من هو لورانس ؟
يا لها من شخصية شديدة الغرابة، يفاجئك تاريخها وإنجازها! بدا ذلك واضحًا منذ بداياته، حين تحدّى كل العراقيل التي كانت تقف أمام فتى من الطبقة العاملة في إنجلترا يدخل عالم الأدب. ديفيد هربرت لورانس، ابن عامل منجم فحم، وأمه امرأة درست قليلًا وظلت على هامش المجتمع، ولم تُخفِ قط خيبة أملها من الزواج الذي أقدمت عليه. وُلد عام 1885، ودفعتْه والدته—بدون قصد—للسعي والتميز، فاغتنم الفرص المتاحة آنذاك في زمن توسّع الخدمات الاجتماعية وازدهار السلع الثقافية. تعلم بنفسه، بشغف لا يعرف الكلل، ورغم أنه لم يحصل على شهادة جامعية، إلا أنه أخيرًا تأهل ليصبح مدرسًا في الثالثة والعشرين خارج لندن. لكن قلبه كان للأدب لا التدريس.
بارت أيام قليلة حتى لفتت موهبته أنظار من حوله، حيث أرسلت إحدى صديقاته قصائده إلى فورد مادوكس فورد، محرر مجلة The English Review، فأُعجب بها وساعده في نشر روايته الأولى، "الطاووس الأبيض" عام 1911، ونالت إشادة محترمة.
من هنا بدأت مسيرته الأدبية: نشر قصائد وقصصًا بانتظام في المجلات، ثم قبلت دار نشر يديرها إدوارد غارنيت (زوج المترجمة الروسية كونستانس غارنيت) روايته الثانية. وهكذا ترك لورانس مهنة التدريس وتفرّغ تمامًا للكتابة.
لكن الغرابة لم تتركه: فورد مادوكس فورد حدّق فيه قائلًا: “إن كان ابن عامل منجم، كيف سأحادثه؟ إنه من طبقة مختلفة تمامًا.” أما ديفيد غارنيت، ابن الناشر وصديق لورانس، فقد وصف شعره بأنه رخو، يشبه الطين الفاتح، “مخطوط بخطّ أحمر من جانب”، فيظهر كشيء قبيح وغير أصيل، يحيل إلى عامل بسيط يُرى في ورشة عمل. وكان يُلحـَّ له بقوله: لك لهجة ميدلاندز، غريبة عن الأدب المتداول. وقد شبّهته الكاتبة ريبيكا ويست بصوت بومة ناعم وأجوف. وكان لورانس يصف نفسه بعبارة مختصرة: “أخشى أنني غير مهذب، ولا يمكن إصلاحي.”
وحياته كانت مليئة بالتناقضات. ففي طفولته، كان مريضًا، ومميزًا، ومجتهدًا، وفطنًا لكل ما حوله. ومع تقدمه في العمر، فضّل صحبة النساء، وتماهى مع قضاياهن، ليس دفاعًا فحسب، بل لأنه رأى نفسه فيهِنّ: منبوذات عن النظام، راغبات في الحرية، ولكنهن لا يعرفن كيف يحقّقنها.وبينما كانت المرأة تتساءل عن معناها إن لم تكن زوجة، كان هو يتساءل أيضًا بأسئلة وجودية: ما معنى الرجولة، لا بوصفها سلطة أو عملاً، بل بوصفها كينونة؟
وجاء لقاؤه المثير بفريدا ويكلي عام 1912—الأرستقراطية الألمانية زوجة أحد أساتذته، التي كانت تكبره بست سنوات وأمًا لثلاثة— ولكنها جذبته وأخذته جانبًا ذات يوم لممارسة الجنس، بينما كان ينتظر لقاء أستاذه السابق. هربا معًا، ليبدآ سيرة طويلة من الفضائح، استمرت لبقية حياة لورانس القصيرة. تطلقت فريدا لاحقًا، وتزوجا، ، لكنها سرعان ما خانته، فهو رجل جذاب جنسيًا أكثر من كونه فاعلًا جنسيًا. وكانا معروفين بين أصدقائهما بشجاراتهما الشرسة المتكررة ثم مصالحاتهما السريعة بعد ذلك.
لم يستقرّا أبدًا: تقلبا بين ألمانيا وإيطاليا وإنجلترا وأستراليا ونيويورك (التي كرهها لورانس)، ثم إلى نيو مكسيكو والمكسيك، وأخيرًا إيطاليا مرة ثانية. كان سبب الهجرة ليس فقط مرضه بالسل، بل كرهه فكرة الاستقرار في بيت واحد. وفي كل هذه السفريات كتب: قصائد وقصصًا وروايات ومقالات نقدية ورؤى نفسية وشروح طويلة لسفر الرؤيا ومئات الرسائل. كان كاتب رسائل بارعًا، بينما اعتمد في معيشته على الكتابة. لكن بعض كتبه واجه “الحظر”؛ فمثلاً "قوس قزح" سحب من الأسواق بدعوى الفحش، ورواية "عشيق الليدي تشاترلي" لم تُنشر رسميًا في أوروبا إلا بصورة خاصة، وبقيت ممنوعة في بريطانيا حتى عام 1960. ومع ذلك ظل الناس يطلبونها.
كان لورانس يستطيع أن يكون ساحرًا بحق، إذا أراد. فقد كان حاضر البديهة، قوي الملاحظة، سريع التعاطف، مرحًا إذا شاء، مقلدًا بارعًا لأصوات وسلوك الآخرين، لكنه في الوقت نفسه كان متقلّب المزاج، يشكّ في كل شيء، يعلو بنفسه أحيانًا حتى يرى نفسه فوق الجميع، ثم ينقلب في لحظة إلى غضب أو عزلة. وإذا أحب أحدًا، كتب عنه، لكن لا يُرجى أن يعجبك ما كتب، فقد لا يُجامل في تصويرك، بل قد يفضحك دون نية سيئة. وقد كان دائم الحيرة حين يرى أن أصدقاءه السابقين يعتقدون أنهم هم الشخصيات التي يرونها في رواياته. كان يقدر أن ينفذ إلى أعماق الناس، لكنه في أحيان كثيرة لم يكن يرى إلا ما يريده هو أن يُرى.
كان الروائي الشهير إي. إم. فورستر من أوائل المعجبين به، وقد دعاه هو وزوجته فريدا إلى قضاء بعض الوقت في الريف. كتب لورانس بعدها في رسالة: "فورستر هنا. إنه لطيف. لكني أتساءل، هل فقد إحساسه بالحياة؟ لقد تحدثنا كثيرًا. أقصد، أنا كنت المتحدث، وهذا قدري، الله يعينني". وعن فحوى هذا الحديث، يُروى أن لورانس قضى عطلة نهاية الأسبوع في إقناع فورستر، الذي كان مثليّ الميل، أن يتزوج امرأة، ويخوض معها صراعًا يكتشف فيه ما سمّاه بـ"الرجولة البدائية"، أي رجولة الإنسان الأول، لا تلك المصطنعة الاجتماعية. فغادر فورستر غاضبًا. وبعد أسابيع، كتب لورانس إلى الفيلسوف برتراند راسل يشكو: "لقد كان غاضبًا جدًا لأني واجهته بحقيقته. أشعر أنك أكثر رحابة صدرًا حين تستمع... أرجو أن تخبرني حين أكون أحمقًا أو متعنتًا". لكن العلاقة مع راسل سرعان ما انهارت هي الأخرى.
فكيف لنا أن نُقدّر هذا الرجل؟ لقد رآه بعض معاصريه نبيًّا، بينما رآه آخرون مجرد أحمق. وإذا تأملنا الآن سيرته من بعيد، بدا لورانس تجسيدًا واضحًا للكاتب الذي يُمثّل روح القرن العشرين: ذاك الذي يكتب دون خجل عن وجع العائلة، وتعب الجسد العامل، وعن الجنس لا بوصفه فضيحة، بل بوصفه جزءًا من معنى الإنسان. لقد كان كاتبًا متمرّدًا، لا يرضى عن العالم الذي وُلد فيه، ولا عن العالم الحديث الذي رأى فيه شكلاً جديدًا من الرياء. وقد كانت هذه الروح الثائرة جزءًا من دور الرواية الحديثة، التي تسعى إلى فضح التناقض بدل تزيينه.
احتقر السياسة أحيانًا، ويتخيلها أحيانًا أخرى، يرفضها من جهة، ثم يدعو إلى ثورات فيها من جهة أخرى، وكأنه لم يثبت يومًا على موقفٍ واحد. في رواياته التي كتبها في عشرينيات القرن الماضي، مثل "كنغارو" التي تدور في أستراليا، و"الثعبان المجنح" في المكسيك، كتب عن زعماء تحركهم الغريزة أكثر من العقل، يدعون الناس إلى ترك السياسة، والعودة إلى الطقوس القديمة، إلى الدم والانتماء الفطري. وفي هذا التصور، يشتم القارئ رائحة الفاشية – ذلك الفكر المتطرف الذي يمجّد القوة والطاعة ويزدري العقل والنقاش.
ومن هنا، آمن لورانس أن على الإنسان أن يُعاد خلقه من جديد، لا جسدًا فقط، بل روحًا وشعورًا. وكذلك المرأة. وكذلك الأدب نفسه. أراد من الرواية أن تكون شيئًا لا يشبه شيئًا، تجمع بين البدء والختام، بين العمق والخفة. كان يبحث عن ذلك المطلق الذي يراودنا جميعًا، وقد عبّر عن ذلك في رسالة إلى أوتولين موريل، وهي سيدة من النبلاء كانت ترعى الأدباء والفنانين، فقال فيها: "لا بد من بيان للمخطط بأكمله"، أي: لا بد من أن نُوضّح صورة الحياة ومغزاها، لا مجرد أن نحكي عنها.
لقد كان، بحق، كأنه دمية ناطقة وُضعت على ركبة القرن، تُعبّر عن قلقه، وشهواته، وتطرفه الفني، وتقلباته السياسية، وغروره، و وحدّته مع ذاته. كان يقلّد نفسه أحيانًا، ثم يسخر من هذا التقليد نفسه. ويمكن للمرء أن يلومه على هذا التكرار، لكن في الحقيقة، من كان أصدق منه في وعي عيوبه؟ لقد كان يعرف نفسه بعمق، ويعريها كما لم يفعل كاتب قبله. ولعل هذا ما يجعله، دون مبالغة، صورة حيّة للقلق المضطرب الذي ميّز القرن العشرين.
لكن الأصح أن نقول إنه لم يكن مجرد مرآة لهذا الاضطراب، بل كان يبحث عن معنى فيه. لم يقع في فخ المطلقات الزائفة، تلك التي تبشّر بالحقيقة الكاملة، بل كان يرى أن الحياة وسيلة للبيان، أي طريق لفهم الأشياء وتوضيحها. ولهذا، كان النموذج – لكنه كان الاستثناء أيضًا.
أبناء و عشاق
فانظر في روايته "أبناء وعشّاق"، وهي ثالث أعماله الروائية، أتمّها وهو لم يبلغ السابعة والعشرين. رواية طويلة، كتبها بنفس الطريقة التي كان يكتب بها دومًا: بسرعة وشغف مشتعل. كان قد خرج لتوه من وظيفة مرهقة في ضاحية فقيرة قرب لندن، وكان يحلم بالزواج من فتاة أحبها بعجلة، لا بتروٍ. أراد أن يكون كاتبًا بحق، يكتب عن الجسد وعن الرغبة، وكان يكتب عن الجنس بألمٍ داخلي، وإن لم يعرفه بعد حق المعرفة. كما حلم بحياة أكثر راحة في طبقة وسطى، لكن الحياة لم تمهله؛ فقد توفيت أمه، وأحس أن الوقت قد حان ليكتب عن العلاقة المعقدة التي جمعته بها منذ طفولته. ثم مرض بالتهاب في الرئة، وكاد أن يموت، فلما نجا، قرر ترك التدريس، وفسخ خطبته.
وبعد أيام، التقى بفريدا، وهربا معًا. وهناك تحررت منه الرواية التي كانت تُعرف حينها باسم "بول موريل". كانت الكتابة بالنسبة له تحريرًا: من أمه، من ماضيه، من فتياته اللواتي شكّلن وجدانه. وحين أرسل الرواية إلى الناشر إدوارد غارنيت، كتب له يقول بثقة: "لقد كتبت كتابًا عظيمًا". ولم يكن كاذبًا.
لكن، ما هذا الكتاب؟ لا تجد فيه ملوكًا ولا حروبًا، ولا قادة ولا فتوحات. بل كل ما فيه أناس يسيرون على أقدامهم: من بيوتهم إلى أعمالهم، ومن المدينة إلى الريف، يصعدون درجات السلالم، وينزلون، يقطعون الغرف، ويمشون بمحاذاة الأنهار أو وسط الأشجار. رواية تمضي بإيقاع الحياة اليومية، لا تتوقف عند ما يُدهش أو يثير العجب، بل تلتفت إلى ما يعبر، وتلاحظ ما يمرّ، وتُصغي إلى لحظات الطريق العابرة. تجري أحداثها في بلدة تعدين صغيرة في منطقة الميدلاندز بإنجلترا – وهي المنطقة التي نشأ فيها لورانس – لكنها تتنكر في الرواية باسم "بيستوود". وتبدأ الرواية بحكاية زواج غير سعيد بين امرأة تُدعى غيرترود وزوجها والتر موريل. كانت غيرترود، كأم لورانس، امرأة ذكية تتطلع لحياة أرقى، وقد تزوجت عاملًا اعتقدت حين رأته يرقص في مهرجان ريفي أنه رجل طموح، ثم اكتشفت أنه مجرد عامل منجم بسيط. وكان هذا الخطأ في الاختيار لا يغتفر، لا في نظرها، ولا في نظر نفسها، فنقلت أحلامها التي خابت على أكتاف أبنائها.
الابن الأكبر، ويليام، كان فتى مليئًا بالحيوية، لكنه توفي في سن صغيرة. فبقي بول، الطفل الحساس، الذي بدا في صغره أقرب إلى الفتيات من شدّة رقّته، وكان مفرط التعلّق بأمه. وتحول محور الرواية إلى قصة صراعه الداخلي: بين رغبته في إرضاء والدته، وسعيه إلى التحرر من سطوتها. عمل بول في مصنع منذ سن مبكرة، وكان يعطي أجره لوالدته، وبدأ تعلّمه الرسم كي يبيع لوحاته ويكسب منها رزقًا. ومع انتقاله من مرحلة المراهقة إلى بداية الشباب، راح يتخبط في فهم الفتيات، ومشاعره تجاههن، ومشاعرهن نحوه. وكانت له علاقتان بارزتان: الأولى مع ميريام، فتاة من عائلة تعمل في الزراعة، حالمة مثله، تقرأ كثيرًا، وتبحث عن معنى غامض لا تُحسن تسميته؛ والثانية مع كلارا، امرأة أكبر منه سنًا، متزوجة لكن منفصلة، جريئة في جسدها، وفي تفكيرها، وتتبنّى أفكارًا نسوية، أي تدافع عن حرية المرأة ومساواتها.
ومع كل هذه العلاقات، بقيت الأم حاضرة في كل لحظة، ظل ظلها ممتدًا على كل مشاعره وتصرفاته.
كل هذا قد يبدو مألوفًا للقارئ، وقد يظن أنه مجرّد مادة عادية كتلك التي اعتادها في روايات تلك الفترة، لولا أمر واحد: أن هذه الرواية، التي تمتلئ بعبارات مثل "في اليوم التالي"، و"بعد قليل من الوقت"، و"في ذلك الحين"، لم تكن رواية عن أبناء الطبقة المتوسطة، بل عن أبناء الطبقة العاملة. والطبقة العاملة – كما كان يُظن في الأدب آنذاك – لا تصلح لأن تكون موضوعًا للرواية. لأن الناس من هذه الطبقة – كما كانت النظرة السائدة – لا يتغيرون، ولا يصعدون في السلم الاجتماعي، ولا يُعطَون فرصة للتعبير عن أنفسهم. بل يُتركون كأنهم سكون خامل، بلا صوت، بلا حكاية.
وهكذا، يظهر الأب والتر موريل – والد بول – كأنه شخصية لا تصلح لعمل روائي: لا يُروى عنه شيء، ولا يُمنح أي عمق، فحياته كلها عمل شاق في الفحم، وقلق دائم على النقود.
لكن القارئ سيجد في لورانس ما يجده في كبار الكُتّاب الذين لم يتوقفوا عند المظاهر، ولم يكتفوا برسم الصورة الظاهرة للحياة، بل ذهبوا إلى ما هو أعمق: إلى حيث يتقاطع الشعور الإنساني، وتتفتّح الأسرار الخفية في النفس، ويستخرج من الطبقات السحيقة في وعي البشر ما لا تُنقّب عنه الروايات التقليدية.
ولذلك، لم يكن غريبًا أن يستلهم من والده ووالدته مادةً أدبية حيّة، لا تقتصر على تصوير حياة فقر أو تعب، ولا تتكلف الشفقة، ولا تستعير صورًا باهتة لحياة العمال. لقد أراد لورانس أن يقول: هذه ليست حكاية حيّ شعبي، ولا قصة شريحة مسحوقة، بل رواية عن الإنسان نفسه، تبدأ من عمق الأرض، من الفحم، لكنها لا تنتهي هناك، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك.
وقد رسم الكاتب بلدته بقلم يُشبه ريشة الرسّام، حيث البيوت الصغيرة المتجاورة تصطف كأنها أنابيب دخان متراصة، وحيث يعود الرجال من المناجم إلى بيوتهم ووجوههم مغطاة بالسواد، ولكن شفاههم – رغم الغبار والدخان – تظل حمراء ناطقة بالحياة. ألا ترى لورانس يصفهم وهم يمشون عائدين إلى "بيستوود"، مبتلين بالمطر، مغبرين بالعمل، تبدو عليهم القذارة، لكن أفواههم الحمراء تحكي أنهم أحياء؟ هذا هو سحر التناقض الذي يجيده لورانس، ويستحضره في كل سطر من سطور روايته.
ثم يُصوِّر لنا لورانس خطرًا من نوع آخر، أشد وقعًا وأكثر إيلامًا: إنه خطر المهنة نفسها، مهنة لا استقرار فيها ولا أمان، مهنة يتوقف مصير العامل فيها على تقلبات السوق ومزاج أرباب العمل. فقد يُغلق أصحاب المناجم أبوابها فجأة دون سابق إنذار، متى عجزت أموالهم عن تغطية النفقات، ويُترك العمال وقتها في العراء، لا يملكون إلا أرجلهم التي تعوّدت على الوقوف الطويل، وأياديهم التي ألفت ملامسة الجمر.
ثم يرسم لنا لورانس مشهدًا بسيطًا لكن مؤلمًا، لوالده "والتر" وهو جالس إلى جوار المدفأة، يغسل جسده في حوض صغير بعد يوم من الشقاء تحت الأرض. ويُظهره في لحظات ضعفه حين يسكر ويضيع صوابه، ويعلو صوته بالشجار كما يفعل الأطفال، حتى لا يبقى لزوجته "جيرترود" سوى ازدراء عميق لذلك الرجل الذي كانت تحبه يومًا. يصف شجاراتهما التي تنتهي بتحطيم الأواني، وامتلاء البيت بالصراخ والصدى.
ثم ينتقل لورانس إلى "بول"، ذلك الفتى الذي يشعر بالخجل حين يُرسل بدلاً من أبيه ليأخذ أجره الأسبوعي من المنجم، ولكنه في ذات الوقت يشعر بفرح بسيط حين يرى بيده تذكرة الحافلة، أو حين يتسلم راتبه الضئيل في وظيفته الصغيرة، فيحسبه بدقة كما يحسب الطفل نقوده.
ويصفه كذلك وهو يقبّل "كلارا" في حقل قريب من قناة الماء، حيث يختبئ العشاق خلف الجدران النباتية الكثيفة. وهنا لا خجل، ولا حياء مصطنع. فلا وجود لتلك الرهافة المتكلّفة التي نراها عند فرجينيا وولف في وصفها لسيبتيموس سميث في رواية "السيدة دالواي". أما رواية لورانس، رغم أنها تروي حياة الطبقة العاملة، إلا أنها لا تُقدِّمهم كمجرد صنف اجتماعي. ليست تصنيفًا مغلقًا، بل هي حياة نابضة، مكتوبة دون تزييف أو تزويق. لا تخفي قبحًا، ولا تُلطّف عنفًا، ولا تتوارى عن الجسد. وحتى لو أغضبت هذه الصراحة بعض القراء "المهذبين" – وهو ما حدث فعلًا – فإن لورانس لم يكن يُعير لذلك اهتمامًا، لأنه كان صادقًا في كل ما كتب.
وتأتي "كلارا"، الفتاة التي تنتمي أصلًا إلى الطبقة العاملة لكنها تعيش في المدينة وتتشبّع بحضارتها، فتزور "بول" في بلدته "بيستوود"، وهناك تتعجّب من مشهد المنجم، فتقول بأسف: "يا للأسف! منجم فحم هنا، حيث كان الجمال!". لكن بول، وقد شعر بشيء غريب يتحرك في داخله، يجيبها بما لم تكن تتوقّع: "أترين؟ لقد اعتدتُ هذا المنظر حتى أصبحتُ أفتقده. بل إني أحب المناجم، أحب العربات، وأبراج الحفر، والبخار حين يرتفع في النهار، والأنوار حين تتلألأ في الليل. وأنا صغير كنت أظنّ أن سحابة الدخان في النهار وعمود النار في الليل هو المنجم نفسه، بل كنت أظن أن الله يسكن في أعلاه."
يا لها من مفاجأة! ويا لها من صورة مدهشة! هنا تتجلى عبقرية لورانس: لا يجعل "بول" يردّ على "كلارا" فحسب، بل يُظهر لنا كيف أن بول نفسه اكتشف شيئًا جديدًا في قلبه، شيئًا لم يكن يعرف أنه يسكنه. لم يكن حبّه لهذا المكان تمسّكًا تقليديًا ولا مجرّد دفاع عاطفي، بل كان شعورًا حقيقيًا، متجذّرًا في وجدانه.
وهذه الدهشة – التي تفاجئ القارئ وتفاجئ بول في آنٍ واحد – تتكرّر كثيرًا في الرواية. إنها ليست دهشة مصطنعة أو مفتعلة، بل دهشة نابعة من يقظة داخلية، من انتباه حقيقي لما يشعر به الإنسان. وهذا، في ظني، هو ما يجعل رواية "أبناء وعشاق" مختلفة عن كثير مما كُتب قبلها أو بعدها. لورانس لا يطارد الإثارة، ولا يبحث عن أفكار عالية معقّدة، بل يتعقّب لحظات الصدق الإنساني، في أبسط وأدقّ تجلياتها. يسعى إلى نوع من البراءة لا يعني الجهل، بل يعني الانفتاح الكامل على كل ما تحتويه هذه الحياة من وجع وسعادة، من خطأ وغفران، من سقوط ونهضة.
إن البراءة هنا ليست طفولة غافلة، بل وعي لا يتعجل الحكم، بل يُمهّد للحب الحقيقي، ولحياة قائمة على الفهم لا على الخوف. وفي هذا كله، لا يموّه لورانس الحقيقة، بل يُبقيها عارية أمام القارئ. يقول ببساطة: "كان خائفًا"، "كانت تكرهه"، "وكان يبادلها الكره". هذه الجمل المباشرة، المتكررة في الرواية، تُظهر مدى شجاعة لورانس في التعامل مع المشاعر القبيحة وغير السعيدة وغير المحلولة، تلك التي يُخفيها الأدب عادةً أو يُلطّفها. لكنه، على طريقته، كان صادقًا حتى النهاية.
لم يتوانَ الكاتب في هذه الرواية الفريدة عن الاعتراف بسلطان الجنس، لا باعتباره فعلًا منعزلًا، بل كتوتّر دائم بين ما يريده الإنسان وما يشعر به، بين الإرادة والإحساس. نرى "بول" و"كلارا" يبحثان عن مكان خفيّ يتبادلان فيه القبل، بعيدًا عن أعين الناس، فلا يجدان سوى مكان مكشوف على ضفة موحلة بجانب النهر. وهناك، ينزلقان ويقعان ويتعانقان، في مشهد لا يخلو من فوضى جسدية مشبعة بمزيج من الإثارة والارتباك.
وفي ليلة نادرة أُتيح فيها لبول أن يبيت في منزل والدة كلارا، نال غرفتها، بينما نامت هي في غرفة الجلوس. وفي منتصف الليل، استيقظ وقد اشتدّت فيه الرغبة، فرآى جواربها فوق ظهر الكرسي، فارتداها وجلس بهدوء على طرف السرير، كما وصف لورانس، "منتصبًا". ثم، بعد تردّد وصراع داخلي، زحف بخجل ويأس إلى الطابق السفلي حيث تنام. وقد حُذفت هذه الفقرة حين نُشرت الرواية أول مرة، إلا أن مجرد كتابتها كان كافيًا. فهي لم تُكتب بقصد الإثارة، ولا لتأكيد موقف فكري، بل كجزء من الحياة التي عرفها الكاتب كما هي، حياة لا حياء مصطنع فيها ولا اعتذار مبالغ فيه.
ثم تبلغ الرواية أوجها، حين تصاب والدة بول بمرض عضال لا أمل في الشفاء منه، فيقوم هو وأخته على رعايتها، يشاهدان الألم وهو يتسلل ببطء إلى جسدها، حتى يصير وجودها كله عذابًا. أما "والتر"، الأب، فيقف عاجزًا، لا يعرف كيف يمد لها يد العون. ويظل "بول" يراقب أمه بعين المحب الموجوع، بعاطفة تختلط فيها الرقة بالشهوة، كأن الألم والحب اجتمعا في نقطة واحدة. وحين يعجزان عن تحمّل المشهد، يضيفان المورفين – مادة مخدّرة تُستخدم لتسكين الألم الشديد – إلى كوب الحليب الذي تتناوله ليلًا، فيغرق جسدها في نوم أبدي لا صحوة منه.
وليست هذه اللحظة لحظة قتل رمزي للأم كما يراها علم النفس التحليلي، أي تلك الفكرة التي تقول إن الابن لا يبلغ نضجه إلا إذا "قتل" أمه معنويًا ليستقلّ بنفسه. فمثل هذا التفسير يبدو مبسطًا وساذجًا إذا قيس بالبساطة المعقّدة – إن جاز التعبير – التي يجلبها لورانس إلى هذا المشهد. إنها لحظة تقول لنا إن الحب قد يفضي إلى الموت، وإن القتل – في بعض حالاته – قد يكون صورة من صور الحب العميق واليائس.
إنها رواية عن الخوف، عن الألم، عن الرغبة، عن القيود، وعن الموت. لكنها في الوقت ذاته رواية عن الدهشة، عن انبهار الإنسان بالحياة، حين تنبض أمامه وتنكشف له في جمالها وتقلّبها. فخلف كل سطر فيها، عين ترقب وتفهم وتُعيد النظر. حين يصف لورانس "بول" وهو يجلس في قميص مقلوب، ممسكًا منشفة، وعنقه النحيل يشبه عنق فتاة، وشَعره مبلّل واقف، لا يكون ذلك مجرد وصف ظاهري، بل إيقاع داخلي، ودقة في الالتقاط لا تفصل بين الشكل والإحساس.
ولذلك، لم يكن لورانس كاتبًا يصف البشر وحدهم، بل كتب أيضًا للطبيعة التي يعيشون فيها، للأرض التي تطأها أقدامهم، وللسماء التي تعلو رؤوسهم، وللأشجار التي تحيط بهم، والزهور، والهواء الذي يتغير كما تتبدّل مشاعر الإنسان. فالطقس في رواياته ليس خلفية جامدة، بل كائن حيّ، يتغير في الخارج كما يتبدل في داخل النفوس. والشخصيات، رغم حركتها المستمرة، لا تنفصل أبدًا عن الأرض التي يمشون عليها، ولا ينسون السماء فوق رؤوسهم.
وأظن أن هذا الجوّ المشحون بالجمال والإحساس، الذي يخيّم على الرواية، يعود إلى تلك النظرة المركبة التي ينظر بها لورانس إلى شخوصه. فهو من جهة يتقن الإمساك بخيط الحكاية، ثم يتركه متعمدًا، لينتقل بين داخل الشخصية وخارجها. يقترب منهم حتى ليكاد يسمع أنفاسهم، ثم يبتعد فجأة ليعرضهم كما يراهم الناس، لا كما يرون أنفسهم أو كما يراهم هو. تأمّل شخصية "بول" مثلًا: معظم الأحداث نراها من خلال عينيه، لكنه، مرارًا وتكرارًا، يعود لورانس ليراه من علٍ، يجرّده من أوهامه، ويقدّمه إلينا على حقيقته، كما هو، لا كما يحب أن يكون.
وتأمل "كلارا"، حين تنظر إليه بنصف ابتسامة، وتقول له: «أظن يا صديقي أنني رأيت أمثالك من قبل؛ أولئك الشبان الذين يظنون أنهم يعرفون كل شيء» — وهي، في قولها هذا، تصيبه في الصميم. لقد رأت فيه غرور الشاب الذي يتوهم المعرفة، وهو لا يزال يسير في أول الطريق.
فإن كانت هذه الرواية تحكي قصة نضوج ونموّ، فإن النضوج فيها لا يتجلى في صورة إنجاز كبير أو موهبة لامعة، بل يبدو في صورة أكثر تواضعًا، حين يتحرر "بول" من عبء التوقعات؛ تلك التي يحمّله الناس إياها، وتلك التي صنعها هو لنفسه. لم يكن فنه خارقًا، ولا مصيره باهرًا، لكنه بلغ تلك المرحلة الدقيقة من التردد في فهم ذاته، ذلك الشعور المربك بعدم اليقين الذي تخشاه النفس وتتهيب الوقوف عليه، غير أن الرواية تُصرّ على أن تتركه معلقًا في الهواء، بلا شرح، ولا تبرير، ولا نهاية واضحة. فـ"بول" ليس نتيجةً لشيء، بل كائنٌ في طور التكوين، لا يمكن حصره في تفسيرٍ أو حكاية.
ولا نُحبه كما نُحب الأبطال، ولا ننفر منه كما ننفر من الأشرار، بل نشعر به وكأنه أقرب إلينا من أنفسنا أحيانًا، وأبعد عنها في أحيانٍ أخرى. فهو لا يعيش حياتنا، ولكن الرواية تسرده لنا بطريقة تدفع كل واحد منّا لأن يسأل نفسه: ما هي حياتي أنا؟
وفي نهاية الرواية، لا يظهر "بول" وقد وجد طريقه أو حقق ذاته كما تفعل بعض الروايات التي تحب أن تعطي أبطالها نهاية مريحة، بل نسمع عليه حكمًا واحدًا قاسيًا: إنه "مُهْمَل". الليل يُطبق من حوله، وهو، كعادته، سائر على الطريق:
من يستطيع القول إن أمّه كانت حيّة ثم ماتت؟ لقد كانت في موضع، ثم صارت في موضعٍ آخر، وهذا كل ما في الأمر. لكن روحه لا تقدر على مفارقتها، فهي ما زالت معه وإن غابت. خرج إلى الليل، جسده في الخارج، لكنه معها بروحه. كانا معًا، لكن الجسد شيء آخر: هو مستند إلى العتبة، ويداه تمسكان بدرابزين الباب، لكن جسده بدا كأنه شيء هش لا يكاد يُرى، كأنه بقعة صغيرة من اللحم، كحبة سنبلة تاهت في حقل واسع. لم يقدر أن يحتمل ذلك. الليل بدا وكأنه اتسع حتى غطى ما وراء النجوم والشمس، والنجوم نفسها لم تعد سوى حبات ضوء صغيرة، تدور في عتمة، وتحتضن بعضها من شدة الرهبة.
رهبة، واحتضان! لقد بلغنا هنا المفترق الأول والأخير: تلك اللحظات التي تتكسر عندها كل التواريخ، وتفقد الكلمات معناها، وتتحول الأسئلة إلى عاصفة تقتلع كل ما ظننّا أنه إجابة. نحن على الطريق، نسير مع بول وسط ضباب خفيف، وقد صار هو نفسه كأنه مكان لا إنسان، قطعة من الحزن، وذرة من حب لا يريد أن يفنى. فالحب في هذه الرواية لا يمنح الحياة فقط، بل يعترف – بشجاعة نادرة – أنه قد يكون قاتلًا، وأن القتل قد يكون – يا للمفارقة – صورة من صور الحب.
"الحزن، الحزن، والحزن الكافي يجعلنا أحرارًا"، هذا ما كتبه لورانس في قصيدة أهداها إلى فريدا أثناء كتابته لهذه الرواية. ثم ختم بقوله: "كي نكون مخلصين وغير مخلصين، كما ينبغي لنا أن نكون".
هذه العبارة الأخيرة، "المخلص وغير المخلص"، التي قد تبدو متناقضة للوهلة الأولى، تُجسد بدقة طبيعة العلاقة التي تربط لورانس بفنّ الرواية نفسه. فرواية أبناء وعشاق قد تبدو من نوع الروايات التي تتتبع مسار الإنسان من الطفولة إلى النضج، من الجهل إلى الفهم، من التشتت إلى إدراك الذات، ولكنها في حقيقتها أعمق من هذا النموذج. إنها لا تخضع للقوالب المعهودة، ولا تأنس إلى الشكل الروائي التقليدي، بل تذهب إلى أبعد منه، إلى منطقة أكثر تجريدًا، حيث لا يقين ولا نهاية مرتبة.
ثم إن هذه العبارة – المخلص وغير المخلص – تنطبق أيضًا على العلاقة بين روايات لورانس المتتابعة. فكل رواية لاحقة لا تُنكر ما قبلها، ولا تعارضها، لكنها تبتعد عنها. كأن لورانس كلما ظنّ أنه أمسك بحقيقة فنية، تذكّر في أعماقه أن هناك حقيقة أخرى، أو نقيضًا ينتظره. وقد عبّر عن هذا الأمر بنفسه في رسالة إلى أحد أصدقائه حين كتب: "كل حقيقة حيوية تحتوي بداخلها على ذكرى كل ما لا يناسبها". لقد كان، بحق، رجل التناقضات، عاشها، وفهمها، وكتب عنها.
قوس قزح
فرواية أبناء وعشاق كانت تحكي عن الانفصال عن الأسرة، وعن عبء الفردانية الذي لا يحتمله كثيرون. أما روايته التالية قوس قزح، التي شرع في كتابتها بعد الأولى مباشرة، فهي على النقيض منها: رواية عن حياة الأسرة، عن البحث عن روابط إنسانية تتجاوز الفرد وتسمو عليه.
تبدأ رواية قوس قزح في منتصف القرن التاسع عشر، عندما يقع "توم برانجوين"، فتى المزرعة الذي لم يبلغ الثامنة والعشرين، في حب امرأة بولندية تُدعى "ليديا لينسكي". كانت أرملة لطبيب بولندي، ولاجئة سياسية، شاركت معه في انتفاضة فاشلة في مدينة وارسو، وهي تلك الثورة التي أدّت، من بين نتائجها، إلى منع مجلة كان الأخوان دوستويفسكي يُصدرانها.
كانت "ليديا" أكبر من "توم" بست سنوات، وأمًّا لطفلة صغيرة تُدعى "آنا"، لم تتجاوز الرابعة من عمرها. وكانت لغتها الإنجليزية ضعيفة، تتحدثها بتلعثم، وتأتي من خلفية ثقافية مختلفة تمامًا: ممرضة محترفة، بينما هو فتى من الريف، نشأ في قلب المزرعة والأرض. ومع ذلك، أسرته بجاذبيتها الغريبة. لقد فتنه فيها شيء لا يعرف كنهه، تلك الغرابة التي طالما استهوت لورانس، فصوّرها في روايته على أنها سر الجاذبية بين الرجل والمرأة، وهي في الوقت نفسه السبب الذي يمنع اتحادهما التام.
الفصل الأول من الرواية عنوانه: كيف تزوج توم برانجوين امرأة بولندية. العنوان يخبر القارئ منذ البداية بنهاية القصة، لكنه لا يكشف الطريق التي أوصلت إلى تلك النهاية. وهذا الطريق، وصفه لورانس بكثافة وتوتر كما اعتدنا منه في أبناء وعشاق. نحن لا نتابع فقط ما يفعله توم، بل نعيش معه تردده، ونتلمس اضطرابه، ونراه واقفًا أمام الباب يحمل "حفنة من الزهور"، نراقب نظراته، ونحسّ فجوات وعيه، ونشعر بالقوى الخفية التي تدفعه نحو ليديا.
إننا لا نقرأ الحدث، بل نعيشه. نرى ما لا يُقال، ما يحيط بالكلام ولا يظهر فيه، ذلك الخليط العميق من الرغبة والخوف والجهل بما سيكون. ثم يتزوج توم وليديا، وتبدو القصة كأنها انتهت. ولكن الرواية لا تتوقف، بل تنتقل بنا مباشرة إلى جيل آخر...
الختام هنا ليس ختامًا بالمعنى المعروف، بل هي امتدادٌ للقصة، لأن الحكاية في نظر الكاتب لا تنتهي، بل تعود وتتشكل من جديد. وهكذا نجد أنفسنا مع "ويل"، شاب يعمل رسامًا ومصممًا في مصنع يُنتج الدانتيل — وهو قماش رقيق مزخرف كانت تصنعه النساء غالبًا يدويًا — ومع "آنا"، ابنة "ليديا"، التي عرفناها طفلة ثم كبرت. ورغم أن كلًّا منهما يختلف عن والديه في طباعه وزمانه، فإن الكاتب "لورانس" يرى بينهما تشابهًا داخليًّا عميقًا، يجمع بينهما في شيء يُشبه ما نسمّيه "الرغبة".
ويتزوج "ويل" و"آنا"، وينجبان تسعة أطفال، أوّلهم "أورسولا"، التي تصبح في نهاية الرواية الشخصية الأهم. و"أورسولا" لن تتزوج، بل ستخوض تجارب حب متعددة، مع رجال ونساء، وستحمل وتُجهض، لكنها تظلّ في النهاية امرأة اختارت أن تعيش حرة، مسؤولة عن حياتها، دون أن تنفصل عن أسرتها، ودون أن تفقد ذلك التوق إلى الحب، كما عرفه "لورانس": توقٌ يجعل الإنسان أوسع من نفسه، وأضيق منها في آنٍ واحد.
وقد قضى "لورانس" ثلاث سنوات يعمل على قوس قزح، بدأها وهو يتنقل مع زوجته "فريدا" بين ألمانيا وإيطاليا، وأنهاها بعد أن تزوجها رسميًّا — إذ كانت متزوجة من غيره ثم طلّقت زوجها لتتزوجه — وعادا إلى إنجلترا وقد اندلعت الحرب العالمية الأولى. وكانت "فريدا"، ألمانية الأصل، موضع شبهة لدى السلطات البريطانية، واتُّهمت بالتجسس، بينما تغيّر نظر "لورانس" إلى العالم، وامتلأ قلبه بنوع من التشاؤم الثقيل، بلغ أحيانًا حدّ الوسوسة. ولكن هذا المزاج السوداوي لم يجد له طريقًا إلى الرواية، فقد كتبها بحماسة وثقة، مؤمنًا أنه يقدم بها شيئًا جديدًا، لنفسه ككاتب، وللرواية كفنّ أدبي.
إلا أن الناشر "غارنيت" لم يشاركه الحماسة، بل خاف من الرواية منذ اللحظة التي قرأ فيها مسودتها الأولى، وكانت بعنوان الأخوات. ورغم مراجعات "لورانس" المتكررة، فإن رأي الناشر لم يتغير، ورفض طبعها، معتبرًا أنها لا تبلغ مستوى روايته السابقة أبناء وعشاق. لكن "لورانس" ردّ عليه بقوله: إنها ليست محاولة لتكرار تلك الرواية، بل شيء جديد. وقال أيضًا: "لن أعود إلى أسلوب أبناء وعشاق، لا أعتقد أنني أستطيع — فقد كان أسلوبًا عنيفًا، صارمًا، مشبعًا بالإحساس والعرض". ثم أضاف: "لم أعد أستمتع كما كنت من قبل بصناعة مشاهد حيوية، ولا بتجميع التفاصيل تحت ضوء عاطفي واحد. ينبغي أن أكتب بأسلوب مختلف."
ورغم ثقته الظاهرة، إلا أن "لورانس" كان يقلل من شأن نفسه في هذا القول، لأن قوس قزح كانت فعلًا رواية مملوءة بالمشاهد القوية، التي تشعّ قوة لأنها جزء من بناء روائي دائري، يتّسع في الزمن ويتنقل بين شخصيات تتغيّر وتتبدل. ذلك "الضوء العاطفي القوي" الذي ظنّ أنه خبا، لم ينطفئ، بل اشتدّ وهجُه. وأسلوبه ظلّ نابضًا بالحياة، ولكنه اكتسب رقّة جديدة، لم تكن واضحة في أعماله الأولى.
منذ الصفحات الأولى، تأسرنا الرواية بمشهد ولادة الطفل الأول لـ"توم" و"ليديا"، تلك الولادة التي تحدث، كما هو متوقّع، في قلب المزرعة. الطفلة "آنا"، وهي ما تزال صغيرة، تشعر بالارتباك أمام هذا الحدث الغريب، الذي بدا لها أشبه بخلل غامض حلّ بأمها. فتسأل زوج أمّها، الذي لم تكن بعد قد اعتادت عليه:
– "أريد أمي."
فيرد عليها بصوتٍ هادئ لا يبدو عليه القلق:
– "أمك مريضة."
فتحدّق فيه بعينين يملؤهما الذهول والخوف:
– "هل رأسها يؤلمها؟"
– "لا، إنها تضع طفلًا."
فتمتلئ عينا الطفلة بالحيرة، إذ لم تفهم ما يعنيه ذلك، وكان هو في نظرها لا يزال غريبًا لا تلجأ إليه. فعادت إلى عزلتها وهي مضطربة، ثم صاحت بأعلى صوتها: "أريد أمي."
وكان "توم" بطبعه رجلاً هادئًا ومتزنًا، لكن هذه اللحظات غير المألوفة أخرجته عن طوره. فنزع عنها ملابسها، وحاول أن يجعلها تستلقي في فراشها بعيدًا عن ما يحدث، لكنها انفجرت بالبكاء، وظلت تبكي حتى أثار غضبه، خاصة أن الولادة طالت، والقابلة لم تصل بعد. ثم خطرت له فكرة. قال لها: "هيا بنا نطعم الأبقار." وأخذها في قلب الليل الماطر إلى الحظيرة حيث الحيوانات.
وهناك، وهو يحملها بين ذراعيه ويطعم الماشية، أحست الفتاة بالأمان، وهدأ اضطرابها.
جلس الاثنان في هدوء، يصغيان إلى أصوات الأبقار وهي تمضغ طعامها ببطء. وكان ضوء الفانوس الساكن ينعكس بهدوء على الجدار، والمطر في الخارج ينزل بلا صوت. فنظر "توم" إلى شالها المزخرف — وكان من قماش "البايزلي"، وهو نسيج مزركش بألوان زاهية — وتذكر أمّه، التي كانت ترتدي مثله حين تذهب إلى الكنيسة. وعادت به الذاكرة إلى أيام الطفولة، إلى تلك اللحظات الخالية من الهمّ، حين كان يشعر بالأمان دون أن يسأل نفسه عن سببه.
فجلسا صامتين تمامًا...
قبل أن يحمل الرجل الطفلة الصغيرة إلى الخارج تحت المطر، كان قد لفّ جسدها بذلك الشال الذي أيقظ في قلبه ذكرى أمه؛ لقد صار في تلك اللحظة أبًا وأمًّا معًا، طفلًا ورجلًا في وقت واحد. وهكذا تحوّلت ولادة الطفل الذي جاء إلى الدنيا للتو إلى لحظة ولادة أخرى، ولادة لعلاقة جديدة بين زوج الأم وطفلتها، تلك العلاقة التي ستكون، فيما بعد، أعمق من علاقته بابنه الذي لم يولد بعد. الاثنان، الرجل والطفلة، الجالسان بين الماشية في حضن الريح والمطر، لم يعودا مجرد شخصين بينهما فارق في العمر، بل بدَوَا وكأنهما وُجدا في مساحة وسطى، بين الذكورة والأنوثة، بين جيل مضى وجيل مقبل، غائصَين في حالة من الحياة الخالصة، أشبه بالحياة الغريزية التي لا يحكمها وعي أو تفكير. وتلتقي هنا طرائق وجودنا المختلفة — نحن البشر — وتتوازن، ولو للحظة، قبل أن تنام الطفلة بين ذراعيه، فيحملها "توم" إلى فراشها، وقد أصبح الآن مستعدًّا للعناية بزوجته التي لا تزال تتألم بعد الولادة. كل ما في هذا المشهد محمّل بالإشارات العميقة، دون أن تُقال صراحة: فالظلمة الرطبة، مثلًا، ترمز إلى رحم الحياة، والمذود — ذلك الحظيرة التي توضع فيها الأبقار — يتحوّل إلى مكان شبه مقدّس، لا بسبب رمزية مفتعلة، بل لأن المشهد ذاته حيّ وصادق، رقيق وعذب.
لكن ذلك المطر الذي شهد ولادة الحياة سيعود ليشهد الموت. لقد ازدهرت حياة "توم"، وأصبح فلاحًا ناجحًا ذا مكانة، بينما ترك ابناه العمل في المزرعة، وانتقلا إلى نمط حياة أكثر رفاهية، حتى صار من الطبقة التي تُسمى مجازًا "الراقية". أما هو، فقد نال حظّه من الراحة، ولكنه استسلم لها شيئًا فشيئًا، وبدأ يقضي وقته في الفنادق والحانات، يشرب مع أصحاب الأراضي والفلاحين الأثرياء. ولورانس، كعادته، لا يكتفي بوصف الحالة، بل يلتقط حتى اللغة التي يستخدمها هؤلاء القوم حين يجتمعون، ليفضحها من الداخل. وذات ليلة، وتحت المطر الغزير، وبعد زيارة للسوق وشرب الكحول، ركب توم عربته التي تجرها الخيول عائدًا إلى البيت، وهو في حالة من التخمّر والغفلة. وقد غلبه النعاس في الطريق، وكانت المياه قد ارتفعت حول بيته، مما جعله يتعثر وهو يحاول إدخال حصانه إلى الحظيرة. ثم، ولسبب غامض، شعر برغبة غير عقلانية في أن يتفقد بركة المياه في المزرعة:
مضى مترنّحًا. وكان في حركته تلك نوع من المتعة الغريبة. دخل الماء حتى وصل إلى ركبتيه، وكان التيار قويًّا. تعثّر، وبدأ يتمايل وكأن الغثيان قد أصابه. ثم صدمه شيء ما في ساقيه فسقط، وفجأة وجد نفسه وسط دوامة من الاختناق. صارع، وشعر بالذعر من الغرق، حاول المقاومة، لكنه كان يسقط مرة بعد أخرى، يغوص أعمق فأعمق. ثم صدم رأسه شيء ثقيل، وأحس بألم شديد، ثم انطفأ كل شيء، وحلّ الظلام.
وفي هذا الظلام الكامل، انجرفت جثته، غارقة، لا وعي لها، بينما كان المطر ينهمر على المكان، والمياه تغمره من كل جهة. الأبقار انتبهت في حظائرها، نهضت على قوائمها، والكلب نبح.
هذا مشهد آخر، ظاهره بسيط، لكنه في جوهره بالغ الرهبة. ورغم واقعيته الشديدة، إلا أن فيه شيئًا من الصدمة، لأن "لورانس" يضع نهاية لـ"توم" بهذه السرعة، وكأنه يزيح وجودًا كنا قد اعتدنا عليه، وكنا نعتمد عليه كما نعتمد على ثبات العالم من حولنا. ومع ذلك، نحن نعلم في أعماقنا أن الحياة تسير على هذا النحو: الموت يأتي فجأة، بلا مقدمات، وهذا بالضبط ما يذكّرنا به "لورانس". فموت الإنسان ليس دراميًّا دائمًا، بل قد يكون بسيطًا، عاديًّا، لا يوصف.
أما "ليديا"، زوجته، فهي تنتظره في المزرعة، تشعر بالقلق لتأخّره، ثم بالخوف، ثم بالفزع، ثم تصرخ كما يصرخ كل من يباغته المصاب. وصراخها هذا لا يمرّ مرّ الكرام، بل يمتدّ عبر صفحات الرواية، وكأن "لورانس" يعيد تكرار صرخة الولادة الماضية نفسها، حين أنجبت طفلها. ويستخدم العبارة ذاتها لوصف جسد "توم": "جثة غارقة فاقدة الوعي، دفعتها المياه بجانب البيت في أعمق التيار". نحن الآن أمام ولادة من نوع مختلف، ولادة عبر الموت، وكأن الحياة لا تأتي إلا من قلب الفناء. هذا المشهد المظلم العميق، الذي يجمع بين النهاية والبداية، هو أول موت نراه في الرواية، وآخره، لكنه يمنح الرواية كلها حياة جديدة. فالقصة لم تعد عن "توم" أو "ليديا"، ولا عن "ويل" و"آنا"، ولا حتى عن "أورسولا"، بل أصبحت عن هذا الجسد المجهول، الذي لا يحمل اسمًا، والذي يدفعه الزمن والعناصر — الماء والظلام والريح — إلى الأمام. هذا الجسد هو نحن جميعًا، وفي الوقت نفسه، لا أحد منا.
وفي رسالة بعث بها "لورانس" إلى الناشر "غارنيت" بعد انتهائه من كتابة الرواية، حاول أن يوضح فكرته الجديدة عن "الشخصية الروائية"، مميزًا بين ما يُسمّى عادة بالشخصية المحددة، وبين ما هو أعمق وأقل وضوحًا. وفي هذا السياق، نذكّر بكاتب آخر، "جيمس جويس"، الذي قال لصديقه "إزرا باوند" في نفس الفترة تقريبًا، إنه لم يعد يهتم بشخصيته الروائية "ستيفن ديدالوس". كتب "لورانس":
لا تبحث في روايتي عن "الأنا" القديمة، تلك التي نسمّيها عادة بالشخصية. فثمة "أنا" أخرى، تمرّ بالأفعال، لكنها تظل غير مفهومة، غير محددة، تعبر من لحظة إلى أخرى كأنها غريبة عن ذاتها، ولا نستطيع إدراك أنها "نفسها" إلا إذا بلغنا إحساسًا أعمق مما تعودنا عليه.
وما هو "جسدي"، أو قل: ما هو غير إنساني لكنه في صميم الإنسان، هو ما يشغلني أكثر من ذلك التصوّر الأخلاقي القديم، الذي يُجبر الكاتب على رسم شخصية تُطابق قالبًا أخلاقيًّا محددًا. إني أرفض هذا القالب. ففي أعمال "تورغينيف" و"تولستوي" و"دوستويفسكي"، نجد هذا القالب حاضرًا، يفرض نفسه على الشخصيات كلها، ومهما بدت تلك الشخصيات حية أو غريبة، فإنها تظل في النهاية مملة، تقليدية، ميتة.
ومن هذا كله وُلدت هذه الرواية التي تبدو، في ظاهرها، قصة عن عائلة، ولكنها في حقيقتها شيء آخر تمامًا. فليست الغاية منها أن تتابع حياة أسرة كما هو معتاد في ما يُسمى أدب العائلة، حيث تجري العادة أن نرى كيف تمرّ الأسرة، سواء كانت من طبقة النبلاء أو الطبقة الوسطى أو العمال، بتحولات في المال والمكانة، وكيف تتأثر علاقتها بالمجتمع عبر الزمن. وهذا النوع من القصص كان دائمًا يفتن القرّاء، كما نرى في رواية "آل بودنبروك" للكاتب الألماني توماس مان، حيث تتوالى الشخصيات والأحداث كما تتوالى النغمات في عمل موسيقي طويل، ويصبح الزمن نفسه وكأنه شيء يُلمس ويُحس.
غير أن "لورانس" اختار طريقًا مختلفًا منذ البداية، فبدأ من حيث لا يبدأ غيره، فصوّر عائلة لا تنتمي بوضوح إلى طبقة واحدة، بل تكاد تكون خارج النظام الاجتماعي المعروف. فـ"توم" و"ليديا" لم يجتمعا لا على خلفية اجتماعية واحدة، ولا على وطن واحد، ولا حتى على لغة مشتركة. وما ربط بينهما لم يكن سوى شعور داخلي خافت، قد لا يُفهم بسهولة، وهو عزوفهما معًا عن الكلام، أو لنَقُل نفورهما من اللغة ذاتها. وربما في هذا ما يشير إلى أن الفواصل القديمة التي كانت تفرق بين البشر بحسب الطبقة أو الوطن أو اللسان بدأت تتلاشى، وأن الناس باتوا يبحثون عن روابط أعمق من هذه الحدود الظاهرة.
ومع ذلك، لم يشأ لورانس أن يجعل هذا التغير الاجتماعي محور القصة، بل جعله خلفية باهتة، ليُسلّط الضوء على مسألة أعمق وأصعب: ما الذي يجمع رجلًا وامرأة ليكوّنا أسرة؟ هل هو التفكير؟ أم المشاعر؟ أم الغرائز؟ أم أمر خفي لا تُدرك كنهه الكلمات؟ ومن هنا، راح لورانس يصف العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو لا يُغفل المشهد العام، إذ نرى في الرواية بدايات دولة الرعاية الاجتماعية، وتوسع الصناعة، ونمو المدن الحديثة. ونرى كيف تمكنت "أورسولا"، حفيدة هذه العائلة في جيلها الثالث، من أن تتعلم وتصبح معلمة، ونشهد كذلك ذهاب "سكريبنيسكي" إلى حرب البوير، تلك الحرب التي خاضتها بريطانيا في جنوب أفريقيا في مطلع القرن العشرين، طلبًا لما كان يظنه رجولة أو مجدًا. ومع ذلك، فإن كل هذه الأحداث العامة لا تُشكل جوهر الرواية، بل تظل خلفية شفافة تدور في ظلها دراما داخلية — نفسية وجسدية — هي لبّ العمل الحقيقي.
والواقع أن "قوس قزح" ليست رواية تُبنى لتصل إلى نهاية محددة، ولا تسير نحو غاية مقررة، بل هي سلسلة من الأجيال، تتعاقب كما في الكتب المقدسة حين تُذكر الأنساب، جيلًا بعد جيل، في عالمٍ يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه معقّد بواقعيته. وهي كذلك رواية جنسية بامتياز، بل لعلها أول رواية كتبها لورانس وتناول فيها موضوع الجنس والحميمية بين الرجل والمرأة بكل هذا العمق والجدّية.
وقد كان من ثمار هذا التوجه أن بدأ لورانس يروي قصة "ويل" و"آنا"، زوجين شابين لا يعرفان الكثير عن الحياة، كأنهما آدم وحواء في فجر الخلق. بل إن "ويل"، بعد لقائه القصير بآنا، ينحت تمثالًا يمثل الأبوين الأولين، آدم وحواء، وكأنه يرسم قدره وزوجته بيديه. ويمضيان معًا في حياة ملؤها الحيوية، يلتحمان بجسد أحدهما الآخر حتى ينسي أحدهما نفسه في الآخر، يمارسان الجنس، ينامان، يستيقظان جائعين، يجلبان الطعام إلى السرير، ثم يعودان إلى الجنس في دورة لا تنقطع. "وحين انتهت من الطعام، مسحت فمها بمنديلها بسرعة، وقد بدت راضية وسعيدة، ثم عادت إلى الوسادة، تغمر أصابعها في شعره الكثيف الذي بدا لها غريبًا ومشابهًا لفراء الحيوان." لكن هذه اللحظات لا تدوم. فآنا تبدأ بالشعور بالملل، وتنصرف شيئًا فشيئًا إلى عالمها الخارجي، إلى مسؤوليات الأمومة، إذ تصبح أمًّا لأورسولا، وتنشغل بشؤون البيت، بينما يشعر "ويل" بالعزلة، وينسحب بهدوء إلى عالمه الداخلي، عالم لا يتحدث فيه، بل يعيشه بصمت.
كان "ويل" يعمل في نوتنغهام، وكان إذا أنهى عمله خرج يسعى في الطرقات. وفي إحدى الأمسيات، التقط بفتاة، فلما عاد إلى "آنا" تغيّر كل شيء بينهما: نظر إليها بعين جديدة، ونظرت إليه بعين لا تعرفه.
راقبته وهو يخلع ملابسه كما لو كان غريبًا ... وأثارت فيه شغفًا عميقًا، بعنف، حتى قبل أن يلمسها ... تخليا في حركة واحدة عن الموقف الأخلاقي، كل منهما يسعى للإشباع البحت والبسيط ...
ويصف لورانس هذا التحول، فإذا الجنس يصبح أكثر من فعل، أكثر من غريزة، إنه رغبة قُصوى، شهوة تحتشد فيها الحياة والموت معًا. لا حنان فيه ولا قرب واعٍ، بل ذوبان عنيف في الآخر، حيث يسعى كل منهما إلى تلك اللذة الكاملة ايشبه ما يشعر به الإنسان عندما يبلغ أقصى درجات المتعة والرهبة في وقتٍ واحد.
الليلة سأعرف التجويف الصغير تحت كاحلها، حيث يعبر الوريد الأزرق. وفكرة ذلك، ورغبته فيه، خلقت ظلامًا كثيفًا من الترقب ...
هكذا صار حبهما عاصفًا، حسّيًا، شديدًا كأنه الموت في شدّته. لم يكن فيه حنان ظاهر ولا ملامسة رقيقة، بل كان استسلامًا متوهجًا لجمال مطلق، جمال لا يستأذن، ولا يستقر على قاعدة. كان "ويل" قد استسلم، وبعنف حسي لا نهائي سلم نفسه لتحقيق هذا الجمال المطلق، غير الأخلاقي ...
ومع ذلك، لم تخلُ تجربته من الخوف؛ فقد راعه ما انكشف له:
أرعبه الشيء... حتى بينما كان يستسلم له. كان ظلامًا خالصًا أيضًا. كل الأشياء المخجلة في الجسد كشفت نفسها له الآن بجمال شرير، استوائي نوعًا ما. كل الأفعال المخجلة، الطبيعية وغير الطبيعية، من الشهوانية الحسية التي شارك فيها هو والمرأة معًا، خلقاها معًا، كان لها جمالها الثقيل ومتعتها. العار، ما هو؟ كان جزءًا من المتعة القصوى. كان جزءًا من المتعة التي يخاف منها الرجل عادةً. لماذا يخاف؟ الأشياء السرية المخجلة هي الأجمل بشكل مرعب.
إنها لحظة يسقط فيها كل قيد، ويُفتح الباب أمام الرغبة لتتجلى في أقصى صورها. وهنا لا يعود "العيب" عيبًا، بل يصبح جزءًا من التجربة نفسها، من النشوة التي تزلزل النفس والجسد، وتجعلك ترى القبيح جميلاً، والمحظور مستحبًا. الرغبة، في أعمق صورها، تخترق ما نظنه أخلاقًا، وتكشف عن قاعٍ من الشوق البشري الخام، الذي لا صيغة له.
وبينما ظلّت الحياة الظاهرة على حالها، انقلب العالم الباطن رأسًا على عقب. فذلك التحوّل الذي جرى بين الزوجين، ذلك التخلّي عن الوضعيات "المألوفة" في الجماع إلى وضعيات أخرى — كالإيلاج الخلفي — لم يكن شذوذًا في نظر "لورانس"، بل تجربة تمتحن بها الروح حدودها.
وكان لهذا التحوّل أثر في حياة "ويل"، إذ تبدلت نظرته إلى نفسه، واشتعلت فيه ثقة جديدة، فانطلق يعلّم النجارة في قريته، كأنما ما جرى بينه وبين آنا لم يكن انغماسًا جسديًّا فقط، بل فتحًا داخليًّا حقيقيًّا.
وهنا يحق لنا أن نسأل: لم هذا التركيز العميق على العلاقة الجنسية في رواية لورانس؟ هل هو، ببساطة، امتداد لتيار الواقعية الذي دشنه كتّاب مثل "زولا" و"فلوبير"؟ فقد صدرت الرواية عام 1915، وسرعان ما أدانتها الصحافة والبرلمان، وسُحبت من الأسواق، لما زُعم أنه تأثير ضار على الجنود في ميادين القتال.
وقد يبدو أن "لورانس" تأثر بكتابات "فرويد" أو "هافلوك إليس"، وهما ممن أضاءوا جوانب خفية من النفس والجسد في مطلع القرن العشرين، لكن لورانس لم يكن تابعًا لهؤلاء. لم يكتب عن الجنس ليُثير أو يُضحك أو يُصدم. لم يكن يبحث عن الإثارة، بل عن الكشف.
كان يرى في الجسد طريقًا إلى معرفة النفس، لا عن طريق التأمل أو التديّن أو الخيال، بل عبر الجسد نفسه؛ لأنه الصدق الذي لا يكذب، والطبيعة التي لا تتجمل.
ومن هنا خلا أدبه من الابتذال الرخيص، وخلا كذلك من شطحات "جويس" أو مكر "بروست"، اللذين جعلا من الجنس لعبة رمزية. كان لورانس يحب الحيوانات والنباتات لأنها تمارس الحياة كما هي، كما يفعل الجسد في لحظة الشغف، بلا زينة ولا خوف. أما النكت الإباحية — التي تُعد من أقدم طرق تصوير الجنس — فقد كان نادرًا ما يلجأ إليها، مع أنه أعجب بروح "بوكاتشيو"، لكن "الإباحية"، في نظره، كانت قناعًا آخر للقمع؛ وجهًا مضادًا للخوف من الجسد، لكنه لا يحرره.
ما الذي كان يطلبه "لورنس" من هذه الحياة؟ لم يكن طموحه فيها أن يغيّر وجه العالم، ولا أن يُدوِّن لنفسه اسمًا بين الكبار. إنما كان كل ما يرجوه أن يُنصت إلى دقاتها الخفية، إلى ذلك الإيقاع العميق الذي لا يُسمع إلا إذا هدأت النفس، وأن يلمس بأصابعه المرتجفة جوهرها المراوغ. ولعلّ الجنس، عنده، هو أعمق ما في هذه الحياة من سرّ: إنه قلب التجربة، قطبها الذي تدور حوله، قوتها التي لا يُرى لها وجه، ومع ذلك تنطق بالحضور، توهبنا وجودًا ثم تهدمه، تقيدنا ثم تُفلتنا، وهي أشبه في غموضها بحديث الصوفيين عن الذات الإلهية: لا بما يعرفونه عنها، بل بما يعجزون عن وصفه.
فالجنس عنده ليس هوية نُعرِّف بها أنفسنا، ولا أداة نُعبّر بها عن ذاتٍ نفترض امتلاكها، ولا حتى لذّة تُرضينا إذا ما وصلنا إليها. بل هو تيارٌ داخليّ، يوقظ فينا شيئًا غريبًا، وجهًا لم نره من قبل، ويُخرجنا من أنفسنا نحو الآخر: نحو المجهول، نحو من لا نعرفه. فهو تجربة تهزّ اليقين، وتظهر لنا أننا أمامها مبتدئون، عاجزون عن السيطرة أو الفهم، وكل من ظن أنه قد ملكها كان واهمًا.
ولم يكن الجنس عند لورنس متعلقًا بمجرّد كونه رجلًا أو امرأة، ولا خاضعًا لتلك "المسرحيات الاجتماعية" التي تُدعى أدوارًا جندرية. وإن تحدّث أحيانًا عن الذكورة والأنوثة كمبادئ أو قوى، فقد ظلّ مؤمنًا أن كليهما يقيم في كل إنسان، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر. وهو، وإن كان ينفر من المثلية — وكان في زمنه يُوصم بها الإنسان فيُعزل ويُحاكم — فإنه رأى أن انسياب الرغبة بين الرجال أو بين النساء ليس عيبًا ولا انحرافًا، بل جانب من قانون الحياة نفسه. غير أن نفوره منها لم يكن مستندًا إلى مبدأ، بل إلى قلق داخلي دفين، إلى خوف من أن يُنسب إليه ما لا يريد الاعتراف به، وربما — وهذا محتمل — أنه أحبّ رجلًا يومًا، أو تخيّل ذلك، أو ارتعد لفكرة أن يكون هذا الأمر فيه. ولذلك كان يرى أن "تثبيت الهوية" على نمط بعينه خيانة لتلك الرغبة المتحوّلة، لتلك السيولة العذبة التي يفتحها الجنس في النفس وحولها.
والجنس، بجوهره، يهزّ ما نظنه ثابتًا في ذواتنا، كما يهزّ أُسس المجتمع ذاته. فكيف لا تسعى السلطة — وهي "آلة" بلغة لورنس — إلى تقييده ومراقبته؟ كيف لا تخافه وهو يتجاوز الطبقة، ويتعدّى حدود الأخلاق، ويُبطل تفسير علماء النفس؟ بل يتسلل إلى ما قبل اللغة، إلى المنطقة الواقعة بين الولادة والموت، هناك حيث يتكوّن الإنسان أول مرة.
وفي "قوس قزح" يظهر الجنس كضوءٍ لا يُمسّ، لا يُحصر في امرأة أو رجل، بل طيف لا يستقر، لا يقبل أن يُمسَك. وهنا لا يكون الجنس فجورًا، بل حضورًا. لا يقع في الإباحية، بل في الزواج. لكنه زواج أعيد تخيّله، زواج مثل الذي كتب عنه "وولف" أو "همنغواي"، حيث العلائق لا تُحكمها العادة، بل الاكتشاف المستمر. كما في "أولريش" و"أغاثه" عند "موسيل"، حين يكون الجسد طريقًا إلى العرفان لا إلى الشهوة وحدها.
"لا فائدة من أن تظن أنك تقدر أن تختم العلاقة بين رجل وامرأة، وتبقيها ثابتة. لا تقدر. كأنك تختم قوس قزح أو المطر."
هكذا قال لورنس في مقال كتبه سنة 1925، وهو يُعيد فيها استعارة "قوس قزح" التي استخدمها قبل عقد، لكنها لا تزال تحمل معناها الثقيل. ولو امتد به القول، لقال كذلك: لا يمكنك أن تختم العلاقة بين الإنسان ونفسه. فالجنس يكشف أن الإنسان ليس وحدة مغلقة، بل بابٌ مفتوح، نافذة على الآخر، وعلى المجهول.
وفي مقال آخر بنفس العام، عنوانه "الفن والأخلاق"، كتب لورنس:
"الفن إنما وظيفته أن يكشف العلاقة بين الإنسان وبيئته، في اللحظة الحيّة."
ثم يضيف:
"الأخلاق هي ذلك التوازن المرتعش، المتغيّر، الذي لا يهدأ، بيني وبين بيئتي، وهو سابق على العلاقة الحقيقية وملازم لها."
وها هنا تتجلّى مكانة الرواية، لا كفنٍّ يحاكي الواقع، بل كفنٍّ يُفتّش في العلاقات لا في الثوابت. فالفلسفة، والدين، والعلم، كلّها تطلب التثبيت، تطلب الاستقرار واليقين. أما الرواية؟ فهي ضد هذا التثبيت. هي اهتزاز، حركة، بحث لا يتوقف، وارتجاف داخلي. كلّ ما فيها صادقٌ في لحظته، كاذبٌ خارجها. فإن حاولت أن تُثبّت شيئًا منها — إن أمسكتها بمسمار — إمّا أن تموت، أو أنها تنهض من تلقاء نفسها وتتركك تمسك الهواء.
الأخلاق في الرواية، كما يراها لورنس، ليست مواعظ جاهزة، ولا منظومة قيم جامدة، بل هي ذلك الارتجاف الداخلي، تلك الحيرة العميقة، ذلك التوازن الذي لا يستقر، وكأنه يمشي على حبل مشدود بين نقيضين.
وهذا "الارتجاف غير المستقر" هو ما يمنح روايات لورنس حركتها المميزة. ولو كانت رواياته تُصوَّر أفلامًا، لرأيت الكاميرا تهتزّ في يد المصوّر، تتحرك مع كل تغير في الشعور، وكل رجفة في النفس. فهو لا يكتب من خارج شخصياته، ولا يصفها كما تُوصَف الأشياء، بل يدخل فيها، يكتب من داخلها، من عمق انفعالاتها الآنية. وفي الوقت ذاته، يكتب من ذاته هو، من توتره، من ارتباكه. فأنت حين تقرأ رواياته، تشعر بالشخصيات، لكنك أيضًا تحسّ به هو، ينبض قلبه بين السطور، لا يختبئ وراء السرد، بل يحضر معك.
يسمّي النقاد هذا النوع من الكتابة "الخطاب غير المباشر الحر" — أي حين تنساب مشاعر الشخصية وأفكارها في النص دون فاصل واضح بينها وبين صوت الكاتب. لكن لورنس أخذ هذا الأسلوب، الذي ورثه من روائيي أواخر القرن التاسع عشر، ولم يستخدمه كما هو. لم يكن حياديًّا فيه، كما أرادته قواعد السرد آنذاك، بل قلبه لصالحه، جعله وسيلة ليعبّر عن الذات، لا ليتوارى خلفها. لم يكن كاتبًا يتعالى على شخصياته، بل يخوض التجربة معها، يشاركها القلق، يسعى للفهم لا للشرح، يتلمّس الحقيقة لا ليمسك بها، بل ليقترب منها أكثر.
وفي عام 1923، كتب لورنس مقالة ناقدة بعنوان "عملية جراحية للرواية—أو قنبلة"، قال فيها:
يبدو لي من المؤسف جدًا، حين انفصلت الفلسفة عن الرواية. كانتا كيانًا واحدًا، منذ أيام الأسطورة... يجب أن تتّحدا من جديد—في الرواية.
بهذا يعبّر عن إيمانه بأن العاطفة ليست نقيضًا للعقل، بل هي وجه آخر له. وأن الفكر لا يمكن فصله عن التجربة الحية. وفي نهاية المقال، شبّه الروائيين بخرافٍ تتسلل من خلال ثغرة ضيقة لتكتشف حقلًا جديدًا — وهي صورة تبدو متواضعة، وربما فكاهية، لكنها في عمقها تُجسد فكرته: أن المجهول، مهما بدا مختلفًا، هو امتداد لما نعرف، وأن اكتشاف المعاني الجديدة يبدأ بخطوة واحدة بسيطة.
وهذا الارتجاف نفسه يتجلى في أسلوبه اللغوي. إذ لا يكتب الجملة المستقيمة الجازمة، بل يكرّر، ويُعيد، ويغيّر قليلًا، وكأنه يمشي على أطراف أصابعه داخل المعنى. وقد علّق على هذا في تقديمه لرواية نساء عاشقات قائلًا:
من ناحية الأسلوب، يُعاب عليّ التكرار مع تعديل طفيف. لكن هذا عندي طبيعي؛ فكل أزمة شعورية تنبع من هذا النبض، وهذا الاحتكاك، ذهابًا وإيابًا، حتى نبلغ الذروة.
وهذا الوصف، وإن حمل إشارة جنسية واضحة، لا يُقصد به إثارة الغريزة، بل التعبير عن طبيعة الشعور الإنساني ذاته: أنه لا يأتي دفعة واحدة، بل يتشكل بالتدريج، بالتصعيد، بالمقاومة والانجذاب في آنٍ. ولذا، تراه يستخدم التكرار لا ليُطيل، بل ليتأمل، ليفهم، ليصل شيئًا فشيئًا إلى ما يريد قوله. وكأن جمله تهمس: "هكذا، ولكن ليس تمامًا..."، دائمًا هناك تفصيل جديد، حركة خفيفة، تنويع بسيط، يغيّر السياق كله.
هكذا يقترب من أسلوب الكتاب المقدس في بساطته وإيقاعه، لكنه أيضًا يستلهم الانطباعية، تلك المدرسة الفنية التي تُبنى على تراكم لمسات خفيفة، فتتشكل الصورة شيئًا فشيئًا من الضوء والظل.
أن يجمع لورنس بين كل هذا — بين الفلسفة والقصص، بين الإحساس والتفكير، بين الشعر والنثر — فذلك أعظم مفاجآته. فهو لم يكن روائيًا فحسب، بل شاعرًا، وكاتب مقالات، ورسائله تُعد من أروع ما كُتب في الأدب الإنجليزي، لما فيها من صدق وفن.
وقد قال مرة:
"حين يضع الكاتب إبهامه على الميزان، ليُثقل كفّةً على أخرى، فهذه هي اللا-أخلاق."
أي أن الأديب إذا تدخّل في عمله ليُظهر وجهة نظره الأخلاقية على حساب الصدق الفني، فقد خان الأدب، وخان الحياة التي لا تسير على هوى أحد، بل تموج في تقلبها وارتجافها، كما تموج صفحات لورنس.
يرى لورنس أن الرواية الحديثة تصبح أقل أخلاقًا كلما حاول الكاتب أن يُرجّح كفة الحب أو كفة الإباحية. ويكمن في هذا الرأي صدى خافت لصوت الذين اضطهدوه، بل إن نبرته في هذا الموضع قد تذكّرنا بأخلاقيي القرن التاسع عشر، وكأنما يعيد نغمة هنري جيمس. لكن الفارق كبير؛ فبينما كان جيمس يبحث عن توازن مستقرّ يقف عنده كغاية، يرى لورنس في التوازن نفسه سؤالًا مفتوحًا، يرتجف في داخله الخوف، وترتجف معه الرغبة، فلا تستقرّ له قدم، ولا تستكين له نفس.
فالكتابة عند لورنس ليست نشاطًا ذهنيًا منفصلًا، ولا هي تمرين تعبيري، بل هي امتداد للحب، والحب ليس عنده مفصولًا عن الجنس، ولا الجنس منفصلًا عن الأخلاق. وكل قراءة عميقة له تكشف كيف تحوّل الحب، في نظر كثير من معاصريه، إلى مجرد فكرة معلقة، منفصلة عن واقع العلاقات بين البشر. الحب عند كانط مثلًا كان مجرّد مفهوم عقلي، كأنما هو نموذج مثالي لا يُمسّ، وقد صار الجنس أيضًا مجرد طاقة تجريدية، لا جسد فيها ولا لمس.
أما عند بروست، فالحب لا يموت، لكنه يتبدل باستمرار، ويتخذ أشكالًا غريبة، وتصبح الرغبة فيه مراوغة ومتعددة الوجوه. وعند توماس مان وجيمس جويس، يتجلّى الجنس كقوة غامضة ومربكة، تنفلت من القواعد المعتادة. وجويس، رغم جرأته، أعاد للزواج قيمته في شخصية السيد بلوم، حيث يظهر الارتباط الزوجي كمساحة إنسانية معقدة، لا كبنية تقليدية جامدة. وولف وهمنغواي كتبا عن فشل الحب في مواجهة الحياة، أما موسيل فقد جعله معضلة فلسفية عميقة.
إلا أن لورنس لم يكن واحدًا من هؤلاء وحسب، بل كان أقربهم إلى جوهر الشعور، إلى الحقيقة العارية، إلى لحظة الانكسار الصامتة التي تقع بين اثنين. فهو يعرف كيف يصوّر الكراهية، لا بوصفها نفورًا فحسب، بل كاحتكاك حادّ، كشرارة قاتمة تنبثق من التماس بين الرغبة والخذلان. ولعلّ في هذا التماس ما يجعل بعض النقّاد يرغبون في ترويضه أو وصمه بأنه "غير عصري"، كأنما يحاولون إقصاءه عن عصره، رغم أنه ظلّ يُقرأ، ويُستعاد، ويُشعر قارئه بأنه حيّ وموقِظ.
قال لورنس ذات مرة:
"الحب هو، على وجه الدقة، سفر مستمر."
فهو لا يعرف السكون، بل يرحل ويتحوّل، يتجدّد ولا يعود أبدًا كما كان. وربما تكمن في هذا الترحال سرّ حياة أدبه واستمراره.
لقد عاش لورنس منفيًا، مبعدًا، يتنقّل بين الأمكنة، يكتب وهو يترنّح بين المرض واليأس، ومع ذلك كتب أدبًا ما زال ينبض حتى اليوم. لم تكن أعماله جدرانًا مكتملة، بل نوافذ مفتوحة على حياة تموج بالتوتّر والإيماء والإشارات الصامتة. لم يكن كاتبًا ساكنًا في العالم، بل كان عابرًا فيه، غريبًا عنه، ومع هذا الغرابة، لم يهرب، بل تبنّى العالم كما هو، وواجهه بحدّته وصدقِه.
أعماله، وإن بدت ناقصة، تحمل في أعماقها الحياة ذاتها. أما أسلوبه، فهو مفتوح ومتحرّك، مليء بالملاحظة الدقيقة، حاضرٌ دومًا كمن يمشي بجوارك ويرى بعينيك.
قال عنه سول بيلو، أحد الكتّاب الذين تعلّموا من لورنس:"إنها أعمال غير مكتملة."
ولو كان لورنس حيًّا، لربما ابتسم، ووافق على ذلك. فقد كان يعرف أن الكمال ليس من طبيعة الحياة، وأن الأثر الكبير يكمن في الاندفاع، في لحظة الانطلاق، في تلك الشرارة التي تشتعل ثم تترك أثرها في الظلام.
أما السطر الأخير من روايته "أبناء وعشاق"، فقد كتب فيه:
"مضى في الطريق، سريعًا."
وفي تلك الفاصلة التي تسبق النقطة، تتجلّى فنيّته؛ فالحياة تمضي، لا تتوقف، أما الرواية، فتنتهي لتفسح المجال لنبضها أن يستمر في قلب القارئ.
نُقل بتصرف من كتاب stranger than fiction
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي