أزمة الإنتباه بين الحقيقة والوهم: أيُّهما نصدق؟
هل هذه الأزمة هي أزمة انتباه حقًا، أم أنها أزمة سلطة؟
أعجب لأمر هذا النقاش الذي يدور حول مسألة الانتباه، فقد بات يحرج الكثيرين، إذ ليس من السهل أن نحدد مفهوم "فترات التركيز" تحديدًا قاطعًا، فهي ليست شيئًا يُقاس مجردًا عن السياق الذي تنشأ فيه، ولا يمكن تحديدها بقياس ثابت عبر الزمن، ذلك أن العقل الإنساني لا يخضع لمعادلات رياضية محكمة، بل هو كائن حي يتفاعل مع بيئته، فيتسع حينًا وينكمش حينًا آخر، بحسب ما يحيط به من مؤثرات وما يُلقى عليه من أعباء.
ولعلك إن تأملت فيما حولك، وجدت أن العالم قد درج على الاحتفاء بالأعمال الفنية الطويلة، فالأفلام تتنافس كل عام على الجوائز الكبرى، غير أن مقاطع الفيديو القصيرة، التي لا تستغرق إلا لحظات على TikTok، لا تجد مثل هذا التقدير. وذلك مما يدعو إلى الأسف، إذ إن عام 2024 قد أهدى إلينا جواهر صغيرة، تحفًا رقمية لا تقل في إبداعها عن كبريات الأعمال السينمائية. فمن حساب @yojairyjaimee، جاء مقطع تمثيلي بديع، لم يزد طوله على دقيقة واحدة، أعاد فيه صاحبه إنتاج لحظة غريبة من خطبة ألقاها المغني كاني ويست – الذي صار يُعرف اليوم باسم "يي" – على المسرح عام 2009. ومن حساب @accountwashackedwith50m، جاء مقطع مدته اثنتا عشرة ثانية، صُوِّر من منظور عازف ساكسفون في فرقة آر أند بي، يعرض مشهدًا لفراولة مغطاة بالشوكولاتة، وكأنها رقصة ضوئية في عالم رقمي لا يعرف الحدود. أما حساب @notkenna، فقد أدهشنا بمشهد لم يزد طوله على سبع ثوانٍ، يصوّر كلبًا يبدو كأنه يطير على مكنسة، بفضل تأثيرات بصرية تبدو رخيصة، لكنها شديدة التأثير في بساطتها، وكأنها تعيد إلينا سحر السينما الصامتة في بداياتها. هذه المقاطع الصغيرة، على قصرها، هي ما وصفته الشاعرة باتريشيا لوكوود بأنها "ياقوت اللحظة"، فكل منها يعكس الضوء بطريقة خاصة، تكاد تكون سحرية، فتأخذنا إلى عالم من الدهشة والتأمل.
ولكن احذر أن تطيل النظر! فإن كان كل مقطع من هذه المقاطع انفجارًا صغيرًا من الإبداع، فإن قضاء ساعات طويلة في مشاهدتها المتتالية يشبه أن يُطلق في وجهك وابل من الألعاب النارية لا يتوقف. أفليس في ذلك خطر؟ أليس في هذا الاستغراق المفرط ما يدعو إلى القلق؟ هذا ما تنبه إليه الكاتب التقني نيكولاس كار منذ عام 2010، حين أصدر كتابه الشهير المياه الضحلة: ما يفعله الإنترنت بأدمغتنا، وهو الكتاب الذي بلغ النهائيات في سباق جائزة بوليتزر. وقد عبر كار في كتابه عن أزمة وجودية، فقال: "ما يفعله الإنترنت هو تقويض قدرتي على التركيز والتأمل". وأخذ يروي كيف أصبح يجد صعوبة في قراءة الكتب الطويلة، بل إنه التقى بأحد طلاب الفلسفة المتميزين، الحاصلين على منحة رودس، فوجده لا يقرأ الكتب أصلًا، بل يكتفي بجمع معلوماته من "جوجل"، فأحس كار بالخطر، وأطلق تحذيره بأن هذا الطالب لم يكن استثناء، بل كان قاعدة آخذة في الانتشار.
وقد أحدث هذا الكتاب ضجة كبيرة، فتتابعت بعده الكتب والمقالات التي تناقش الأمر، ومن أشهرها غير قابل للتشتيت لنير إيال، والتركيز المسروق ليوهان هاري، والعمل العميق لكال نيوبورت، وكيف لا تفعل شيئًا لجيني أوديل. ولم يكتفِ كار بكتابه الأول، بل أصدر كتابًا جديدًا بعنوان الازدهار الفائق، توسع فيه في بحث آثار الإنترنت، فلم يقف عند مسألة التشتت فحسب، بل تناول جميع الأضرار النفسية التي تترتب على الاستخدام المفرط للشبكة. وقد ذهب إلى القول بأننا قد دخلنا عصر "تفتت الوعي"، حيث أصبح عالمنا "غير مفهوم بسبب فيض المعلومات"، فكأننا في بحر متلاطم، كل موجة فيه تطغى على أختها، حتى لا يبقى للمرء فرصة للرسو على شاطئ التأمل العميق.
ولكن، إن كنت ممن قرأوا واحدًا من هذه الكتب، فقد يأخذك القلق. أما إن قرأت اثنين أو أكثر، فلعلك تشعر بالشك، وتتساءل: أليس النقاد في كل عصر يبالغون في تحذيراتهم، ويخشون على المجتمع من كل مستحدث؟ ألم يَخشَ بعضهم يومًا أن يكون البيانو خطرًا على الأجيال الناشئة؟ ألم يُحذروا من تأثير الألوان الزاهية على العقل؟ بل إن سقراط نفسه، في محاورة فيدروس، حذر من الكتابة ذاتها، وزعم أنها ستضعف ذاكرة الناس، وستجعلهم يتكلون على النصوص بدلًا من أن يحفظوا العلم في صدورهم!
أما أنا، فأميل إلى النظر في كتابات القدماء، ومن أحبها إليّ مقالة كتبها ناثانيال هوثورن عام 1843، كان فيها قلقًا، متشائمًا، خائفًا من المستقبل. وقد حذر فيها من ظهور تكنولوجيا جديدة، ستؤدي – في رأيه – إلى أن تفقد الأجيال القادمة القدرة على إجراء محادثات ناضجة، وستجعلهم ينفرون من المجالس العامة، فيعتزل كل واحد منهم في ركنه الخاص، وبدلًا من أن يتحاوروا، سينخرطون في جدالات حادة، وسيصير التواصل البشري نفسه باردًا، جامدًا، كأنه قد تجمد ببرودة قاتلة. تُرى، ما هذه التكنولوجيا العظيمة التي خشي منها هوثورن؟ هل كانت الإنترنت؟ أم التلفاز؟ أم الراديو؟ لا، بل كان قلقه كله منصبًا على اختراع جديد لم يكن العالم قد اعتاده بعد: استبدال المواقد المفتوحة بمواقد الحديد!
لعل من الحق الذي لا مراء فيه أن الإنسان قد اعتاد أن يُطلق الإنذارات في وجه كل جديد، ثم لا يلبث أن يراجع نفسه فيجد أن ما كان يخشاه لم يكن، يستحق كل ذلك الفزع في كثير من الأحيان. هكذا يرد أنصار نيكولاس كار على من يهوّن من شأن المخاوف التي أثارها كتابه المياه الضحلة، إذ يقولون إن الخوف من المستحدثات ليس بالأمر الجديد، فقد سبق أن خُشي التلفاز، وخُشي المذياع، بل إن بعض الناس خافوا من الطباعة نفسها في عصورها الأولى. ولكن، أفيمثل هذا الرد عزاءً كافيًا؟ هل يكفي أن نقول إن المخاوف الماضية قد بدت اليوم سخيفة لكي نطمئن إلى أن المخاوف الحاضرة ستلقى المصير ذاته؟
الحق أن أشكال التكنولوجيا الرقمية التي تحيط بنا اليوم قد بلغت من الدقة والإحكام في صناعة الإدمان ما لم تبلغه أدوات الماضي. ولعلنا إن راجعنا تلك المخاوف القديمة، وجدنا فيها ما يؤكد لنا سوء الحال اليوم، لا ما يهوّن منه. فإذا كنا اليوم ننظر إلى التلفاز على أنه وسيلة ترفيه غير مؤذية، فربما كان هذا لأن وسائل الإعلام التي نشهدها الآن قد جاوزت في تأثيرها كل ما سبقها، حتى صار التلفاز بالمقارنة بها يبدو وديعًا، هادئًا، لا خطر فيه!
وقد انقضت خمسة عشر سنة منذ أن أصدر نيكولاس كار كتابه الذي هز الأوساط الثقافية، المياه الضحلة، وإذا بنا نجد اليوم كتابًا آخر يطرح رؤية جديدة للمسألة، رؤية تنبع من ذات القلق، لكنها تتخذ منحى أكثر تعمقًا، وهو كتاب نداء السيرينات للكاتب والمذيع كريس هايز. هايز ليس جاهلًا بتاريخ هذه المخاوف، بل هو يقرّ بأن الذعر من التقنية ظاهرة قديمة، ويعترف بأن بعض هذه المخاوف قد بدت مع مرور الزمن ضربًا من المبالغة، حتى إن الذعر الذي انتشر في خمسينيات القرن الماضي من تأثير الكتب المصورة قد صار اليوم مثارًا للسخرية. ولكنه في الوقت نفسه يذكّرنا بأن بعض هذه المخاوف لم تكن في غير محلها، كما حدث مع التحذيرات المبكرة من التدخين. ومن هنا يطرح هايز سؤالًا يحمل من التحدي قدر ما يحمل من التأمل: "هل عالم وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يحيط بنا من كل صوب، أشبه بالكتب المصورة، أم هو أشبه بالسجائر؟"
ولعمري، إنه لسؤال عظيم! فإذا أخذنا هذه المخاوف على محمل الجد، فما الذي يبقى من حجج المتشائمين؟ يرى هايز أن ما يبقى منها يكفي لأن يجعلنا قلقين إلى أقصى حد. إنه يرسم صورة لمجتمع أصبح مليئًا بالميكروفونات، وأصوات لا تنقطع، وأضواء ساطعة لا تخبو، وكأننا في كازينو ضخم يعمل على مدار الساعة، لا يتيح لعقولنا لحظة راحة. إنه يرى أن التفكير الهادئ، والنقاش الرصين، قد صارا أمرًا أشبه بمحاولة التأمل في نادٍ للتعرّي! وهو يطرح رؤيته هذه بأسلوب مدروس، مستنير، لا يخلو من القلق، لكنه يتركنا أمام سؤال لا يقل أهمية: هل هذه الحجة مقنعة؟
إن التأريخ الفكري لهذه المسألة مليء بالمراثي التي تتحدث عن ضياع التركيز وسط طوفان التشتيت. غير أن الضوضاء والأضواء الساطعة ليست جديدة، ولم يبدأ التشتت مع ظهور الهواتف الذكية. بيد أن ما يميز النقاشات السابقة حول هذه القضية أنها كانت بالفعل نقاشات، لم يكن الجميع فيها مقتنعين بأن العالم ينهار، بل كانت هناك أصوات تطرح أسئلة مشروعة: هل الانتباه المستمر أمر مطلوب دائمًا؟ وما الفائدة الحقيقية التي نجنيها من التركيز؟ ولمن تخدم هذه الفائدة؟
وليس هذا التساؤل وليد عصرنا الحديث، بل إنه قد طُرح قبل قرون، مع صعود شكل جديد من أشكال الأدب، وهو الرواية. إن النقاد الذين يأسفون اليوم لأننا فقدنا القدرة على إكمال قراءة الروايات الطويلة، قد نسي بعضهم أن الروايات ذاتها كانت تُعد، يوم نشأت، طعامًا غير صحي للعقل! فقد اشتكى الكاهن الأنجليكاني فيسيسيموس نوكس من أن القراءة الروائية تستحوذ على الانتباه استحواذًا شديدًا، وتمنح القارئ متعة طاغية، حتى إذا تعوّدها العقل، صار عاجزًا عن الخضوع للمشقة اللازمة للتعلم الجاد. أما توماس جيفرسون، فقد حذر من أن من يقع في أسر الروايات، هذه "الكومة من القمامة"، سيصير شديد الضيق بـ"القراءة الصحية"، وسيجد نفسه يعاني من خيال جامح، وحكم مختلّ، ونفور من كل ما هو جاد في الحياة.
ولكن، لم يكن الجميع يشاطرون نوكس وجيفرسون هذه الرؤية المتشائمة، فقد كان هناك من يرون الأمور من زاوية مختلفة، كما توضح أستاذة الأدب الإنجليزي ناتالي إم. فيليبس في كتابها التشتت. كان بعض الأدباء يسألون: هل التركيز المطلق أمر صحي؟ أليس من طبيعة العقل أن يقفز بين الأفكار، وأن يتنقل بين المواضيع، لكي يبدع ويعمل بفعالية؟
وإذا رجعنا إلى القرن الثامن عشر، وجدنا أن صامويل جونسون كان من هؤلاء الذين احتفوا بهذا النوع من التفكير، فمقالاته في سلسلتي ذا رامبلر (1750-1752) وذا إيدلر (1758-1760) كانت تمجد هذا التشتت الذهني، وكأنها تعلن أن القفز بين الأفكار هو الوسيلة المثلى للفهم. ولعل أطرف ما يُروى عن جونسون أنه كان يقرأ الكتب باستمرار، لكنه كان يضعها جانبًا بنفس السرعة التي يلتقطها بها. فلما سأله أحد أصدقائه ذات مرة: "هل أنهيت بالفعل هذا الكتاب الذي زعمت أنك قرأته؟"، أجابه بدهشة ساخرة: "لا، سيدي! وهل أنت ممن يقرؤون الكتب حتى النهاية؟"
ها نحن أمام بطلٍ لا يُشبه الأبطال، وشخصية لا تُشبه سواها، إنه تريسترام شاندي، بطل الرواية التي أبدعها لورانس ستيرن في القرن الثامن عشر، تلك الرواية التي لم تتخذ لها مسارًا مستقيمًا، بل كانت تُشبه نهرًا متعرجًا، يتدفق في مجراه كما يحلو له، دون أن يعبأ بوجهة نهائية. تبدأ القصة منذ اللحظة التي وجد فيها تريسترام نفسه قيد الوجود، غير أن هذه البداية لم تكن تقليدية، فقد بدأ وجوده مصحوبًا بالتشتت! ولعل هذا القدر قد كُتب عليه منذ اللحظة الأولى، إذ إن والدته، في لحظة لم يكن ينبغي لها أن تتكلم فيها، اختارت أن تسأل والده في لحظة حميمية: "أرجوك، عزيزي، هل نسيت أن تلف الساعة؟". وهكذا، كُتب على هذا المسكين أن يولد مشتتًا، مهيأً منذ اللحظة الأولى لأن يكون ضحيةً للانقطاعات المتكررة.
بل إن اسمه ذاته لم يكن ليسلم من لعنة التشتت! فقد كان من المفترض أن يُدعى "تريسميجيستوس"، غير أن الخادمة التي أُوكلت إليها مهمة إبلاغ الكاهن انشغلت بأمرٍ ما، ولم تتذكر سوى المقطع الأول من الاسم، فصار اسمه "تريسترام"! ومن هنا، كانت حكايته أشبه بمتاهة من الاستطرادات، يرويها عبر سلسلة من الفصول المتداخلة، والجُمل المقطعة، والشرطات المتلاحقة، حتى وجد القارئ نفسه، كما لو كان داخل متاهة، لا يكاد يسلك طريقًا حتى ينحرف به السرد إلى طريق آخر.
وعلى امتداد تسعة مجلدات متشابكة، لم يتمكن تريسترام قط من رواية سيرته كاملة، وكأن حياته تأبى أن تنصاع إلى النظام أو التسلسل المنطقي. ومع ذلك، لم يكن القراء يضجرون، بل على العكس، كانوا يجدون في هذه الفوضى شيئًا من السحر، كما لو أن هذا التشظي، وهذه التعرجات، قد منحت الرواية حياةً أكثر حيوية. بل إن بعضهم، كما ترى ناتالي فيليبس، قد وجد في هذا النمط من السرد نوعًا من التحرر، خاصةً إذا ما قورن بميل السلطات التقليدية إلى فرض الانتباه الصارم. ألم يكن السؤال الذي تطرحه الكتيبات الدينية هو: "ما المطلوب للانضمام إلى الصلاة بشكل صحيح؟" ثم تأتي الإجابة القاطعة: "الانتباه التام دون تشتت." وكأن التركيز المطلق قد صار فضيلةً دينية، وكأن الخروج عنه لا يقل خطورة عن الخروج عن التعاليم نفسها!
ومن اللافت أن صامويل جونسون، في معجمه الشهير، قد أشار إلى أن كلمة "ينتبه" كانت تحمل معنيين: الأول هو التركيز، والثاني هو الخدمة، كما لو أن من يُنصت بانتباه ليس إلا خادمًا لمن يتحدث! ويبدو أن هذا الفهم لم يكن بعيدًا عن الحقيقة، إذ إن كثيرًا من الدعوات إلى الانتباه الصارم كانت موجهة نحو المروؤسين: الطلاب في المدارس، والنساء في المنازل، والجنود في الثكنات. ألم يكن القادة العسكريون يصرخون في وجوه جنودهم: "انتباه!" ليقفوا منتصبي القامة، لا يتململون ولا يتلفتون؟ وهكذا، لم يكن الانتباه مجرد مهارة ذهنية، بل كان أيضًا وسيلةً لفرض الانضباط، وأداةً لضبط الأجساد والعقول معًا.
ولكن، كما كان هناك من يدعو إلى التركيز، كان هناك أيضًا من يتوجس منه. ومع دخول القرن التاسع عشر، بدأ البعض يشعر بالقلق من الآثار النفسية لمتطلبات الحياة الصناعية، ومن بين هؤلاء كان جان-إتيان دومينيك إسكيرول، الطبيب النفسي الذي قدّم تشخيصًا جديدًا أسماه "الهوس الأحادي"، وهو اضطراب لم يكن يختلف كثيرًا، في انتشاره، عن اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD) في عصرنا الحديث. كان إسكيرول يرى أن هذا هو اضطراب الحداثة، فالعالم الصناعي الذي يتطلب تركيزًا حادًا على المهام، قد بدأ يؤثر على العقول بطريقة غير مسبوقة. ولم يكن الأدب بعيدًا عن هذا القلق، فقد جعل هيرمان ملفيل هذا الهوس أحاديّ الاتجاه محورًا لروايته الشهيرة "موبي ديك"، حيث قاد هوس الكابتن آهاب بحوتٍ أبيض إلى الدمار، وكأن الرواية كانت تحذرنا من المصير الذي ينتظر من يُلقي بكل تركيزه في اتجاهٍ واحد، غير عابئ بما يدور حوله.
لكن ربما كان أكثر من صاغ هذا القلق في قالبٍ سياسي هو بول لافارغ، صهر كارل ماركس، ذلك الرجل الذي نظر إلى مسألة الانتباه نظرة ثورية. ففي ثمانينيات القرن التاسع عشر، جادل لافارغ بأن التركيز الشديد في العمل، وكبح الغرائز الطبيعية، ليسا فضيلة، بل هما شكلٌ من أشكال العبودية. لم يكن يرى في الانضباط الذهني سوى محاولة لجعل الإنسان آلةً تعمل لصالح الظالمين، وكان يصرّ على أن الوعي الثوري لا يقتصر على السعي نحو الحقوق الاقتصادية، بل يشمل أيضًا المطالبة بالحق في الكسل! وكأن لسان حاله يقول: أيها العمال، لا تجعلوا الانتباه يقيدكم! استرخوا، واتركوا عقولكم تجول حيث تشاء!
وهكذا، يتخيل المرء صورةً غريبة، حيث تُوزع نسخٌ سرية من تريسترام شاندي بين الشباب، وكأنها بيان ثوري يدعو إلى التحرر من قيود التركيز الصارم. ولكن، أحقًّا سيقرؤونها؟ الحق أن التجارب المعاصرة لا تبعث على التفاؤل. فالأساتذة الجامعيون اليوم يشكون من أن الطلاب لم يعودوا قادرين على قراءة النصوص الطويلة، ولا حتى تلك التي لا تتجاوز العشرين صفحة! يقول عالم اللاهوت آدم كوتسكو، وهو الذي قضى أكثر من خمسة عشر عامًا يُدرّس في كليات الفنون الحرة، إنه خلال السنوات الخمس الأخيرة فقط، "كأن أحدًا قد قلب مفتاحًا." لم يعد الطلاب يحتملون القراءة الطويلة، بل صاروا يشعرون بالرهبة من أي نص يتجاوز عشر صفحات، وحتى عندما يُكلفون بقراءة نص من عشرين صفحة، فإنهم يأتون إلى الصف "دون فهم حقيقي لما قرأوه!"
أما وقد كثر الحديث عن الانتباه وأهميته، وأصبح موضع جدل بين المفكرين والمصلحين، فإني أجدني مدفوعًا إلى تأمل تلك المسألة على ضوء ما يعيشه الناس في عصرنا، حيث لم تعد المشكلة، كما يظن بعضهم، هي مجرد ضعف التركيز، بل أصبحت طبيعة الانتباه ذاته موضع تساؤل. وأعجب ما في الأمر أن الإنسان لم يعد هو الذي يختار ما يقرأ وما يسمع، وإنما أصبحت الكتب والتطبيقات والشاشات هي التي تختار له، بل تكاد تقرأه كما يقرأها، وتدرسه كما يدرسها، وتفهمه كما يسعى إلى فهمها.
خذ مثلًا "تيك توك"، هذا التطبيق الذي لا يحتاج منك سوى حركة بسيطة من إصبعك، حتى يبدأ في سبر أغوار نفسك، فيعرف ما يثير فضولك، وما يبقيك مشدودًا، وما يجعلك تعود إليه مرة بعد مرة. وليس ذلك خيالًا أو ظنًا، وإنما هو حقيقة واقعة، أقرّ بها حتى من كانوا سببًا في صنع هذا العالم الجديد. يقول توني فادل، أحد الذين عملوا على تطوير الآيفون، وهو في حالة من القلق والندم: "أستيقظ أحيانًا وأنا أرتجف من التفكير: ماذا قدمنا للعالم؟".
ولو أردنا أن نقيس هذه الحال بما كان عليه الأمر من قبل، لوجدنا فارقًا شاسعًا، لا في طبيعة الخطاب فحسب، بل في طبيعة الجمهور أيضًا. ولعل خير مثال على ذلك هو المناظرات التاريخية بين أبراهام لينكولن وستيفن أ. دوغلاس في منتصف القرن التاسع عشر. كانت تلك المناظرات تدور حول موضوع من أعظم شؤون السياسة في ذلك العصر، وهو العبودية، ولم يكن النقاش مقتصرًا على كلمات مقتضبة أو عبارات سريعة، بل كانت الخطب تستمر ثلاث ساعات كاملة، وهي مليئة بالجمل المتداخلة والأفكار المتشابكة، حيث تبدأ الفكرة، ثم تترك قليلًا، ثم تُستعاد لاحقًا، في نسيج متين من التحليل والاستدلال.
ولا عجب أن يُبدي كريس هايز دهشته أمام هذه الظاهرة، فيقول متسائلًا: "أي نوع من قوة التحمل الهائلة للتركيز كان يمتلكه جمهور لينكولن ودوغلاس؟" ولكن السؤال الأهم هو: أيمكن لجمهور اليوم أن يتحمل مثل هذا النقاش الطويل والمعقد؟ يجيب هايز: "على الأرجح لا." فالمعلومات في عصرنا لم تعد تأتي على هيئة خطب متماسكة، بل في قطع صغيرة، تتضاءل يومًا بعد يوم، حتى صار التركيز نفسه شيئًا نادرًا، يحتاج إلى جهد مضاعف للحفاظ عليه.
وليس هذا مجرد افتراض، بل هو واقعٌ يراه هايز بعينه في عالم الإعلام الحديث، حيث تحاول القنوات الإخبارية إبقاء المشاهدين المشتتين بأي وسيلة كانت. فترى الصحفيين الذين كانوا يومًا ما يسعون وراء الحقيقة، قد أصبحوا يذلون أنفسهم لجذب انتباه الجمهور، باستخدام الألوان الصارخة، والأصوات العالية، والتغيرات السريعة في الموضوعات، حتى صارت الأخبار نفسها تُروى كما تُروى قصص الأطفال، لا لأنها بسيطة، بل لأنها يجب أن تُحكى بطريقة تشد الانتباه، ولو كان ذلك على حساب الحقيقة. ويشبه هايز هذا المشهد برجل يهز المفاتيح أمام كلب صغير، علّه يسترعي انتباهه، في إشارة إلى مدى السطحية التي أصبح الإعلام مجبرًا على تبنيها في مواجهة جمهور لا يستطيع التركيز لأكثر من لحظات معدودة.
لكن من المسؤول عن هذا؟ قد يسارع بعضهم إلى اتهام القنوات الإعلامية والتطبيقات الرقمية، ولكن الحقيقة أن المسؤولية تتوزع بين الجميع. فنحن الذين نختار ما نشاهد، ونحن الذين ننقر على الفيديوهات القصيرة بدلًا من المقالات الطويلة، ونحن الذين ننقاد وراء العناوين المثيرة بدلًا من التحليل العميق. ومع ذلك، فإن هذه الخيارات ليست حرة بالكامل، كما يوضح هايز، بل هي محكومة بآليات نفسية معقدة. فهناك فرق بين الانتباه الطوعي، حيث نختار التركيز على شيء لأننا نرغب فيه، والانتباه القسري، حيث نجد أنفسنا مجبرين على التركيز على شيء لا لأننا نريده، بل لأن آليات عقولنا تجعل من الصعب تجاهله. وهنا، تتدخل الخوارزميات، التي لا تهتم بما نريد فعليًا، بل بما لا نستطيع مقاومته. وكما يقول الفيلسوف الراحل هاري فرانكفورت: "الخوارزميات تقدم لنا ما نريده، ولكن ليس ما نريد أن نريده."
وهنا تكمن المفارقة الكبرى، فشعار عصرنا قد يكون: "احصل على ما ترغب فيه، حتى لو لم يكن هو ما ترغب فعلًا في أن ترغب فيه!" وهذا ليس مجرد خلل في المنصات الرقمية، بل هو ظاهرة أوسع، تمتد إلى عالم السياسة والثقافة. لاحظ هايز أن بعض الشخصيات العامة قد تحولت إلى "ترول الانتباه"، أي أنها لم تعد تهتم بمضمون ما تقول، بل فقط بمدى قدرتها على إثارة الجدل وجذب الأضواء. انظر إلى دونالد ترامب، وإيلون ماسك، وكاني ويست، هؤلاء الذين لم يكن بينهم في الماضي أي قاسم مشترك، لكنهم اليوم صاروا جميعًا يستخدمون التكتيك نفسه، حيث يعتمدون على إثارة الجدل المتعمد، لأنهم يدركون أن الغضب والاستفزاز يجلبان مزيدًا من الانتباه، وبالتالي مزيدًا من القوة والنفوذ.
ولكن ماذا عن الأمور التي يجب أن ننتبه إليها؟ هنا تأتي اللفتة المؤلمة، كما يسميها هايز، وهي أن القضية التي ينبغي أن تكون محور انتباهنا الأكبر، وهي تغير المناخ، لا تثير انتباهنا على الإطلاق! فقد قال الناشط البيئي بيل مكيبن: "لطالما كانت المشكلة أن أخطر شيء على الكوكب غير مرئي، لا رائحة له، لا طعم له، ولا يفعل أي شيء لك مباشرةً." فإذا كان كاني ويست مثالًا لما يجذب انتباهنا قسرًا، فإن الاحتباس الحراري هو نقيضه: شيء نعلم أنه مهم، لكننا لا نستطيع التركيز عليه.
ولكن لماذا؟ الجواب يكمن في "رأسمالية الانتباه"، كما يسميها هايز، وهي نظام اقتصادي جديد، يشبه في أثره على النفس البشرية ما فعلته رأسمالية الصناعة بأجساد العمال. لقد كان العمال في الماضي يُنهكون في المصانع، أما اليوم، فإن المستهلكين يُنهكون في متاهة من الإلهاء المستمر. وبدلًا من أن يقدم لنا رجال الأعمال محتوى مقنعًا يبقينا متفاعلين، فإنهم يختطفون انتباهنا مرارًا وتكرارًا، مستخدمين تقنيات تُشبه تلك التي تُستخدم في ماكينات القمار. إنهم لا يعاملوننا كأفراد، بل كعيون فارغة، يمكن التلاعب بها إلى ما لا نهاية. وفي النهاية، يقول هايز، "سيطرتنا على عقولنا قد انتهكت. حجم التحول الذي نمر به أكبر وأكثر حميمية مما فهمه حتى أكثر النقاد ذعرًا."
هذا النقاش المُحير، يُظهر كيف أننا نتحدث بلا تحفظ عن "فترات الانتباه"، كأنها شيء يمكن أن يُوزن أو يُقاس بأداة محددة، معزولة عن الزمان والمكان. بيد أن الواقع أكثر تعقيدًا، فالقدرة على التركيز ليست كيانًا ثابتًا يمكن لعلماء النفس أن يضعوه تحت المجهر ويحددوا مقداره بدقة علمية، بل هي ظاهرة متغيرة، تخضع لظروف الحياة وسياقاتها. وما يزيد الأمر التباسًا أن الدراسات التي حاولت سبر أغوار تأثير الهواتف الذكية على الإدراك العقلي لم تصل إلى نتيجة قاطعة؛ فهي متأرجحة بين التأكيد والنفي، غير أنها لم تبلغ اليقين. وإذا كان تشخيص اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه قد أصبح أكثر شيوعًا، فهل يرجع ذلك إلى تفشي الاضطراب بين الناس أم إلى تقدم أساليب التشخيص؟ وكيف نفسر أن إنتاجية العمل في الولايات المتحدة ومستوى التعليم العالي قد شهدا ارتفاعًا رغم هيمنة الإنترنت؟ أليست هذه مفارقة تستحق التأمل؟
أما عن تراجع معدلات القراءة، فليس الأمر بمثل ما يتصور البعض من انحسار مطلق أو انحدار لا رجعة فيه. فالكتب المطبوعة ما زالت تُباع، والكتب الصوتية تلقى رواجًا متزايدًا. صحيح أن بعض الإحصاءات تشير إلى تراجع مهارات القراءة لدى الأطفال، لكن لا بد من النظر إلى هذا التراجع في سياقه، فهو يتزامن مع ظروف الجائحة، فضلًا عن أن النتائج الحالية ليست أسوأ مما كانت عليه في بداية السبعينيات. وحتى في الجامعات المرموقة، إذا كانت النصوص المطلوبة للدراسة أقصر، فذلك لا يعني بالضرورة أن الطلبة أقل قدرة، بل ربما يعكس ضغوطًا متزايدة ومسارات أكاديمية أكثر تنافسية. وها هو نيكولاس كار، الذي كان قد تنبأ في عام 2010 بزمن ينفر فيه طالب رودس من الكتب، يجد أن ذلك الطالب ذاته قد أكمل دراسته، ونال درجة الدكتوراه من أكسفورد، وألف كتابين! فهل كانت نبوءته في محلها؟
لقد مرت عقود منذ أن أصبح الإنترنت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، ومع ذلك، لم يتحول المشهد الإعلامي إلى مجرد فوضى بصرية لا هدف لها، يعجّ بمقاطع قصيرة تتناوب بين اللقطات المثيرة والقطط الطريفة والإعلانات التجارية الصاخبة. بل على العكس، كما يشير تيم وو في كتابه "تجار الانتباه"، فإن الطريق إلى التشتت ليس طريقًا ذا اتجاه واحد. نعم، تسعى الشركات إلى استغلال انتباهنا، لكنها لا تملك السيطرة المطلقة علينا، فالناس يتعلمون كيف يفرزون، و كيف يتجاهلون، بل كيف ينفرون مما يُفرض عليهم. أليس انتشار التأمل، ومراقبة الطيور، وإعادة إحياء أقراص الفينيل دليلًا على هذه المقاومة؟ ثم إن التكنولوجيا نفسها لا تُستخدم فقط لتعزيز التشتت، بل تُستخدم أيضًا لتقليله. ألم تسهم الشركات الكبرى في الحد من الإعلانات المزعجة وتوفير أدوات للتركيز؟ ألم تصبح آبل عملاقًا اقتصاديًا لأنها وعدت مستخدميها بالبساطة؟
ثم إن مسألة التشتت ذاتها نسبية، فما يُعد تشتيتًا من زاوية، هو في الواقع تركيز من زاوية أخرى. أوليس التحديق المطول في شاشات الهواتف والتصفح المستمر للأخبار نوعًا من الانتباه؟ وإن كان البعض يفقدون تركيزهم في مجال، فإنهم يعوضونه بتركيز غير مسبوق في مجالات أخرى.
وهذا ما يمكن أن نلاحظه بوضوح في السينما، التي لم تدخل طور الانحدار كما يزعم البعض، بل تمر بمرحلة غنية ومعقدة. ألم يفز فيلم "The Brutalist" هذا العام بجائزة الغولدن غلوب، رغم أن مدته تتجاوز الثلاث ساعات ونصف؟ بل إن الأفلام العشرة الأوائل باتت أطول مما كانت عليه قبل ثلاثة عقود. قد تكون هوليوود قد استنفدت قصصها الأصلية، ولجأت إلى إعادة تدوير الشخصيات والأساطير، لكنها في المقابل أنتجت أفلامًا أكثر تعقيدًا من حيث الحبكة والسرد.
وليس هذا مقصورًا على السينما وحدها، بل إن التلفزيون السردي نفسه قد شهد تحولًا جذريًا. كان يومًا ما مجرد وسيلة تسلية عابرة، تتسم بالحبكات السطحية والنكات الساذجة، لكنه تغير جذريًا مع ظهور القنوات الفضائية، وأقراص DVD، ثم منصات البث الحديثة. لم يعد صناع الدراما يخشون من فقدان المُشاهد، لأن المُشاهد نفسه قد تغير؛ أصبح يطلب حبكات أكثر تماسكًا، وأحداثًا متشابكة، ويقبل على المسلسلات الطويلة كما لو كانت أفلامًا ممتدة. ولعل ظاهرة "المشاهدة بنهم"، التي وصفها فينس غيليجان، مبتكر "بريكينغ باد"، بأنها "استنشاق عملاق"، خير دليل على ذلك.
تصوّر إن شئت هذه الألعاب الإلكترونية التي باتت تطغى على أوقات الناس وتستنزف أعمارهم، فلا يرحم طولها ولا ينقضي أمرها. لقد كتب ألكس روس منذ أعوام، في هذه الصحيفة ذاتها، يتحدث عن تلك الدورة الموسيقية العظيمة، التي صاغها فاغنر تحت عنوان "خاتم النيبلونغ"، وقال إنها عمل فني لا يكاد يضاهيه طموح، ولا يُظَنّ أن الزمن سيأتي له بمثيل. ولكن أنظر كيف جاء زماننا هذا بما يفوق ذلك في الطول والتعقيد! فقد أخرجت استوديوهات "لاريان"، في العام الماضي، لعبة من ألعاب الفيديو تُدعى "Baldur's Gate 3"، وهي على الحقيقة ليست إلا ملحمة فاغنرية في ثوب حديث، فيها من صراع الآلهة، وسحر الخواتم، وفتنة السيوف، وروع التنانين، ما يجعلها تضاهي تلك الأوبرات القديمة. ولقد اشترك في إخراج هذه اللعبة قرابة أربعمائة من المطورين، وزاد عليهم من الممثلين ما ينيف عن المائتين. ثم انظر كم من الوقت يستغرق لعبها! إنها تمتد إلى خمس وسبعين ساعة على أقل تقدير، أي ما يساوي خمس دورات كاملة من "خاتم النيبلونغ"، بل قد يبلغ بها بعض اللاعبين إلى ضعف ذلك إن أرادوا استيفاء كل تفاصيلها واستقصاء كل خفاياها. ومع ذلك، فقد أقبل الناس عليها إقبالًا عجيبًا، فبيعت منها خمسة عشر مليون نسخة أو يزيد.
ثم تأمل TikTok، الذي يزعم الناس أنه مما يُبدّد العقول ويفتّت الانتباه! لقد نظر إليه كاتبنا هايز نظرة ازدراء، ورآه مجرد صندوق فارغ، تديره خوارزميات لا غاية لها إلا أن تُقدّم لكل امرئ ما يروق له من التفاهات. ولكن شأن هذا التطبيق في حقيقته غير ما ظن. فهو ليس مجرد أداة للمشاهدة السلبية، بل هو باب إلى تفاعل لا ينقطع، حتى إن أكثر من نصف مستخدميه، في أمريكا فقط، قد نشروا عليه مقاطعهم الخاصة. وهو لا يُعنى بإظهار الإتقان والجودة، وإنما يقوم على الحماسة التي تدفع الناس إلى التقليد والمشاركة. فانظر إلى هؤلاء الشباب الذين يقضون الساعات الطوال، لا في اللهو العابر، بل في إعداد الرقصات المعقدة، وتبديل الأزياء، وتنسيق المكياج، وإتقان التمثيل، وممارسة الخدع البصرية، وكأنهم قد انصرفوا عن واقعهم ليعيشوا في عالم آخر، لا ضابط له ولا حدود.
وأنت تسأل: ما الذي يحدث؟ فيجيبك بعض أهل النظر، ومنهم نيل فيرما، الذي كتب في كتابه عن البودكاست، يقول إن زماننا هذا قد أصبح زمان الهوس. فقد جاءت هذه الوسائل الحديثة، فوسّعت دائرة الاهتمامات، وأطلقت للناس العنان، حتى صاروا لا يكتفون بمعرفة الشيء معرفة عابرة، بل ينغمسون فيه انغماسًا لا رجوع منه. خذ مثلًا هذا البودكاست الشهير، "سيريال"، الذي جعل من قضيّة قتل قديمة مادة لأحاديث لا تنقضي، وأتاح لمقدمته أن تقضي الساعات الطوال في التنقيب والبحث، كأنها مؤرخة تُفتّش في غياهب الماضي. ثم انظر إلى هذا "جو روغان"، الذي يجلس إلى ضيوفه ساعات أربعًا أو أكثر، يتحدثون في الحضارات القديمة، والكون الفسيح، والمبارزات الدموية. بل تأمل هذه الشابة التي جلست أربع ساعات كاملة، تحلل عيوب فندق ديزني المهجور، فلم يكن من الناس إلا أن أقبلوا على حديثها حتى بلغت مشاهداته أحد عشر مليونًا! حتى هايز نفسه يعترف بقضائه ساعات "مأخوذًا تمامًا" بمشاهدة فيديوهات لسجاد قديم يتم تنظيفه.
ولعلك تسأل: هل في انغماس الناس في هذه المشاغل ما يجعلهم يغفلون عن السياسة؟ أقول لك: ربما، ولكن هايز قد بالغ في تصوير مناظرات لينكولن-دوغلاس، وكأنها كانت آيات من الحِجاج الصافي، والجدل الراقي. والحقيقة أن هؤلاء السياسيين قد كانوا يخطبون في جماهير صاخبة، لا يُظَن أنهم كانوا يُنصتون إلى كل كلمة تقال. بل إن تلك المجالس لم تَخلُ من شرب الخمر، ولم يكن فيها من الجدية المطلقة ما يظنه بعض الناس اليوم. ثم إنّ طول الحديث لا يدل دائمًا على صدق القول وصحة الرأي، فالتاريخ قد علّمنا أن أكثر خطباء الدكتاتورية لم يكونوا يُوجزون في كلامهم، وإنما كانوا يُسرفون في الحديث حتى يُظن أنهم يملكون كل الحقيقة.
وإذا نظرنا إلى السياسة في زماننا، رأينا أن طول الكلام فيها لم يَقصُر، بل ازداد. فانظر إلى دونالد ترامب الذي وقف يخطب أمام أنصاره في مؤتمر المحافظين، فما أنزل لسانه عن الكلام إلا بعد ساعتين! ثم تأمل في أسلوبه، الذي يتشعب إلى موضوعات شتى، ثم يعود فيجمعها في ختام حديثه كأنها أجزاء لوحة متفرقة تلتئم آخر الأمر. وليس هذا بأسلوب جديد، فقد قيل إن قراءة خطبه تحتاج إلى مهارة خاصة، كأنما يقرأ المرء في "التلمود".
أما الذين يلقون باللائمة على الإنترنت، فيزعمون أنه قد زاد السياسة استقطابًا، وقلّل من انتباه الناس، فهؤلاء قد فاتهم أن هاتين الظاهرتين ليستا متناقضتين، بل هما وجهان لعملة واحدة. فكما أن الثقافة لم تصبح سطحية، بل زادت عمقًا بتجزئتها إلى ثقافات فرعية، فكذلك السياسة لم تَفقد الجدية، بل تحولت إلى عالم من الاهتمامات المتخصصة. فانظر إلى اتباع QAnon الذين يتابعون نظريات المؤامرة، أو يتشبثون بأفكار الاشتراكية، أو يرفضون اللقاحات، أو يعيشون في عالم الذكورية المتطرفة، تجد أنهم ليسوا أشخاصًا عابرين، بل أناسًا يملكون شغفًا شديدًا، ومعرفة واسعة، واستعدادًا للغوص في التفاصيل، حتى ليكادون يكونون أقرب إلى أولئك الذين يكرسون حياتهم لموسيقى "K-pop"، أو يتبحرون في علوم الفقه القديم. فهؤلاء لا تنقصهم المعرفة، وإنما ينقصهم شيء آخر... شيء يحتاج إلى حديث طويل.
يخشى هايز أن يكون هذا الحماس السياسي الذي يشتعل في أرجاء الإنترنت قد صرف الأذهان عن الخطر الداهم الذي يتهدد العالم، وهو كارثة الاحتباس الحراري. ولكن، أفلا يرى هايز أن الذين يقودون هذه الحملة ضد تغير المناخ هم أنفسهم الذين نشأوا في هذا الفضاء الرقمي؟ هؤلاء الشباب، الذين هم أكثر الناس استعمالًا للإنترنت، هم الذين حملوا لواء هذه القضية وجعلوها حديث المجالس ومنشورات الصفحات. ثم انظر إلى هذه الفتاة، غريتا تونبرغ، التي لم تبلغ من العمر إلا خمسة عشر عامًا حين بدأت تملأ الآفاق بدعوتها، حتى صار الباحثون في الإعلام يدرسون "تأثير غريتا"، ويجعلونه بابًا من أبواب النظر في تأثير الشبكات الاجتماعية.
فإذا لم يكن الناس قد أضاعوا تركيزهم، ولم يكونوا قد ضعفوا في مواجهة هذه الوسائل الحديثة، فلماذا إذن هذا الذعر؟ الحقيقة أن الذين يكثرون من الشكوى والتذمر إنما هم أولئك الذين ينتمون إلى الطبقة المثقفة – الصحفيون، والروائيون، وأساتذة الجامعات، ومن إليهم. هؤلاء يعتمدون في إنتاجهم الفكري والفني على فترات طويلة من التركيز والانغماس، فيجدون في هذا العالم الرقمي ما يقطع عليهم خلوتهم، وما يشتت فكرهم. فالإنستجرام يزعجهم إزعاجًا لا يجد له أثرًا العاملون في الرعاية الصحية، أو التجارة، أو مطاعم الوجبات السريعة، وهم الأكثر عددًا بين عمال هذه البلاد.
ولكن ليست هذه وحدها مشكلة المثقفين، فهؤلاء الذين ينتجون الثقافة التقليدية يخشون أن تسلبهم هذه الوسائل الجديدة جمهورهم، كما خشي كهنة القرن الثامن عشر أن تسلبهم الروايات سلطتهم، فحذروا منها وحكموا عليها بالضلال والإفساد. أفليس من الحق أن نسأل: هل هذه الأزمة المزعومة هي أزمة انتباه حقًا، أم أنها أزمة سلطة؟ هل المسألة أن "الناس لا ينتبهون"، أم أنها في حقيقتها أن "الناس لا ينتبهون إلينا"؟
وإذا نحن دققنا النظر في الأمر، وجدنا أن أولئك الذين يرفعون راية التحذير من تشتت الانتباه، إنما يريدون أن يوجّهوا العقول إلى ما يرونه هم أهلًا بالاهتمام: الأدب الرفيع، والكتب القديمة، والطبيعة الصامتة. إنهم يطالبون الناس بالصبر، و بالإقبال على ما لا يُدرَك جماله من الوهلة الأولى، بالصمود أمام ما قد يبدو في ظاهره مملًا. ولكن، أفليس في هذا شيء من التعالي والنرجسية؟ ألا يشبه هذا الزوج الذي يطالب زوجته بالصبر، وهو لا يفكر أن يكون هو نفسه أقل إثقالًا عليها؟ فهؤلاء المعلقون يلقون بالمسؤولية على المستمع، ويبيحون لأنفسهم الإطالة، والغموض، والإسهاب. فماذا لو أن المشكلة ليست في الجمهور الذي لا يصبر، بل في هؤلاء الذين يطيلون الحديث حتى يصبح مملًا، وغير واضح، وغير مُجدٍ؟
والحق أن هذا كله ليس إلا محاولة للهرب من المنافسة التي لا يملكون أن ينتصروا فيها. والإنصاف يقتضي أن نعترف بأن السوق لا يُعطي دائمًا أفضل النتائج، ولكن، أفلم تكن الأفكار تُشوَّه عبر السوق منذ قرون؟ ألَم يكن الناشرون في القرن التاسع عشر يفرضون على الروائيين أن يطيلوا أعمالهم، ويقسموها إلى أجزاء، لا لأن الفن يتطلب ذلك، بل لأن الربح يقتضيه؟ أفليس من السذاجة أن نظن أن الاختيار اليوم هو بين الأفكار الخالصة، والأفكار المشوهة بالمال؟ الحقيقة أن الأمر ليس بين "سلعة وغير سلعة"، بل بين أنواع مختلفة من السلع، بعضها أكثر ملاءمة للعصر من بعض.
ثم انظر إلى هايز، وهو يرفض هذه التطبيقات الحديثة، لا لأنها تسيء استخدام انتباهنا، بل لأنها تتصرف دون إذننا، وتسرق أذهاننا بحيل بارعة، فلا نجد أنفسنا إلا وقد انغمسنا فيها بلا وعي. وهذه حجته الأقوى، ولكن حتى هذه تستحق أن ننظر إليها بعين الحذر. أفليس الإعلام كله، منذ نشأته، كان دائمًا يسير في رقصة معقدة مع رغباتنا؟ ثم، ألم يختر هايز لكتابه عنوانًا مستوحى من أغاني السيرينات في أسطورة هوميروس؟ ألم تكن تلك الأغاني قديمة قِدَم الأدب نفسه؟ وما الذي نطلبه من الكتب العظيمة، إن لم يكن أن تأسرنا، وتأخذنا في عالمها، وتجعلنا عاجزين عن الفكاك منها؟ ألا نصف الروايات التي نحبها بأنها "آسرة، مذهلة، ساحرة"؟ فلماذا نذم الاستسلام للهواتف الذكية، بينما نمدح الاستسلام للكتب؟
وإذا كان المتشائمون من هذا العصر يستحضرون صورة المراهق المدمن على "تيك توك"، فهذه الصورة ناقصة، وقد تكون مضللة أيضًا. فزماننا هذا ليس زمان التشتت وحده، بل هو أيضًا زمان الهوس والانغماس العميق. هو زمن المقاطع القصيرة، ولكنه أيضًا زمن الساعات الطوال أمام البودكاست. هو عصر اللامبالاة، ولكنه أيضًا عصر الحماس الشديد. أفليس من الخطأ أن نفسر مشاكلنا كلها بأنها مجرد اضطراب في الانتباه؟
ولكن الأسف كل الأسف، أن علاقاتنا بهذه الأجهزة ليست سليمة، وأن هذا العالم الإعلامي قد صار بحرًا مضطربًا من القلق، والحسد، والوهم، والغضب. إن انتباهنا يُسرق بطرق مقلقة وغير متوقعة. وما نراه اليوم من احتدام الخطاب، وانتشار نظريات المؤامرة، واهتزاز الحقائق المشتركة، كلها قضايا حقيقية، وهي تستحق أن تُدرس بعناية. ولكن، أليس من المفارقة أن يكون الذعر من فقدان الانتباه هو في ذاته نوعًا من التشتت؟
مترجم من newyorker بقلم Daniel Immerwahr
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي