ولادة الطبيعانية
ما يُقال عن انتصار العلم على الدين حكاية ناقصة قد تخلّت عن أصولها لتصنع لنفسها مجدًا مزيفًا.
مهما يكن المعيار الذي نعتمده لفهم تطور الفكر البشري، فإن الثورة العلمية التي وقعت في القرن السابع عشر تُعدّ تحولًا كبيرًا، بل علامة بارزة تدل على نشوء عصرنا الحديث، الذي اعتدنا أن نصفه – عن يقين أو ربما عن ظنّ – بأنه عصر دنيوي الطابع، أو كما يُقال: "علماني".
وقد شاع بين كثير من الكُتّاب والمفكرين تصوير تلك اللحظة الفارقة كأنها لحظة تحرّر فيها العلم من هيمنة الدين، وانطلق في طريق جديد يتخلى فيه عن الشروح الدينية، ويتجه بكليته إلى دراسة عالم طبيعي خالٍ من الغيب والخرافة. غير أن هذا التصوير ليس دقيقًا تمامًا؛ فهو لا يقدم إلا جزءًا من الحقيقة – إن أحسنّا الظن – أو أقل من ذلك.
ذلك أن العلم في العصور الوسطى، وبوجه خاص في أوروبا، كان يقوم على أفكار الفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي كان يرى أن لكل شيء في الطبيعة خصائصه الكامنة فيه، والتي تفسّر سلوكه وأفعاله. أي أن الظواهر تُفهم انطلاقًا من طبيعة الشيء نفسه، لا من مؤثر خارجي. صحيح أن الإيمان بوجود الله كان حاضرًا في هذه النظرة، لكن حضوره لم يكن على صورة تدخل مباشر في كل ظاهرة، بل كان يُفترض أن الله خلق الأشياء ومنحها طبيعتها منذ البداية، ثم تركها تعمل وفق النظام الذي أودعه فيها. ولهذا، كانت الطبيعة تُرى كعالم منظم له قدر من الاستقلالية، وإن كانت هذه الاستقلالية لا تنفصل في النهاية عن مشيئة الخالق.
لكن في بداية القرن السابع عشر، ظهر فلاسفة ومفكرون، مثل رينيه ديكارت، وبدؤوا ينقضون هذه التصورات القديمة. فقد أعلن ديكارت وزملاؤه أن القوى الخفية والخصائص الكامنة ليست إلا أوهامًا لا حاجة لها. وبدلًا من البحث عن علل غامضة داخل الأشياء، دعوا إلى فهم الظواهر الطبيعية من خلال قوانين رياضية دقيقة. وهكذا جُرّدت الطبيعة من "أسرارها" كما كانت تُفهم سابقًا، وصارت تخضع لمنطق العقل والحساب، لا لتأثير قوى غيبية أو خصائص روحية.
ومع ذلك، فإن هؤلاء المفكرين – من ديكارت إلى كيبلر، ومن روبرت بويل إلى إسحاق نيوتن – لم يخرجوا عن الإطار العام للفكر الديني في زمانهم. فلم يكونوا ينكرون وجود الله، ولم يروا في الطبيعة عالمًا مستقلًا بذاته كما نراه نحن اليوم. لم يتبَنّوا ما نعرفه الآن من أفكار العلمانية أو التصورات الحديثة للطبيعة التي تُفهم على أنها نظام مكتفٍ بذاته لا يحتاج إلى أي مرجع روحي أو غيبي.
لهذا، فإذا أردنا أن نعرف أصل الفكرة التي نسميها اليوم "الطبيعانية العلمية" – أي الاعتقاد بأن العالم الطبيعي وحده هو الموجود، وأن كل ما فيه يُفسَّر بالعقل والتجربة وحدهما – فإن علينا أن نبتعد عن القرن السابع عشر، بل ونتجاوز حتى عصر التنوير، لنصل إلى أواخر القرن التاسع عشر. ففي تلك اللحظة التاريخية بالتحديد، وُلد التصور الذي أصبح مألوفًا في زماننا: أن الكون الطبيعي هو الموجود الوحيد، وأن قوانينه تُفهم من خلال العلم، وأنه لا يوجد وراءه عالم خفي، ولا غاية عليا، ولا عقلٌ أعلى يُسيّره.
هذا الفهم عبّر عنه الفيزيائي النظري شون كارول في كتابه الصورة الكبيرة (2016)، حيث قال:
هناك عالم واحد فقط، هو العالم الطبيعي، يظهر فيه نظام معيّن نسمّيه قوانين الطبيعة، ويمكن اكتشاف هذه القوانين عبر البحث العلمي والتجربة. ولا وجود لعالم آخر خارق للطبيعة أو روحي أو إلهي؛ ولا توجد غاية كونية أو هدف أعلى مضمّن في طبيعة الكون أو في حياة البشر.
وهذا التصور هو نفسه ما يدافع عنه ريتشارد دوكينز في كتابه وهم الإله (2006)، حيث يصرّح بوضوح:
لا يوجد شيء يتجاوز العالم الطبيعي المادي، ولا يوجد عقل خالق يقف خلف هذا الكون الذي نراه.
وقد تجاوز هذا الاعتقاد حدود العلوم الطبيعية، وانتشر حتى في مجالات الفلسفة والدراسات الإنسانية. حتى أن الفيلسوف ديفيد بابينو يلفت إلى أن أغلب الفلاسفة المعاصرين، رغم اختلافاتهم الواسعة، يجتمعون على نقطة واحدة، هي رفض وجود أي كائنات خارقة للطبيعة.
ولكن تبقى الأسئلة الكبرى: من أين جاء هذا التعبير: "الطبيعانية العلمية"؟ ومن ربط بينها وبين العلم الحديث؟ وهل هي ضرورة عقلية أم مجرد خيار ثقافي تبنّته عصور معينة دون غيرها؟
الذي وضع الأساس لفكرة "الطبيعانية العلمية" هو توماس هنري هكسلي، وهو عالم أحياء من القرن التاسع عشر، اشتهر بلقب "كلب داروين الحارس" بسبب دفاعه القوي عن نظرية داروين في التطور. كان هكسلي يخشى من سيطرة رجال الدين على مجالات العلم، لا على الأمور الدينية فقط، بل حتى على البحث العلمي نفسه. فقد كانت المناصب المرموقة في الجامعات الكبرى، وفي جمعيات علمية مثل "الجمعية الملكية"، تُمنح غالبًا لرجال دين من الطائفة الأنجليكانية (وهي طائفة مسيحية بارزة في إنجلترا). ولهذا السبب رأى هكسلي أن من الضروري أن يتحرر العلم من هذا التأثير الديني، وأن يحصل على استقلالٍ لا يمكن لأحد أن ينقضه أو يسيطر عليه.
ولم يكن هكسلي وحده في هذا الاتجاه؛ فقد شاركه فيه علماء آخرون، مثل الفيزيائي الأيرلندي جون تيندال، وكان هدفهم المشترك واضحًا: أن يُنتزع العلم من يد رجال الدين، ويُعاد تعريفه بوصفه نشاطًا يعتمد فقط على قوانين الطبيعة، دون الرجوع إلى أي تفسير يعتمد على الغيب أو القوى الخفية. ومن هنا ظهرت فكرة الفصل بين "الطبيعي" و"الخارق للطبيعة"؛ أي التمييز بين ما يمكن فهمه من خلال قوانين الطبيعة والعقل، وبين ما يُنسب إلى تدخل قوى غير مرئية أو إلهية. وهذه الفكرة لم تكن مألوفة قبل القرن التاسع عشر، بل إنها تأثرت بالمصطلحات التي ظهرت في الدراسات النقدية للنصوص الدينية في ألمانيا آنذاك، والتي كان هكسلي يتابعها ويستفيد من مفاهيمها.
ولكي يُعطي لهذا التوجه طابعًا تاريخيًّا وأساسًا فلسفيًّا، عاد هكسلي إلى تاريخ الفلسفة، وادّعى أن جذور "الطبيعانية" تعود إلى ما قبل الفيلسوف اليوناني سقراط، أي إلى فلاسفة اليونان الأوائل الذين حاولوا تفسير الكون من دون الرجوع إلى الأساطير أو القوى الخارقة. وكان هكسلي يريد أن يُقنع القارئ بأن التاريخ يُظهر لنا بوضوح أن كل مرة تدخّلت فيها فكرة خارقة للطبيعة في مسار العلم، فإنها كانت تُعطّل تقدّمه بدلًا من أن تدعمه. بل ذهب أبعد من ذلك، فرسم صورة حضارية كبرى تقول إن مسيرة التقدم البشري هي صراع دائم بين طريقين لا يلتقيان: طريق العلم المبني على قوانين الطبيعة، وطريق الإيمان بالخوارق والغيب.
وفي كتابه المعروف مقالات في بعض القضايا المتنازع عليها، الذي صدر سنة 1892، كتب هكسلي بصراحة تامة:
لقد دخل الطبيعي والخارق للطبيعة في صراع، سواء أدرك الناس ذلك أم لا، وسُجِّلت نتائج هذا الصراع في صفحات تاريخ الحضارة.
وكان يرى أن التقدم لا يحدث إلا حين ينتصر التفكير الطبيعي، وأن الإنسانية تتراجع وتتعثر حين تسود فيها التصورات الغيبية، أي تلك التي تنسب الأحداث إلى قوى خفية أو خارقة.
ولا شك أن هكسلي كان عالمًا متميزًا في علم الأحياء، وكان واسع المعرفة في الفلسفة والدين. لكن مع ذلك، فإن عرضه لتاريخ العلاقة بين الدين والعلم لم يكن خاليًا من التبسيط، بل أغفل جانبًا مهمًّا. فقد تجاهل أن العلماء الكبار الذين أسّسوا للثورة العلمية في أوروبا – مثل كبلر وديكارت وبويل ونيوتن – كانوا مؤمنين بالله إيمانًا عميقًا، بل كانوا يعتبرون أن بحثهم العلمي امتداد لإيمانهم، وأنهم كلما فهموا الطبيعة أكثر، ازداد يقينهم بالخالق. بل إن كثيرًا من العلماء الذين عاشوا في زمن هكسلي نفسه – مثل فاراداي وماكسويل ولورد كلفن – لم يتخلوا عن إيمانهم، بل رأوا فيه مصدرًا لإلهامهم العلمي.
ومع ذلك، وجدت قصة هكسلي رواجًا وانتشارًا واسعًا، لا لأنها دقيقة أو متوازنة، بل لأنها وافقت إحساسًا عامًا بدأ ينتشر في أوروبا في ذلك الحين، وهو أن القارة بدأت تبتعد شيئًا فشيئًا عن ماضيها الديني، وتدخل مرحلة جديدة تسود فيها سلطة العقل والعلم، بينما تتراجع فيها مكانة الإيمان بالغيب وما لا يُرى.
لم يكن توماس هنري هكسلي وحده في تبنّي هذا الاتجاه الجديد الذي يفصل العلم عن الدين، بل ساعدته أيضًا العلوم الاجتماعية التي بدأت تتشكل بعد عصر التنوير، وهو العصر الذي انتشر فيه الاعتماد على العقل بدلاً من التقاليد الدينية. وقد سعت هذه العلوم إلى تفسير تطوّر الإنسان وتقدّمه، لا من خلال تدخل إلهي، بل من خلال أسباب "علمية" تُنسب إلى عالم الواقع والتجربة اليومية.
ومن أبرز النماذج الفكرية التي ظهرت في ذلك الوقت كان نموذج الفيلسوف أوغست كونت (1798–1857). فقد قدّم تصورًا لمسيرة تطوّر التفكير البشري، وقسّمه إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى سماها المرحلة اللاهوتية، حيث يفسّر الإنسان العالم من حوله على أساس ديني، ثم تليها المرحلة الميتافيزيقية، أي التي تعتمد على مفاهيم فلسفية مجرّدة كـ"الجوهر" و"الروح"، وأخيرًا تأتي المرحلة الوضعية، أي العلمية، حيث يُفهم العالم وفقًا لقوانين تجريبية وواقعية، دون الرجوع إلى أي تفسير غيبي أو خفي.
وبحسب هذا النموذج، لم يكن الدين – في رأي كونت – سببًا في التقدم، بل كان مجرد شكل بدائي للتفكير، لا بد أن يزول مع تطور العقل البشري. وقد أثّر هذا النموذج الثلاثي بشكل كبير على الباحثين في مجالات مثل الأنثروبولوجيا، وهي الدراسة العلمية للإنسان وثقافاته.
ومن الأمثلة الشهيرة على هذا التأثير، كتاب "الغصن الذهبي" لعالم الأنثروبولوجيا الإسكتلندي جيمس جورج فريزر، والذي نُشر عام 1890. في هذا الكتاب، يقدّم فريزر تصورًا مشابهًا لمسيرة العقل الإنساني، حيث يرى أن الإنسان انتقل في فهمه للعالم من مرحلة الإيمان بالسحر، ثم إلى الإيمان بالدين، ثم أخيرًا إلى مرحلة الإيمان بالعلم. ولم يكن هذا الانتقال مجرّد تغيّر ثقافي، بل كان يُقدَّم كما لو أنه قانون طبيعي لا يختلف عن قوانين الفيزياء.
ومن هذا التصور نشأت فكرة تُعرف اليوم باسم "أطروحة الصراع"، أي الاعتقاد بأن تاريخ البشرية هو – في جوهره – تاريخ صراع مستمر بين الدين والعلم. وقد عبّر عن هذه الرؤية جون دريبر في كتابه "تاريخ الصراع بين الدين والعلم" (1874)، حين قال إن تاريخ العلم ما هو إلا سرد لمعركة بين قوتين متضادتين. وسار أندرو ديكسون وايت على نفس الخط في كتابه "تاريخ حرب العلم مع اللاهوت في العالم المسيحي" (1896)، حيث رأى أن الفكر الغربي مرّ بمرحلتين لا يمكن الجمع بينهما: مرحلة دينية قديمة، ومرحلة علمية حديثة.
لكن الخطر في هذه التصورات لم يكن في فكرة الصراع فقط، بل في أنها افترضت أن أوروبا الغربية هي وحدها التي تمثل قمة التطور العقلي، وأن بقية الشعوب كانت – بطبيعتها – أقلّ تقدمًا. فقد كتب دريبر أن الشعوب تمر في تطورها بمراحل صعود وهبوط، كما هو حال الأفراد، واعتبر أن العالم إسحاق نيوتن يمثل قمة هذا الصعود، بينما وصف أحد سكان أستراليا الأصليين بـ"المتوحش"، وقال إنه يعيش في أدنى درجات الحضارة، أقرب إلى حياة الحيوان. وهذه رؤية تنضح بنزعة استعلائية، أي شعور بالتفوق الحضاري، تفضّل الغرب وتضع غيره في مرتبة أدنى.
وهكذا تحوّلت فكرة "الطبيعانية العلمية" من كونها مجرد طريقة علمية لفهم العالم إلى شعار حضاري يُستخدم للدلالة على تفوّق الغرب. ولم تعد سمات الفكر الغربي تُعد استثناءً، بل صار يُنظر إليها على أنها الدليل على أن الغرب وصل إلى مستوى لم تبلغه الشعوب الأخرى.
ورغم أن علماء الاجتماع اليوم لا يعلنون تأييدهم الصريح لتلك النماذج القديمة، فإن أثرها لا يزال قائمًا في الخلفية، وإن لم يُصرَّح به. فما زلنا – من حيث لا ننتبه – نميل إلى تجاهل النظرات التي تقدمها الثقافات التقليدية للعالم، ليس لأننا أثبتنا خطأها، بل لأننا نفترض ضمنًا أنها باطلة، دون حاجة إلى مناقشتها أو الرد عليها.
لكن، حتى لو أغفلنا هذه النزعة الغربية التي أضفت على رواية هكسلي طابع التفوّق الأوروبي، فإن رؤيته القائمة على صراع دائم بين "الطبيعي" و"الخارق للطبيعة" تعاني من مشكلتين كبيرتين. الأولى: أن أغلب شعوب العالم، في تاريخها القديم، لم تكن تفرّق بهذا الشكل الحاد بين ما هو طبيعي وما هو غير ذلك؛ فقد كانت ترى العالم كلًا متكاملاً، فيه قوى مرئية وغير مرئية، لكن لا يتصارع بعضها مع بعض. والثانية، وهي مفارقة لافتة، أن النظرة الطبيعية نفسها التي تَفاخر بها هكسلي، لم تنشأ إلا على أسس دينية؛ إذ كانت تعتمد على تصور سابق بأن للطبيعة نظامًا إلهيًّا ثابتًا، يمكن للعقل البشري أن يفهمه ويستكشفه.
قد يبدو لنا، نحن أبناء هذا العصر، أن التمييز بين ما هو طبيعي وما هو خارق أمر واضح وبديهي، لا يحتاج إلى شرح أو توضيح. لكن عددًا من المؤرخين وعلماء الاجتماع أشاروا إلى أن هذا التصور حديث النشأة نسبيًّا. ففي كتابه المعروف "الأشكال الأولية للحياة الدينية" الصادر عام 1912، حاول العالم الفرنسي إميل دوركايم أن يضع تعريفًا عامًا للدين. وقد ابتعد في تعريفه عن الفكرة الشائعة التي تقول إن الإيمان بكائنات خارقة شرط أساسي في كل دين، ورأى – وبثقة كبيرة – أن فكرة "الخارق للطبيعة" لم تظهر إلا في فترات متأخرة من التاريخ. لكن الأبحاث التي ظهرت بعده أظهرت أن دوركايم لم يُدرك حجم المسألة بالكامل، إذ إن كثيرًا من الثقافات التقليدية – أي القديمة أو المحلية – لم يظهر فيها مفهوم "الخارق" أساسًا، ولم تكن تفرّق بين الظواهر الطبيعية وتلك التي نعتبرها اليوم غير طبيعية أو خارجة عن المألوف.
وقد بيّن هذه الحقيقة عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي مارشال ساهلين في كتابه الذي نُشر بعد وفاته بعنوان "علم الكون المسحور الجديد" سنة 2022. وقد استعرض فيه شواهد كثيرة لمجتمعات لا تعترف بهذا الفصل الذي نعرفه اليوم بين الطبيعي والخارق. ووصف ساهلين هذا النوع من التصورات – حين نحاول تطبيقه على ثقافات لا تفكر مثلنا – بأنه "خطيئة أصلية" في علم الأنثروبولوجيا، أي أنه خطأ كبير يتكرر منذ بدايات هذا العلم. وأشار إلى أن كثيرًا من دراساتنا عن الشعوب غير الغربية تقع في فخ مفاهيم مضلّلة، ناتجة عن نظرة متعالية وموروث استعماري، حيث نتعامل مع الآخر من موقع التفوق والتسلط. وهذا الفصل الذي نتصوره بين عالم الطبيعة وعالم الغيب، حين نفرضه على التاريخ دون تمحيص، فإننا بذلك نخطئ مرتين: مرة في الفهم، ومرة في التفسير.
فمن أين ظهر هذا التمييز أصلًا؟ ومتى بدأنا نراه بهذه الطريقة الحادة؟ ترجع جذور هذا التصور إلى القرون الوسطى الأوروبية، وهي الفترة التي سبقت عصر النهضة، حيث بدأت اللغة الأوروبية تُسجّل أولى الإشارات إلى وجود عالم "خارق للطبيعة". وكان أول من تتبع هذا التطور هو الباحث اليسوعي هنري دي لوباك، في كتابه الكبير "سوبرناتشورال" الذي نشره عام 1946. وقد بحث في الكتابات القديمة للكنيسة، وتتبع ظهور كلمة "الخارق" في اللغة اللاتينية وفي كتابات رجال الدين المسيحي. وتوصّل إلى أن هذه الكلمة لم تكن معروفة أو مستخدمة بشكل واضح حتى القرن الثالث عشر، بل إن الكنيسة الكاثوليكية لم تُدرجها في وثائقها الرسمية إلا سنة 1567. وهذا يعني أن المسيحية، على مدى قرابة ألف عام، لم تكن بحاجة إلى مفهوم "الخارق للطبيعة" بالشكل الذي نفهمه اليوم، رغم أنه يُعد في عصرنا جزءًا أساسيًا من الفهم الديني.
ويُعد توما الأكويني، وهو فيلسوف ولاهوتي من العصور الوسطى، أول من استخدم هذا المصطلح بطريقة واضحة. وعلى الرغم من أنه لم يفصل تمامًا بين الطبيعي والخارق كما نفعل الآن، فإن طريقته في استخدام المفهوم مهدت لتبلور هذا الفصل في القرون التي تلت.
ومن الطريف أن كتاب "سوبرناتشورال" نفسه كاد أن يندثر؛ فقد كتبه دي لوباك وهو يفر من الاحتلال النازي لفرنسا، ولم يكن الورق متوفرًا لنشره على نطاق واسع، ثم نظرت الكنيسة الكاثوليكية إلى أفكاره نظرة حذرة، وجرى تهميشه بعض الوقت. لكنه مع مرور الزمن أصبح واحدًا من أبرز مفكري الكنيسة في القرن العشرين، رغم أن هذا الكتاب لم يُترجم إلى الإنجليزية حتى اليوم.
لم يكن هدف دي لوباك مجرد تتبع ظهور كلمة في المعاجم، بل أراد أن يبيّن أن هذا التمييز بين الطبيعي والخارق قد كان له أثر كبير في ظهور العلمنة، أي فصل الدين عن مجالات الحياة الأخرى. فقد رأى أن هذه الفكرة – فكرة أن العالم الطبيعي مستقل وقابل للتفسير دون الرجوع إلى أي قوة خارقة – لم تكن ممكنة إلا بعد أن ترسّخ في الأذهان وجود خط فاصل بين ما هو طبيعي وما هو غير ذلك. ومن هنا فإن ظهور مفهوم "الخارق للطبيعة" لم يعزّز الإيمان كما يُظن، بل كان – في تناقض واضح – الخطوة الأولى في تجاوزه وإنكاره.
وقد بَنى دي لوباك فكرته على أن هذا الفصل الذي بدأه توما الأكويني، رغم أنه بدا بسيطًا في بدايته، تطوّر لاحقًا في نقاشات دينية معقدة، خاصة في القرن السادس عشر، حول ما سُمِّي بـ"الطبيعة الخالصة"، أي تصور الإنسان والعالم دون أي أثر إلهي. ورغم أن هذه النقاشات قد تبدو بعيدة عن اهتمامات القارئ اليوم، فإن الحجة التي قدّمها دي لوباك تبدو منطقية لمن يتأملها.
ولم يقتصر هذا التطور على اللاهوت – أي الفكر الديني – بل امتد إلى العلوم الطبيعية كذلك، حيث ظهرت تصورات جديدة حول معنى "الخارق"، كان لها أثر كبير في تشكيل العلم الحديث. والمفارقة أن عددًا من العلماء الذين ساهموا في وضع أسس العلم التجريبي الحديث، كانوا – على غير المتوقع – أكثر تمسكًا بالمفاهيم الخارقة من كثير من رجال الدين في العصور الوسطى.
لكي نفهم كيف نشأ العلم الحديث، علينا أن نعود إلى بداياته الأولى، إلى الفيلسوف الفرنسي ديكارت وزملائه الذين وضعوا اللبنات الأولى لهذا الفكر الجديد. فعندما نتأمل كيف فهموا القوانين الثابتة التي تنظم الطبيعة، نجد أنهم لم يفرّقوا بوضوح بين ما هو "طبيعي" وما هو "خارق للطبيعة" – أي بين ما يحدث وفق سنن الكون وبين ما نعدّه اليوم خرقًا لها. بل إن الفكرة المركزية التي اعتمد عليها العلم الحديث، وهي قوانين الطبيعة، كانت في الأصل فكرة دينية، أي أنها بدأت كتعبير عن إرادة الله، ثم جرى تحويلها إلى لغة علمية منظمة لتصبح أساسًا لفهم العالم.
كان ديكارت يرى أن حركة الأشياء في الكون تشبه سلسلة من الأفعال التي يصنعها الله باستمرار، لحظة بعد لحظة. فالله – في تصوّره – لم يخلق العالم ثم تركه، بل هو يواصل حفظه وتنظيمه بشكل دائم. ومن هذه الرؤية نشأت فكرة أن قوانين الحركة مشتقة من إرادة إلهية، وأنها تتبع نظامًا رياضيًا دقيقًا لأن الله أراد لها ذلك. ولم يكتفِ ديكارت بذلك، بل أكّد أن هذه القوانين ثابتة لا تتغير، لأنها تستند إلى إرادة إلهية لا تتبدل، أي أن الله، كما أنه لا يتغيّر، فإن القوانين التي وضعها لا تتغير أيضًا. وقد عبّر عن هذا المعنى في كتابه "تأملات في الفلسفة الأولى" (1641)، حين قال إن الطبيعة ليست سوى تجلٍّ من تجليات الله، أو النظام الذي رتّبه الله في خلقه.
وكان لهذا الفهم أثرٌ عميق في نشأة ما عُرف لاحقًا بـ"الثورة العلمية"، حيث تبنّاه عدد من كبار مفكريها. فالعالِم الإنجليزي روبرت بويل، الذي كان من أوائل من دعوا إلى استخدام التجربة والملاحظة في فهم الطبيعة، كان يؤمن بأن قوانين الكون لا تصدر من المادة نفسها، بل من إرادة الله. وكذلك نيوتن، أحد أعظم علماء الفيزياء، أكّد في مقدمة كتابه الشهير "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" (1687) أن الكون ما كان ليبدو كما هو إلا لأن الله شاءه كذلك. وبعده، شرح تلاميذه هذه الفكرة بلغة أكثر وضوحًا. فالعالِم ريتشارد بنتلي، على سبيل المثال، وصف الجاذبية – أي القوة التي تشد الأشياء إلى الأرض – بأنها إصبع الله، أو أمر مباشر من أوامره. أما صموئيل كلارك، الذي دافع عن أفكار نيوتن في مواجهة الفيلسوف لايبنتز، فقد قال إن العالم بأكمله يسير وفق إرادة الله في كل لحظة. ولهذا، لم ير كلارك أي فرق حقيقي بين ما نسميه اليوم طبيعيًا وما نسميه خارقًا، لأن كل شيء عنده يحدث بإرادة إلهية مباشرة.
هذا التصور – الذي يرى أن قوانين الطبيعة تعبير عن مشيئة إلهية – لم ينتهِ بنهاية القرن السابع عشر، بل استمر حتى القرن التاسع عشر، ووجد من يدافع عنه من كبار المفكرين. فقد كتب الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل عام 1843 أن علماء عصره رأوا في قوانين الطبيعة تجسيدًا لإرادة قوة عليا، هي القوة الحاكمة لهذا الكون. وكان من بين هؤلاء العلماء جون هيرشل، وفاراداي، وهيويل، وماكسويل، واللورد كلفن، وكاربنتر، وكلهم قالوا بوضوح إن هذه القوانين ليست مجرد صيغ رياضية، بل تعبير عن إرادات إلهية تنظم الوجود.
لكن مع الوقت، تغيّر هذا التصور. فقد جاء توماس هكسلي، أحد المدافعين عن الفهم الطبيعي الحديث، وأعاد صياغة الفكرة بشكل مختلف. فهو قبل بقوانين الطبيعة كما هي، ورأى فيها ثباتًا ودقة وقدرة تفسيرية، لكنه نزع عنها بعدها الديني. أي أنه قال إن هذه القوانين لم تعد أوامر من الله، بل أصبحت – في نظره – حقائق طبيعية أصيلة، موجودة بذاتها، لا تحتاج إلى تفسير ديني.
وهنا تظهر واحدة من أكبر المفارقات في تاريخ الفكر: أن الفكرة التي نشأت في الأساس كدليل على وجود الله وتدخله في الكون، أصبحت تُستخدم لاحقًا لإثبات أن الله غير موجود أو أنه لا يتدخل في العالم. والغريب أن العلماء الطبيعيين اليوم – أي من يؤمنون بأن الكون يُفسَّر فقط عن طريق القوانين العلمية – يتفقون مع المؤمنين من ناحية أن العالم واحد، ولا يوجد عالم آخر منفصل "فوق" هذا العالم. لكن الاختلاف بين الطرفين في تفسير هذا الاتفاق. فالعالمة كارول، على سبيل المثال، تقول: "لا يوجد إلا العالم الطبيعي الذي نرصد فيه أنماطًا منتظمة نسميها قوانين"، وتؤكد أن هذا العالم يُكتشف بالتجربة والملاحظة فقط، ولا وجود فيه لما هو "روحي" أو "خارق". وهي لا تعلم أن نيوتن نفسه، رغم إيمانه العميق، كان ليوافقها على هذا التوصيف – لا لأنه ينكر الغيب، بل لأنه لم يعترف أصلًا بوجود حدٍّ يفصل بين الطبيعي والخارق. فبالنسبة له، قوانين الطبيعة لم تكن إلا كلام الله المستمر، وكانت إرادته جزءًا من العلم لا ينفصل عنه.
لقد كان التحوّل الذي طرأ في القرن التاسع عشر على الطريقة التي يُنظَر بها إلى قوانين الطبيعة حدثًا بالغ الأهمية. فقد بدأ بعض المفكرين والعلماء آنذاك بإعادة كتابة تاريخ العلم بأسلوب يجعل القارئ يظن أن التقدُّم العلمي قد جاء فقط من خلال ملاحظة الطبيعة، دون أن يكون للإيمان أو الدين أي دور. بل جرى إخفاء الأثر العميق الذي تركته الأفكار الدينية – أو ما يُسمّى باللاهوت – في نشوء العلم وتطوره. غير أن التاريخ الحقيقي لا يُخفي هذه الحقيقة، بل يكشف زيف هذه الرواية الحديثة.
فإذا نظرنا إلى علماء مثل كبلر وبويل ونيوتن، نجد أن الذي دفعهم نحو الاكتشاف لم يكن تجاهلهم لوجود الله، بل كان إيمانهم العميق به. نعم، لقد أخفت الكتابات الحديثة الأصل الديني لفكرة "قوانين الطبيعة"، لكنها لم تتخلّ عن الأسلوب التفسيري الذي أسسه المفكرون المؤمنون؛ أي إنهم احتفظوا بالبناء العقلي ذاته، ولكنهم فصلوه عن جذوره الدينية.
ومن هنا نفهم الخطأ الثاني في سردية هكسلي ومن تبعه من دعاة ما يُعرف بـ"الطبيعانية العلمية" – أي القول بأن كل شيء يُفسَّر فقط بالظواهر الطبيعية. فقد ربط هؤلاء بين "الطبيعة" و"العلم"، ثم رسموا تاريخًا زائفًا يبدأ من اليونان القديمة، ويتجاهل فترات طويلة من التاريخ، مثل ما سُمِّي بـ"عصور الظلام"، ثم يجعل الثورة العلمية بداية جديدة للفكر.
خذ مثلًا الرواية الشائعة التي تقول إن الفلسفة والعلم وُلدا في اليونان وحدها. قبل القرن الثامن عشر، كان الاعتقاد السائد أن الفلسفة نشأت في حضارات أقدم، كـالكلدانيين – وهم سكان العراق القدماء – والفرس، والهنود، والمصريين. وكان توماس هوبز، الفيلسوف الإنجليزي المعروف في القرن السابع عشر، يقول إن الفلسفة بدأت على يد حكماء الهند، وكهنة مصر، ومفكري بلاد فارس وكلديا، لا في اليونان. لكن هذا الرأي لم يُرضِ فلاسفة التنوير – وهم مفكرون أوروبيون أرادوا ربط التقدّم بترك الدين والإيمان بالله – فقرروا إعادة كتابة التاريخ، ليجعلوا من أوروبا مركزًا للفكر، ويجعلوا الإيمان بالله وكأنه ضد التقدم.
وهكذا، قام فلاسفة مثل ديفيد هيوم بتوجيه النظر نحو اليونان، ليجعلوا منها مهدًا للفلسفة ومصدرًا للعلم، بدلًا من الاعتراف بأن الفكر الإنساني كان موزعًا في حضارات متعددة. واتبعهم مؤرخون مثل كريستوف ماينرز، وديتريش تيدمان، وفيلهلم تينيمان، وأعادوا رواية تاريخ الفلسفة بأسلوب جديد. فجعلوا من طاليس – وهو فيلسوف يوناني قديم من مدينة ملطية – ومن جاء بعده من فلاسفة ما قبل سقراط، الأبطال الأوائل للفكر العلمي، وقالوا إنهم كانوا طبيعانيين؛ أي يفسرون العالم بالعقل والملاحظة لا بالخرافات أو الأساطير.
بل ذهبوا إلى القول بأن هؤلاء المفكرين قدّموا نموذجًا ثقافيًا متطورًا، يتماشى مع فكرة أن الشعوب تتقدّم كلما تخلّت عن الدين، وهذا ما يسمّى في الفكر الحديث بـ"النظريات الأنثروبولوجية للتطور الثقافي". ولا تزال هذه الرواية، التي ترفع من شأن العقل وتُقصي كل ما هو "غيبي"، تملأ كتب الفلسفة والعلوم حتى اليوم.
لكن الحقيقة، يا صاحبي، تخالف هذا الكلام تمامًا. فإن أرسطو نفسه – وهو من أعظم الفلاسفة وأكثرهم دقة – يخبرنا أن طاليس قال: "إن كل شيء مليء بالآلهة"، وهذه عبارة تدل بوضوح على أن طاليس لم يكن طبيعيًا بالمعنى الذي يُروّج له اليوم، بل كان يؤمن بقوة إلهية تحكم العالم. ويؤكد الباحث في التراث الإغريقي ديفيد سيدلي أن اعتبار فكر هؤلاء "طبيعانيًا" فقط هو تشويه كبير لفهمهم الحقيقي.
ولم يتوقف هذا التحريف عند فلاسفة ما قبل سقراط، بل امتد إلى تصوير العلاقة بين المسيحية والعلم. فقد زعمت بعض الكتب التي كُتبت في القرن الثامن عشر – والتي أُطلق عليها "تواريخ التقدُّم" – أن المسيحية كانت سببًا في تعطيل العلم ومحاربة العقل. وقال المفكر الفرنسي ماركيز دي كوندورسيه عام 1795 إن انتصار المسيحية كان إيذانًا بانحدار الفلسفة والعلوم. وتبنّى هذا الرأي لاحقًا مفكرون كبار، مثل كارل بوبر، الذي قال إن تقليد طاليس العلمي توقف بسبب هيمنة المسيحية.
لكن الحقيقة أن المسيحيين في تلك العصور لم يرفضوا العلم لأنهم يكرهون العقل، بل لأن العلم الذي وصلهم من الإغريق كان مملوءًا بالأفكار الوثنية، مثل عبادة الكواكب، والإيمان بقوى خفية تدير الكون. وقد رآه بعض المسيحيين أقرب إلى السحر منه إلى العلم، لأنه ينسب للعناصر الطبيعية قدرة ذاتية على الفعل، بينما كانوا هم يؤمنون بإله واحد لا شريك له، خلق الكون ويُدبّره بحكمة ونظام، لا بفوضى وأوهام.
ولهذا، فإن رفضهم لبعض صور "العلم القديم" لم يكن عداءً للعلم نفسه، بل كان دعوة إلى توحيد النظر في الطبيعة، ونزع الطابع الخرافي عنها. ويمكننا القول إن التوحيد – أي الإيمان بإله واحد – كان بداية لتحول جديد نحو فهم الطبيعة بلغة خالية من السحر والأسطورة، لا العكس.
لذلك، لم يكن من الغريب أن يعتبر بعض الوثنيين – أي من يعبدون آلهة متعددة – في زمن ظهور المسيحية أن أتباع هذه الديانة الجديدة ملحدين، لا لأنهم رفضوا الإيمان بالله، بل لأنهم لم يعبدوا عددًا كافيًا من الآلهة، كما كان مألوفًا آنذاك! وقد كتب تيندال، أحد زملاء المفكر المعروف هكسلي، مدافعًا عن الفكرة الحديثة التي ترى أن العلم مبني على النظام والقانون، وليس على المصادفة أو الفوضى. وأيده الفيلسوف هيجل بسخرية لاذعة، إذ قال: "المسيحية أفرغت (فالهالا)" – وهي جنّة المحاربين في الأساطير الإسكندنافية – وقطعت الغابات المقدسة، وقضت على خرافات الشعوب". وقد أراد بهذا القول أن يشير إلى أن المسيحية نزعت الطابع الأسطوري عن العالم القديم.
لكن الأدهى في هذه الروايات التي تُسمي نفسها "تقدمية" ليس فقط ما فيها من تحيّز ضد الدين، بل ما تسلل إلى بعضها من عنصرية، سواء كانت خفية أو ظاهرة. فقد رأى ديفيد هيوم، الفيلسوف الإنجليزي الشهير، أن الإيمان بالخرافات صفة تقتصر على الشعوب التي وصفها بالمتخلفة، مثل العرب، والرهبان، وعامة الناس، وما سماهم بـ"الزنوج" – وهو تعبير مهين كان يُستخدم آنذاك – ورأى أن هؤلاء جميعًا أقل منزلة من الأوروبيين البيض، ولا يملكون القدرة على فهم المفاهيم العقلية، فضلاً عن الإسهام في إنتاجها.
أما كريستوف ماينرز، الذي كان أحد أوائل من استخدم مصطلح "القوقازي" لوصف العرق الأبيض، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ مضى على خطى هيوم من غير التفات، ووصف بعض الشعوب بأنها "قاتمة البشرة وقبيحة الخِلقة"، وقال إن ضعفهم في العقل والجسم أمر طبيعي وُلدوا به، وأنهم غير قادرين، من حيث تكوينهم الخِلقي ذاته، على الإبداع العقلي أو سلوك طريق التفكير المنهجي. وقد تحدث عن شعوب آسيا وأفريقيا وكأنهم أطفال لم يكتمل نموهم، لا يفقهون إلا الأمور السطحية، ومعرفتهم – في نظره – بدائية هزيلة لا ترقى إلى مقام العقل ولا تستحق أن تُدرج ضمن الفلسفة أو الفكر.
ومن هنا، نشأت فكرة أن الفضل في تأسيس الفلسفة العقلية – أي تلك التي تقوم على المنطق والاستدلال – يعود حصريًا إلى الشعوب الأوروبية الجميلة، لا سيما اليونانيين، والبريطانيين، والألمان. وهكذا بدا وكأن "العقل" نفسه وُلِد في أوروبا، ولم يعرف وطنًا غيرها، وأنه لا يُعطى إلا لمن أرادت أوروبا أن تمنحه إياه!
ولم تقف هذه الروايات التقدمية عند هذا الحد، بل رأت فيها تفسيرًا مقنعًا، أو هكذا خُيِّل إليها، لسبب فشل ما سمّته بالثقافات "البدائية" و"الطفولية" – وهما وصفان مهينان – في إنتاج تصور واضح لما هو الخارق للطبيعة، أي لما يتجاوز قوانين الطبيعة المحسوسة. مع أن هذه الشعوب، في واقعها، كانت تُفسّر العالم غالبًا من خلال الأساطير والروحانيات، إلا أن هذه الروايات رأت أنهم ببساطة عاجزون عن التفكير في الأمور المعنوية المجردة – أي الأمور التي لا تُرى ولا تُلمس، مثل العدل أو الروح – فكيف لهم أن يصوغوا مفهومًا عميقًا كهذا؟
وفي القرن التاسع عشر، كتب المفكر والسياسي البريطاني جون لوبوك، في أحد أشهر كتبه عن آثار الشعوب القديمة، قائلاً: "إن كثيرًا من الأجناس المتوحشة، وربما معظمها، لا تملك كلمات تعبّر عن الأفكار المجردة". وكان يرى أن هذا النقص في اللغة ليس مجرد ضعف في المفردات، بل دليل قاطع على أن هذه الشعوب لا تستطيع التفكير العميق، وكان هذا عنده مبررًا كافيًا لـ"توجيههم" وتعليمهم، أو في الحقيقة، للسيطرة عليهم واستعمارهم، كما حدث بالفعل في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
وباختصار، فإن هذه القصص التي يُروَّج لها على أنها انتصار لما يُسمى "الطبيعانية" على ماخارق للطبيعة، ليست سوى أساطير حديثة نشأت في القرن التاسع عشر، ولا تستند إلى وقائع حقيقية من التاريخ. بل إن بعضها يحمل في داخله نَفَسًا من الغرور الثقافي، أي ذلك الإحساس بأن ثقافة معينة أرقى من غيرها، وهو نفس الغرور الذي لم يكن يخجل قديمًا من الإفصاح عن عنصرية واضحة وصريحة. وحتى في زماننا هذا، وإن كان من النادر أن نجد من يعبّر عن هذا التعالي بوجه مكشوف، فإن علينا أن نكون منتبهين: فبعض الدراسات العلمية، رغم أنها تدّعي الحياد والموضوعية – أي عدم التحيز لأي رأي – لا تخلو أحيانًا من نظرة متكبرة خفية.
وإذا تأملنا جيدًا في السياق التاريخي الذي ظهرت فيه تلك الأساليب في التحليل والتصنيف – أي في تقسيم الثقافات وتفسيرها – سنجد أنها لم تكن حيادية تمامًا كما يُزعم. بل لعلنا نصل إلى قناعة بأن الحياد التام في هذا المجال أمر نادر، إن لم يكن معدومًا. إن أي مقارنة عادلة بين حضارات البشر، تُراعي خصوصية كل تصور للكون وتفهمه في إطاره الطبيعي، وتمتنع عن الحكم عليه بمقاييس الحضارة الغربية الحديثة، كفيلة بأن تكشف لنا هذا الخلل.
بل يمكن أن نخطو خطوة أبعد، فنقترح طريقة تفكير معاكسة لما اعتدنا عليه: أن نتخيل، على سبيل المثال، كيف سيكون حالنا لو أن شعوبًا أخرى تبنّت أفكارنا، ثم نظرت إلينا بنفس الطريقة التي نظرنا بها إليهم – أي من زاوية الحكم والتفوق. وهذا يعني، يا صاحبي، أننا بحاجة إلى أن نتحرر من هذا الوهم الكبير الذي يقسم العالم إلى "طبيعي" و"الخارق للطبيعي" وكأن هذا الفصل أمر حتمي. فربما حان الوقت لنُفكّر خارج هذا الإطار الضيق الذي فرضه علينا العقل الغربي المعاصر.
وإذا أنصتنا لتاريخ الفكر جيدًا، سنسمع همسًا يقول لنا حقيقة قد لا نرتاح لسماعها: إن الفكر الطبيعي الحديث، على الرغم مما فيه من دقة وتقدم، مدين للفكرة التوحيدية – أي الإيمان بإله واحد – أكثر مما يحب أن يعترف. وإذا كان أتباع هذا الفكر يفتخرون بأن معتقداتهم تنطلق من نجاحات العلم، فربما يكون من الحكمة أن يُراجعوا هذه الثقة المطمئنة. فحتى مفهوم "الخارق للطبيعي" الذي ينكرونه، لا يغيب عنهم تمامًا، بل – ويا للمفارقة – قد يكون متجذرًا في تصورهم للكون أكثر من ارتباطه بإيمان المؤمنين أنفسهم.
مترجم من Aeon بقلم بيتر هاريسون الأستاذ الفخري ومدير معهد الدراسات المتقدمة في العلوم الإنسانية بجامعة كوينزلاند
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي