بينما انصرف الكانطيون إلى الواجبات، وانشغل الأرسطيون بالازدهار البشري، وأولى العواقبيون اهتمامهم بحسابات المنفعة وتراكم القيم، كان لسيمون ويل مسألة أخرى تأخذ بمجامع فكرها، وتستبد بوجدانها، وتلقي بظلها على فلسفتها بأسرها. تلك هي المسافة التي تفصل بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتلك الهوة التي تجعل من التلاقي أمرًا عسير المنال. ولعلها قد تناولت الحديث عن الواجب، والخوض في معاني الخير البشري، ولكنها لم تجعلهما قط في صدارة اهتماماتها، إذ كان لها شأن أعظم وفكرة أعمق، وهي ذلك اللغز الفلسفي الذي يحيّر الألباب: كيف يمكن لكائنين يتمتعان بالحرية أن يتجاوزا المسافة الفاصلة بينهما؟ كيف يمكن لهذه الإرادة أن تلتقي بتلك دون أن تفقد استقلالها؟
وليست هذه المسألة مجرد إشكال نفسيّ، ولا هي شأن فرديّ يعرض للبعض دون الآخر، بل هي نتيجة لازمة لمفهوم الإرادة الحرة ذاته. وحين تناولت ويل موضوع الصداقة ومحبة القريب في مقالها عن "أشكال الحب الضمني لله"، كانت تنظر إلى هذه المسافة من زاويتين متكاملتين، وتستعرض الأخطار التي تترتب عليها، وكأنها بذلك تتحدى ما هو مستقر في الفلسفة الأخلاقية الحديثة، أو هكذا أودُّ أن أجادل في هذه السطور.
وقد كان لعالم سيمون ويل صورتان متضادتان: إحداهما للعاديّ المألوف، والأخرى للنادر العصيّ على الإدراك. أما العادي، فهو يشمل كل ما اعتدناه، سواء أكان من عالم الطبيعة أم من عالم الإنسان. تخضع المادة لقوانين الجاذبية، وينساق الإنسان وراء رغباته، وكلاهما يجري على نسق واحد. وليس الأمر عندها مجرد تشبيه بين الطبيعة والمجتمع، بل هو قانون حتميّ، لا مفر منه ولا محيد عنه. وكما أن الحجر لا يملك أن يتخلف عن قانون الجاذبية، فكذلك الأقوياء لا يملكون إلا أن يسعوا إلى تحقيق إرادتهم إلى أقصى مدى تتيحه لهم القدرة.
ولكن، أيحق لنا أن نقبل هذا القول على إطلاقه؟ أوَليس في التاريخ شواهد كثيرة تدل على أن الأقوياء قد امتنعوا في بعض الأحيان عن بسط سلطانهم؟ فما بالنا نصدق أن القوة لا بد أن تستنفد نفسها، وأنها حتم لا يقبل الاستثناء؟ ولعل سيمون ويل لم تكن جاهلة بهذا الاعتراض، فقد أشارت إلى وجود من سمتهم "السامريين الصالحين"، أولئك الذين يقفون في وجه هذا القانون الصارم. غير أن المعضلة عندها لم تكن في إثبات وجود هؤلاء، بل في فهم كيف تسنّى لهم أن يخرجوا على هذا النظام الحتميّ. فإذا كانت القوة تندفع بطبيعتها نحو غاياتها، فكيف أمكن للبعض أن يحيد عن هذا الطريق؟ وما الذي يجعل الإنسان، القادر على فرض إرادته، يحجم عن ذلك طوعًا؟
وهكذا، لم يكن قولها عن "منطق القوة" ادعاءً تجريبيًا يمكن إخضاعه للملاحظة والاختبار، بل كان قولًا في صميم الفلسفة، يتصل بماهية الإرادة الحرة ذاتها. فإن لم تسعَ الإرادة الحرة إلى تحقيق غاياتها، فكيف تكون إرادة؟ بل كيف يقال إن الإنسان يريد ولا يريد في آنٍ واحد؟ وهنا تتجلى المشكلة في أوضح صورها: إن كانت الإرادة تتخلى عن سعيها، فهي لم تعد إرادة.
وفي هذا التصور، تبدو الإرادة حرة، ولكنها، من حيث المبدأ، لا ترى في الآخر قيمة مستقلة، ولا تعترف له بوجود معياري مميز. فهو ليس أكثر من شيء يعترض طريقها، كالصخرة الصلدة التي تحول بين الإنسان وبين مبتغاه. فإن وقف حجر في طريقه، شعر بالضيق؛ وإن وقف إنسان، كان شعوره لا يختلف. وما دام الآخر ضعيفًا لا يقوى على المقاومة، فهو مجرد شيء، لا يستحق أن يُنظر إليه باعتباره شخصًا حرًّا. أما إن كان قويًّا قادرًا على المواجهة، فليس ثمة مفر من التفاوض، وليس لهذا التفاوض معنى سوى أن الإرادة مجبرة على التسوية مع إرادة مساوية لها. وهذا، في رأي ويل، هو جوهر العدالة.
وهكذا يتبدى لنا أن رؤية سيمون ويل للعالم هي رؤية تقوم على العزلة والخراب. أما العزلة، فسببها أن ما كانط يعدّه بديهيًّا، تراه ويل مستحيلًا؛ إذ لا يمكن للإرادة أن تعترف بإرادة أخرى، إلا إذا كانت هذه الأخيرة تملك القوة الكافية لفرض نفسها. وأما الخراب، فلأن هذا الاعتراف ذاته لا يكون لذاته، وإنما لأنه نتيجة حتمية للصراع. فلا مجال لرؤية الإنسان كقيمة في ذاته، ولا مجال لرؤية المقهورين باعتبارهم ذواتًا حرة، ولا موضع للصداقة التي تقوم على التسامي، بل كل شيء محكوم بموازين القوة وحدها.
ولكن في ظل هذا التصور الذي تبنته سيمون ويل عن الحياة العادية للوكلاء العمليين، قد يقع حدثان لا ينتميان إلى هذا العالم المألوف، بل يبدوان كأنهما خرقٌ له وتجاوزٌ لقوانينه. أولهما أن يبصر الإنسان شيئًا ضعيفًا، لا حول له ولا قوة، واقعًا أمامه، فيجد نفسه قادرًا على إخضاعه لإرادته، ثم، بدافع لا تفسره قوانين القوة، يعامله لا باعتباره شيئًا، بل كإنسان، وكأنه بهذا يغرس في قلب عالم الضرورة بذرةً من الرحمة، وهذا ما يمكن أن يُسمى حب الجار. وأما الحدث الثاني، فهو أن يرتبط شخصان بعلاقةٍ لا يمكن اختزالها في تلك العدالة التي تقتضي تساوي القوى، بل تقوم على ما هو أسمى، على ما لا يفسَّر بقوانين الإرادة الحرة ذاتها، وهذا ما يُسمى الصداقة. ولأن هذين الحدثين لا ينسجمان مع منطق العالم العادي، فإنهما يشيران إلى وجود عالم آخر، عالم لا تحكمه هذه الضرورات، ولا تخضع أواصره لمعادلات القوة، ولهذا ترى سيمون ويل أن هذه الروابط بين الناس ليست إلا أشكالًا من الحب الضمني لله.
ولكن كيف تنشأ هذه العلاقات بين الناس، وكيف تخرق قوانين العالم المادي فتتصل النفوس برباطٍ لا تفسّره القوة وحدها؟ ترى سيمون ويل أن ذلك لا يكون إلا حين يتنازل الوكيل الحر عن شيءٍ من ذاته، حين ينكر نفسه بطريقةٍ ما، فيتمكن من مدّ الجسور بينه وبين الآخر، فتُردم تلك الفجوة السحيقة التي تفصل بين الإرادات، ويصبح اللقاء ممكنًا بين كائنين لم يكن لقاؤهما ليتم إلا بانسحاب أحدهما عن مطالب إرادته. غير أن هذا الانسحاب يأخذ شكلين مختلفين: فهو في حب الجار انسحابٌ أمام المعذب، وهو في الصداقة انسحابٌ أمام الصديق.
أما حب الجار، فإنه لا يكون إلا حين يجد الوكيل الحر نفسه في مواجهة شخصٍ أوقعه البؤس في دركات العدم، فردّه إلى حالٍ لم يعد له فيها من شخصيته شيء. وقد أخفقت الترجمات في الإتيان بمرادفٍ دقيقٍ للكلمة التي تستعملها ويل ("malheur")، فهي ليست مجرد "بؤس" بالمعنى العادي، بل هي محنةٌ تسحق الإنسان سحقًا، وتنزع عنه كل أثرٍ للحرية، وتُخضعه لضروراتٍ لا قبل له بمقاومتها، كما لو أن الحرية قد استُئصلت منه استئصالًا، فلم يعد له وجود إلا بصفته شيئًا خاضعًا لهذه القوانين القاهرة. فمن أحبّ جاره، فإنه لا يفعل أكثر من أن يرفض أن يرى هذا المعذب كما يراه العالم، لا يقبل أن يتعامل معه كما يتعامل معه أهل الأرض، أي باعتباره شيئًا. وإذا كان أهل العادة قد ألِفوا أن يعاملوا هذا الإنسان وفق ما صار إليه، فإن من يحبّ جاره يراه على ما كان عليه، بل على ما ينبغي أن يكون عليه، فيرى في هذا الشيء إنسانًا، وفي هذا المستسلم إرادة، وفي هذا العاجز حريةً مستترة.
ولا ينبغي أن يُفهم من ذلك أن هذا الحب مجرد عاطفةٍ تهيج في القلب أو مشاعر تفيض بها النفس، فإن كان للحب شيءٌ من ذلك، فإنه في أصله قدرةٌ على رؤية ما لا يُرى، على إبصار ما لا وجود له. ذلك أن المعذب قد مُحيَت شخصيته، وزالت كل آثار إرادته الحرة، ولم يعد فيه ما يُدركه الحسّ، ولا فيه من الذات ما يمكن أن يُبصر. ولذا فإن من يراه لا يرى شيئًا في الحقيقة، بل يتخيّل ما ليس موجودًا، ويرى بغير حاسة، ويدرك بغير إدراك. وهذا الضرب من الرؤية، كما تقول سيمون ويل، لا ينتمي إلى عالم الحس، بل هو من عالم الخيال.
على أن هذا التصور لا يقف عند حدود الرؤية وحدها، بل يمتد إلى الاستجابة التي يولّدها، فإن من رأى المعذب كإنسان، ولم يره شيئًا، فإنه لا بد أن يعامله على هذا الأساس، لا بد أن يبسط له من العدل ما يبسطه للأحرار. وقد رأينا كيف جعلت سيمون ويل العدالة اتفاقًا بين وكيلين متساويين في القوة، فإن كان المعذب قد حُرم من القوة، فإن العدالة في حقه لا تكون إلا باعتباره قويًّا، أي بإعطائه ما يستحقه لو كان له من قوته ما يجعل منه وكيلًا حرًا. وهذه الاستجابة لا تقتصر على تحقيق العدل، بل إنها تصنع ما هو أعظم، فهي تخلق من العدم وجودًا، وتجعل من الشيء إنسانًا، ومن المقهور شخصًا، وكأنها بذلك تعيد للمعذب ما فقده من ذاته.
وقد يتوهم بعضهم أن حب الجار لا يكون إلا بإحسانٍ يتفضل به القوي على الضعيف، وبعطاءٍ يزيد على ما تقتضيه العدالة، غير أن هذا الوهم إنما نشأ من تصورٍ قاصر لمعنى العدل ذاته، وهو تصوّرٌ جعل الناس يفرّقون بين العدل والإحسان، وجعل القادرين يزعمون أنهم إن بذلوا، فقد تجاوزوا الواجب، وإن أمسكوا، فلا حرج عليهم. أما سيمون ويل، فإنها لا ترى فرقًا بين العدل والإحسان، ولا تعترف بما يسمّيه الناس أعمالًا فائضةً عن الواجب، فإن معاملة المعذب كما يُعامل الحرّ ليست تفضلًا، بل هي عين الواجب، وليست تجاوزًا للعدل، بل هي العدل ذاته.
وبهذا المفهوم لحب الجار، تضع سيمون ويل تصورًا لعالمٍ تنسحب فيه الإرادة الحرة عن مطالبها المطلقة، فلا تسعى لتحقيق غاياتها إلى "أقصى حدود الإمكانية"، بل تتوقف حيث ينبغي لها أن تتوقف، فتردم بذلك الهوة بين من له الحرية ومن حُرم منها، وتجعل من الممكن قيام علاقةٍ بين من كانت تفصل بينهم المسافات اللامتناهية. ومن خلال هذه القدرة على رؤية ما لا يُرى، على معاملة من لا يملك الإرادة وكأنه يملكها، تنشأ علاقةٌ ترفع المعذب من محنته، وتسمو بالوكيل فوق عالم الضرورة، فيدخل بذلك في عالمٍ غير عادي، عالمٍ لم يكن له أن يدخله إلا حين تخلى عن إرادته المطلقة، وتجاوز حدوده الضيقة، ووقف أمام الآخر، لا باعتباره كائنًا محكومًا بقوانين الطبيعة، بل باعتباره إنسانًا يمكنه أن يكون حرًّا، كما كان، وكما ينبغي أن يكون.
أما الصداقة، فإنها تختلف عن حب الجار في جوهرها وفي مظهرها، وإن اشتركت معه في كونها مظهراً من مظاهر الحب الضمني للإله عند "ويل". فالصديق وصديقه كليهما يتمتعان بالإرادة الحرة، ولم ينل منهما البؤس ما ينال من المعذب. بيد أن الصداقة، على ما ترى "ويل"، ليست مجرد علاقة طيبة بين اثنين، بل هي حاجة متبادلة، والتزام غير مكتوب، يفرض على كل صديق أن يزن حريته في مقابل حرية الآخر، فلا يترك لنفسه العنان حتى لا يرهق صاحبه، ولا يُكره صاحبه على ما لا يريد حتى لا يفسد تلك الرابطة. وهنا تكمن المفارقة، إذ يجد الإنسان نفسه بين خيارين: إما أن يخضع لإرادة صديقه، فيفقد حريته، أو أن يفرض إرادته على صديقه، فيسلبه حريته. وهي معضلة تُبرزها "ويل" بقولها: "الصداقة هي المعجزة التي يوافق بها البشر على النظر من بعيد إلى من هم في حاجة إليهم كحاجتهم إلى الطعام، دون أن يقتربوا منهم أو يسيطروا عليهم."
ولئن كان حب الجار يتطلب من الوكيل أن يتجاوز ذاته ليرى في المعذب شخصًا لا مجرد شيء، فإن الصداقة تقتضي محوًا آخر للذات، لكنه محوٌ من نوع مختلف؛ إنه محو جزئي للإرادة الحرة، لا على سبيل الخضوع، ولكن على سبيل الموازنة بين إرادتين مستقلتين. ففي العالم العادي، يندفع الإنسان بحريته إلى أقصى ما يمكنه، يصارع الضرورات، ولا يتوقف إلا عند المستحيل. أما أن يتنازل الوكيل الحر عن شيء من حريته بمحض إرادته، فهذا خروج عن منطق العالم، وهو أمر لا يجد تفسيرًا في حدود الحرية ذاتها.
إن هذه العلاقة، التي تبدو غير منطقية في ضوء المعايير العادية، تردم تلك الهوة السحيقة بين الإنسان الحر والإنسان المقهور، كما تردم الهوة بين صديقين يتمتعان بحرية متكافئة. فلكي تستمر الصداقة، لا بد أن يأخذ كل طرف حرية الآخر في الاعتبار، لا ليحجم عنها، بل ليجعلها سببًا في ضبط حريته هو نفسه.
لو قدَّر للإنسان أن يقف موقف التأمل العميق إزاء هذا النهج، لوجد فيه مفارقة عجيبة تبعده عن أعراف الفلسفة الأخلاقية المعاصرة بُعدَ المشارق عن المغارب. فهذه الرؤية لا تقتصر على تقديم بديل للمذاهب السائدة، بل تسلط الضوء على مواضع الضعف في بعض هذه المذاهب، وتفتح آفاقًا لإمكانية التوفيق بينها ضمن إطار فكري أشمل. ولعل من العسير أن نسترسل في تحليل هذه الجوانب جميعها، ولكن لا بأس أن نرسم صورة عامة لمواضع الاختلاف بين هذه الرؤية ونهج ويل.
أما العواقبية التي تجعل تعظيم المنفعة غايتها القصوى، فإنها لا تخرج عند ويل عن كونها مظهرًا من مظاهر الضرورة العادية التي تحكم تصرفات البشر. ذلك أن الصعوبة الكبرى التي يواجهها هذا المذهب تكمن في تفسير السبب الذي يجعل لمصالح الآخرين ذات القيمة والاعتبار الأخلاقي لمصلحة الفرد الساعي إلى تعظيم منفعته. وليس ببعيد أن تكون هذه المعضلة ناجمة عن رؤية تختزل القيمة الأخلاقية إلى مجرد تفاعل طبيعي بين وكلاء أحرار، دون أن تضيف إلى ذلك بعدًا آخر يرتفع بهذا التفاعل إلى مستوى يتجاوز قوانين الفيزياء التي تحكم الحركات العادية للنفس. فبينما يمكن لنهج ويل أن يفسر العواقبية كضرورة ميكانيكية تحكم السلوك الإنساني، فإنه في الوقت ذاته يكشف عن قصورها في تفسير ما هو غير عادي، أي تلك الحركات التي تنشئ الصداقة وحب الجار، والتي تخرج عن نطاق الضرورة الصارمة.
ثم إن نهج ويل يتناقض، على نحو عميق، مع المذاهب الواجبية التي تهيمن على الفكر الأخلاقي الحديث. فانظر، إن شئت، إلى الواجبية الكانطية، تجدها تقوم على مبدأ قاطع يوجب على الإنسان أن يعامل الإنسانية في ذاته وفي غيره كغاية لا كوسيلة. ولكن أين نحن من هذا عند ويل؟ إن المشكل عنده ليس فيما ينبغي فعله لكي يعامل الإنسان غيره كغاية، بل لماذا ينبغي أصلاً أن يعامل الإنسان غيره كذلك! إن الحرية في ذاتها لا تقتضي بالضرورة شيئًا من هذا القبيل، وبذلك يغدو الأمر القاطع عند كانط مجرد قيد خارجي مفروض على الحرية، لا ينبثق منها، بل يعترضها من الخارج. وإن كان ثمة حل لهذا الإشكال، فهو لا يوجد في مذهب جديد للواجبات، بل في فعل الخيال، ذلك الخيال الذي يتصور عالماً غير ممكن وفق نواميس السلوك المعتادة، عالماً يكون فيه القوي والضعيف على حد سواء أحرارًا، وعالماً لا يسعى فيه الصديق للسيطرة على إرادة صديقه أو الخضوع لها. وما دام العقل البشري قادرًا على تخيل هذا العالم، فهو قادر على إيجاده في حيز الواقع.
وأما مذهب الفضيلة الذي يجعل الازدهار البشري غايته، فهو يعجز كذلك عن ردم الهوة بين وكيلين حرين، كما تصفها ويل. فإن النظرية الفضائلية كثيرًا ما تجعل العلاقة مع الآخر نتيجة لتطور الفرد نفسه، وكأن الإنسان لا يلتفت إلى غيره إلا حين يكون ذلك في مصلحته الذاتية. بل حتى النظريات التي تحاول إضفاء بعد علائقي على مفهوم الازدهار البشري، كما فعل ماكنتاير، تبقى عند ويل قاصرة عن إدراك جوهر المسألة. ذلك أن العناية بالضعفاء، وفق هذه النظريات، تجد مبررها في كونها تعود بالنفع على الفاعل ذاته، إذ تجعله أكثر قدرة على التفكير العملي المستقل. وهنا، في نظر ويل، يعود الأمر إلى منطق العادة: أنا أريد تحقيق غاية معينة، ورعاية الضعفاء تساعدني في تحقيق هذه الغاية، إذن لديّ سبب للاهتمام بالضعفاء.
ولكن إذا نحّينا هذه المقولات جانبًا، وأبعدنا الاهتمام بالمصلحة والواجب والفضيلة عن مركز الأخلاق، وأحللنا محلها تفسيرًا لطبيعة العلاقة بين إرادتين حرتين، عندئذ يظهر لنا البديل الذي تقدمه ويل للفكر الأخلاقي السائد. ذلك أن جوهر الأخلاق، عندها، لا يبدأ بمبادئ مسبقة ولا بقواعد نظرية، بل بفعل إنكار الذات، بفعل ينشأ من الخيال، فتتولد منه العلاقة. وكما أن اللاهوت المسيحي يقول: في البدء كانت الكلمة، فإن الأخلاق عند ويل تقول: في البدء كانت العلاقة.
مترجم من criticallegalthinking بقلم كلاوديو ميشيلون أستاذ فلسفة القانون بجامعة أدنبرة
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي