1.
في عام 1952، وهو العام الذي سبق أن حملت فيه ليدي مارلاند بين يديها مجموعة من اللوحات الزيتية وضعتها بعناية في سيارتها القديمة المكشوفة من طراز "ستوديبيكر"، ثم انطلقت إلى طريق لم يعرف لها أثر، كانت تحمل في حقيبتها مسدسًا آليًا مطليًا بالنيكل، وتخفي بين طياتها لفائف من النقود. لم تكن تثق بالبنوك ولا المصرفيين، وكانت نقمتها على هؤلاء معروفة للناس، فقد زعمت أن المال إنما يكون أكثر أمنًا إذا بقي في يدها.
ولكن ذلك العام، كان المال شحيحًا في يدها رغم حاجتها المتزايدة إليه. كان لويس كاسل، الرجل الذي أصبح جزءًا من حياتها وعاطفتها، يطلب منها على الدوام تمويل مشاريعه وأوهامه. ولم يكن من عادتها أن ترد طلبه، بل كانت تشعر وكأنها ستخذله إن لم تفعل. ولم يكن لويس هذا إلا مغامرًا تقتات روحه على الأحلام، يُحدثها عن مشاريع تدرّ الذهب، أو يقترح سفرًا بلا وجهة، يجمع بين الضحك والخمر والتيه في دروب لا تعرف الاستقرار.. لم يكن لويس يملك فلسًا واحدًا، ولم يكن رفاقه أحسن حالًا، أما ليدي مارلاند، فقد كانت تملك القليل. كان هذا القليل مختبئًا في مقتنيات عائلية، وفي أوراق أسهم قديمة. لم تكن عاملة تكسب رزقها، ولم تكن ثرية تستغني، ولكنها كانت تستطيع، إن دعت الحاجة، أن تبيع شيئًا مما تملك. ولم يكن في قلبها أمل أن يعود المال إليها مرة أخرى، إذ كانت تعلم أن لويس ليس رجلًا تُكلل خططه بالنجاح. كان الفشل رفيقه، لكن وسامته ومرحه جعلا الحياة إلى جانبه أمتع مما ألفت.
نشأت علاقتهما قبل عامين، حين كانت ليدي مارلاند في الخمسين من عمرها وكان لويس في الحادية والثلاثين. هي السيدة التي استقرت وحدها في كوخ يقع ضمن أرضٍ تملكها راهبات "فيليشيان" في مدينة بونكا سيتي بأوكلاهوما، كوخ كان في زمن مضى مسكنًا لسائق سيارات قصر عظيم بناه أحد كبار رجال النفط وسط البراري. أما القصر، فقد طواه النسيان، وأما الكوخ، فقد بدأ يتآكل كما تتآكل الأيام في حياة السيدة. لم تكن قادرة على تحمل نفقات صيانته، أو ربما كانت تتغافل عنها، إذ لم يكن يدق بابها زائرون إلا نادرًا. وكانت في مجتمعها معروفة، لكن الناس يتهامسون بشأنها، يُشيرون إليها قائلين: "انظروا، إنها ليدي"، كأنما الإشارة وحدها تكفي ليتحدثوا عن غرابتها.
وكانت الغرابة تلبسها في مظهرها. فقد كانت صغيرة القامة، لا يتجاوز طولها خمسة أقدام وأربع بوصات، نحيلة بوزنها الذي لا يتعدى مئة وخمسة عشر رطلًا، داكنة الشعر، واسعة الفم. ولما كان شبح الزمن يلاحقها، اعتادت أن تقرأ بشغف مقالات العناية بالبشرة والشعر، تستكشف ما يكتشفه العلماء من وسائل تأخير الشيخوخة، وكانت تأمل أن تجد سر الشباب الأبدي. وقد كانوا يقولون لها أحيانًا إنها تبدو أصغر من عمرها، وكانت تُسرُّ بذلك. بيد أن أزياءها كانت تفضح زمنًا توقف عن الدوران. فقد ظلت ترتدي قبعات "كلوش" التي كانت موضة رائجة قبل خمسة وعشرين عامًا، وفساتين قديمة من عصر "الفلابر"، تُضفي عليها مظهرًا عتيقًا أشبه بفزاعة خرجت من زمن موسيقى الجاز.
وكان بصرها يخذلها وهي التي أبت ارتداء النظارات خشية أن تبدو أكبر سنًا. كانت رؤيتها ضعيفة، حتى إنها تحتاج إلى عدسة مكبرة للقراءة. وحين كانت تقود سيارتها المكشوفة ذات اللون الأخضر، كانت تقود ببطء، تتمايل بين المسارات كمن يتبع خطًا وهميًا في الطريق. لم تكن تحمل رخصة قيادة قط، وكان رجال الشرطة يوقفونها بين الحين والآخر، لكنهم يكتفون بتحذيرها دون عقاب. ولم تكن تلقي بالًا لتحذيراتهم؛ فإن التفكير في السائقين الآخرين كان يبعث في نفسها توترًا لم ترده. كانت ترى أن الحل الأمثل هو أن يبتعد الآخرون عن طريقها.
وذات يوم من أيام الصيف، فتحت باب كوخها فوجدت أمامها شابًا يقف بزي رسمي، يبتسم لها ابتسامة تعلوها مسحة من المرح والتهكم. كان يقول إنه يعمل في قسم المياه والكهرباء، وجاء لقراءة عدادها. كان لويس ذو شعر أسود لامع مفروق من جانب، جبهته عريضة، أذناه كبيرتان، وحاجباه الكثيفان ينحنيان فوق عينين توحيان بالقسوة. لكنه كان يبتسم بسهولة، وكانت ابتسامته تلمح إلى أن العالم مسرح، وأن الحياة ليست أكثر من لعبة. دخل حياتها كما يدخل النهار من نافذة مفتوحة، ووجدت نفسها تدعوه إلى الدخول مرة، ثم تبحث عن أسباب لدعوته مرات أخرى. كان لديها كتب تحتاج إلى ترتيب، ونوافذ عصية على الإغلاق، وكانت على استعداد أن تدفع له مقابل أن يساعدها.
أما لويس، فقد كان رجلًا عاش في بونكا سيتي، لكن حياته كانت سلسلة من التجارب العابرة. التحق بالجيش حين جاءت الحرب، ثم عمل في مهن عدة لم يلبث فيها طويلًا، من عامل فرامل إلى حارس ليلي. كان يهوى الحرية، وينفر من القيود. تزوج مرتين؛ الأولى انتهت كما تنتهي الأحلام العابثة، والثانية كانت مع موظفة استقبال تركته بعد أن اعتقله رجال الشرطة ثلاث مرات لضربه إياها و انتهت بمحاولته إيذاء نفسه. لكنه تزوج ثالثة، وكان زواجه الأخير بممرضة حين التقى ليدي.
استقال لويس من عمله قارئًا للعدادات، وقضى وقته في كوخ ليدي، متخذًا موقعًا أشبه بالخادم الظاهر والصديق الخفي. وكان وجوده يملأ فراغ حياتها، فكانت تدفع له عن طيب خاطر، لا لتوظفه، بل لتمنحه عذرًا للبقاء قريبًا. ومعه، عادت إلى الحياة العامة بعد عزلة طويلة. أصبح للموسيقى في الحانات وقع مختلف، وللرقص والضحك معنى جديد. بالطبع، كانت هي التي تدفع الحساب، لكنها لم تكن تأبه. وها هي ترافقه في الرحلات وتشتري التذاكر، تحيا لحظات غريبة أشبه بحلم. فقد كان حبها للويس قصة من تلك القصص التي تعاند المنطق، لكنها تمنح الحياة نكهة الحرية والجموح.
في صيف عام 1952، جاء لويس إلى ليدي طالبًا خمسة آلاف دولار. حدّثها بعينين يملؤهما الطموح الزائف، قائلاً إنه يزمع دخول عالم زراعة القمح، وإن حاجته إلى المال لا تحتمل التأجيل لشراء أرض يراها مفتاح الثراء. كانت السنوات قد فعلت فعلهن في علاقتهما، فبعد عامين من اللقاء الأول، أخذت الرياح تعبث بسفينتهما المضطربة. أصبح لويس كما لو كان ظلًّا باهتًا لما كان عليه، فلم يعد يظهر الامتنان القديم حين كانت تبيع تذكاراتها الصغيرة لتشتري له هدية، أو تغطي نفقات رحلة. وكان حينما تتحدث يسرح بعينيه بعيدًا، وكأنما يرى عالمًا آخر غير الذي تتحدث عنه. اشتعلت نار الغيرة في صدرها، ورعبتها حدتها، حتى إنها في إحدى المرات عندما تخلص منها خلال رحلة إلى فينيكس، استعانت بمحققين خاصين لتعقب أثره. عثروا عليه قرب سان فرانسيسكو، وفي مناسبة أخرى، امتدت يدها إلى المسدس ووجهته إليه. لقد كانت أيامهما عامرة بالصخب، مكالمات هاتفية تعج بالصياح، ومشاهد علنية من الشجار، وحين تهدأ العاصفة، كانت تتركها منهكة، لاهثة بحثًا عن الهواء.
تصورت ليدي، في وهم قلبها، أن الاستقرار سيأتي حين يجد لويس موطئ قدم في الحياة، وحين يبنيان منزلًا صالحًا يكون ملاذًا لهما. عندها فقط، حلمت، سيصبح الزواج حقيقة، ولن يكون عليها قط التخلي عنه. وبكل ما كانت تملك من حب، أعطته المال. باعت الأسهم التي خلفها لها القدر، وقبضت عليه بيدين ترجفان من الرجاء. لكنه لم يكن رجلًا يعرف الوفاء، فباع الأرض بعد وقت قصير من شرائها في فبراير 1953، وقبض ستة آلاف دولار دفع بها نفقة أطفاله، ثم رحل غربًا مع صديقه لويلن، تاركًا البلدة وأحلام ليدي تذروها الرياح.
بعد بضعة أسابيع، اختارت ليدي الرحيل أيضًا، قادت سيارتها القديمة من نوع "ستوديبيكر" إلى المجهول، وكأنها تبحث عن زمن آخر أو حياة جديدة. لكنها لم تترك وراءها أثرًا، وبعد أسابيع قليلة، اختفت. ومن أين لي بهذه التفاصيل؟ لقد التقطتها من صفحات ضاعت في خضم الصحافة، من كلمات كتبتها الجرائد والمجلات في أواخر الخمسينيات، حين أصبحت حكاية ليدي مارلاند لغزًا يشغل العقول لبضعة شهور. أكثر الروايات شمولًا ظهرت في مجلة "ذا ساترداي إيفنينغ بوست"، لكنها، رغم ما تزعم من اكتمال، لم تكن إلا شذرات من الحقيقة تتخللها فجوات من الغموض.
لم يعرف أحد على وجه الدقة متى غادرت البلدة، ولا ما كان الدافع الذي دفعها للهرب المفاجئ. أما أن خيانة لويس كاسل كانت من أسباب رحيلها، فذلك أمر لا ريب فيه، لكن لم يستطع أحد الجزم بذلك. يمكن تتبع بعض تحركاتها بعد مغادرة بونكا سيتي. كان من المؤكد، على سبيل المثال، أنها أخذت معها بعض اللوحات، لأنها حاولت بيعها، لذا كان هناك عمال معارض يتذكرون رؤيتها، وتواريخ يمكن تحديد وجودها فيها في أماكن معينة. تتبعت الصحافة تحركاتها حتى توقفت الآثار في مكان مجهول. لم يكن تاريخ آخر ظهورها واضحًا كوضوح الشمس، ولا كان يمكن لشاهد عيان أن يؤكد متى رأى ليدي للمرة الأخيرة.
في 22 نوفمبر 1958، نشرت مجلة "ذا ساترداي إيفنينغ بوست" مقالًا حمل عنوانًا يثير الفضول: "أين هي ليدي مارلاند؟"، جاء في صفحات تملؤها الإعلانات وصور الأبيض والأسود، التي لم تفصح إلا عن جزء ضئيل من حكايتها. الكاتب جون كوبلر، الذي سيشتهر لاحقًا بكتابته عن آل كابوني، استعرض قصتها بأسلوب يفيض بالتلميح والإيماء. جعل من مأساتها مادة مثيرة لفضول الطبقة المتوسطة، مسلطًا الضوء على التفاصيل القاتمة بنظرة ساخرة تخلو من الرحمة.
وفي روايته، ظهرت ليدي مارلاند في أشهرها الأخيرة وكأنها حبيسة مزيج من الهستيريا والإنكار، تواجه أصدقاء لويس بعواطف تتأرجح بين الحب والغضب. عندما زارت السيدة ميلر، تلك العجوز الصريحة، لم تجد غير كلمات قاسية تصف لويس بأنه لا يستحق شيئًا. أما ليدي، فقد اندفعت في دفاعها عنه بحدة العاشقة المتيّمة: "لا يمكنك التحدث عن لويس بهذه الطريقة أمامي!"
أما أهلها، جورج ولافيرن مارلاند، فقد حاولوا أن يثنوها عن تعلقها بلويس، لكن نصائحهم ذهبت هباءً. كانت مسحورة، ترفض الحقيقة بكل جوارحها، عمياء عن كل ما قيل لها.
رحلت شرقًا بينما اتجه لويس غربًا، وظهرت بعد ثلاثمائة ميل في مكان يُدعى "موتيل مونلايت" خارج إندبندنس، ميزوري، حيث أقامت عشر أسابيع. كانت ترتدي فساتين صنعت لشابات من أزمنة مضت، تعمل بتنظيف الغرف بإصرار من يريد أن يكفّر عن خطيئة. وهناك، التقطت صداقات، وبخاصة مع الابنة الكبرى لصاحبة الموتيل، ديلوريس، التي كانت حديثة عهد بالزواج. كانت ليدي تطرح عليها أسئلة تكشف عن روح مضطربة: كيف تعرف المرأة أنها واقعة في الحب؟ وهل يمكن لشاب أن يحب امرأة تكبره سنًّا حقًّا؟
ثم، بعد أسابيع من محاولة بيع لوحاتها بأسعار رأت أنها بخسة، جاءت رسالة من معرض في مانهاتن تدعوها للقدوم. في صباح اليوم التالي، تركت موتيل مونلايت خلفها. قالت إنها متجهة إلى نيويورك، لكن عائلتها ذُهلت حين رأوها تأخذ الطريق إلى الغرب. أين كانت وجهتها؟ هل كانت تبحث عن أشباح الماضي في نبراسكا؟ ربما.
وهكذا، بقيت الحكاية، كما روتها الصحافة، نصف حقيقية ونصف حلم، مليئة بالإعلانات التي كانت ليدي تعشق تقطيعها من المجلات، وحطام من الوعود التي طارت مع الريح. كان الغلاف يحمل لوحة لنورمان روكويل، والصفحات تلمع بإعلانات تروّج لمنتجات الزمن البائد. وبين الصور والكلمات، كانت ليدي مارلاند قصة ضائعة بين السطور، تنتظر من يعيد اكتشافها.
اختبارات التتبع الذري تثبت أن "إنتراسيل" يخترق الجلد ويصل إلى ما تحته
يقضي على آلام العضلات من مصدرها
في الصفحة 47، تتخلل فقرة تصور ذروة يأسها من انهيار علاقتها بلويس نكتة غريبة، منفصلة عن السياق ومثيرة للفضول، تقبع بين خطين أفقيين كأنها تعترض على سياق الحكاية.
أفضل طريقة لتعليم زوجتك القيادة هي باستخدام سيارة شخص آخر.
—روبرت فيتش
بعد مغادرتها "موتيل مونلايت"، توارت ليدي عن الأنظار كما تتوارى الظلال عند غروب الشمس، ليس بشكل فجائي ولكن بانسياب يثير القلق. أقدمت في عام 1956 على الاتصال بمعرض "نودلر" في نيويورك، حيث كانت قد أودعت لوحة "مطاردة البافلو" بريشة ألفريد ميلر ليتم بيعها بالعمولة؛ وعندما كتب كوبلر قصته بعد عامين، لم تكن اللوحة قد بيعت بعد، ما عزز الظن أنها لم تُقتل حينها. وإذا ماتت بعد هذا التاريخ، فلا بد أن أثرًا لجسدها كان ليُعثر عليه. في عام 1959، ذكر أحدهم في صحيفة "مورنينغ هيرالد" بولاية بنسلفانيا أنه تلقى رسالة من ليدي. لكن إذا كانت حية، فلماذا هذا الفرار المستمر؟ ولماذا لم تتصل بأخيها؟
بحثت الشرطة عن لويس كاسل الذي انتقل إلى ألمانيا وأعاد التجنيد في الجيش، حيث خاض تجربة زواج رابعة انتهت بالفشل. أجروا له اختبار كشف الكذب، لكن دون فائدة تذكر.
"لو اتصلت بي السيدة مارلاند بأي طريقة وأنا في واشنطن، لفعلت كل ما بوسعي لمساعدتها."
لم تظهر حقيقة مهمة في "ذا ساترداي إيفنينغ بوست" أو في أي مصدر آخر: قبل مغادرتها بونكا سيتي بقليل، طلبت ليدي من عامل في شركة محلية للنصب التذكارية تدمير تمثال كان يصورها في ريعان شبابها. كان التمثال عملًا نُحت بإتقان على يد فنان باريسي شهير. أمرته بتحطيم الوجه أولًا. وقفت تراقب بجمود. ثم أملت عليه أن يتخلص من بقية الحجارة. دفن العامل غلين غيلكريست الحطام في أرضه دون أن ينبس ببنت شفة. وبقيت مدفونة هناك لمدة اثنين وعشرين عامًا، حتى عادت.
2.
حين كنت في السابعة أو الثامنة، اقتنى جدي جين إليس قاربًا من نوع "بونتون"، راسيًا به في خليج هادئ عند بحيرة كاو، قرب بونكا سيتي. منزل جدي وجدتي كان قريبًا من عقار أحد أثرياء البلدة. أما كوخ ليدي، فقد كان على مسافة خمس دقائق سيرًا. لم يكن أحد يذهب هناك. منزلنا كان أبعد قليلًا، على بعد ميلين. قضينا أمسيات الصيف على القارب تحت شمس الغروب ورذاذ الماء. مع واقي الشمس ورقائق البطاطس
شمال أوكلاهوما، حيث الأجواء البرية في بحيرة كاو، مشهد لا يتسق مع تصور المرء لرحلة بحرية مثالية. أو لعلّه يتفق معها في مخيلة بعض الناس؛ فلست هنا لأرشدك إلى شعورك حيال الـ"جت سكيز". تلك ليست نيوبورت! الأجواء في بحيرة كاو قد تأخذك إلى عالم آخر، حيث تبدو المياه مغمورة بروح البرية، وحيث تتداعى الأرصفة وتتسلقها الأعشاب الطويلة. وأما ذكرياتي هناك، فهي في أغلبها لطيفة؛ وإن كان منها ما يثير الاندهاش. أذكر مرة حين فاتني الدرج، فسقطت في الماء مدهوشًا حتى نسيت أن أغلق عينيّ، لكن تلك اللحظة كانت بدورها مدهشة على طريقتها الخاصة. في أعماق بحيرة كاو، كانت هناك عوالم خفية لطالما أسرني خيالها، إذ قيل لي إن بلدة بأكملها تُدعى "كاو سيتي" قد غمرتها المياه عندما بنى سلاح المهندسين السد منذ سنوات خلت، وبهذا باتت تحت الماء حقًا. كنت كلما سبحت هناك أتوقع أن تمتد أصابع خرافية من الأعماق، تمسك بكاحلي وتجرني إلى المدينة المفقودة، حيث مملكة العفاريت التي سأظل فيها رهينًا في مكتب البريد المهجور بعيدًا عن وهج الشمس ونسمات الهواء.
وما كنت لأدرك اهتمام جدي بالقوارب، لكنني في السابعة أو الثامنة كنت قد فهمت أن ما يفعله لم يكن يخضع لمنطق التخطيط، بل هو اندفاع حاسم وهادئ، حتى بات التخطيط المسبق لا أهمية له. كان صمته تفسيرًا لطريقته في الحياة؛ فإن راودته فكرة لتربية الخنازير بكفاءة أعلى، أصبح مربي خنازير. وإن رغب في التحليق، اقتنى طائرة. فما الذي يدعوه إلى شرح نواياه وهو يفعل ما يكفي ليُرى؟ ذات يوم، جاء إلى منزلنا بمهرج سيرك صغير بعدما تبادل عليه بفرن للشواء. وصار ذلك المهرج هدية لي ولأختي. كان يحمل رسومًا لحصان أزرق وفيل طائر، وله أعمدة مخططة بألوان زاهية. وعندما نصبوه في الفناء الخلفي، احتل نصف مساحته، وعزف موسيقى صاخبة. لم أعرف يومًا السبب الذي جعله يقتنيه، ولا أظن أحدًا أخبرني بذلك.
وُلد جين في عام 1920، وفتح عينيه على دنيا المزارع في ريد روك بأوكلاهوما، حيث تصارعت العائلة مع عواصف الغبار في بيت طلبوه من كتالوج "مونتغمري وارد". حيث طاحونة هواء، و دجاج يذرع الأرض، وملابس ترفرف على حبل الغسيل. تلك الأرض التي كانت يومًا ملكًا لقبيلة "أوتو-ميسوريا"، حين نُقلوا قسرًا إليها قبل أن تقسم الحكومة محمياتهم في تسعينيات القرن التاسع عشر، لم تزل محاطة بأراضي القبيلة. عندما اندلعت الحرب، تدرب جين ليكون طيارًا بحريًا، لكنه لم يخض معركة قط، إذ وضعت الحرب أوزارها قبل أن يُرسل إلى الجبهة. غادر الجيش بقرار حاسم: ألا يسمح لأحد بأن يأمره مرة أخرى، وهو قرار لم يكن سوى امتداد لطبيعته الأولى. فعاد إلى ريد روك بصحبة زوجته الجديدة، جودي – جدتي – وانطلق في حياة مزدحمة بالمهن والهوايات.
كان يُصلح الآلات ويزرع الأرض ويصطاد في الغابات. اخترع مطحنة علف جديدة وسوّقها تحت اسم "إيليس فيد آند سيد". انتُخب عمدة لريد روك، وكان رجلاً موهوبًا وعجولًا وصاحب مزاج يحتكم إلى النبيذ أحيانًا. كان يصنع خزائن من خشب الصنوبر لمطبخ جدتي بإتقان عجيب (من أين تعلّم تلك المهارة؟ لم يكن أحد يعرف). ثم يعود ليجلب أثاثًا بلاستيكيًا قبيحًا دون أن يكترث لاستشارة أحد.
وأما والدتي، وهي الثانية بين ثلاثة أطفال، فقد كبرت في بيت بنهاية ممر تتصدره مضخة وقود. كان في الفناء الخلفي راكون أليف وطائرة سيسنا جين ترقد في الحقل. كانت الطرق المعبدة بعيدة أميالًا عن منزلهم. أما الإجازات، فكانت في رأي جدي نزهة بالسيارة تستغرق أسبوعًا، ثم عودة إلى المنزل. حيث مطاعم على الطرق، و فنادق ذات حمامات ضيقة، ومشهد يتحرك دون توقف.
وجدتي بدورها كانت من أوكلاهوما، لكنها التقت بجدي في كاليفورنيا أيام الحرب. هو في مدرسة الطيران، وهي عاملة في لوكهيد تصنع الطائرات. جمع بينهما صديق. لديّ الآن صندوق رسائل كتبتها له بعد أن غادر إلى تكساس للتدريب، رسائل احتفظت بها جدتي، تروي قصصًا عن حب مزهر وأمل مستمر. تقريبا رسالة كل يوم
عزيزتي الشقيَّة،
كيف يمكن للثقة أن تثبت جدارتها – ثلاثة أيام دون رسالة، وغدًا الأحد سيُصبح أربعة أيام، ومع ذلك، لا أزال أُطلق عليكِ لقب "عزيزتي"؟
كانا مختلفين تمامًا. وُلدت جودي ونشأت في مدينة أوكلاهوما سيتي. كان والدها، جدي الأكبر، حدادًا بسيطًا. لكنه أيضًا كان مدمنًا على الكحول، وهو أمر لم يكن ليُعينه على عمله في الحدادة بأي حال. خلال سنوات الكساد الكبير، اضطرت جودي إلى ترك مقاعد الدراسة والعمل، تُصارع الحياة لتجلب القوت إلى منزلها. كانت تعمل في طاولة صودا. لم تكن عائلة بيلي من علية القوم في أوكلاهوما سيتي، بل على النقيض تمامًا، كانت تنتمي إلى الطبقات التي ينهكها الكد. ولكن مع ذلك، كانت تلك المدينة تعج بالحياة؛ حيث الثقافة، والذوق، والأناقة، وإن كانت مكسوة بأردية التواضع ومحلات الأرصفة البسيطة. هناك، كنت تسمع موسيقى تتردد أصداؤها بين الأزقة، وترى الناس يذهبون إلى الرقص، وتشعر بنبض الحضارة قريبًا بما يكفي ليمسّ قلبك.
طوال حياتها، كانت جدتي تحمل في روحها نبلًا ناعمًا لم يكن لينسجم مع واقعها. كانت صبورة، تفيض تعاطفًا وهدوءًا يختبئ خلف قلق دائم. وهي صفات لم تكن يومًا مفهومة لجدي، لكنه أحبّها فيها حبًّا عميقًا. كانت تحب فناجين الشاي المزخرفة بالورود، والروايات الإنجليزية التي تتشح بالغموض والجمال، وكل ما هو إنجليزي عامة. أذكر حين كنت طفلًا صغيرًا ألهو في غرفتها وهي تتابع برنامج "ماستر بيس ثيتر"؛ كانت تبتسم حين يُعرض مسلسل "All Creatures Great and Small". لم أكن أفهم حينها ماهية إنجلترا، لكنني شعرت أنها كانت تمثل عالمًا هادئًا يغمر البيت بشيء من السحر والسكينة وسط مشاهد رؤوس الأيائل المعلقة على الجدران، وقطع الآلات الصدئة المتناثرة فوق المائدة، وأقنعة شريرة أرسلها عمي من غينيا الجديدة. في خزانة حمامها، كان هناك حوض استحمام بلون الفيروز، بدا لي غريبًا في طفولتي، لكنه كان مملكةً سحرية بالنسبة لي. أتذكر سماعها تقول "Crabtree and Evelyn"، كانت الكلمات تبدو كبوابات إلى عالم أوسع وأعمق مما يمكنني أن أدرك.
يمكنك أن تتخيل الصدمة التي أصابت جدتي عندما وجدت نفسها في ريد روك بعد الحرب. كانت كاليفورنيا تعج بالفرص والأحلام، ولكن هنا، في قلب الريف البعيد، كان عليها أن تتأقلم مع حياة زوج يصطاد غزلانه بنفسه، ويختفي لأيام في نوبات سكر، ويطلب منها أن تغرق القطط الصغيرة إذا مرضت. كان عليها أن تواجه طرقًا طينية تصبح مستنقعات بعد أول قطرات من المطر. كانت تُقاسي العيش بشجاعة. ثم كان هناك أخو جدي. القصة حوله غامضة؛ شيء ما في دماغه اختل بعد حمى شديدة أصابته صغيرًا. كان يظهر فجأة في غياب جدي، يُرعب جدتي بتصرفاته، بالتأكيد كان تهديدًا، وربما جنسيًا. أخيرًا، في لحظة شجاعة، صدته بالمكنسة. ثم زاره جين بعد ذلك، ولم يجرؤ على العودة.
في الستينيات، انتقلت العائلة إلى بونكا سيتي، حيث بدأت والدتي دراستها الثانوية. كانت جدتي ترى في بونكا سيتي، تلك المدينة الصغيرة، خلاصًا من حياة الريف المعزول، ولكن بالنسبة لجدي، كان الأمر اندفاعًا كالعادة، ربما غضبًا من نتيجة انتخابات محلية. في النهاية، أصبح التغيير في صالح جدتي. هناك، في بونكا سيتي، هي التي اختارت الأثاث.
ومع مرور الزمن، خفّ اهتمام جدي بتربية الخنازير وازداد ولعه بالشواء. اخترع نوعًا من أفران التدخين، وبدأ مشروعًا جديدًا مع جدتي، حيث كانت تُعدّ التوابل وتُدير الحسابات. ازدهر المشروع، وصار النجاح وهدوء العمر يُخففان من حدة طباع جدي. بالنسبة لنا، كان دائمًا مفاجئًا بطريقة مبهجة، حتى عندما كان يرعب موظفيه. أتذكر يومًا أرانا فيه أول شريط فيديو، وكيف كان العداؤون يتراجعون إلى الوراء نحو خط البداية، كانت معجزة تقلب الزمن نفسه. في رحلة إلى ألمانيا، ألهمه بناء بعض الأكواخ الصغيرة التي رآها، وعندما عاد بنى بيت لعب مذهل الزخرفة في الفناء الخلفي لمنزلنا، أمام المهرج. كان متعدد الطوابق. كانت له جدران معزولة. أصبح ذلك البيت مركز قيادة لكل معارك الحي في طفولتي. بعد سنوات، عندما كنت في المدرسة الإعدادية، قمنا أنا وأصدقائي بتعتيم النوافذ ولعبنا "Dungeons & Dragons" بواسطة مصباح يدوي.
في يوم من أيام الربيع من عام 1985، قضينا أمسية هادئة على متن القارب مع جدِّي وجدَّتي. كنتُ حينها طفلًا في التاسعة من عمري، ولا ريب أنَّ ذلك كان مساء يوم السبت، فقد كان الليلة التي سبقت عيد الأم. في اليوم السابق، أخذت جدَّتي أختي الصغيرة ذات الخمسة أعوام للتسوُّق، واشترت معها أجراسًا صغيرة للرياح تهديها إلى والدتي. علَّقنا الأجراس قرب مجسَّم المهرِّج على الشرفة الخلفيَّة، حيث راحت تُصدر أنغامًا عذبة مع نسيم المساء.
وعلى القارب، شعرتُ بأنَّ أمرًا ما ليس على ما يرام. لم يكن إحساسًا يثير القلق، بل كان أمرًا ملحوظًا يخصُّ جدي. كان صوته أعلى من المعتاد، ويده تحمل كوبًا من الشاي فيه شيء من الويسكي. عندما بدأ يسخر من دروسي في الفنون القتاليَّة، قائلًا: "كارتيه؟"، صحَّحته بجدِّيَّة: "تايكوندو". عندها قام بحركة وهميَّة برجلِه من مقعده، أصابت فخذي ضربة خفيفة لكنها كانت كافية لتجعل عينَي تلمعان بالدموع. لم أشغل بالي كثيرًا بهذا الأمر.
انطلقنا نبحر في البحيرة بقارب "بونتون"، مرتدين سترات النجاة، فيما أخذ والدي يجدِّف بنا جميعًا — والدتي، أختي وأنا — حول الخليج الصغير بالقارب الأخضر الذي كان ملكًا لجدي وجدتي. غنَّينا أغنية "Row, Row, Row Your Boat" كجوقة واحدة. لم تكن تلك عادة أسرتنا؛ ولكن يبدو أنَّ سحر الماء أضفى على أرواحنا نغمةً من البهجة. ثم جاء دوري في تجربة التجديف بنفسي.
حين حان وقت العودة، أعلن جدي أنه سيبقى في البحيرة لبعض الوقت ليضع خيوط الصيد. أصرَّت جدتي على البقاء معه. كان هذا يعني تعقيد الأمور قليلًا؛ فقد جئنا بسيارتها، بينما وصل هو قبلنا بشاحنته. لا بأس، قالا لنا، يمكننا أن نأخذ سيارة جدتي إلى المنزل، وسوف يأتيان لاحقًا لأخذها. شعرتُ بفرح طفولي، إذ كانت تلك السيارة الفضية مميَّزة؛ تحتوي على قفل رقمي بأربعة أزرار فوق المقبض. لم أرَ من قبل سيارة بمثل هذا التصميم، وكان من الممتع أن أُدخل الرمز.
في تلك الليلة، استيقظت والدتي، ولاحظت أن السيارة الفضية ما زالت واقفة في الممر. لم يكن هناك ما يدعو للقلق. لعلَّهما ذهبا مباشرة إلى منزلهما بعد يوم طويل من الإبحار. كنا جميعًا مرهقين، خاصة جدي، الذي بدا عليه التعب الشديد.
لكن في صباح اليوم التالي، لم تتحرَّك السيارة. كان الأحد، عيد الأم، وهو يوم اعتدنا فيه النوم حتى وقت متأخِّر. لم يكن هناك ما يدعو للهلع. مع ذلك، فقط للتأكد، اتصلت والدتي بمنزل طريق "مونومنت". رنَّ الهاتف، ولكن لم يجب أحد.
لم يكن غريبًا على جدي أن ينطلق في رحلة مفاجئة دون أن يخبر أحدًا. مع هذا، قرَّر والداي الذهاب إلى منزلهم على طريق "مونومنت" ليروا ما إذا كان هناك أحد في الداخل.
كنا على يقين من أن كل شيء سينتهي بخير. هكذا تسكن النفس في سراب الأمل عندما تتخيل أن اضطرابًا كهذا ليس إلا حدثًا عابرًا، نتندر عليه فيما بعد، ونضحك من شدة قلقنا حين اكتشفنا أنه لم يكن إلا غمامة صيف مرت وانقشعت دون أن تترك أثرًا.
تركنا والدانا في منزل جدتنا الأخرى، بوني، ريثما يذهبان للتحقق مما جرى. وكانت بوني، والدة أبي، تقاسي وطأة السرطان الذي غلبت عليه، فاستسلمت للورع الشديد وتزهدت في الدنيا بنسك لا تخفى شدته. وقامت امرأة من كنيستها بالعناية بها صباح ذلك اليوم—كانت امرأة ذات حضور مهيب، وإن لم تسعفني الذاكرة باسمها. ربما كانت ديانا، وربما كان غير ذلك. ما أذكره هو وقوفي وأختي في المطبخ نتأمل الجريدة المفتوحة على صفحة الإعلانات، بينما تلك المرأة—ديانا أو غيرها—تحرك قدرًا يغلي فوق الموقد. كانت تتحدث إلينا بلهجة الواعظ الجازم، قائلة إننا لو أحببنا جدينا حقًا، لصَلَّينا من أجلهما بقلوب مفعمة بالإيمان، وإن الله لا يخذل من لجأ إليه بصدق. فلو كانا قد ماتا، فإنما حدث ذلك لأن صلواتنا لم تكن كافية! وأمعنت في كلامها وهي تقلب القدر حيث كانت تعد دقيق الشوفان، بينما كنّا نحن صامتين، نتأمل عجزنا. بعد ما بدا وقتًا طويلاً، جاء أبي، بمفرده، وأخذنا.
وحين عدنا إلى بيتنا، كان الهواء يثقل بوقع ما لا يقال. رأيت خالتي الكبرى جالسة في غرفة المعيشة على الأريكة، قد جمعت قدميها تحتها، وبدا وجهها مشوهًا بالأسى. أما أمي، فقد استقبلتنا عند المدخل وأخذتنا إلى غرفة نومها، حيث جلست على ركبتيها، ووضعت يديها على أكتافنا الصغيرتين، ونطقت بالحقيقة المروعة: "الجدة جودي قد ماتت، وربما الجد جين أيضًا." كانت كلماتها كالصاعقة: "وجدوا جدتك غريقة في البحيرة، ولا يزالون يبحثون عن جدك." ثم ذكرت اسم روبرت هاردي، صديق خالتي الفنان، الذي كان يساعد دورية البحث عنهما البحيرة.
بعد حين، سردت لي أمي القصة بتفصيل أشد. ذهبا إلى منزل طريق "مونومنت" ودخلا من الباب الخلفي—إذ لم يكن جدّاي يقفلان الأبواب أبدًا. وكانت شاحنة جدي غائبة، فاستنتجا أنهما لم يعودا بعد. عندها خطرت لأمي فكرة: إذا كان الحوض في الحمام مبتلًا، فهذا يعني أنهما كانا هنا صباحًا. لكن الحوض كان جافًا. حينئذ اتصلت بأختها وقالت: "أظن أن هناك خطبًا ما."
ذهب الأربعة -والداي مع خالتي وروبرت هاردي- إلى البحيرة في قارب بونتون. وكان جدي يستخدم عبوات صلصة الشواء المقطوعة كعوامات لخيوط الصيد. هناك، شاهدوا إحدى تلك العوامات تطفو بلا خيط، ثم لمحوا بقعة برتقالية على سطح الماء—كانت سترة نجاة. اقتربوا ببطء حتى أدركوا الحقيقة القاسية: كانت الجدة جودي تطفو وجهها إلى الأسفل، يداها منقبضتان وكأنما تحاول أن تتمسك بشيء مفقود.
أما جدي، فلم يكن يرتدي سترة نجاة. قيل لاحقًا إن الطبيب الشرعي خمّن أنه ربما أصيب بنوبة قلبية -حيث كانت هناك علامات مثل زرقة الجذع- فسقط من القارب، وأن جدتي حاولت إنقاذه حتى غلبها الماء. لا أحد يعرف حقًا ما حدث. ربما غرقت جدتي مع جدي، أو ربما ماتت لاحقًا بسبب انخفاض حرارة الجسم، أثناء محاولتها العودة إلى الشاطئ.
لا أذكر يقينًا كيف كان وقع الخبر حين جاءني بموت جدتي وجدي. أذكر أنني كنت هادئًا، لم يهزني الخبر هزة عنيفة كما كانت تلك الممرضة، التي أظنها تُدعى ديانا، تأمل. فقد حدثت نفسي قائلًا: "لن تراهما مجددًا أبدًا" — هذان الجدّان اللذان عشت في كنفهما ورأيتهما مرات لا تُحصى منذ ولادتي. ومع ذلك، كان ثمة شعور غريب يسيطر على روحي، شعور أشبه بيقين غامض بأن ما جرى لم يكن إلا اضطرابًا عابرًا، وأن خاتمة القصة ستأتي سعيدة.
وفي أثناء ذلك، دق جرس الباب. كان صديقي كايل يقف هناك مع أبيه، وفي يديه قفازات بيسبول وكرة. سألانني إن كنت أرغب في الانضمام إليهما إلى الملعب خلف المدرسة لرمي الكرة. أجبته بالإيجاب، وإن كنت أشعر بنوع من الغرابة، إذ لم يكن بيني وبين كايل ود كبير منذ أن كنا في الصف الثاني، أما الآن فنحن في الصف الثالث، فبدا الأمر وكأن الزمن قد امتد بلا سبب. أدركت لاحقًا أن أحدهم لا بد أنه دعا والديه ليأخذاني بعيدًا، يمنحاني تسلية تلهيني، غير أنني آنذاك لم أفكر في شيء من ذلك. بدا لي الأمر وكأنه مشهد آخر في سياق أحداث متتالية.
كانت شاحنة والد كايل بلون رملي، ينبعث منها عبق يذكّر بورش تصليح الإطارات، حلاوة تختلط برائحة عرق السوس. على الأرض خرقة حمراء، وخلف المقعد كان ثمة صندوق صيد قديم، كنت أعرفه من قبل. انطلقنا نحو المدرسة، حيث كانت مواقف المعلمين خالية. وكانت مدرستنا، واحدة من ثماني أو عشر مدارس ابتدائية في بونكا سيتي، تحمل اسم إي. إم. تراوت، وهو صاحب جنازة محلي ورئيس مجلس المدرسة. الآن، حين أستعيد الذكرى، يخطر لي أن جدتي قد مرت بيد ذلك الرجل. أخذنا مكاننا خلف المدرسة، وبدأنا نرمي الكرة، ثم راحوا يضربونها بالمضرب. كنت ألعب، وإن كنت في العادة لا أمارس البيسبول. لكن، غريبًا، بدا لي وكأنني اكتسبت مهارة مؤقتة في استشعار كيف يجب أن أشعر، ووجدت في ذلك متعة لحظية.
أخذت أفكر أن جدتي وجدي ربما رحلا إلى لندن. كنت أعلم أنهما أحبّا لندن حين زاراها في عطلة قبل عام. أحضرا لي عملات غريبة الشكل، وكانت جدتي تتمنى دائمًا رؤية قصر باكنغهام. في ذاكرتي، كانا هناك، يجوبان الشوارع، يتبضعان معاطف المطر، ويصوران نفسيهما أمام أكشاك الهاتف الحمراء. كيف يمكن قول أن هناك إنسان اختفي إلى الأبد؟ كنت على يقين أننا بحاجة إلى البحث في خزانتيهما، سنجدهما فارغتين، وحينها سيغدو اختفاؤهما ليس أكثر من مجرد وهم.
لكن جملة إلى الأبد تعني أن أشياء ثقيلة لن تعود أبدًا: نزهات في حدائق "بايونير وومان"، و رحلات قصيرة على جرار جدي الأخضر، و رائحة أملاح الاستحمام العطرة، وأنه لن يكون هناك عدائين يتراجعون إلى الوراء، ومهرجانات مضت إلى غير رجعة، كلها أصبحت مفقودة، خطفتها أيادٍ خفية إلى عالم غائر في قاع البحر.
لكن ذلك لم يكن لندن.
كنت أشعر أن عقلي خفيف، يتهادى بعيدًا، لكنني وجدت في ذلك راحة غريبة. فوق الملعب، بدت السماء مترامية الأطراف، رمادية شاسعة، والريح تهبُّ في أنفاسي، وعمود العلم يئن بصوت خفيض.
سمعت لاحقًا أن روبرت هاردي، الفنان صديق خالتي الذي انتشل جثة جدتي، عاد إلى الخليج وأقام لها ولجدي طقسًا مباركًا من بركات الهنود الحمر. وفي دارنا، هبت عاصفة داكنة، وأصبحت قطرات المطر على الزجاج داكنة لماعة، وراحت أجراس الرياح تدق بصوت يملأ أرجاء البيت.
3.
ما الذي حدث؟ لقد كان المنقب عن النفط هو الذي وجد ما لم يكن يتوقع، لقد وجده في مقبرة هندية.
ما الذي جرى؟ كانت هناك أختان، تفرقت بهما السبل، إحداهما كانت تملك المال، والأخرى كانت تملك الأطفال.
وما الذي حدث في فيلادلفيا حين كان الحزب الجمهوري هو الحاكم؟ كانت آلة ذلك الحزب تدور في أواخر القرن التاسع عشر بأيدٍ خبيرة ورجال عرفوا كيف يُحكمون قبضتهم على الأمور. كان في وسط تلك الآلة رجل يُدعى صموئيل كولينز، وُلد في عام 1850، فكان له شأن بين سادة السياسة، واسم يتردد في المحافل بين المصلحين. كان رجلًا يحيا بين المناصب كما يحيا الطير بين الأغصان، لا يستقر له مقام. عمل في المجلس التشريعي، ثم صار نائبًا لجمع الضرائب، ثم تسنَّم وظيفة في المحكمة العليا لبنسلفانيا. لكنه في جوهره كان أكثر من ذلك؛ كان رجلًا يعرف الجميع ويُحيي في كل مكان بروح الوداعة والمجاملة. كان وجهه السمح، وثقته في حديثه، وسحر ألفاظه، تجعل كل من يلقاه يوقن بأنه يستطيع الاعتماد عليه في فعل ما ينبغي فعله.
زوجته، إليزا، التي وُلدت أيضًا عام 1850. وعلى صفحات السجلات الرسمية، كان اسمها يُكتب ببساطة: إليزا كولينز. لكن الحقيقة، كما تسجلها شهادة وفاتها ويشهد بها شاهد قبرها في جبل موريا، أنها كانت تُسمى ليدي.
وكان لصموئيل وليدي خمسة أطفال بقوا أحياء، كما يشير تعداد عام 1900. أمّا الباقون، فقد انقضى أجلهم وهم بعدُ في الطفولة، ومن بينهم ابنة تحمل اسم أمها، ليدي الصغيرة، التي فارقت الحياة في عام 1882. وهكذا، كان الاسم ميراثًا تنتقل به العائلة، يتردد بين الأجيال كما تتردد الأصداء في قاعة الزمن.
تجلت فصائل القدر في حياتي ماجي وماري فيرجينيا، فتزوجتا رجلين مختلفين كلياً، وسارت كل منهما في مسار متناقض مع الآخر.
زوج ماجي، جورج روبرتس، كان يبيع الفواكه من عربة يد في بلدة «فلور تاون».
أما زوج ماري فيرجينيا، فكان رجل نفط أصبح من أغنى رجال العالم لفترة من الزمان.
إرنست ويتوورث مارلاند، معروف بـ «إي. دبليو»، كان أكبر من ماري فيرجينيا بثلاث سنوات، وفي منتصف العشرينيات من عمره عندما قابل عائلة كولينز للمرة الأولى حول مطلع القرن العشرين. أحضره صموئيل إلى المنزل، وكانا صديقين رغم فارق السن. لم يكن إي. دبليو قد حقق ثروته بعد، لكنه كان يستميل المتكبر ويستقطب الأنظار بواقعية وأناقة تجعل الناس ينتبهون. كان يلبس ملابس راقية، مهذباً، ومتفائلاً بموهبة في إقناع الناس بأن خططه ستنجح حتماً. والده صناعي في بيتسبرغ، ميسور الحال لكنه لم يكن من الأثرياء الباذخين بمقاييس ذلك الوقت. كانت أصوله إنجليزية، وقد نما يعتبر نفسه رجل نبيل. قال له والده في مزرعتهم على جبل واشنطن، حيث كانت مكتبة المنزل مليئة بروايات والتر سكوت: «من يُعطى الكثير، يُطلب منه الكثير».
ألفريد مارلاند الأب، كان يختزن في قلبه إحساساً عميقاً بالواجب، واجب دفعه في شبابه لمغادرة إنجلترا والانضمام إلى جيش الكونفدرالية في ستينيات القرن التاسع عشر، مستجيباً لدعوة الدفاع عن أناقة الحياة الزراعية. وقد يكون انخراطه هذا مدفوعاً بإدراكه لدور اقتصاد بلدته، أشتون أندر لاين، في صناعة النسيج التي اعتمدت على استيراد القطن. غير أن خيبة أمله في الجنوب لم تنل من رؤيته لعالم محكوم بالذوق الرفيع والفروسية، حيث السجاد القديم وأدوات الفروسية رمز للأصالة والنبل. وفي سعيه لتحقيق هذه الرؤية، ابتكر نوعاً جديداً من الأطواق لتثبيت بالات القطن، مما أسس له إمبراطورية صناعية أنيقة ضمت كنيسة إنجليزية ومعطف تويد وسياسة محلية. كان أمله أن يحقق ابنه إي. دبليو الحلم الكبير بأن يصبح رئيساً للمحكمة العليا.
عندما جاء وقت تعليم إي. دبليو، أرسله ألفريد إلى مستعمرة "روغبي" في تينيسي، تلك التجربة التعليمية الفريدة من نوعها التي أسسها توماس هيوز، حيث كانت تهدف إلى تقديم تعليم إنجليزي راقٍ لمجموعة متنوعة من الشباب الأمريكيين والبريطانيين. تلك المستعمرة، التي باتت منسية اليوم، ماذا لو كان الحل لعدم المساواة هو تعليم الشباب من جميع الأمم والطبقات أخلاقيات الدوق والمسيحية الاشتراكية.لعبوا الكروكيه على هضبة كمبرلاند، ونظموا رحلات صيد الثعالب عبر "بولكات هولو". انهار كل شيء بعد بضع سنوات. أحب إي. دبليو ذلك.
إي. دبليو، الذي احتفظ بحماس والده للنبل، كان يتمتع بذكاء أمريكي للفرص السريعة. بعد تخرجه من كلية الحقوق، افتتح مكتبه الخاص، منطلقاً من استثمارات والده، وبدأ في الانخراط في صفقات سرية ومغامرات ذكية ومشاريع للثراء السريع. كان لديه شغف بالمغامرات المالية واستكشاف أراضي الفحم، وبدأ ببيع لوحات إعلانية ملونة لتحسين الإعلانات المملة في عربات الترام ببيتسبرغ. كان يلعب البوكر بشغف، وحين يخسر، يظهر معدنه الحقيقي في التعامل مع النكسات بروح مرحة، معتبرًا الخسارة مجرد لعبة. "مجرد قليل من المال، أيها الأولاد، لا داعي للقلق."
كان قادرًا على فعل ذلك ليس لأنه لم يهتم بالمال، بل لأن المال كان يحتل مكانة كبيرة في خيالاته. لقد تطلّع إلى جمع ثروة ليست كالثروة التي جمعها والده فحسب، بل ثروة ضخمة تجعل كل حلم له قابلاً للتحقيق، وكل إيماءة عظيمة يرغب فيها ممكنة. فكل ما فقده في البوكر كان تافهاً أمام عظمة الخيال الذي يعمر قلبه. وكان من بين مشاريعه الجانبية في تلك الفترة كتابة قصص خرافية لصحيفة في بيتسبرغ، إذ كان للخيال تأثير عميق عليه. ورغم ذلك، كان يعلم أنه من غير اللائق لرجل نبيل أن يفكر في المال؛ لذا كان عليه أن يجمع الكثير منه ليحرر نفسه من التفكير في تلك الأمور الوضيعة.
أما كيف يجمع هذا النوع من الثروة، فقد أثار اهتمامه بالجيولوجيا من خلال عمله مع غافي وجالي. فقد كانت الأرض الأمريكية غنية بالموارد الطبيعية، بما في ذلك الفحم والغاز والنحاس والذهب. لكن الأهم من ذلك، كانت هناك جيوب نفطية ضخمة تنتظر من يكتشفها، والنفط كان على وشك أن يصبح سلعة لا غنى عنها مع دخول القرن العشرين. ومن يكتشف النفط، قد يجد نفسه يسير على خطى جون د. روكفلر، الذي جعل من "ستاندرد أويل" إحدى إمبراطوريات التجارة الكبرى في ذلك العصر.
وربما كان شغف إي. دبليو بفهم كيفية السيطرة على نقاط القوة وتحريكها ما جعله يقترب من صموئيل كولينز. كان صموئيل قد خدم مع والده في المجلس التشريعي، لكن إي. دبليو هو الذي أصبح صديقاً له، وشاركه في شرب الويسكي وغناء الأغاني الأيرلندية في غرف مزينة بالنحاس. لم يكن صموئيل غنياً بالقدر الذي كان يطمح إليه إي. دبليو، لكنه كان خبيراً في اللعبة، وهذا ما جعله مثيراً للاهتمام.
وفي عام 1903، تزوج إي. دبليو من ماري فيرجينيا، وكان في التاسعة والعشرين من عمره، بينما كانت هي في السادسة والعشرين. وعلى مدى السنوات الأربع التالية، حقق إي. دبليو أول مليون له من خلال التنقيب عن النفط في بنسلفانيا وفرجينيا الغربية. لكن أزمة عام 1907 جاءت بفشل البنوك، مما أفقده كل شيء.
في عام 1908، توجه إلى أوكلاهوما مفلساً إلى حد أنه اضطر للإعلان عن حاجته إلى مستثمرين لتمويل تذكرة القطار. وهناك، وفي غضون سنوات قليلة، حقق ثروة مذهلة، كبيرة جداً لدرجة أنه ظن أنها ستمنحه الحرية لفعل ما يشاء لبقية حياته. أو على الأقل هكذا كان يعتقد.
لا يوجد سجل يؤكد ما إذا كانت عائلة كولينز قد جاءت لتوديعه في محطة القطار، ولكن إذا فعلوا، فقد يكون ودع أكبر أبناء أخته، صبياً في العاشرة من عمره وفتاة في الثامنة، ابن وابنة أخت ماري فيرجينيا ماجي وبائع الفواكه من فلور تاون. ما نعلمه هو أنه بعد بضع سنوات، في حوالي عام 1912، سافر الأطفال في رحلة طويلة إلى أوكلاهوما لزيارة عمهم وعمتهم اللذين أصبحا حديثي الثراء.
سافروا بالقطار، يشاهدون المناظر المتغيرة تمر أمامهم، وهكذا جاءت ليدي لأول مرة إلى بونكا سيتي.
* * *
أفضل وصف وجدته لبونكا سيتي، أوكلاهوما، في أوائل القرن العشرين، ينبع من سيرة ذاتية لإي. دبليو. مارلاند. في الحقيقة، هي السيرة الوحيدة له، وإن وُجدت أخرى فهي محلية في طابعها، تفتقر إلى الإتقان اللغوي، وتُزين صفحاتها الأولى بآيات إنجيلية. أما هذا الكتاب، فهو نتاج باحث جاد وفنان. عنوانه "حياة وموت رجل نفط: مسيرة إي. دبليو. مارلاند"، وصاحبه جون جوزيف ماثيوز، وقد نُشر عام 1951. إنه من أغرب الكتب التي قرأتها، إذ أن رؤية ماثيوز الصارمة تضعه في مقدمة من يتناولون حياة مارلاند. ماثيوز يعرض حياة مارلاند المهنية بتركيز بارد، متجنبًا الخوض في تفاصيل حياته الشخصية، فيخالف بذلك النهج المعتاد للسير الذاتية التي تسعى إلى كشف أسرار النفس من خلال الأحداث الخاصة.
مارلاند يظهر في الكتاب كرجل يرتاد عالم النفط، تسحره بتروليا، روح النفط الأسطورية، التي تتسلل إلى أفكاره بينما يتأمل التكوينات الجيولوجية. أما زواجه، فلا يُذكر إلا عابرًا. ومع ذلك، فإن السيرة رغم تقصيرها في تقديم حياة مارلاند الخاصة، تقدم وصفًا شعريًا ونفسيًا دقيقًا لحياته المهنية من خلال الوثائق الجيولوجية ومحاضر اللجان، مما يمنحها طابعًا فريدًا.
ماثيوز، الذي كان أصغر من مارلاند بعشرين عامًا، ينتمي إلى قبيلة أوساج، وحفيد "أولد بيل ويليامز"، الرجل الذي تزوج في القبيلة في أوائل القرن التاسع عشر. نشأ ماثيوز في أوكلاهوما خلال فترة ثراء القبيلة من تأجير حقوق التنقيب عن النفط، وكتب عنها في روايته "سانداون". درس في أكسفورد، وسافر إلى إفريقيا، وعاش في عزلة بين تلال أوساج، وكتب تاريخًا مهمًا للقبيلة بعنوان "واه-كون-تاه"، الذي أصبح من أكثر الكتب مبيعًا عام 1932.
رغم أن ماثيوز كتب في وقت كان فيه العديد من الشخصيات الرئيسية لا يزالون على قيد الحياة، فإنه اختار التغاضي عن كثير من القصص، مثل قصة ماري فيرجينيا. قليلون يعرفون عنها شيئًا، ويبدو أن ماثيوز كان بإمكانه ملء هذه الفجوات لكنه لم يفعل. يقول: "كانت تمتلك حدة الذهن ونوع الفكاهة التي كان إي. دبليو. يحبها." أي نوع من حدة الذهن يقصد؟ تفصيل واحد يقلقني: يقول ماثيوز إنها كانت تعمل ككاتبة اختزال في فيلادلفيا عندما قابلت إي. دبليو. هذا مؤكد في تعداد عام 1900، حيث تم إدراج "كاتبة اختزال في المحكمة" كمهنتها. لذا، يجب أن يكون شخص ما في عائلة كولينز قد أخبر موظف التعداد بذلك. لكننا نعرف أيضًا أن صموئيل كولينز كان يعمل في المحكمة العليا في بنسلفانيا في عام 1900، وكان صموئيل متشابكًا مع نظام المحسوبية في آلة الحزب الجمهوري. هل درست ماري فيرجينيا الكتابة بالاختزال؟ هل كانت تذهب إلى المحكمة كل يوم؟ تسجل المحاكمات؟ أم كان ذلك نوعًا من التعيين الوهمي- على الورق فقط-، طريقة لصموئيل لجمع راتبين؟ عوالم من الاحتمالات تنفتح حول هذا السطر الواحد، وقد تكون هذه الاحتمالات حقيقية، أو قد تكون مجرد دخان. موسوعة جمعية أوكلاهوما التاريخية تصفها بدلاً من ذلك بأنها "ابنة كاتبة اختزال في المحكمة"، وهو تفسير خاطئ على الأرجح؛ لا يمكنني التأكد. ماثيوز لا يقول الكثير حول ذلك.
رغم عيوبه، يظل الكتاب مثيرًا للغاية من الناحية الشعرية وحاد الذكاء نفسيًا، لأنه مبني من مواد غير تقليدية. فهو يعتمد أساسًا على استطلاعات جيولوجية ومحاضر لجان، مما يمنحه نظرة أكثر أصالة على الحياة العاطفية لهذا الرجل الغريب. تقدم السيرة تيارات شكلت تجربته الحية، بأسلوب قد يكون أكثر تعبيرًا من الصور التقليدية المكتملة.
هناك لحظة في بهو فندق، عام 1912، عندما وصلت ليدي وشقيقها لأول مرة إلى البلدة. كان الليل هادئًا. جلس إي. دبليو. متأخرًا على طاولة في فندق "أركايد" حيث كان يقيم، مصفاة النفط قيد الإنشاء في الشارع، ومنزله في "جراند أفينيو" لم يتم تصميمه بعد. تحدث بضوء الشموع مع الدكتور إيرفينغ بيرين، عالم الجيولوجيا من جامعة أوكلاهوما. إي. دبليو. كان قد حقق نجاحًا كبيرًا بالفعل، وكان لديه عشرون بئر نفط تعمل، وازداد اهتمامه بالجيولوجيا مع نمو ثروته، وكان متحمسًا لوجود عالم حقيقي في البلدة. شخص يمكنه أن يطرح عليه الأسئلة.
كان الباعة المتجولون يغادرون واحدًا تلو الآخر إلى الفراش. الصمت في تلك الأيام بالكاد يمكن تخيله. حوافر حصان تضرب الغبار، أو صرير عربة متأخرة، وأحيانًا صرخة سكران من بونكا أو راعي بقر، لا شيء أكثر من ذلك. كانت الأضواء تنطفئ في جميع أنحاء البلدة الصغيرة على السهول، باستثناء بعض أضواء الشوارع الغازية. جلس الرجلان يتحدثان عن عجائب الماضي الجيولوجي وتكوين الطبقات الحمراء، التي يقف فندقهما على حوافها الرقيقة.
ماثيوز، الذي كان مراهقًا في عام 1912، يعيش في "باهوسكا"، يذكر ذلك الظلام، وكيف كانت تبدو مصابيح الغاز ضد البراري. كانت أوكلاهوما قد انضمت إلى الاتحاد كولاية قبل خمس سنوات فقط. نحن على عتبة بين الغرب القديم وما جاء بعده.
الجزء الآخر من الوصف يعود إلى عام 1908. نزل إي. دبليو. من القطار إلى بلدة بونكا سيتي، التي كانت لا تزال في عمر الخمسة عشر عامًا. في عام 1893، تم فتح منطقة "تشيروكي أوتليت" للاستيطان، وتم تأسيس البلدة. عندما وصل إي. دبليو.، كان كل شيء لا يزال جديدًا، البلدة بالكاد تم حفرها. وسط المدينة كان مجرد رسم لعدد قليل من الشوارع التي تنتهي فجأة في سهل لا حدود له من العشب الكثيف. إلى الجنوب تقع محمية بونكا الهندية. غرب المحمية، هناك مزرعة ضخمة تُعرف باسم "101"، التي تغطي أكثر من مائة ألف فدان.
المزرعة، تلك البقعة التي استقر فيها التاريخ ورست فيها الأقدار، كانت هي المركز الحقيقي للحياة في المنطقة. تملّكها الأخوة ميلر الثلاثة، جو، زاك، وجورج الابن، ولم تكن شهرتها بسبب مساحتها الشاسعة فحسب، بل لأنها موطن لعرض "101 رانش وايلد ويست شو"، ذلك العرض المتجول الذي خلّد في تاريخه أسماء مثل الشاب توم ميكس والشيخ جيرونيمو، الذي اشتهر بفعلته المذهلة في إطلاق النار على البيسون من مقعد السيارة الأمامي. وهناك أيضًا بيل بيكيت، راعي البقر الأسود العظيم، الذي كان يسحر الجماهير بقفزاته الجرئية من على ظهر الحصان إلى ظهر الثور، متمكنًا من السيطرة عليه بفضل عضته الشهيرة على شفته العليا.
في عام 1908، حمل هذا العرض روائعه إلى أوروبا، حيث اعتُقل بعض من أوجلالا سيوكس الذين شاركوا فيه بتهمة التجسس لصالح الصرب. يسجل ماثيوز هذه الفترة قائلاً:
كانت البيسون تقف وتنظر بغباء إلى المارة من خلف السياج، فيما كانت الجمال ترعى على التلال الصفراء، مندمجة مع المشهد لدرجة أن رؤيتها كانت صعبة. عربات السيرك كانت تقف بلا حركة بين عربات العمل اليومية، التي لطختها الروث والطين، أما على طول السكة الحديدية، فكانت تقف عربات السيرك الأقل زخرفة.
هكذا، نشاهد في هذا المشهد نهاية الويسترن وهو يخلّد ذكراه، فيؤدي نفسه في لحظة نهايته. فرعاة البقر الحقيقيون الذين كانوا يعيشون في "نيو بونكا"، أصبحوا يكسبون عيشهم من تمثيل دور راعي البقر أمام الجمهور. أما الهنود، الذين استمروا في العيش بطرقهم التقليدية على الأراضي القبلية المجاورة، فكانوا يمثلون أدوار "الهنود" في عرض "101" ويتجادلون حول أجورهم مع الأخوة ميلر.
وكان سكان البلدة يعيشون دراما حقيقية للاستيطان الحدودي، في حين أن استوديوهات الأفلام الصامتة كانت تنتج أفلام الويسترن، مما جعل الجميع يشاهدون هذه الأفلام ويدركون الواقع الجديد. لقد كانت تلك اللحظة خصبة بشكل استثنائي لأي شخص مهتم بتجربة الأدوار واستكشاف السرديات المختلفة للحضارة.
وعندما نزل إي. دبليو. من القطار، كان يحمل في داخله أحلام الطموح والعناد، الأمريكية المحبة لإنجلترا، باحثًا عن غرفة في فندق. وسرعان ما انضم إلى الأخوة ميلر، الذين كانوا جميعًا رجال عرض من قرون مختلفة. استأجر إي. دبليو. حقوق التنقيب عن النفط تحت المزرعة، وراح يركب معهم على ظهور الخيل لاستكشاف التضاريس.
في عام 1911، وجد إي. دبليو. بقعة واعدة على تلة كانت مقبرة مقدسة لرجل بونكا هندي يُدعى ويلي-يبكي-من-أجل-الحرب. كانت التلة مقبرة مقدسة. البونكا، مثل الأوساج، لم يدفنوا موتاهم حتى أقنعهم الرجل الأبيض بذلك. كان البونكا يربطون موتاهم ويضعونهم على منصات، أو يعلقونهم في الأشجار حيث يمكن للأسرار العظيمة رؤيتهم.
بمساعدة الأخوة ميلر، أقنع إي. دبليو. النسر الأبيض، زعيم البونكا، بمنحه عقد إيجار الأرض. التاريخ يروي أن النسر الأبيض، الذي كان في التسعينيات من عمره ووافق على الصفقة بتردد شديد، حذر إي. دبليو. من أن البئر ستكون "دواءً سيئًا" للقبيلة وله.
جاءت المعدات بالقطار، وجرت الثيران الأحمال الثقيلة عبر السهول الموحلة حتى ارتفعت منصة الحفر على التلة. كان إي. دبليو ينام هناك، يأكل هناك؛ بينما كان الحفر جاريًا، نفدت أمواله.
أعطى السيدة رودس، مالكة فندق "أركايد"، وعودًا، وهي، جندية واقعية، لطيفة، ذات تعاطف فظ، و سمحت له بالائتمان.
وعندما ضربت البئر النفط، كان إي. دبليو. في وسط نهر "سولت فورك"، يساعد في مد خط أنابيب الغاز. واندفع إلى البئر عندما سمع الأخبار، حيث رأى الريشة السوداء من الرذاذ تعلو فوق منصة الحفر. كانت تلك اللحظة التي أدرك فيها أنه أصبح غنيًا، وكانت يداه ترتعشان من شدة الانفعال.
4.
ها أنذا أضع بين يديك هذه اليوميات التي دَوَّنتها ليدي مارلاند في عام 1921، وقد بدأت في شهر يوليو بعد ثلاثة أشهر من عيد ميلادها الحادي والعشرين، وانتهت في أواخر سبتمبر. هذه اليوميات، في حقيقتها، ليست سوى سجل للرحلات؛ إذ تجد كل صفحة منها تبدأ بعنوان مطبوع "أماكن زُرت"، يتبعها خطوط فارغة تُخصص لكتابة التاريخ والمكان. كتبت ليدي، باستثناءات قليلة، مدخلاً واحدًا لكل صفحة، بخط يد صغير ومستدير وزواياه حادة. تتزامن هذه الفترة التي تسجلها اليوميات مع رحلة إلى أوروبا قامت بها مع إي. دبليو. وماري فيرجينيا. أبحروا من ميناء نيويورك على متن السفينة "آر إم إس أولمبيك"، التي كانت شقيقة "تايتانيك"، وذلك في السادس عشر من يوليو، متجهين إلى ساوثهامبتون عبر شيربورغ في فرنسا.
17 يوليو—نمت حتى وقت متأخر، تمشيت على سطح السفينة، وعموماً استهلكت وصتى فى التمشية.
قبل يوم من مغادرتهم، اجتاحت نيويورك عاصفة كهربائية هائلة، إذ ضرب البرق المباني، وأظلمت الشوارع واحدة تلو الأخرى. وأفادت صحيفة التايمز أن صهريجين للنفط في بايون، نيوجيرسي، قد تعرضا للصواعق، ما أدى إلى اشتعال نيران هائلة على الرغم من الأمطار الغزيرة؛ "أعمدة من اللهب"، كما وصفها المراسل، "طعنات مئات الأقدام نحو السماء." في مانهاتن، انهارت فتاة تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا تُدعى سادي ستون، تعمل في مصنع كيمونو لصامويل كامينسكي في شارع ووستر، من الهستيريا أثناء العاصفة واضطر طبيب إلى علاجها. أظلمت الأضواء في محكمة شرطة سوق إسكس، مما أرعب نحو مئة شخص كانوا في قاعة المحكمة؛ لكن القاضي سيمبسون أعاد الهدوء، كما طمأنت التايمز قراءها.
شاهدت ليدي العاصفة من الطابق العلوي في فندق بلازا، حيث كان المارلاند يحتفظون بشقة. أو ربما كانت تتسوق لشراء حاجيات رحلتها واضطرت للاندفاع إلى متجر هربًا من المطر. أو ربما كانت تتناول الغداء مع أصدقائها، تفكر في الهدايا التي ستجلبها من باريس. انتقلت ليدي وأخوها الأكبر، جورج، للعيش بشكل دائم مع إي. دبليو. وماري فيرجينيا في مدينة بونكا بعد زيارتهما الأولى بفترة قصيرة. وعندما بلغت ليدي السادسة عشرة، تبنّاها المارلاند قانونيًا. (يبدو أن والدي ليدي البيولوجيين تقبلا دورهما كأقارب فقراء بفرح يكاد يكون فيكتوريًا؛ ولد طفلان آخران لهما بعد أن حقق إي. دبليو. أولى ملايينه، صبي يُدعى مارلاند وفتاة تُدعى فيرجينيا.) بعدما نشأت كابنة لبائع عربة يد، أصبحت ليدي وريثة. عاشت في القصر في شارع جراند، بحدائقه الخاصة التي تمتد على ثمانية أفدنة، وسلّمه المعلّق، ومسبحه الداخلي. نظم إي. دبليو. سباقات صيد الثعالب الإنجليزية على البراري؛ وشاركت ليدي فيها مرتدية جاكيت وربطة عنق. نظم إي. دبليو. دوريًا للبولو؛ وذهبت ليدي إلى المباريات. كانت تمتلك كتبًا وفساتين ومجوهرات وخيولًا. كانت ترقص وتشرب الشمبانيا.
ما زالت حفلات المارلاند تُذكر وتُكتب عنها بعد عقود.
كانت الأوركسترا تعزف على التراس، وحدائق مارلاند تنبعث منها أضواء زرقاء ناعمة. كانوا يرقصون، يتنزهون ضاحكين عبر هذا الزقاق وذاك، ويحتسون الويسكي والبوربون المهرب.
قبل بضع سنوات، دار حديث في هوليوود عن فيلم عن ليدي مارلاند، كان سيُسمى "نهايات الأرض". كان من المفترض أن تلعب جينيفر لورنس دور ليدي؛ وكان هارفي واينستين وديفيد أو. راسل، ربما آخر شخصين تود وجودهما في مكان قريب من قصة ليدي، سينتجان ويخرجان الفيلم. لم يحدث شيء من هذا، لكن لو حدث، فهذه هي المشاهد التي يمكن تخيل الكاميرا تحبها، تلك اللقطات الناعمة من الرفاهية: التربة تتطاير من حوافر خيول البولو، المعاطف الحمراء لصائدي الثعالب، و الأبواق، و الحدائق، و توهج الأضواء الزرقاء.
كيف كانت تلك الفتاة التي بدا أن حياتها مستوحاة من قصة خرافية؟ من الأسهل القول ما الذي رأته. رأت مدينة بونكا تتحول، تملأ بالنوافير والمنازل الفاخرة والقوارير الكريستالية والثريات الكهربائية. رأت عمها – أعني والدها، رغم أنها لم تدعُه بذلك أبدًا – يزداد غنى بشكل مذهل، لا يُصدق: بحلول عام 1920، عندما كان في منتصف الأربعينات من عمره، كان يسيطر على 10 في المائة من احتياطيات النفط المعروفة في العالم. رأت داخل عربات القطار الخاصة التي نقلتها إلى مدارس داخلية شرقية. رأت المحيط الهادئ من على سطح يخت إي. دبليو. رأت هاواي. في الصور من تلك الفترة، تظهر مرحة، و مفعمة بالنشاط بشكل يتناسب مع الزمن. لا تتوقف عن الضحك. هنا هي ترتدي فستانًا أنيقًا، تتخذ وضعًا كوميديًا على الشرفة. هنا هي تمسك حصانًا من اللجام، و تبتسم بشدة، وقبعتها تركتها تغطي عينيها. ومع ذلك، تذكرها أصدقاؤها لاحقًا بأنها كانت بطريقة ما محتشمة، خجولة بطريقة يصعب تحديدها، كما لو أن جزءًا منها كان دائمًا يقف جانبًا لمراقبة تجربتها الخاصة من الخارج. كما لو كانت تختبر عمدًا نسيج الرومانسية لترى ما إذا كان سيصمد.
هذا هو الصوت الذي يتردد في اليوميات:
لم تشرق الشمس لتغمر العالم كله بالذهب كما بدا صباح دخولنا إلى ذلك الميناء الذي لا يُنسى في هونولولو؛ بل بالأحرى بنصف قلب، هنا وهناك، اختارت كنيسة قوطية صغيرة تكاد تكون مختبئة على التل، أو إحدى القوارب الشراعية الساحرة التي تمايلت بكسل على الماء الأخضر العميق في حضن الميناء. في طريقنا عبر القناة إلى ساوثهامبتون، مررنا بقلعة سكاربره حيث ماتت الملكة فيكتوريا.
في عام 1921، كانت معتادة بما يكفي على الرفاهية بحيث يمكنها الكتابة عن الأولمبيك، ربما أكثر سفينة سياحية براقة في العالم، السفينة التي اختارها ماري بيكفورد ودوغلاس فيربانكس للعودة من شهر العسل، وذكر حينها الأوركسترا أو الحمامات التركية أو المسبح أو الصالة المصممة على غرار قصر فرساي. ما لفت انتباهها بدلاً من ذلك كان حادثة شهدتها بين الركاب من الطبقة الدنيا.
22 يوليو—وقفنا على ظهر السفينة ونظرنا إلى الأسفل إلى قاعة الركاب، بينما قدم يهوديان بعض الحلوى والمكسرات. نشب مشهد حيث تدافع الأطفال بينما مزقت الأمهات بعضهن البعض في رغبة جنونية للحصول على الطعام الجيد لأطفالهن. الأطفال الفقراء يبحثون ويخطفون ويبكون – النساء الفقيرات يفقدن حفنات من الشعر وكادوا أن يسفكوا الدماء.
هذا الصوت – الذكي، الملاحظ، والدقيق، ولكن غير الناقد، المنفتح على الكليشيه – ينتمي إلى قارئة، إلى شخص تكون قصصها الأولى مرجعية لتجربتها الخاصة مستمدة من الكتب.
الخميس، 25 أغسطس
جلستُ وحدي في الطابق العلوي، ثم تناولت عشاءً خفيفًا استُهلّ بالهدوء وانتهى بالسكون. وبينما كنت أختلي بذكرياتي، وقعت عيناي على كتاب "إيفان هارينغتون" الذي تركه لي إد برسالته.
الجمعة، 26 أغسطس
استيقظت هذا الصباح وشرعت في فكّ أمتعتي. وبعد أن فرغت، ألقيتُ نظرة على الكتاب ذاته، ثم خرجت إلى شوارع لندن العزيزة. تجولتُ مبتاعة حاجاتي البسيطة: صابونٌ وبعض أعواد الثقاب الوردية.
الاثنين، 29 أغسطس
منذ الصباح الباكرأقرأ وأتنقل بين صفحات "إيفان هارينغتون".
الثلاثاء، 30 أغسطس
ما زلتُ أقرأ حتى غلبني النعاس
الخميس، 1 سبتمبر
أراد إي. دبليو. مني أن أذهب إلى متجر بيربيري لأشتري قبعة ومعطفًا بنقشة الكاروهات. ولما أوصلت له رأيي بأن هذه الأشياء غير عملية، تساءلت: لماذا أُعدّ نفسي لمواجهة المطر والرياح بينما هناك متسعٌ من الوقت لأستعد لرقصة عشاء قد تحمل أجواءً أكثر دفئًا؟ أما "إيفان هارينغتون"، فلا يزال يُرافقني.
السبت، 10 سبتمبر
هذا الصباح، جربتُ قياس بعض الملابس. وبينما كنت أنشغل بذلك، كنت ما زلتُ أسرح بخيالي في "برج أينسورث"، تلك الرواية التي أجد فيها متعة لا يضاهيها شيء، كأنما كل كلمة فيها تنسج لي قصة جديدة.
الشمس في أفقها كما لو كانت تستعد لإغراق العالم بضياء من ذهب خالص، تتوهج وكأنها ترحب بمقدم الأميرة إلى الميناء. النساء الفقيرات، كما يفرض عليهن الواقع، يُنتظر منهن أن يفيضن امتنانًا حين يمنحهن اليهود حلوى ومكسرات، وكأن العطاء نفسه يحمل طابع العظمة. إنها صور تخدع العين بجمالها، وتجعل العقل ينقاد إلى وهم الواقع الساحر. ولكن، آهٍ من هذه الأميرة، فقد تعلمت هذا الدرس متأخرة، ولم تستطع أن تعتنقه كاملًا؛ فهي تعرف جيدًا ماذا يعني الفقر، وتتذكر بمرارة ما كان عليه حالها قبل أن يزينها لقب الأميرة. ولهذا، لا يسعها سوى أن ترى، بعين ناقدة، كيف يتلاشى السحر مع الزمن، وكيف أن بريقه، حتى عندما يظل قائمًا، لا يحمل لها ذلك التأثير الذي توهمه التقاليد.
ها أنا في لندن، وهذه المدينة العريقة لا تفعل سوى أن تهمس لي بشيء واحد: لقد كنت أعاني من الحنين دون أن أدركه طوال حياتي.
أيامها هنا مزدحمة، أعيش في دوامة لا تهدأ، من غداءات أنيقة وتجارب قياس مضنية، إلى حفلات كوكتيل، وزيارات للمتاحف، وحضور عروض فنية. وسط هذا الزخم، تجد متعتها في تفاصيل صغيرة؛ السير على طول شارع ستراند، و طلب علب ثقاب وردية، و تناول العشاء في مطعم تروكاديرو، وتأمل جواهر التاج الملكي التي تسلب الأنظار.
عندما أقامت السيدة دي فريين عشاءً فاخرًا في فندق الريتز، شعرت للحظة وكأنني أعود إلى الوطن. عزفت الأوركسترا ألحانًا أمريكية شجية، وحاولت أن تضفي لمسة من أجواء بلادي بألحان مألوفة كـ"برايت آيز" وبعض مقطوعات الزمن الجميل. وسط ذلك، تحدثت السيدة دي فريين بإعجاب عن الغرف الفاخرة التي احتلها ملك وملكة بلجيكا قبل أسابيع. ولكن، برغم كل هذا، أجد نفسي أحيانًا غارق في موجة من الكآبة، وكأن شيئًا ما، لا أستطيع تحديده، ينقصني حتى في أروع الأماكن.
وفي معرض الصور الوطني، حيث زارته وحدها هذه الظهيرة، ومكتبة وستمنستر، شعرت بشيء يشبه الرهبة. إن الجهل، بكل ما يجهله الإنسان، قد يبدو كظل ثقيل يُخيم عليه، لكنها وجدت عزائي في الجمال المحيط بها.
وفي باريس، أتناول العشاء في مطعم ماكسيم، وأزور متحف اللوفر لأقف أمام تمثال فينوس دي ميلو، ذلك الإبداع الذي يخطف الأنفاس. أما في إدنبرة، فأجد نفسي مأسورة بسحر الأزقة الضيقة والمظلمة خارج شارع رويال مايل، حيث يقول لي إي. دبليو. إن هذه الأماكن شهدت كثيرًا من جرائم القتل.
وفي آشتون-أندر-لين، رافقني إي. دبليو. إلى الكنيسة القديمة حيث مشيت فوق قبور عائلة مارلاند التي يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر. ربما أراد إي. دبليو. أن يشعرني بأن هذا التاريخ بات جزءًا من تاريخي الآن. ربما شعرت بذلك، ولكني لم أفصح عن شيء. فقط، أشرت في يومياتي إلى زيارتي اللاحقة لمسقط رأس شكسبير في ستراتفورد، وكتبت أن هذا المكان يشبه بقعة حلم حقيقية.
* * *
في منزل والديّ، ذلك البيت الهادئ القابع في أوكلاهوما سيتي، ثمة لوحة تثير في النفس ذكريات وأطيافًا من الماضي. إنها لوحة رسمها الفنان روبرت هاردي، تجسد قصر إي. دبليو. مارلاند الثاني، ذلك القصر المحاط بسياجه المهيب على طريق مونومنت، والذي شُيد بين عامي 1925 و1928. لا أدري كيف انتهى المطاف بهذه اللوحة إلى عائلتي. كان الأمر أشبه بلغزٍ لم أفك شفرته قط. انفصلت عمتي عن روبرت هاردي عقب وفاة أجدادي بفترة وجيزة، ولم تبق في ذاكرتي منه سوى لمحات عابرة، كشعاعٍ خافت من ضوء بعيد.
أتذكره بالكاد: رجل نحيف، بشعر طويل ولحية سوداء كثيفة، وعينين غريبتين تحملان مزيجًا من الحدة والجروح، كأنهما نافذتان تطلان على عالمين متناقضين. كان يرتدي دائمًا قميصًا ضيقًا من الفلانيل وسروال جينز أسود، تبدو عليه بساطة الريف وصمت المبدعين. وعلى الرغم من هذه الصرامة التي بدت عليه، كان يحمل في أعماقه لطفًا نادرًا، لطفًا يكاد يؤلم من رقته. لا أنسى ذلك اليوم الذي جاء فيه بحصان إلى الفناء الخلفي لعمتي، وقاده بحنوٍّ بينما أنا وأختي نركب ظهره، وكأنما أراد أن يمنحنا شيئًا من عالمه السحري.
أما عمتي، فقد كانت هي الأخرى غامضة في وجودها، تُقيم حفلات لا يُدعى إليها الأطفال، وتملأ بيتها بأشياء ثمينة يجب أن تُحفظ من أيدي الصغار. كان هناك كتب غريبة، وطاولات زجاجية تحمل مصابيح تبدو كأنها جاءت من عالم آخر. هذا الغموض كان يضفي على وجودها ووجود روبرت هاردي سحرًا بعيد المنال، كحلمٍ يرفض أن يُدرك.
مرت السنوات، وابتعدت ظلال روبرت هاردي عن حياتنا. ولكن ذات يوم، وأنا أتنقل بين صفحات الإنترنت، عثرت على خبر وفاته عام 2008، عن عمرٍ ناهز الخامسة والخمسين. علمت أنه قضى سنواته الأخيرة يدرس الفن في مدرسة ثانوية بتولسا، وأنه كان ناشطًا في قضايا الهنود الحمر الأمريكيين. عرفت أيضًا أنه تبنته أمة بونكا، وكان يمتطي حصانًا عربيًا يُدعى "خليفة"، يجوب به السهول عاري الظهر، بلا سرج أو لجام، كأنه جزء من الطبيعة نفسها.
لا أعرف كيف اختفى هذا الرجل من حياتنا، لكن ما تركه خلفه من آثار لم يزل قائمًا. ففي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، رسم سلسلة من المباني التاريخية في بونكا سيتي. لسنوات، كانت هذه الرسومات معلقة في أماكن مختلفة: فوق أبواب نوادي العشاء، قرب كرات العلكة، وكأنها شاهدة على حقبة انقضت. لا أعلم كيف حصل والداي على نسخ موقعة ومرقمة من هذه اللوحات، نحن لسنا من أولئك الذين يشترون الفن. ربما كانت هدية؟ لا أدري.
حين ساعدت والديّ في إعادة طلاء المطبخ قبل بضع سنوات، أعدت تعليق اللوحات فوق الخزائن. كانت تبدو مختلفة تمامًا أمام الجدران الخضراء الباهتة، كأنها تسطع بنور جديد، يكشف عن جمالها الخفي.
ومن بين جميع تلك اللوحات، كانت لوحة القصر هي التي تأسرني دائمًا. تبدو لي كأنها بقايا من مدينة غارقة، تعود إلى الحياة في كل مرة تقع عيني عليها. ذلك القصر على طراز عصر النهضة، بجدرانه من الحجر الرملي الفاتح، وسقفه المغطى بالبلاط الأحمر المجعد، شرفاته الأنيقة، وتماثيله التي تقف بشموخ، ومداخنه الأربعة التي كنت كطفل أخلط بينها وبين أبراج السجن. في اللوحة، تقف سيارات من عشرينيات القرن الماضي متوقفة بالخارج، كأنها في انتظار ضيوف حفل كبير. تظهر عائلة ترتدي ملابس قديمة، تمسك بأيدي بعضها البعض، وتتجه نحو القصر.
في عام 1923، دعا جيه. بي. مورغان الابن السيد إي. دبليو. إلى مكتبه في مانهاتن، حيث غمره بعبارات المديح وإطراء لا يخلو من نكهة الدخان المتطاير من سيجاره. قال له: "يا لها من مؤسسة عظيمة أنشأتها، ويا له من عقل تجاري بارع تمتلكه، سيدي." واستطاع بذلك إقناعه ببيع أسهم من شركته إلى بنك جيه. بي. مورغان بقيمة اثني عشر مليون دولار. كانت تلك الصفقة الشرخ الصغير الذي بدأ يتسع على مدى السنوات التالية، حيث تسلل آل مورغان تدريجيًا للسيطرة على الشركة. كان إي. دبليو. يحتقر المصرفيين ويصفهم بازدراء بأنهم "فتية بوجوه جامدة"، ويفضل عليهم أولئك المقامرين والمغامرين، لا الرجال الحذرين الذين بنوا ثرواتهم على حسابات الأرقام العشرية.
إلا أن الغموض أحاط بحياة إي. دبليو. في تلك الفترة. فبينما كان آل مورغان يفرضون نفوذهم على لجنته التنفيذية، كان هو منشغلاً بمشاريع غريبة تزداد تباعدًا عن الواقع. أرسل خبراء إلى أوروبا لجمع التحف الفنية لمجموعته، وشيَّد قصرًا فخمًا في بونكا سيتي، ودعا فنانين لتزيينه بلوحات خيالية تُظهره وأطفاله في أوضاع تمثيلية؛ فجورج يظهر كعامل جوال، وليدي بدور كارمن في أوبرا جورج بيزيه. بل إنه انغمس في هوس بالمناطيد الجامدة، فانضم إلى شركة تخطط لصناعة مناطيد عسكرية وأخرى فاخرة لنقل الركاب على غرار المناطيد الألمانية، وكان من بين مؤسسيها فرانكلين دي. روزفلت. وفي إحدى رحلات صيد الدببة بميسيسيبي، اشترى مزرعة عشوائيًا بمبلغ 750,000 دولار.
وفي عام 1926، توفيت ماري فرجينيا، مما أضفى مزيدًا من الغموض على العائلة. كانت تبلغ الثامنة والأربعين أو ربما التاسعة والأربعين، إذ سجلت شهادة وفاتها سنة ميلاد مختلفة عن السجلات القديمة في بنسلفانيا. لكن ما الذي أودى بحياتها في عمر مبكر كهذا؟ أُعلن أن السبب الرسمي للوفاة كان الالتهاب الرئوي، وأن المرض استمر أربعة أيام فقط. مع ذلك، قال جون جوزيف ماثيوز إنها توفيت "بعد مرض طويل"، ربما كان سرطانًا لم يُشخَّص. وترددت شائعات عن تدهور حالتها لفترة طويلة، وقيل إنها كانت تتناول الكحول بكثرة، وهو ما قد يكون صحيحًا بالنظر إلى أن تليف الكبد أُدرج كعامل مساهم في شهادة وفاتها. كما أُشيع أنها كانت تتناول اللاودانوم، وأنها تسببت في مشاهد صاخبة بالأماكن العامة. وقيل إنها كرهت الحياة في أوكلاهوما بسهولها الواسعة وسمائها المفتوحة، وكرهت البلدة الطينية التي صارت لاحقًا مدينة نفطية فاخرة. كانت حادة الذهن وسريعة الغضب. يُقال إنها صرخت ذات مرة في إحدى المناسبات الاجتماعية في الكنيسة، وهي ثملة: "رأيته مع فتاة!" عندما سألها أحدهم عن سبب بكائها.
وفي تفاصيل تثير الفضول، قام إي. دبليو. بتركيب نظام تكييف مركزي في غرفتها فقط بالمنزل الموجود في شارع جراند. أما مخططات القصر الجديد، التي وُضعت قبل وفاتها، فلم تشر إلى وجود غرفة لها. فهل بدا موتها وشيكًا بحلول عام 1925؟ أم أنها كانت تخطط للبقاء في المنزل القديم بينما ينتقل إي. دبليو. للعيش مع جورج وليدي؟ أم أن هناك أمورًا خفية لم تُكشف بعد؟
في إحدى الرحلات البحرية على متن السفينة أوليمبيك، كانت عائلة مارلاند متوجهة إلى إنجلترا. هناك التقى جورج وليدي بشاب يدعى إدوارد دوناهو، ينتمي إلى عائلة بارزة في بونكا سيتي. قضى دوناهو وقتًا معهما في أوروبا، وكان هو "إد" الذي أهدى ليدي نسخة من رواية إيفان هارينغتون. كتبت ليدي في مذكراتها: "يرقص جيدًا، وهو ذكي أيضًا – مزيج رائع." كان دوناهو قد درس في جامعة هارفارد، وعمل لفترة لدى دار نشر ألفريد أ. كنوب، وكان شخصية هامشية في عصر نهضة هارلم ومرتبطًا بنيلا لارسن. ولكن حياته اتخذت منحى مأساويًا فيما بعد، إذ أصبح مدمنًا.
في عام 1937، نشر دوناهو رواية بعنوان Madness in the Heart، تناول فيها نسخة خيالية من تاريخ بونكا سيتي، مستعرضًا شخصيات مستوحاة من عائلة مارلاند. ظهرت شخصية إي. دبليو. في الرواية كأناني وقاسٍ، بينما انتحرت الشخصية المستوحاة من ماري فرجينيا. ربما كان الانتحار مجرد اختلاق من دوناهو، الذي كان في موقع يتيح له معرفة الحقيقة، لكن ذلك لا يعني أنه نقلها كما هي. الرواية ليست سيرة ذاتية، لكنها أثارت الجدل واستمرت القصة لعقود. صورة ماري فرجينيا في الرواية – امرأة تعيسة جُلبت إلى مكان غريب، ولجأت إلى الكحول، حيث زوجها القوي كان مرتبطًا بغيرها، اكتئابها وُصف بأنه "مرض" في مجتمع محافظ، وانتحارها تم التستر عليه – كانت مغرية للتصديق رغم عدم اليقين. حاول والده، الذي كان مقربًا من عائلة مارلاند، شراء كل النسخ وحرقها.
وفي الوقت نفسه، امتدت الشائعات لتشمل ليدي.
أحاديث لا تنتهي عن رحلاتها مع إي. دبليو بمفردهما، وهو ما يعني شيئًا أو لا يعني شيئًا.
المزيد من الشائعات والمزيد من الغموض.
نُقل أنها دخلت المستشفى في عام 1927، كما ذكرت صحيفة The Ponca City News، أو ربما لم تفعل.
أخبار إنها أنجبت طفلًا سرًا وتخلت عنه للتبني، وفقًا لـ The Saturday Evening Post، أو ربما لم تفعل.
وفي السادس من يناير 1928، ظهرت العناوين التالية على الصفحة الأولى من صحيفة The New York Times:
"إي. دبليو. مارلاند سيتزوج ابنته بالتبني. رجل النفط يخطط للزفاف خلال شهر"
وبعد أربعة أيام، فى الصفحة 26:
"إلغاء تبني مارلاند لخطيبته، مما يمهد الطريق للزواج من ابنة أخت زوجته".
كان الإعلان عن الخطوبة بمثابة صاعقة. إي. دبليو. في الثالثة والخمسين، وليدي في السابعة والعشرين. أثارت القصة جدلاً وطنيًا، ووُصفت في الصحافة بأنها فضيحة.
تصدرت الصحف العناوين:
خبر خطوبة الآنسة ليدي ميلر روبرتس إلى إرنست دبليو. مارلاند، مليونير النفط، كان صادمًا للسيدة جورج إف. روبرتس، التي رفضت التعليق على الزواج المرتقب في منزلها في فلورتاون اليوم. وقد انهارت بالبكاء عندما علمت بالخطوبة، لا سيما إشارة مارلاند إلى التبني. ورفضت مناقشة أسباب ابنتها لترك والديها.
في فبراير، تأجل الزفاف بسبب "أنيميا" ليدي، وفي يوليو تأجل مجددًا لأن ليدي كانت تعاني من ما أسمته الصحافة "مرض عصبي."
افتتح مؤخرًا قصره البالغ تكلفته 2,000,000 دولار في بونكا سيتي، أوكلاهوما، ويُعتقد أن إي. دبليو. مارلاند، الممول النفطي، في طريقه إلى نيويورك في مهمة رفض مناقشتها عند مغادرته مدينته.… يعتقد أصدقاؤه أنه ذاهب لزيارة خطيبته، التي يُقال إنها في مصحة قريبة من نيويورك.
تزوجا في 14 يوليو 1928، في منزل عائلة روبرتس في فلورتاون. عارض والداها الزواج، أو على الأقل هذا ما قاله الصحفيون. ولكن والدها سلمها بنفسه، وكان شقيقها الأصغر، الذي سُمي على اسم مارلاند، أحد الحاضرين.
حضر الحفل خمسة أشخاص فقط.
بعد شهر العسل، عاد الزوجان الجديدان إلى بونكا سيتي وانتقلا إلى قصرهما الجديد، الذي وصفته صحيفة The New York Times بأنه "ينافس في روعته القصور الفخمة في إنجلترا القديمة."
في أكتوبر 1928 وبعد ثلاثة أشهر من الزفاف وعام واحد قبل انهيار السوق، فقد إي. دبليو. سيطرته على شركة مارلاند للنفط حيث نجح المصرفيون على الخروج من شركته.
و قبل عام 1930 ذهبت معها ثروته.
وهكذا، انتهت حياة ليدي القديمة، ثم انتهت مرة أخرى، واستمرت في الانتهاء.
5.
حكاية خرافية. و القصر. و المدينة الغارقة.
عند مدخل قصر مارلاند، يقف زوج من الأبواب الخشبية المقوسة، مرصعًا بالحديد، كأنما هو بوابة لزمن غابر. وعلى الجانب المقابل، يقع مدخل متاهة الشجيرات، التي لا تعدو كونها حديقة هندسية غاية في الإتقان. إن مساراتها قد صُممت لتوحي بمتاهة، وما هي بمتاهة. أما الشجيرات، التي يظهر شكلها جليًا فقط لمن يطل من النوافذ العليا، فإنها تتخذ هيئة حرف "M" عظيم، مبسط في خطوطه. وقد قصت الشجيرات لتبقى منخفضة، مما يتيح للناظر من الخارج رؤية تمثال جورج مارلاند في مركزها، ذلك التمثال الذي يصور الشاب الوريث، الرياضي المتأنق، وقد أبدعته يد فنان في الحجر الأبيض: شاب من أبناء ييل في عشرينيات القرن الماضي، يرتدي أحذية ركوب وقميصًا مفتوح الياقة، ويده الحجرية تنزلق إلى جيب حجري.
كان هذا التمثال يتوسط حديقة أكبر في الأيام الأولى للقصر، أقل تعقيدًا وأكثر اتساعًا وانفتاحًا. آنذاك، لم يكن القصر وحده المهيب، بل كانت الملكية كلها شاسعة كأنها إقطاعية، تضم ثلاث بحيرات ومسبحًا أولمبيًا، وغابات وحقولًا مترامية الأطراف. وكان ثمة نفق خفي يمتد من القصر إلى بيت القوارب. غير أن كل هذا بدأ بالتلاشي عقب الانهيار المالي. ومع انتقال الملكية أولًا إلى الرهبان، ثم إلى الراهبات، انكمشت الحدود وتراجعت المساحات، حتى اختفت الغابات. لقد رُدمت بحيرتان والمسبح، وبِيعَت الأراضي المحيطة للمطورين. وأُقيمت المنازل خارج أسوار القصر، على طريق مونيومنت.
من ظل السقيفة التي تحجب أشعة الشمس، يعبر المرء الأبواب الثقيلة إلى الظلمة الأعمق في الردهة، ومنها، عبر قوس مزخرف، إلى البهو الكبير المظلم. لا يبدو الغرض من هذا البهو أن يكون موطن جمال بعينه، بل أن يُشعِر الزائر بماهية هذا القصر، دون شك أو ريبة. إنه ذلك النوع من القصور الذي يتردد فيه صدى الخطوات. إنه ذلك النوع الذي يفيض بالرخام والحجر، ويعلو فيه السقف حتى يكاد يبلغ السماء، ليصنع أثرًا ليس ليروق للنفس، بل ليُدهشها. هو ذلك النوع الذي تأخذ شمعدانات الجدران فيه شكل الساتير (كائنات أسطورية)، وتنتهي درابزين السلالم برؤوس تنانين مشغولة من الحديد المطاوع.
أما سقف الرواق، فقد زُيّن بلوحات يدوية على طراز الزخارف الصينية، وسقف قاعة الرقص يلمع بأوراق الذهب. إنه منزل تجعلك مساحته—ثمانية وأربعون ألف قدم مربع، وخمسة وخمسون غرفة—تكرر المصطلحات العقارية المألوفة وكأنها ما زالت تحمل أي معنى في وجود غرفة طعام مكسوة بألواح البلوط وكأنها تحمل عظمة أزلية، إذ قد قُطعت "بإذن خاص من الغابات الملكية في إنجلترا." إن هذا القصر يضم حتى غرفة سرية، مخفية في مطبخه الثالث، لا يدخلها المرء إلا عبر باب صمم ليبدو كخزانة آمنة. ويقود الباب إلى قبو واسع كان يُخبأ فيه الويسكي زمن حظر الكحول. ذلك هو نوع المنزل الذي نتحدث عنه.
قصر كهذا ليس مجرد بناء عظيم، بل هو عبء ثقيل على ساكنيه. لقد عاش إي. دبليو. وليدي فيه عامين فقط، قبل أن تُثقلهم أعباؤه. ففي عام 1931، اكتشفا أنهما لا يستطيعان تحمل تكاليف التدفئة، أو إنارة شمعدانات الساتير، أو أجور الموظفين اللازمين لإبقاء البلوط لامعًا وخاليًا من الغبار.
انتقلا أولًا إلى الاستوديو الفني الذي بناه إي. دبليو.، ثم إلى منزل السائق. ومع ذلك، ظلا يحتفيان بالقصر في مناسبات خاصة، مثل الأحداث السياسية. ورغم إفلاسهما، ظل إي. دبليو. مشهورًا. فقد ترشح للكونغرس في 1932 وفاز، ثم لمنصب الحاكم في 1934 على منصة تهدف إلى جلب الصفقة الجديدة إلى أوكلاهوما، وفاز مرة أخرى. جعل من القصر مقرًا سياسيًا، واحتشد في ممراته لتوقيع الأوراق، وأقام حفلة تنصيب في قاعة الرقص المذهبة.
أما ليدي، فقد صارت السيدة الأولى لأوكلاهوما، وشغلت هذا الدور لمدة أربع سنوات، لكنها لم تشارك كثيرًا في إدارة عمل زوجها. ومع مرور الوقت، أخذت تنحدر إلى عزلة قلقة —بعد رحلة الاستشفاء الغامضة، والحمل المشاع، وجنون الصحف، والزفاف، والانهيار المالي— تميزت بابتسامة باهتة.
أقل ثباتًا.
أكثر ترددًا.
كانت خجولة بطبعها، خجلًا بلغ حد العجز عن التحدث في التجمعات السياسية. آثرت الانسحاب إلى عزلتها في بونكا سيتي، تقرأ صفحات المجلات والكتب.
خسر إي. دبليو. محاولتين للحصول على مقعد في مجلس الشيوخ. حاول تأسيس شركة نفط جديدة، غير أن العالم تغير من حوله وانتهى مشروعه بالفشل.
في عام 1941، قبل بضعة أشهر من وفاته، اضطر إي. دبليو. إلى بيع القصر. ذهب القصر إلى آباء الكرمليين القاتنين بمبلغ ستة وستين ألف دولار.
في عام 1948، قبل سنوات قليلة من اختفاء ليدي، باع الرهبان القصر إلى أخوات فيليسيان مقابل خمسين ألف دولار.
ظلت الراهبات في القصر سبعة وعشرين عامًا. كن هناك عام 1950، حينما طرق لويس كاسيل باب منزل السائق لأول مرة. وكن هناك أيضًا عام 1953، عندما غادرت ليدي القصر في سيارتها المكشوفة الخضراء.
بقين في القصر اثنين وعشرين عامًا أخرى.
وفي عام 1975، وقعت ثلاثة أمور غيّرت مصير القصر.
أولًا، اشترت بونكا سيتي القصر من أخوات فيليسيان بمبلغ 1.4 مليون دولار. كان الهدف هو ترميمه وفتحه للجمهور، ليصبح وجهة سياحية تحيي ذاكرة المكان. نصف هذا المبلغ جمع من خلال ضريبة مبيعات خاصة بنسبة 1%، بينما قدم النصف الآخر الشركة التي كانت تعرف سابقًا باسم مارلاند أويل.
ثانيًا، فُتحت بوابات سد كاو، وغمرت المياه مدينة كاو.
ثالثًا، عادت ليدي مارلاند.
* * *
لقد أصبحت الآن امرأة عجوزًا. مضى أكثر من عشرين عامًا على غيابها، وكانت تلك السنوات قاسيةً عليها شديدة البأس. أسنانها قد تساقطت، وكانت تواري فمها تحت وشاح يلتف حول وجهها السفلي. ترتدي ثوبًا أسود طويلًا، ومعطفًا مطريًا في بعض الأحيان، وقبعة بلاستيكية، وحذاءً رياضيًا ضخمًا. وقد تراها تمشي في أرجاء المدينة بهذا الزي حتى في الأيام الدافئة. أما الصحافة في تقاريرها آنذاك، فقد شَبَّهَتْها بفزاعةٍ تقف في الحقول، أو ساحرةٍ تجوب القرى، أو شبحٍ يطوف المنازل. رواياتٌ كثيرة، متفاوتة في صدقها، تزعم أنها كانت تتجول حول القصر عند ساعات الليل المتأخرة، بين الواحدة والثانية صباحًا. وحين نقرأ ما بقي من رسائلها القليلة، التي خطتها عقب عودتها إلى مدينة بونكا سيتي، نجد فيها حديثًا عن صدمةٍ أثقلت كاهلها، وعن توترٍ حاصرها، وصراعٍ مريرٍ أنهك أعصابها وهي تحاول جمع شتات نفسها عند معاودة رؤية الأماكن القديمة.
الكابوس الذي عشتُه منذ تركتُ تلك الديار—لقد أصبحتُ حطامًا بشريًا مُذِلًا—وأنا أرتعد خوفًا من لقائك، وتدفعني الرغبة إلى تأجيله.
تلك الكتابة الدقيقة التي عرفتها عام 1921 قد تحولت إلى خربشات مترددة ومرتعشة، ولعلها كتبت بالحبر الأحمر لأنه أسهل على عينيها.
سأحاول أن أكون مختصرة، وأن أركز على الحقائق (رغم أن الحقائق قشور سطحية لا تحكي أبدًا القصة كاملة).
كانت تطاردها مشاعر الذنب التي تخنق الأنفاس، دون أن تعرف سببًا واضحًا لها. وكان يطاردها كذلك شعورٌ بأن تعقيد الأمور يجعل اتخاذ القرارات ألمًا لا يُحتمل.
أحيانًا أشتاق أن أترك الأمور للآخرين ليحلوا التشابك الفوضوي الذي صنعته حياتي. سيكون ذلك طريقة أخرى أفشل بها في خدمة إي. دبليو وكل من أحبني (أخي).
لعل ما يبدو لنا صوابًا وخطأً ليس سوى نتائج لأسباب.
أين كانت منذ عام 1953؟ لا نعلم. إلا أن الشائعات تلاحقها حيثما سارت. شوهدت في مظاهرة مناهضة للحرب في واشنطن العاصمة في الستينيات، ثم ظهرت في كاليفورنيا، وفي مرة أخرى في أركانساس، حيث حاول صحفيان تتبعها عند صندوق بريدها. وعندما اقتربا منها، فرّت واختبأت في متجر.
كانت الرسائل تعكس هاجسها المرضي بمطاردة الصحفيين والجواسيس لها منذ غادرت المدينة. فهل كان ذلك مجرد وهمٍ من أوهامها؟ أم أنه أثرٌ باقٍ من ضجة الصحافة التي ثارت حول خطبتها؟ ربما كانت على حق؛ لا أعلم يقينًا.
إن غزو الحياة الخاصة واستغلالها أصبح يُعرف بـ"إلتهام جديد للبشر"—وهو بحق كذلك—إلتهام نفسي. لم أكن يومًا "شخصًا مفقودًا"، بل أمضيت أعوامًا وأنا أحاول الفرار من المراقبة المستمرة دون جدوى.
كان كوخها على شفا الانهيار، ومالها قد نفد. وكان عودتها إلى بونكا سيتي بتدبيرٍ من قادة المجتمع المحلي، و رجالٍ من أصحاب النفوذ، و رؤساء البنوك والمحامين ومديري شركات النفط، ممن أبدوا اهتمامهم برفاهها. ولكن حين حاولوا مد يد العون، قابلتهم إما بالمماطلة أو بالرفض الصريح. لم تقبل أن تُسجل في الضمان الاجتماعي، إذ لم تكن لتأخذ مالًا من الحكومة. ولم توافق على بيع ممتلكاتها لأن مجرد التفكير في البيع كان عبئًا نفسيًا لا تطيقه. رسائلهم المتبادلة تزداد حيرة مع مرور الوقت.
هاورد، السيدة مارلاند لا تتخذ قرارًا اليوم يمكنها تأجيله إلى الغد. تعيش في حرمان، ولكنها تكاد تكون مستحيلة المساعدة. إن كانت لديك أي أفكار، أرجو أن تشاركني بها.
ومع ذلك، بطريقة ما، تمكنت من امتلاك بيت على شارع ساوث فورث قريبًا من محل البقالة والصيدلية. وفي الشتاء، حين يصير الكوخ غير صالح للسكن، كانت تنتقل إلى ذلك المنزل، وتحتفظ بدلاء دجاج KFC في الثلاجة، وتعلق البطانيات على النوافذ.
لماذا أُعدّ نفسي للأمطار والرياح بينما إعداد نفسي لعشاءٍ احتفالي أشد بهجةً وإشراقًا؟
لا أذكر وقتًا لم أكن فيه أعرف هذه القصة.
لقد نشأت وأنا أحمل هذه الحكاية في داخلي.
وُلدت في عام 1976، بعد عامٍ من عودة ليدي إلى بونكا سيتي. كان ذلك هو العام الذي فُتح فيه القصر للعامة، والعام الذي بدأت فيه المياه تنساب من خلال آخر بوابات سد كاو. عندما كنت طفلًا، كنت أراها أحيانًا ترتدي معطفها الطويل ووشاحها وهي تمشي على جانب الطريق. كنا نمر بها بالسيارة. "انظر، تلك ليدي، إنها في نزهة." وكانت أكثر الأوقات تراها قرب بيت جدّي وجدتي، لأنها كانت تقيم في الكوخ خلال أشهر الصيف. كانت جدتي تشير إليها أحيانًا: "ليدي، تلك التي عاشت في القصر. ليدي، التي اختفت ولم يعرف أحد أين ذهبت."
ربما ما يبدو لنا صوابًا وخطأً ليس سوى نتائج لأسباب.
لم نكن نعرف كيف ننظر إليها. ولم يكن أحد يعرف. لم تكن غرابتها وحدها هي ما أربكنا، بل كانت تحمل في ذاتها شيئًا مظلمًا غامضًا، حقيقةً لا سبيل إلى فك شفرتها، وهي تقبع في قلب الحكاية التي أسست مدينتنا. لقد قامت مدينتنا على النفط. وكان إي. دبليو. مارلاند هو باني صناعة النفط، وكان يُنظر إليه بوصفه بطلاً عظيمًا. الحفاظ على سمعته كان مسألةً ذات شأن مدني. أمام دار البلدية، كان تمثاله يجلس في وقار، وكأنه ملك على عرش. وقصة إي. دبليو. مارلاند كانت قصة فتح الحدود، وبناء الحضارة. تلك كانت قصتنا، أو هكذا اعتقدنا. لكن إي. دبليو. مارلاند ارتكب أمرًا زعزع هذا السرد المثالي: لقد تزوج ابنته بالتبني. وبعد خمسين عامًا، كانت الابنة-الزوجة تسير في الشوارع بفستانها الأسود الطويل ووشاحها الذي يغطي فمها. لم يكن بالإمكان طمسها من السرد. كانت هناك، ماثلة، تقدم لنا أسئلة بلا أجوبة.
جزء من لغزها كان في طبيعة زواجها من إي. دبليو. هل كان حبًا حقيقيًا؟ هناك من قال ذلك، ولكن كانت هناك حقائق تثقل هذا الادعاء: فارق العمر، والقرابة العائلية الحميمة وإن لم تكن حميمة بالمعنى القانوني، وصورٌ تجمعهما حين كانت في الثانية عشرة. هل كان استغلالًا؟ ربما، ولكن ليدي نفسها لم تصفه يومًا بهذا الشكل. كانت هناك إشارات من عشرينيات القرن الماضي تروي قصة أقل قتامة. تغيّر علاقتهما كان ملموسًا؛ كانت تتوهج في حضوره، وأنهما أمضيا وقتًا أطول معًا في منتصف العشرينيات عندما كانت ليدي راشدة بالفعل. وتصر على استقباله عند عودته من رحلات العمل. وعندما دخل نساء أخريات حياته بعد وفاة زوجته، غضبت وفرت إلى كاليفورنيا. ليست هذه دلائل حاسمة، خصوصًا في ظل اضطرابها العقلي الواضح في السنوات اللاحقة. لكن أليس من الخطأ أيضًا الافتراض ببساطة أنها لم تكن تمتلك أي إرادة، أو افتراض الأسوأ؟
كانت فتاةً اقتُلعت من جذورها، وعاشت في عالمٍ غريب أشبه بمملكة يحكمها رجل يتحكم في مصائر الناس. ألسنا هنا نتحدث عن قضايا تتجاوز الحب والموافقة؟
لم نكن نعلم. ولم يكن بمقدورنا القول.
هل بدأت العلاقة قبل وفاة ماري فرجينيا؟
نفس الإجابة السابقة.
ومع ذلك، لم يكن أحد يطرح الأسئلة مباشرة، لكنها كانت تتغلغل تحت السطح، يلمسها حتى الأطفال دون أن يفهموها.
قد نصف هذه الأسئلة بأنها القلق العميق الذي ينهش أطراف قصة فتح الحدود وبناء الحضارة: وحول هويتنا وما نحن عليه حقًا؟
سبيلٌ آخر لوصف هذه التساؤلات هو أن نطلق عليها وصف "أصابع الحوريات".
وحين أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام وأتأمل ما جرى، أجد نفسي مشدودًا إلى حقيقة أن ليدي كانت امرأة قارئة، امرأة تعلمت كيف تحيا حياتها كأنها جزء من رواية كبرى. كانت تؤمن أن حياتها قصيدة رومانسية، وأن إي. دبليو. هو المحور الذي يدور حوله كل شيء، هو النقطة التي تتقاطع عندها الخيوط المتناثرة، أقرب ما يكون في قصتها إلى الكاتب الذي يصوغ الحكاية ويرسم مسارها. أفليس غريبًا أن يكون الدافع العاطفي الذي قادها للارتباط به هو بحثها عن خاتمة ملائمة؟ أفلم يكن زواجها سوى محاولة للالتصاق بالجذع الأقوى في شجرة تساقطت أوراقها، وهي تعلم، من قبل أن تبدأ الحكاية، أنها واهنة البنيان، هشة الجذور؟
ما بقي لي منها لا يعدو كونه شذراتٍ متناثرة، فتاتًا من حياة طواها النسيان. يوميات تعود إلى قرن مضى، لوحة لفنان لم يصبح يومًا زوجًا لعمتها، ومجلة بالية. وإذا توجهتَ يسارًا في بهو قصر مارلاند الفخم، بعيدًا عن متجر الهدايا، ثم اجتزتَ قاعة الطعام الرسمية، ستجد نفسك في المطبخ الخدمي، وهناك خزانة كانت ذات يوم تحوي فضة العائلة، لكنها الآن لا تضم سوى صناديق متناثرة. بعض هذه الصناديق يخفي بين طياته صورًا ومقتنيات تنتمي إلى ماضي القصر، بينما يعجّ معظمها بالأوراق. أوراق تشتمل على كل شيء: من محاضر اجتماعات شركة مارلاند للنفط إلى شهادات وفاة أفراد الأسرة، تتناثر فوقها الفوضى وتغطيها طبقات من الغموض لأن الزمن أباد جزءًا كبيرًا منها. (لم تقع عيناي يومًا على رسالة خطتها يد إي. دبليو. مارلاند). وأحد الصناديق يحتوي على ما تبقى من مكتب ليدي مارلاند حين أُسدل الستار على حياتها عام 1987. ولعلني بسبب هذا الصندوق المزدحم بالملفات والمظاريف المتخمة شعرت أحيانًا كأن عقلها كان ينفجر تحت وطأة النصوص، متناثرًا إلى آلاف القصاصات الصحفية. كانت تقرأ على الدوام، تنحني على أوراقها تحت عدسة مكبرة، تقطع ما يجذب اهتمامها بخفة أصابعها، وتخطّ تحت العبارات المهمة بقلم أحمر كأنها تناديها لتشهد على أفكارها.
احتفظت بمقالات عن الآباء المؤسسين لأمريكا، وعن تقدير النبيذ والسكوتش، وعن علاج "مذهل" لالتهاب المفاصل يزعم الدكتور توشيو ياماووتشي أن نسبة نجاحه بلغت "100%". خبأت خريطة للكواكب، وإعلانًا عن أصغر ساعة منبهة في العالم، وحكاية عن مجموعة Mother Jones اتُهمت زورًا في قضية مخدرات بمدينة بالتيمور.
ولكم أن تقارنوا تعقيد دماغ الإنسان الواحد بجميع لوحات التحكم وأسلاك الحواسيب والراديو والتلفاز وكل أدوات العالم الإلكترونية.
ولقد عرفت السياسة الراديكالية، وأقول ذلك وأنا أستحضر مشاركتها المزعومة في مظاهرة مناهضة للحرب في واشنطن، بيد أن رؤيتها السياسية كانت بلا تركيز. احتفظت بأكوام من المقالات حول البيئة، التي بدت وكأنها شغفها الأكبر، إلى جانب اهتمامها بالجرانولا، ومصل الشباب للدكتورة آنا أصلان، وأسعار العقارات في بيغ سور وبوجيه ساوند، وفلاتر المياه، وصابون فيتامين إي للبشرة، والأبحاث العلمية عن الشعر: هل اللانولين يزيد من نموه؟ هل الأرجوحة يمكن أن تُحسن البصر؟ والطاقة الشمسية، أيمكنها أن تحل أزمة الطاقة؟ وهنا كتاب صلوات ياباني، وهناك علامة مرجعية مكتوب عليها نص "ترنيمة مريم". وكانت تكتب على ظهر الأظرف ملاحظات مقتضبة:
أماكن للهجرة إليها — أو زيارتها، أو العيش فيها — آيسلندا — لا شرطة، لا جرائم —
"ما لا أعرفه يرعبني"، كتبت ذلك عام 1921.
لقد قضت حياتها تحاول أن تفهم.
لكنني أعتقد أن الصورة لم تكتمل في ذهنها أبدًا، ولم تستطع يومًا أن تجد المفتاح الذي يُفسر الشظايا المتناثرة ويصوغها في كيانٍ واحد. كانت الصدمات أقوى مما تحتمل. وكانت المراقبة مخيفة. وكانت التحولات عظيمة.
وقال الناس إن تدهورها بدأ بعد وفاة إي. دبليو. وإنها كانت تحبه إلى درجة أن حياتها انهارت بدونه.
"لقد انطفأ النور في حياتها"، قالها المدير التنفيذي لممتلكات مارلاند في حديث لصحيفة تولسا وورلد.
أنا لا أؤمن بهذا القول، لكنه لا يخلو من احتمال أن يكون صحيحًا.
النتائج و الأسباب
6.
حُدِّثتْ ذاكرتي بأيام الطفولة، حين كنت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمري، فاسترجعت ما دار بيني وبين معالجٍ نفسي أخذني إليه والداي بعد أن بثثتُهما شكواي من التوتر الذي يسكنني دائمًا. ذهبتُ وأنا لا أدري إن كان ذلك من شؤون الطبّ التي تسترعي الاهتمام، وما إن دخلت إلى عيادته حتى رأيتُ رجلاً في أواخر الثلاثينيات من عمره، قد استرخى جسمه وثقل حمل نظارته ذات الإطار العريض الشفاف على وجهه الذي طالته علامات الإجهاد، وكانت بدلته الفضفاضة تزيد هيئته وهنًا، وشعره الأشعث الذي اصطبغ بلون القش يضفي عليه مزيدًا من التراخي. كان مكتبه مقامًا في بناء سبق صنعه على أطراف البلدة، في منطقة موحشة يجللها الصمت. ومع ذلك، كنت أجد متعةً في الذهاب إليه، ليس لأنني أحبّ الحديث أو كنت أؤمن بفائدة جلساته، بل لأجل ثلاجة صغيرة تتوسط ممرًّا مضاءً بأنوار الفلوريسنت الباردة، يسمح لي منها بعبوة كوكاكولا فى بداية كل جلسة.
كنا نجلس بعد ذلك، ويدور بيننا حديث لا أذكر منه سوى أنني كنت أغوص في كلمات لا أفهم منها إلا قليلًا. أو كان يكلفني بمهام تبدو لي بلا جدوى، فتراني أرتب مكعبات وفق نسقٍ معين، أو أتعلم منه رسم مثلثات تفضي إلى سلسلة لا نهائية من الأشكال الهندسية، ليطلب مني بعدها التوقف عندما "تكتمل". ولطالما تساءلتُ، بيني وبين نفسي، عن جدوى هذه الألعاب، وعن علاقتها بما يثير في قلبي من قلق. ثم جاءت لحظة كان يفتش فيها عن ذكرى جديّ الغريقين، وهي ذكرى غارقة في ماضٍ أبعد مما يتصور، فهما قد ماتا منذ عامين، وما عاد لذكراهما علاقةٌ بما أعانيه من توتر. لكنني كنت صبيًا اعتاد الامتثال للأسئلة والاختبارات، وكنت أحب المشروبات الغازية، لذلك لم أعارض. أخترع الأجوبة حينما لا أجد من الحقيقة ما يروق لي قوله، وألتقط من الخيال ما أظنّ أنه سيُفهم.
حين سألني المعالج إن كنت قد بكيتُ عندما مات جدّي، أجبته بما يخالف الواقع، فقلت: «نعم، بكيت وحدي في حوض الاستحمام، حيث لم يرني أحد.»
لم يكن ذلك إلا قصةً نسجتها لأبدو أكثر انسجامًا مع عالم يبدو لي أنه يطالبني بأن أكون مفهومًا، وأن أُخضع مشاعري لقوالبه المحددة.
أما الحقيقة فهي أنني لم أبكِ، ولم أشعر بالحزن بالمعنى الذي أفهمه. كان ما شعرت به شيئًا آخر، إحساسًا شاسعًا، فارغًا ومبهمًا، لا تتقاطع معانيه مع مفردات الحزن المعروفة. لذا اخترعت القصة دون تفكير عميق، قصةً اعتقدت أن المعالج سيعرف كيف يفسرها.
وعجبًا! لم يخطر ببالي أنني قد أخطئ في فهم ما يبحث عنه. بل تخيلتُ فقط أن المسألة بأسرها تتعلق باستحالة أن يفهمني الآخرون، كل الآخرين، وكأنني وُلدتُ معزولًا داخل نفسي.
ترى، من أين استقيتُ، في هذا العمر، وهمًا أرهقني، وهمًا جعلني أؤمن بأنّ من واجبي أن أكون مفهومًا؟
كان حلمي بالهروب من "بونكا سيتي" يراودني كلما أتيح لي أن أطلق العنان لمخيلتي.
لكنني كنت أحذر في التعبير عن هذا الأمر، لأنه كان من السهل أن يُساء فهمه.
لم يكن الحلم نابعًا من كراهية للمدينة، فقد أحببتها أحيانًا، لكنها لم تكن عالمي، ولم يكن شعوري نحوها انتماءً بل كان شيئًا يشبه الوقوع في فخٍّ.
كنت أقضي وقتًا طويلاً في أحلامي بالهروب من "بونكا سيتي".
لكنني كنت أحذر في التعبير عن هذا الأمر، لأنه كان من السهل أن يُساء فهمه.
لم تكن المشكلة أنني لم أحب مدينة بونكا سيتي، بل كانت في أنني لم أكن يومًا من أهلها ولم أشعر يومًا بالانتماء إليها. كان حبِّي لهذه المدينة، حتى حينما خُيِّل إليَّ أنني أحببتها حقًّا، أقرب إلى وهمٍ علِقت فيه. لم أكن أستطيع التواصل مع بونكا سيتي إلا عبر زوايا ضيّقة وانعكاسات جانبية، وإن بالغت في حبها، فقد أجد نفسي تائهًا عن مكاني الذي يُفترض بي أن أشغله. لم يكن قدري أن أعيش بين كنائسها، ولا أن أتعلم على أيدي أساتذتها الذين يؤمنون بإنجيل الخلق، ولم يكن مكتوبًا لي أن تملأ أذنيَّ أنغام الموسيقى الريفية في كل محطة إذاعية. لم يكن قدري أن أتنقل عبر شارع فورتيينث بين متاجر ومطاعم السلاسل التجارية، أو أن أرى في الليل أضواء وكالة سيارات فورد وهي تتلألأ من بعيد. كنت أُحاصر بشعور مبهم، كأن أطلال وسط المدينة المتهالكة تطاردني، بقايا مُتآكلة من مجد الطفرة النفطية. المنازل التي كانت يومًا ما فخمة، يسكنها ضباط شركة مارلاند أويل، قد أُهملت، وأصبحت محاطة بسيارات قديمة وترمبولينات صدئة. عرفتُ أن هذه الأشياء تليق بآخرين، تتواءم مع تركيبة أرواحهم ودمائهم، وغالبًا من كنت أحبهم. لكن حينما تصورت أن أقضي حياتي بينهم، شعرت برغبة طاغية في الهروب إلى أقاصي الأرض.
وحينما شببتُ قليلًا، وجدتُ في قصر مارلاند ملاذًا أهرب إليه. كنت أقود سيارتي متجاوزًا منزل أجدادي الذي بيع منذ أمد بعيد، وأوقفها في موقف صغير بجانب الحديقة. ثم أسير نحو الباب الخشبي الثقيل الذي يتوج المدخل، أدفعه برفق وأغلقه بصمتٍ متقن، إذ لم يكن باستطاعتي دفع رسوم الدخول. كنت أهوى أن أتوهم أن القصر ملكي، أدخله وأخرج منه متى شئتُ بلا قيد. كنت أعبر القاعة الكبرى بخطوات خفيفة على الأرضية الصلبة، أصعد السلم الحجري المقبب الذي ينتمي إلى زمن القلاع. كان السلم غارقًا في العتمة، وعلى منصته تستقر بومتان حجريتان تُحدِّقان بنظرات ثاقبة، وعيناهما يلمعان بنقطتين حمراوين كأنهما عيون خرافة.
كان الصعود إلى السلم بالنسبة لي كأنما هو سفرٌ إلى عالم آخر. ما وجدت جدتي في فكرة إنجلترا، وجدته أنا في هذا القصر الذي بدا لي مكان تشعر فيه الأشياء بأنها قديمة. حيث كانت الأشياء جميلة. كان له نفس الأثر الذي أحدثه كتاب شعرٍ قديم وجدته في مكتبة والديَّ، يحمل قصائد بايرون وكيتس وشيللي. قرأت ذلك الكتاب حتى تمزقت أوراقه. لم أكن أعلم بوجود أشياء كهذه، وأردت أن أكتشف المزيد منها. بدا لي القصر بوابة إلى عالم غني وفسيح، عالم الكتب والمجد والذكريات.
وفي الطابق العلوي، لم أكن مضطرًا للصمت الشديد. كنت أتجول بين الغرف، أجرب الأبواب المغلقة، وأفرح حين أجد بابًا لم يُحكم قفله. أحيانًا كنت أجد خزانة كراسي طيّ أو صناديق خاوية، لكن ذات مرة عثرت على سلم يقودني إلى علية لم أعلم بوجودها، وهناك وجدت عربة تحمل قبعات قديمة.
ومن كل الغرف، كانت غرفة ليدي هي الأحب إلى قلبي. ليست الأجمل مقارنة بالقاعة الكبرى، لكنها تملك جمالًا لا يُدرك بالبصر وحده. خشب الزيزفون المنحوت يلتف حول الجدران بلا زوايا حادة، بل منحنيات هادئة لكنها تثير القلق، كأن في روعتها سرًا مستترًا. كنت أفكر في الفتاة التي نامت هنا، والتي كانت بعض ملابسها معروضة في الصالة بالخارج، وفي المرأة العجوز بمعطف المطر التي رأيتها يومًاعندما كنت صغيراً، وأرتعش قليلًا.
ليدي التي عاشت في القصر.
ليدي التي كادت أن تهرب.
وفي زمن آخر، عاد تمثالها إلى القاعة الكبرى. التمثال الذي حطمه غلين غيلكريست بأمر منها. دفنه خلف حظيرته، وكتم سره حتى على فراش الموت. في 11 سبتمبر 1987، أرسل دي جي فان نوستراند، زوج ابنة أخت غيلكريست، رسالة بالبريد إلى مسؤول تنفيذي في شركة كونوكو، يكشف فيها عن المكان المحتمل للأجزاء:
قد لا تكون مهتمًا بفعل أي شيء حيال هذا الأمر، ولكن لعلك تعرف من قد يهتم به. ولعل الظروف الآن تجعل من العسير أن نفعل شيئًا، إذ إن ملكية الأرض تعود إلى شخص غريب تمامًا.
وحينما ذهب أمين قصر مارلاند، رجل يُدعى بول براثر، إلى الموقع ليبدأ الحفر، أخذ معه معدات استشعار دقيقة تبرعت بها شركة كونوكو. فكانت أولى القطع التي عثر عليها هي قبعة ليدي، مستلقية بين متاهة معقدة من أنابيب النفط. سقط على ركبتيه وأخذ يحفر بيديه العاريتين، وعندما عثر على أول قطعة من وجه ليدي، زعم لاحقًا أنه عانى انقطاعًا في وعيه دام ساعتين ونصفًا دون سبب ظاهر. وكان يرى في ذلك الفقدان للزمن نذير شؤم، وكأنه إشارة خفية إلى أن ليدي، لو علمت أن آخر ذرة من خصوصيتها قد اُنتهكت، لكانت قد أبدت استياءها العميق. ولربما كان يمزح حين قال ذلك. لكنه واصل الحفر إلى أن استخرج بقية الشظايا. ثم استعان بمرممي الفنون من جامعة واشنطن في سانت لويس ليضعوا خطة دقيقة لإعادة البناء. وقد استغرق عمال النصب التذكاري عامين ليعيدوا تركيب التمثال. وكُشف عن العمل المكتمل في عام 1993.
وصوّر الفنان النحات الأمريكي جو ديفيدسون ليدي في السابعة والعشرين من عمرها، ترتدي ثوبًا رقيقًا شفافًا، يتبدّى من خلاله رسم خافت حول حلمتيها. كانت تقف بيد واحدة على وركها، بينما اليد الأخرى خلف ظهرها تمسك بقبعتها. وقد تقدمت ساقها اليسرى قليلًا أمام اليمنى، في حين أن تنورة الفستان كانت تلتف حول فخذها الأيسر كأنها تلامس الجلد برقّة. وعندما وقعت عينيّ على التمثال لأول مرة، هناك في بهو القصر الكبير، دنوت بما يكفي لأتأمل الخطوط الدقيقة التي شقت وجه ليدي الحجري الأبيض حيث ضربته المطرقة القاسية. وحاولت، جاهدًا، ألا ألاحظ تلك التشققات. فقد كانت الآمال التي عقدتها على القصر، والذي رأيته على نحوٍ عجيب كملاذ ووسيلة لاستعادة المفقودات، تجبرني على الاعتقاد بأن رؤية الشقوق ضرب من الحماقة، وربما نوع من الوقاحة. كنت لا أزال في طور الصغر، حتى إنني ظننت أن من واجبي أن أنظر إلى التمثال. وكان ينبغي لي أن أنظر إلى الشقوق.
مترجم من كتاب IMPOSSIBLE OWLS للكاتب Brian Phillips