علم النفس كأداة إستعمارية و أداة تحررية
كيف يمكن لعلم النفس أن يكون متواطئاً مع أفكار العنصرية ومن أداة لتصنيف البشر إلى أداة للحركات الراديكالية و التحرر مواجهة التاريخ الاستعماري.
في السنوات الأخيرة، وجد علم النفس نفسه في قلب موجة عاتية من الانتقادات، وُصِف فيها بأنه أداة تُسخَّر لترسيخ الفكر الغربي على حساب بقية الحضارات. ولا شك في أنه قد استُخدِم أحيانًا لوصم البشر وتصنيفهم بما يحدّ من عقولهم وتطلعاتهم، ويشكّل نظرتهم الدونية لأنفسهم وللآخرين وللعالم من حولهم، حتى أن هذه النظرة تمتد لتشمل الحضارات نفسها. إلا أن علم النفس لم يكن على الدوام قيدًا يحكم العقل ويحدّه، بل كان أيضًا في جوهره جزءًا من مسيرة التحرر والانعتاق من قيود الاستعمار، أداة تقاوم الظلم والقهر بما تملكه من قدرة على فك الأوهام وتبديد الغموض الذي يحيط بالعقل البشري في لحظات المحن والاعتداءات.
وعندما نطقت عرافة دلفي بحكمتها الشهيرة: "اعرف نفسك"، فإن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو: ماذا يمكن للإنسان أن يكتسب من هذه المعرفة؟ ربما كانت هذه الدعوة دعوة للتحرر من الأوهام التي تشوب النفس الإنسانية، بحيث يُدرك المرء بجلاء دوافعه، مخاوفه، وطموحاته. فبالنسبة لسقراط، كان الحوار مع الآخر هو الوسيلة المثلى لتحقيق هذه المعرفة الذاتية، أما إبكتيتوس، فقد رأى أن معرفة الإنسان لنفسه تقتضي منه أن يُدرك وجود قوى خارجة عن إرادته وسيطرته، ويقبل بها بوصفها جزءًا من الطبيعة الإنسانية. وهكذا، فإن معرفة النفس لا تنفصل أبدًا عن السياق التاريخي والاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان. وعليه، فإن علم النفس الذي لا يستعمر الذات ولا يغزوها، إنما ينشأ حين ندرك أن ذاتية الإنسان متجذرة في مسارات التاريخ وتفاوت مراتبه.
وتحت وطأة القمع الاستعماري، يتغير السؤال ليصبح: ما الذي يحدث للنفس حينما يكون السياق الذي تعيش فيه محكومًا بالاستعمار؟ في تلك اللحظة، يتحول علم النفس، ذلك الذي نُطلق عليه اليوم "اعرف نفسك" بلبوسه الحديث، إلى أداة مقاومة بيد الأفراد، تتيح لهم فرصة تشكيل هوياتهم في ظل الظروف المعيشية الضاغطة. ففي منتصف القرن العشرين، أصبح التحليل النفسي لغةً تستطيع عبرها الشعوب أن تُعيد تشكيل وصياغة وتفسير مشاهدها النفسية الداخلية. وعندما وُلِدت الأمم الجديدة من رحم التقلصات الاستعمارية في إفريقيا عقب الحرب العالمية الثانية، أفسحت النظرية الديناميكية النفسية المجال أمام تحليل الصدمات الشخصية والجماعية، وذلك عبر خطاب تحرري يشتمل على الإمكانات الكامنة في النفس الإنسانية لمواجهة آلام القهر.
وقد خلُصت لجنة هولمز للمساواة العرقية في التحليل النفسي الأمريكي، في تقريرها لهذا العام 2024، إلى أن العنصر "الاجتماعي" متغلغل بعمق في النفس البشرية، ويُعتبر "محورًا أساسيًا للتفكير والممارسة التحليلية". وهو ما يعني أن في عالم اليوم الذي تتناثر فيه الجماعات وتتشظى الشعوب، يقع على عاتق علماء النفس مهمة دراسة التبعات التي يتركها التاريخ على النفوس. وفوق ذلك، يتيح علم النفس إطارًا يمكن من خلاله للأفراد أن يعبروا عن تجاربهم الذاتية، وأن يفسروا شعورهم بالانفصال عن محيطهم.
في هذا العصر الحديث، نتحدث بلغة علم النفس عند تناولنا لمفاهيم الفاعلية والسيطرة والقوة. ويُقدِّم علم النفس بذلك نافذةً نقديةً على القوة، وهو أداة تعبير تتيح للإنسان أن يفصح عن معاناته وإحباطاته في مواجهة قوى الاقتصاد القهرية التي تفرض نفسها على حياته. وفي السنوات الأخيرة، ازداد اهتمام علماء النفس بإزالة الاستعمار عن علم النفس نفسه، وهو جهد يرمي إلى تفكيك العنف المعرفي الذي حملته النماذج الغربية للمجتمعات، والتي قامت على طمس الهوية الثقافية المحلية وتعطيل قدرة الشعوب على فهم أخلاقياتها وهوياتها الخاصة.
إن بناء مشهد داخلي للنفس، يسمح للمرء بأن يعرف ذاته حق المعرفة، هو ما أسميه "الإمكانات التحررية" لعلم النفس، إذ يمتلك القدرة على تحرير الإنسان من قيود القهر والظلم. ولقد وفَّر علم النفس — من انتشار المحللين النفسيين في بوينس آيرس إلى أعمال المفكرين البارزين في مارتينيك والهند ومصر وغانا — لغةً ثريةً تُخفف المعاناة، وتعزز الشعور بالقوة، وتُوفر أدوات للحوار العقلاني. ومعرفة النفس، في لحظة ما بعد الاستعمار التي شهدها القرن العشرون وما بعده، إنما هي سعيٌ نحو المعرفة التحررية الحقيقية، تلك التي تُمكننا من تحليل آثار القهر على سلوكياتنا وأنماط تفكيرنا بدقة، وفهمها في سياق العالم الأوسع.
لقد كان الأمريكي العظيم ويليام إدوارد بورغاردت دو بويز، ذلك العالم الاجتماعي الناشط والسياسي ذي الأصول الأفريقية، أحد تلاميذ عالم النفس ويليام جيمس في جامعة هارفارد ما بين عامي 1888 و1890. وتوطدت دعائم هذا التعاون العلمي خلال زمالة بحثية قام بها مع علماء الاجتماع في ألمانيا، مما أدى إلى تطوير مفهوم "الوعي المزدوج"، الذي صاغه دو بويز في مؤلفه الشهير أرواح الشعب الأسود (1903).
يشير مفهوم "الوعي المزدوج" إلى الانقسام النفسي الذي يواجهه الأمريكيون السود، وهو انقسام نابع من حالة سوء التعرف والاغتراب التي تفرضها عليهم العنصرية. فقد أشار دو بويز إلى أن السود يعيشون حياة مزدوجة: يفكرون ويشعرون كأي بشر، لكن أجسادهم السوداء، تلك التي وصمتها العنصرية، تحرمهم من الاعتراف الكامل بإنسانيتهم. وقد عبّر ريتشارد رايت عن هذه الحقيقة في روايته الابن الأصلي (1940)، ورالف إليسون في الرجل اللامرئي (1952)، حيث أصبح الوعي المزدوج أساسًا لما يُعرف بمتلازمة المحتال. تلك المتلازمة التي تجعل الفرد يشك في قدراته، رغم نجاحه الظاهر، تنبع من شعور مستمر بسوء التعرف على الذات نتيجة الوعي المزدوج. فالاعتداء المتكرر على كرامة الإنسان يزرع فيه شرخًا عميقًا يمس إحساسه بالفاعلية الذاتية. وهكذا، قدمت المفاهيم النفسية، مثل الوعي المزدوج ومتلازمة المحتال، إطارًا لفهم التحولات النفسية التي تنتج عن العلاقات غير المتكافئة بين الأعراق، والتي عانى منها العديد من المفكرين في الفلسفة الأفريقية.
وفي منتصف القرن العشرين، لجأ عالم النفس المارتينيكي فرانز فانون (1925-1961) إلى مفاهيم مثل الوعي المزدوج والوصم ليعبّر عن النتائج النفسية التي خلقتها المعادلة العنصرية، تلك التي تجعل من اللون الأسود تهديدًا في نظر المجتمع. لقد وقف فانون في وجه التعتيم الذي جلبه الاستعمار، محاولًا الوصول إلى وضوح الرؤية من خلال ربط التحليل النفسي بضرورات الوجود والكرامة الإنسانية.
وفي الجزائر المستعمرة من قِبل فرنسا، لاحظ فانون أن الممارسات والمعتقدات العنصرية قد فصلت بين المستعمِرين والسكان الأصليين عبر شبكات من القواعد والمحظورات والواجبات. هذه الحدود المفروضة أفضت إلى إنكار الشخصية الحقيقية للأفراد، مما أدى إلى حالة من الوصم النفسي تجلت في أعراض الاغتراب والانفصال.
استند فانون إلى مفاهيم سيغموند فرويد حول الكبت والحزن والملانخوليا، لفهم آثار التسلسل الهرمي العرقي الذي فرضه الاستعمار، كما استوحى من نظرية ألفريد أدلر حول عقدة الدونية لتحليل كيف تؤدي مشاعر الدونية لدى الشعوب المقهورة إلى اغتراب نفسي واضطهاد داخلي. كان فانون يهدف إلى كشف الصدمات النفسية التي سببتها العنصرية، بغية استبدال تلك المشاعر بالدونية بشعور بالفخر والكرامة. ومن خلال دمج التحليل النفسي مع الفهم العميق للطبيعة السامة للتنشئة الاجتماعية في المستعمرات، استطاع مفكرون أمثال فانون أن يضعوا استراتيجيات لتحليل وحل القمع الاجتماعي.
يغفل الكثيرون أن سيغموند فرويد نفسه طوّر التحليل النفسي في سياق سعيه الشخصي لفهم ذاته كيهودي مورافي، ينتمي إلى أقلية تعيش في الإمبراطورية النمساوية المجرية الكاثوليكية. إن علم النفس، بطبيعته المرنة، قادر على تحديد أسباب الأمراض النفسية سواء كانت في الفرد أو في المجتمع. وهذه المرونة هي أحد أسباب فعاليته كأداة للمقاومة والتحرر.
ابتداءً من عام 1954، دمج فانون التحليل النفسي مع السياسة في الجزائر، في إطار حركة التحرر من الاستعمار الفرنسي. ومن خلال عمله في المستشفى النفسي في بليدة-جوانفيل، طوّر تقنيات لاستعادة الشعور بالكرامة لدى المرضى، وإزالة الأشكال الخفية من الوصم النفسي، عبر إعادة تنظيم العلاقة بين الطبيب والمريض. لقد استخدم فانون علم النفس كأداة للنقد الثوري، مُتتبعًا أسباب المعاناة إلى البنى الاستعمارية ذاتها. هذا النهج، الذي أكد على أن الأمراض النفسية تنشأ من التفاعلات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات، قد شكّل سياسة عاطفية للمقاومة. فقد كان التعبير عن الألم والاغتراب والغضب وسيلةً لتحطيم علاقات السلطة القهرية التي فرضتها الظروف التاريخية. وهكذا، فإن معرفة الذات لا تنفصل عن سياقها الاجتماعي والتاريخي، بل هي معرفة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بواقع الإنسان وظروفه.
إن استخدام فانون لعلم النفس في ممارساته السياسية كان غاية في العمق، إذ استند إلى دراسة النفس البشرية ليكشف عن خفايا القوة والفاعلية الذاتية من خلال استكشاف العالم النفسي الداخلي. فقد حمل فانون عقدة الدونية خارج جدران التحليل النفسي التقليدي، ليوضح كيف يعاني العقل المستعمر من القهر المستمر الذي يعزله عن هويته الأصلية وقيمه الثقافية. لقد أوضح فانون الآثار النفسية العميقة لهذا الواقع القاسي، فربط بين أدوات قهر الذات — بما في ذلك اللاإنسانية الناتجة عن الخضوع للإرادة الاستعمارية، والفرص الاقتصادية المحدودة، والتقسيم الإقليمي — وبين النضال الثوري الجزائري في سبيل الحرية والاعتراف أثناء الحكم الفرنسي. ويشير الطب النفسي الحديث إلى أن أولئك الذين يتعرضون للتهجير والنفي نتيجة الاضطرابات المدنية، يعانون من يقظة مفرطة وقلق نتيجة فقدان منازلهم وذكرياتهم المرتبطة بها.
جزء من آلية الاستعمار هو فرض السرديات التي تُضفي الشرعية على الهياكل الهرمية التي جاءت بالقوة العسكرية والاقتصادية. ففي الهند، قاوم المحلل النفسي البنغالي جيرندرا شيخار بوس هذا العنف المعرفي من خلال خلق مزيج فريد بين الفيدانتا الأدفايتية والتحليل النفسي. وكانت قيادته لأول قسم علم نفس في جامعة كلكتا ورئاسته للجمعية الهندية للتحليل النفسي دليلاً على حجم إنجازه. ولقد بيّن البروفيسور ألفريد هيلتبيل من جامعة جورج واشنطن أن إدخال بوس لنظريات الديناميات النفسية في النصوص الفيدية القديمة مثل الأوبنشاد، خلق نماذج جديدة للتفكير في الأخلاق والنظام. كان إنجازه الأبرز هو الحفاظ على المفاهيم الثقافية المحلية للذات والعقل والخلاص، وفي الوقت نفسه دمج التحليل النفسي الحديث.
وفي المقارنة مع إلحاد فرويد، اعتنق بوس الفيدانتا ورأى في الدين علاجًا ضروريًا لشفاء النفس. فقد كانت العقائد الفيدية والطقوس الروحية مصدرًا للإلهام في استخدامه لعلم النفس كأداة تحريرية، حيث وجد توافقًا بين التحليل النفسي والفلسفة الهندوسية. ومن خلال دمج الديناميات النفسية في الميتافيزيقيا الفيدية، استطاع بوس أن يعارض السرديات الاستعمارية التي اعتبرت الفلسفات الهندية متخلفة وقديمة. لقد أظهر أن التحليل النفسي يمكن أن يجد جذوره في الأنظمة العلاجية الأقدم للفيدانتا والممارسات اليوغية. وبفضل هذا الانسجام الذي أبداه بين الميتافيزيقا الغربية والمفاهيم الهندوسية عن الكارما والرغبة، قدم بوس نموذجًا ملهمًا لكيفية استخدام علم النفس كأداة لتركيب الذات ما بعد الاستعمارية.
لقد وقف كل من بوس وفانون في مواجهة الروايات العنصرية التي قدمها مستعمروهم البريطانيون والفرنسيون، واستخدموا علم النفس لتحرير مجتمعاتهم من تلك التصورات العنصرية التي تسعى إلى تقزيم قيمة الإنسان.
تقدم مصر مثالًا آخر على هذا النموذج النفسي التحرري في التاريخ الحديث. ففي منتصف القرن العشرين، برزت القاهرة كموطن لعلم النفس الشعبي والأكاديمي الذي اتخذ موضعًا وسيطًا بين الطب والقانون. وقد نجح في تطبيق هذا العلم في مؤسسات الدولة الناصرية الحديثة. فعندما حضر الضباط الأحرار، الذين ساندوا جمال عبد الناصر، محاضرات في التحليل النفسي، سعوا إلى دمج هذه المعرفة في خططهم التنظيمية للدولة الحديثة.
وفي الوقت ذاته، قام مثقفو القاهرة بتطوير توليفة جريئة من الفرويدية والإسلام الصوفي لمواجهة الأصولية الدينية والتبعية الغربية في آن واحد. ومن هؤلاء المفكرين، كان يوسف مراد، الذي رأى في قيم التنوير الأوروبية ما هو إنساني، لكنه رفض بشدة الاستعمار الأوروبي وأفكاره. لقد أسس مراد مفاهيم تعزز الروح الجماعية للمجتمع المصري، مؤكدًا على دور الأسرة والمجتمع والدولة في تشكيل الذات.
كان علم النفس بالنسبة لمراد وسيلة لردم الفجوة بين القديم والجديد، واستخدام التحليل النفسي بجانب الموارد المحلية في الإسلام الصوفي جعله أداة فعالة لتحليل الذات. ففي كتابه سيكولوجية الجنس، استخدم التحليل النفسي لتحليل التطور النفسي الجنسي بلغة علمية تتجاوز التابوهات الأخلاقية، كما قام بتحويل مفاهيم الغريزة كما طرحها الغزالي إلى سياق دارويني حديث. إلا أن هذه المساحة من الذاتية الليبرالية كانت دائمًا تحت رقابة النخب الدينية التي كانت تسعى إلى الحفاظ على سلطتها.
في كتابها "فرويد العربي" (2017)، تذهب المؤرخة أمنية الشاكري إلى الكشف عن كيف استخدم مثقفو القاهرة، أمثال يوسف مراد، علم النفس كأداة تحررية منهجية، مزجت بين الاستبطان والوضعية والظاهراتية، مستندين إلى تعاليم الإسلام. لقد تمكن هؤلاء المثقفون من دمج التحليل النفسي مع مفهوم الحدس، الذي طوره الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، مع التقاليد الإسلامية الروحية، مما حقق استمرارية فكرية عميقة بين المعرفة القديمة والحديثة. وفي هذا السياق، جاءت الاستعانة بمفاهيم صوفية قديمة، من بينها أفكار ابن عربي (1165-1240)، والتي وظفها مفكرون مثل أبو الوفا الغنيمي التفتازاني (1930-94) لدمج مفهوم اللاوعي كجزء منعزل من العقل مع الباطن الصوفي، هذا الباطن الذي يحمل أبعادًا روحية تتجاوز المفهوم المادي للعقل. وبهذا التحليل العميق، نجد أن البرنامج الأخلاقي للإسلام، الذي يعنى بتزكية النفس ومجاهدة الغرائز، قد التحم مع النظريات النفسية الحديثة المتعلقة بالصحة العقلية، ليمنح الفرد وسيلة متقدمة لفهم دوافعه الخاصة والتعامل مع قضايا الأخلاق الفردية.
إن هذا النمط من التأطير الديناميكي النفسي لم يكن مجرد تجربة نظرية، بل شكل أداة خطابية لتحليل الذات، تمكّن الأفراد من خلالها من فهم مكنونات دوافعهم الداخلية، وتشكيل آليات جديدة للتعاطي مع المسائل الأخلاقية. ولم يكن هذا مقتصرًا على مصر وحدها، بل نجد مثاله واضحًا في الهند أيضًا، حيث أتاح علم النفس لغة مرنة تمكن المثقفين من التوفيق بين الممارسات المعرفية المحلية والمستوردة، وبالتالي القدرة على مواجهة التحديات التي فرضها واقع ما بعد الاستعمار.
وفي هذا السياق الفكري، نجد أن عالمة الأنثروبولوجيا إم. جي. فيلد سارت على ذات النهج، مستخدمة الطب النفسي العرقي لتحليل الثقافة المحلية في غانا في منتصف القرن العشرين. وفي دراستها، لم تكتفِ فيلد بربط المعتقدات المحلية بالسحر والدين الروحاني فحسب، بل وضعت هذه المعتقدات على قدم المساواة مع المفاهيم النفسية الغربية، ما يُظهر قدرة علم النفس على التوسط بين أنظمة معتقدية متباينة دون أن ينتقص من قيمة الممارسات المعرفية المحلية. فإذا كان المشروع الاستعماري قد سعى إلى محو الثقافات الأصلية واستبدالها، فإن علم النفس، عندما يُستخدم بحكمة، يمكن أن يعيد للإنسان كرامته وثقافته من خلال تسليط الضوء على قواسم مشتركة في التجربة الإنسانية العامة.
وقد شمل الشكل الفريد للاستعمار في غرب إفريقيا، والذي تناولته فيلد بالتحليل، جوانب من المعتقدات الميثودية والمشيخية والهوية القبلية والممارسات التقليدية. فالدين الشعبي السائد في غانا، وهو الأكان، يتمركز حول إله أعلى، رغم تنوع فروعه وتشعب جماعاته الفرعية مثل الفانتي والأشانتي والأكواپيم. وقد شكلت هذه الجماعات أساس الهويات الجماعية التي استمرت عبر الأجيال بفضل روابط الزواج والتجمعات الاقتصادية والتسلسلات الهرمية الاجتماعية. ومنذ الموجات الأولى للمستعمرين الأوروبيين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، امتزج دين الأكان بالمسيحية، لكنه ظل محتفظًا بخصوصيته في بعض المجتمعات الغانية.
وفي كتابها الكلاسيكي "البحث عن الأمن" (1960)، تعرض فيلد كيف تم تكييف علم النفس التقليدي، المستند إلى التقاليد اليهودية المسيحية، مع علم الكونيات الأكاني. وكما هو الحال في العديد من الروايات الكتابية، نجد أن سكان الريف في غانا يؤمنون بظواهر الاستحواذ الروحي، حيث يقوم الشخص المستحوذ عليه بتلقي الوحي وتوجيه النبوءات. وفي هذا السياق، يتم تنفيذ الطقوس السحرية والطبّية من خلال وساطة "السومان"، وهي تعويذات أو تمائم يستخدمها الأكان. ومن هنا، تشكل هذه الطقوس النفسية قناة لتجسيد الأفراد لشعورهم بالذنب، بحيث ينغمس المكتئب في توبيخ ذاتي قد لا يكون منطقيًا ولكنه يمثل حالة نفسية عميقة. كتبت فيلد عن هذه الممارسات قائلة:
إن ممارسة الشعوذة تلبي حاجة المكتئب إلى الانغماس في توبيخ ذاتي غير عقلاني واتهام نفسه بشرور خفية.
وفي سردها لنظام الاعتقاد الذي يعتمد على مفاهيم مثل "الكرا" (الروح) و"السنسوم" (العقل أو الروح)، نرى كيف يمكن لهذه المفاهيم أن تفسر الاضطرابات النفسية وتشكّل إطارًا نفسيًا خاصًا يعالج المشاهد الداخلية للفرد. ومن خلال هذه اللغة الروحية، يجد الأفراد وسيلة للتواصل مع المجتمع من حولهم.
تتجلى في ممارسات الشعوذة أهداف مماثلة لما يسعى إليه علم النفس، إذ تهدف إلى التخفيف من المعاناة وإدارة الصدمات والوصم التي يعاني منها الفرد في سياقه المحلي. ومع ذلك، فإن عالمية المشاريع الاستعمارية تغفل الحقيقة التاريخية والتجريبية التي تفيد بأن التقاليد المحلية تخلق عوالم مميزة خاصة بها. يمكن تصوير السحر و ممارسات الشعوذة في تقاليد الأكان كوسيلة للتطهير النفسي، لكنه يحمل استخدامات أخرى للهوية والتأقلم العاطفي والممارسات الميتافيزيقية التي تنطوي على حالات ذهنية صوفية ضمن أنظمة كونية متميزة. إن الصياغة التاريخية للهوية في سياق المفاهيم الميتافيزيقية مثل تعقيدات ممارسات الأكان والمسيحية والصوفية، تشكل طريقة حياة الفرد بشكل لا يمكن فصله عن الثقافات الحية المعقدة في العصر الحالي.
هذا يقودنا إلى الدافع وراء علم النفس غير الإستعماري: فحيث إن العلوم الإنسانية تعتبر فرضًا استعماريًا لأنها أنشئت بواسطة المجتمع الفكري الغربي، ولكن علم النفس مرن ويمكن تكييفه لتحقيق عكس ذلك تمامًا. فعلم النفس قد يُستخدم لاستعمار طريقة تفكيرنا في عقولنا وأجسادنا، ولكنه يمكن أن يكون أيضًا لغة للتحرر من تلك الفرضيات الاستعمارية.
ومن خلال معالجة الطبيعة الاستعمارية للعلوم الإنسانية، قام علماء النفس بول بارين وغولدي بارين-ماثي وفريتز مورغنثالير بدمج الطرق الإثنوغرافية والتحليل النفسي لاستكشاف العلاقات بين الذات والمجتمع عبر الثقافات. حيث أدت مقابلاتهم واستشاراتهم المكثفة في مالي في الخمسينيات إلى ظهور "التحليل النفسي العرقي"، وهو طريقة جديدة لتقييم كيف تشكل الممارسات الاجتماعية، وخاصة فيما يتعلق بالأخلاق الجنسية والقلق الناتج عنها، هوية الأنا. فعلى سبيل المثال، نظّروا كيف أن ما يسمى "الانحرافات الجنسية" للمراهقين المتعددين كانت حلولًا إبداعية لصعوبات نفسية تنشأ في التطور المبكر. قاد هذا العمل مورغنثالير إلى التفكير في كيف أن الطبيعة المتبادلة للعقل تتطلب معرفة متبادلة، أو تكاملية، لتوليد الشفاء العاطفي. وهذا يشير إلى نموذج للشفاء من خلال لغة مشتركة متطورة لفهم وتحليل والتواصل حول ثقافتنا المشتركة وحياتنا الداخلية.
يوفر علم النفس مرآة ذاتية للتفاعل الاجتماعي عبر الثقافات وأنظمة القيم. تتيح هذه التداخلات الذاتية تطوير الأخلاق والفهم. وفي تطبيقها، وتخلق هذه المرايا مساحة للنظر في عدم قابلية التجربة الإنسانية للاختزال.
وكمجموعة من الممارسات العلاجية، يمكن لعلم النفس إعادة هيكلة الذاتية في سياق سياسي لأن ممارساته تربط الأفراد من خلال القيم المشتركة. لاحظنا هذا في أعمال فرانز فانون، جيريندراشيخار بوز، إم. جي. فيلد ويوسف مراد. بالنسبة لهم، يشكل علم النفس إمكانيات الفاعلية للموضوع السياسي؛ هذا هو الينبوع الذي ينبع منه الحركة الحالية لتحرير علم النفس من استخدامه كأداة إستعمارية.
خلال اضطرابات القرن العشرين، تشتت الأفراد عبر العالم. وباستخدام الرموز والأساليب المشتركة، اُستخدم علم النفس لمعالجة معاناة الأشخاص المشتتين. وفي هذا الصدد، ساعد في تلبية الحاجة البشرية للمعنى والغرض من خلال تقديم تقنيات لتعزيز الفعل والسيطرة. ففي الواقع، تعني القدرة البشرية الفريدة على التفكير أن المعرفة هي شكل من أشكال القوة. ما يقدمه علم النفس هو اللغة لممارسة تلك القوة ومن ثم تحرير المضطهدين من خلال كشف السياق الذي يوجدون فيه.
مترجم من Aeon بقلم Rami Gabriel أستاذ مشارك في علم النفس في كلية كولومبيا في شيكاغو.
المزيد من هذا العنوان والمحتوى لانه مفقود بالعربية