للعبور من الضيق إلى السعة.
لكن هل هذا هو الحل حقًا؟
ماذا لو لم يكن الفقراء قادرين على مساعدة أنفسهم أصلًا؟ ماذا لو أن جميع الحوافز والمعلومات والتعليم، مهما كانت حسنة النية، لم تؤتِ أُكُلها، بل وربما فاقمت المشكلة؟
قوة السياق
أسئلة كهذه قد تبدو قاسية، لكنها لم تأتِ من فراغ، وإنما طرحها إلدار شافير، عالم النفس في جامعة برينستون، بالتعاون مع سندهيل موليناثان، الاقتصادي في جامعة هارفارد. في عام 2013، قدّم العالمان نظرية ثورية عن الفقر، قلبت كثيرًا من المفاهيم التقليدية رأسًا على عقب.
ما خلاصة هذه النظرية؟ بكل بساطة: "إنه السياق! أيها الأحمق".
شافير، بطموحه اللامحدود، لا يكتفي بمجرد تقديم أطروحة علمية. بل يسعى إلى تأسيس حقل علمي جديد تمامًا، أطلق عليه اسم "علم الندرة". قد يتساءل المرء: أليس لدينا بالفعل علم يهتم بالندرة؟ أليس ذلك هو الاقتصاد؟ يجيب شافير مبتسمًا: "نسمع هذا السؤال كثيرًا. لكن اهتمامي يتركز على علم نفس الندرة، وهو مجال لم يُجرَ فيه سوى القليل من الأبحاث، على نحو مدهش".
فالاقتصاد، في جوهره، يدور حول إدارة الندرة – فلا أحد، حتى أكثر الناس ثراءً، يستطيع امتلاك كل شيء. لكن إدراك الندرة ليس مجرد حقيقة اقتصادية، بل هو حالة نفسية تؤثر بعمق على سلوك الإنسان. الجدول الزمني الفارغ يختلف تمامًا عن يوم مليء بالمهام المتراكمة. وهذا الإدراك للندرة ليس مجرد شعور عابر، بل هو قوة تؤثر على العقل. فالناس يتصرفون بشكل مختلف تمامًا عندما يواجهون نقصًا في شيء ما.
ولا يهم كثيرًا ما هو هذا الشيء. سواء كان النقص في الوقت، أو المال، أو العلاقات الاجتماعية، أو الطعام – كل هذه الأشكال من الندرة تؤدي إلى حالة واحدة: عقلية الندرة. وهذه العقلية، على الرغم من كل عيوبها، لها مزايا. الأشخاص الذين يعانون من إحساس بالندرة يصبحون بارعين في إدارة مشاكلهم قصيرة المدى. الفقراء، على سبيل المثال، يتمتعون بقدرة مذهلة على سد احتياجاتهم اليومية، بنفس البراعة التي يظهرها المديرون التنفيذيون في إتمام صفقات مهمة في ظروف ضاغطة.
لا يمكنك الهروب من الفقر
ولكن، للأسف، عيوب عقلية الندرة تفوق مزاياها بكثير. فالندرة تضيق مجال تركيز الفرد على الاحتياجات الفورية – على الاجتماع الذي يبدأ بعد دقائق، أو الفواتير المستحقة غدًا. أما الأهداف بعيدة المدى، فتُهمَل أو تُنسى. وكما يقول شافير: "الندرة تستهلكك. تُفقدك القدرة على التركيز على أمور أخرى قد تكون ذات أهمية أكبر."
يمكن تشبيه ذلك بجهاز كمبيوتر حديث، ولكنه يُجبر على تشغيل عشرة برامج ثقيلة في وقت واحد. سرعان ما يصبح أبطأ، ويرتكب الأخطاء، وفي النهاية يتوقف تمامًا عن العمل. ليس لأن الجهاز سيئ، بل لأنه مُثقل بما يفوق قدرته على التحمل. هكذا هي حال الفقراء. ليسوا حمقى، ولكنهم يعيشون في ظروف تجعل أي شخص – مهما كان ذكيًا أو حريصًا – يتخذ قرارات سيئة.
إذن، ما الحل؟ إذا كانت عقلية الندرة تؤدي إلى استنزاف الإنسان، فإن الحل لا يكمن فقط في تغيير الأفراد، بل في تغيير السياق الذي يعيشون فيه. لأن القضاء على الفقر لا يتحقق بإلقاء اللوم على الضحية، بل بفهم الأسباب الجذرية التي تحاصر الفقراء في دائرة مغلقة من العوز والقرارات الخاطئة.
أسئلة بسيطة في ظاهرها، كأن يسأل المرء نفسه: "ماذا سنأكل على العشاء؟" أو "كيف سأصل إلى نهاية الأسبوع؟"، قد تبدو عادية أو عابرة. لكنها في واقع الأمر تستهلك جزءًا حاسمًا من قدرة الإنسان العقلية.
يطلق إلدار شافير وسندهيل موليناثان على هذه الظاهرة اسم "عرض النطاق الترددي العقلي". ويكتبان عنها قائلين: "إذا أردت أن تفهم حياة الفقراء، تخيل نفسك وقد أُثقل عقلك بهموم متشابكة. الشعور بالتحكم في النفس يصبح تحديًا شاقًا. تظل مشتت الذهن، سريع الانفعال، تعاني ذلك كل يوم." وهكذا، فإن الندرة، سواء كانت ندرة المال أو الوقت، تدفع الإنسان لاتخاذ قرارات غير حكيمة.
لكن الفارق الأساسي بين أولئك الذين يعيشون حياة مزدحمة بالمسؤوليات وأولئك الذين يرزحون تحت وطأة الفقر هو أن الأول قد يتمكن من أخذ استراحة بين الحين والآخر، بينما الفقير لا يملك رفاهية التوقف أو الهروب من فقره.
إلى أي مدى يؤثر الفقر على الذكاء؟
يرى شافير أن تأثير الفقر على الذكاء يعادل فقدان ليلة كاملة من النوم أو حتى تأثيرات إدمان الكحول. ويضيف: "نحن نتحدث عن انخفاض يتراوح بين 13 و14 نقطة في اختبارات الذكاء." الملفت للنظر أن هذه النتائج لم تكن تحتاج إلى تقنيات معقدة، كتلك التي تعتمد على فحوصات الدماغ، لفهمها. فالفكرة كانت متاحة منذ عقود، لكن ما فعله شافير وموليناثان هو أنهما جمعا بين دراسات الاقتصاد التي تتناول الفقر ودراسات علم النفس التي تتناول القيود المعرفية.
بدأت هذه الأفكار تتبلور قبل سنوات قليلة، عندما أجرى الباحثان سلسلة من التجارب في مركز تجاري نموذجي بالولايات المتحدة. طلب الباحثون من المتسوقين التفكير في كيفية تغطية تكاليف إصلاح سياراتهم، حيث قدّموا لبعضهم تكلفة إصلاح منخفضة قيمتها 150 دولارًا، ولآخرين تكلفة إصلاح مرتفعة تصل إلى 1500 دولار. ثم طُلب من هؤلاء الأشخاص الخضوع لاختبارات معرفية أثناء تفكيرهم في كيفية تدبير الأمور.
كانت النتائج مثيرة للاهتمام. عندما كانت تكلفة الإصلاح منخفضة، لم يكن هناك فرق يُذكر في أداء الاختبارات بين ذوي الدخل المنخفض وذوي الدخل المرتفع. لكن عندما ارتفعت تكلفة الإصلاح إلى 1500 دولار، انخفضت درجات الفقراء بشكل كبير، بينما بقي أداء الأغنياء ثابتًا. مجرد التفكير في مواجهة أزمة مالية كبيرة أضعف القدرة العقلية للفقراء.
ومع ذلك، كان هناك تحدٍّ في هذه التجربة: الأغنياء والفقراء الذين أُجريت عليهم الدراسة لم يكونوا الأشخاص أنفسهم. ولذا، فكر شافير وزملاؤه في العثور على بيئة يستطيعون فيها دراسة نفس الأشخاص وهم يعيشون حالات من الفقر والرغد على حد سواء.
وكان الحل على بعد آلاف الأميال، في المناطق الريفية في الهند، وتحديدًا في مقاطعتي فيلوبورام وتيروفانامالاي. هناك، كان مزارعو قصب السكر يعيشون ظروفًا مثالية لإجراء التجربة. فقد كان هؤلاء المزارعون يحصلون على 60% من دخلهم السنوي دفعة واحدة بعد موسم الحصاد، مما يعني أنهم يعيشون في رخاء مؤقت بعد الحصاد مباشرة، ثم يعودون إلى الفقر بعد نفاد الدخل.
أُجريت التجربة عليهم في أوقات مختلفة من العام، وقُورنت قدراتهم المعرفية بين حالة الرخاء وحالة الفقر. والنتيجة؟ في الأوقات التي كانوا فيها فقراء نسبيًا، سجل المزارعون درجات أسوأ بشكل ملحوظ في الاختبارات. لم يكن السبب أنهم فقدوا جزءًا من ذكائهم، فهم ما زالوا نفس الأشخاص، وإنما لأن "عرض النطاق الترددي العقلي" لديهم كان مرهقًا بفعل ضغوط الفقر.
كيف يمكن للتبرع بالمال أن يُفضي إلى توفير المال؟
يُبرز شافير أن محاربة الفقر لها منافع جليلة لم ندركها من قبل. ويقترح أن نقيس ليس فقط الناتج المحلي الإجمالي، بل ربما حان الوقت لابتكار مفهوم جديد: "الناتج المحلي العقلي الإجمالي." فحينما يتسع عرض النطاق الترددي العقلي لدى الأفراد، نجد آثار ذلك واضحة في تحسين تربية الأبناء، وصحة أفضل، وإنتاجية أكبر للموظفين، وغير ذلك من الفوائد التي لا تُعد ولا تُحصى. يقول شافير: "محاربة الندرة تقلل من التكاليف."
وقد حدث هذا بالفعل جنوب جبال سموكي العظيمة، حيث قام راندال أكي، الاقتصادي بجامعة لوس أنجلوس، بحساب أثر الأموال التي وزعتها الكازينو على أطفال الشيروكي. توصل أكي إلى نتيجة مثيرة: تلك الأموال لم تكن مجرد مساعدات، بل قللت من النفقات العامة على المدى الطويل. فتقديراته – التي كانت محافظة – أشارت إلى أن القضاء على الفقر قد ولّد فوائد اقتصادية تفوق مجموع المدفوعات التي قدمها الكازينو، وذلك من خلال تقليل الجريمة، وخفض تكاليف الرعاية الاجتماعية، وتقليص الحاجة إلى إعادة الصفوف الدراسية.
إذن، ما الحل؟
لدى شافير وموليناثان بعض الاقتراحات العملية. منها، على سبيل المثال، مساعدة الطلاب المحتاجين في إتمام أوراق المساعدة المالية، أو تطوير علب حبوب تضيء لتذكير المرضى بتناول أدويتهم. هذا النوع من الحلول يُطلق عليه "الدفعات الصغيرة"، وهي تدخلات ذات تكلفة منخفضة وفعالية ملموسة، لذلك تحظى بشعبية لدى السياسيين.
لكن، بصراحة، إلى أي مدى يمكن أن تُحدث الدفعة الصغيرة فرقًا حقيقيًا؟ تلك الحلول، وإن كانت تبدو جذابة، لا تتجاوز كونها محاولات للتخفيف من أعراض المشكلة. إنها تُساعد على جعل الفقر أكثر احتمالاً، لكنها لا تُعالج جوهر المسألة. ولعل الصورة الأكبر تُظهر بوضوح أننا بحاجة إلى أكثر من ذلك. في مواجهة هذا الأمر، سألت شافير: "لماذا نُصر على تعديل البرامج القديمة بينما يمكننا ببساطة حل المشكلة من جذورها بزيادة الموارد؟ كأن نُضيف ذاكرة جديدة إلى الكمبيوتر بدل العبث ببرامجه!"
نظر شافير إلي بنظرة مليئة بالدهشة، ثم ضحك وقال: "آه، تقصد توزيع المزيد من المال؟ بالتأكيد، سيكون ذلك رائعًا!" لكنه سارع بالإشارة إلى القيود السياسية التي تجعل من الصعب تنفيذ مثل هذه السياسة.
لكن الواقع هو أن القضاء على الفقر ليس مستحيلاً. قد يبدو برنامج القضاء على الفقر في الولايات المتحدة مكلفًا، إذ تُقدّر تكلفته بـ175 مليار دولار سنويًا، وفقًا للخبير الاقتصادي مات بروينج. لكن تكلفة الفقر نفسه أعلى بكثير. فقد كشفت دراسة أن فقر الأطفال وحده يكلف الاقتصاد الأمريكي ما يصل إلى 500 مليار دولار سنويًا. الأطفال الذين يكبرون في فقر يحصلون على تعليم أقل بسنتين مقارنة بأقرانهم، ويعملون 450 ساعة أقل في السنة، ويكونون أكثر عرضة للإصابة بالأمراض بثلاثة أضعاف.
يرى الباحثون أن الاستثمار في التعليم وحده لن يكون كافيًا لإنقاذ هؤلاء الأطفال. فهم بحاجة أولاً إلى تجاوز خط الفقر. تحليل تلوي أجري عام 2013 على 201 دراسة حول التعليم المالي أكد الأمر ذاته: التعليم المالي، وإن كان مهمًا، فإنه ليس كافيًا لتغيير واقع الفقر. يمكن للناس أن يتعلموا كيفية السباحة، لكن إلقاءهم في بحر مضطرب سيظل يقودهم إلى الغرق.
لا يجب أن تكون الأمور على هذا النحو. قال الكاتب البريطاني صموئيل جونسون في عام 1782: "الفقر عدو كبير للسعادة البشرية؛ إنه بالتأكيد يدمر الحرية، ويجعل بعض الفضائل مستحيلة، والبعض الآخر صعبًا للغاية." بعكس من كان يظن أن الفقر نتاج نقص في الشخصية، أدرك جونسون أن الفقر في حقيقته ليس سوى نقص في المال.
وهكذا، يبدو واضحًا أن الحل ليس في دفعات صغيرة تخفف من المعاناة، بل في تدخل جذري وشجاع يضع نهاية لهذا النقص الذي يُضعف الحياة الإنسانية. الفقر ليس اختبارًا للأخلاق أو قوة الشخصية، بل هو ببساطة نقص في المال.
مقتبس من كتاب روتجر، Utopia for Realists: and How We Can Get There.
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي
مقالة عالية الجودة ، شكرا لجهودك المبذولة في ترجمتها وتقديمها هنا ، استمر ✨✨✨