كيف يعيد جهاز إيكمو تعريف الموت ؟
يمكن للتكنولوجيا الطبية أن تبقي الناس على قيد الحياة عندما يوشك موتهم. إلى أين ستقودنا؟
في شهر نوفمبر من سنة 2022، ظهرت فتاة في الثالثة والعشرين من عمرها، تُدعى شانيا آرمز، على منصة "تيك توك"، في مقطع مصوّر. لعلّ من يراها يظنها تستعرض زينة الجسد، أو تحتفل بيوم ميلادها، أو تروّج لموضة حديثة. فهي مستلقية تحت أشجار النخيل، في زيّ شبابيّ بسيط: شورت من الجينز، وكعب أسود، وتاج من زهور بيضاء يحيط برأسها كإكليل. وخلفها مبنى ضخم ذو نوافذ طويلة ومستديرة، قد يخاله الناظر فندقًا فخمًا أو منتجعًا سياحيًا.
لكن العين، إذا دقّقت، رأت ما يغيّر الفهم ويبدّد الوهم. إلى جانبها، في كل لقطة، عربة معدنية كبيرة، مكتظة بالمعدّات الطبية. يمتد منها أنبوبان بلاستيكيان سميكان: أحدهما أحمر كرزي، والآخر بلون البرقوق الداكن، يدخلان جسدها من أسفل الترقوة. فهذه الفتاة، على الرغم من زينتها وابتسامتها، مصابة بالتليّف الكيسي، وهو مرض لا يرحم، يهدم الرئتين هدمًا بطيئًا حتى يعجزان عن أداء وظيفتهما. ولولا هذا الجهاز الضخم إلى جوارها، لما بقيت على قيد الحياة.
هذا الجهاز، الذي يسمّونه ECMO، هو اختصار لعبارة "الأكسجة الغشائية خارج الجسم". وهو – كما يُفهم من اسمه – آلة تسحب الدم من الجسد، تنقّيه من ثاني أكسيد الكربون، وتزوده بالأكسجين، ثم تعيده إليه من جديد. وهو قادر، في حالات بعينها، أن يؤدي وظيفة القلب والرئتين كاملة، خارج الجسد البشري.
عندما صنعت آرمز هذا الفيديو، كانت قد أمضت سبعةً وأربعين يومًا متصلة على هذا الجهاز، حبيسة وحدة العناية المركزة في مستشفى بأورلاندو – ذلك هو المبنى الذي ظهر في الخلفية. كانت تنتظر، في صبر ثقيل، أن تحصل على رئة جديدة تُزرع في جسدها. لم يكن لها أن تغادر المستشفى، لأن الخروج من دائرة هذا الجهاز يعني الموت المحقق. ومع كل يوم يمرّ، كانت تبقى معلّقة بين الحياة والموت، لا هي بالحية الكاملة، ولا هي بالميّتة.
وإن تعجب، فعجب أن هذا الجهاز الذي يُعدّ في نظر كثيرين معجزة طبّية، ليس حديث العهد تمامًا. فقد وُجدت فكرته، بل بعض أجهزته، منذ أكثر من نصف قرن. ولكنه ظلّ، حتى زمن قريب، يُعدّ من العلاجات التجريبية، التي لا تُستخدم إلا في أشدّ الحالات. ثم جاء وباء كوفيد-19، فزاد اللجوء إليه، خصوصًا مع المرضى الذين دُمّرت رئاتهم تمامًا. وانتشرت القصص، بعضها أقرب إلى الأعاجيب، عن أناس عادوا إلى الحياة بعد 149 يومًا على ECMO. وصار أهل المرضى يطوفون على المستشفيات، يسألون عنها ويطلبونها كما يُطلب الأمل المعلّق.
لكن بعض الأطباء، وفي مقدمتهم الدكتورة جيسيكا زيتير، يرون أن في ECMO خطرًا آخر، خطرًا أخلاقيًا لا يقلّ شأنًا عن مخاطره الطبية. تقول زيتير، وهي متخصّصة في الرعاية الحرجة والتلطيفية، إن الواقع المؤلم هو أن بعض المرضى يوضعون على هذا الجهاز، ولا يتحسّنون. قد يتوقّف قلب المريض، لكن الجهاز يُبقيه حيًا، مستيقظًا، قادرًا على الكلام والحركة، والقراءة حتى. لكنه يظل رهين العناية المركزة، لا يغادرها، ولا يرجى له شفاء. "إنه فخ"، تقول. فالجهاز، على ما فيه من إنقاذ، يعقّد القرارات، ويجعل من الموت – حين يصبح وشيكًا – أمرًا عسيرًا، لا يُترك فيه للمريض ولا لأهله القرار. متى يجب أن يُستخدم؟ ومتى يجب حجبه؟ ومن الذي يُفوّض لاتخاذ القرار؟
وليس هذا النقاش جديدًا، بل إن فكرته تعود إلى سنة 1931، حين كان في بوسطن طبيب شاب يُدعى جون جيبون، يعمل تحت يد جرّاح. وذات ليلة، تولّى رعاية امرأة أصيبت بانسداد رئوي، فلم يعد دمها يتلقى الأكسجين، وعجز الطب يومها عن إنقاذها. فظل جيبون بجوارها، يراقب تدهورها، حتى أسلمت الروح. لكن فكرةً ما كانت قد انقدحت في ذهنه تلك الليلة. قال لنفسه – كما كتب لاحقًا –: "لو أننا استطعنا أن نسحب هذا الدم الأزرق، نمدّه بالأكسجين، ثم نعيده إلى الشرايين، لربما أنقذنا حياتها، ولربما أدّينا بعض ما يؤديه القلب والرئتان خارج الجسد."
وهكذا بدأ جيبون رحلته. وبحلول عام 1934، اخترع آلة تستطيع أن تُبقي دم قطة في دورانٍ صناعيّ لمدة ثلاثين دقيقة. ثم جاء عام 1952، فجرّب الجهاز أخيرًا على إنسان: فتاة جامعية، كانت تعاني من عيبٍ في القلب. واستخدم الجهاز ليستبدل قلبها ورئتيها مؤقتًا أثناء الجراحة، فنجت، وسجّل الطب بداية عهد جديد: عهد جراحات القلب المفتوح.
ثم لم يلبث جهاز تحويل مجرى الدم، الذي ابتكره جيبون، أن صار جزءًا لا غنى عنه في جراحة القلب والصدر. بيد أن لهذا الاختراع حدودًا، إذ كانت طريقته تقوم على خلط مباشر بين الدم والأكسجين، وهي عملية لا يخلو أثرها من خطر، إذ تجعل الدم سامًّا بعد نحو ساعة من الزمن. ذلك أن جهاز جيبون كان يضخ في الدم كمية زائدة من الأكسجين الحر، بما لا تحتمله أجسام البشر.
وفي عام 1965، وقف طبيب شاب يُدعى روبرت بارتليت، وكان من أهل الجراحة في بوسطن، يتأمل هذا النقص ويبحث عن سبيل لتلافيه. فبنى ما سمّاه "المؤكسج الغشائي"، من السيليكون، وأحسن صنعه، إذ جعل الأكسجين ينساب إلى الدم رويدًا رويدًا عبر غشاء شبه نافذ، يحاكي في عمله رقة جدران الحويصلات الهوائية في الرئتين. وكان في هذا من الفضل ما أتاح للهيموغلوبين أن يمتص الأكسجين في وقته. وفي بضع سنوات، غدت أجهزته قادرة على إبقاء الحيوانات حيّةً أربعة أيام كاملة عبر "الدوران خارج الجسم".
ثم جاء عام 1971، فكان زملاء بارتليت على موعد مع التاريخ: دعموا بهذا الجهاز حياة رجل يعاني من فشل تنفسي. ومكث الرجل على الجهاز ستًا وثلاثين ساعة، ثم أفاق، وكان بذلك أول إنسان ينجو من براثن الموت بفضل ECMO.
وبعدها بأربع سنوات، أي في 1975، استخدم بارتليت ورفاقه الجهاز ذاته لإنقاذ حياة وليدٍ حديث العهد بالحياة، قد أصابه الفشل التنفسي بعد خروجه إلى الدنيا. ومرت الأعوام، وإذا بالجهاز ينقذ مئات الأطفال، وكانت نسبة من نجا منهم تبلغ ثمانين بالمئة. فصار ECMO جزءًا لا يُفارق كبرى مستشفيات الأطفال. غير أن تجربةً أجريت على مرضى بالغين عام 1979 جاءت مخيبةً للآمال، إذ بلغت نسبة الوفاة تسعين بالمئة، ذلك أن أمراض الكبار معقدة، وأجسامهم أنهكها الداء وتعددت عِللهم، فعُدّ ECMO علاجًا عسير التطبيق على أجسامهم، وأُهمل استخدامه.
حتى إذا جاءت إنفلونزا H1N1 عام 2008، انبعث الأمل من جديد. فقد أبلغ الأطباء الأستراليون عن وباء يستشري في أرضهم، وكان الشيء الوحيد الذي يُحسن النتائج هو ECMO. تطورت التقنية، واشتد عود الأطباء فيها، وصاروا يستخدمونه ليكفلوا للجسم راحةً في صراعه مع العدوى. وبيّنت تجربة أُجريت عام 2009 أن الجهاز يصلح كذلك لمعالجة الفشل التنفسي من أسباب غير الفيروس. وزاد عدد المستشفيات التي تقدمه ثلاثة أضعاف خلال عقد واحد. ثم ضربت جائحة كورونا، فازداد حضوره.
وفي يوم من أيام نوفمبر من عام 2020، شعر هنري جارزا، الرجل الذي بلغ الرابعة والخمسين، بصداع شديد. وكان يعيش في إلينوي مع زوجته ميشيل وأبنائه الأربعة. أظهر الفحص أنه مصاب بكوفيد، واشتدت عليه أنفاسه. قال لزوجته: "من يدخل المستشفى لا يخرج"، لكنه ذهب. وبعد شهر، بقي هناك، ولم تتحسن حاله. خشي من أن يُنقَل إلى جهاز التنفس الصناعي، فقد سمع أن من يُنقَل إليه لا يعيش طويلًا. فأخبرته ممرضة عن جهاز ECMO، الذي يتيح للرئتين أن تستريحا من عناء التنفس ريثما تشفى من العدوى.
تذكرت زوجته قولهم إن ECMO قد يكون "جسرًا للشفاء، أو جسرًا لزرع الأعضاء"، فقالت في نفسها: "ما دام جسرًا، فلنعبره".
غير أن جهاز التنفس الصناعي، ككثير من الأدوات الطبية، قد يضر كما ينفع. فهو يسيطر على التنفس، لكن حين يُجبر الهواء على الدخول إلى رئتين عليلتين، قد يزيدهما ضررًا على ضرر. وفي مطلع الوباء، كانت نسبة من يموتون من مرضى كوفيد على أجهزة التنفس تبلغ ستين بالمئة.
لكن أطباء جامعة نيويورك جربوا أن يعالجوا ثلاثين مريضًا بكوفيد باستخدام ECMO، فنجا تسعون بالمئة. وفي نهاية العام نفسه، نشرت مجلة ذا لانسيت دراسة عن ألف مريض بكوفيد عولجوا بهذا الجهاز، وكان معدل البقاء على قيد الحياة ستين بالمئة. ثم جاءت دراسة في جامعة فاندربيلت عام 2022، تابعت مجموعة مرضى كوفيد على أجهزة التنفس الصناعي، وكان بعض الأطباء يقترحون نقلهم إلى ECMO. وافقوا على خمسة وثلاثين مريضًا، فنجا منهم عشرون، ولم ينج من سواهم إلا واحد من كل عشرة.
أما في تكساس، فقد أخذ طبيب العناية المركزة جيفري ديلافولب يتأمل في الأمر، وسأل نفسه: ماذا لو تجاوزنا جهاز التنفس كليًّا؟ فممّن عالجهم من مرضى كوفيد على ECMO، وكانوا اثنين وخمسين، وُضِع اثنا عشر على الجهاز دون أن يُنقلوا أولًا إلى جهاز التنفس. ووجد أن نسبة النجاة بينهم بلغت خمسة وسبعين بالمئة، بينما كانت لدى من سبقهم جهاز التنفس خمسين فقط.
وتوقع ديلافولب أن أحد أسباب هذه النتيجة هو أن مرضى ECMO وحده يمكنهم أن يبقوا مستيقظين. فالجهاز لا يحتاج إلى تخدير كما في أجهزة التنفس، ويمكن للمرضى أن ينهضوا من أسرتهم ليعملوا مع أخصائيي العلاج الطبيعي. وقال لي: "عندما أقرأ أوراق الشاي، أرى أن هذا سيكون جزءًا كبيرًا من وحدات العناية المركزة". بل قد يأتي يوم تصبح فيه هذه الوحدات ممتلئة بمرضى يتنقلون ويحدثون من حولهم، لا صامتة خالية كما نراها اليوم.
أما جارزا، فقد بقي على ECMO مئة وتسعة عشر يومًا. صار يعرف الجهاز كما يعرف جسده، حتى إنه كان يشعر متى يحتاج المؤكسج إلى التبديل. وراودته الهلاوس، فرأى نفسه وقد وقع في شبكة عنكبوت، أو أنه مسجون. قال: "كان شعورًا بالحَبس لا يفارقني". ولم تُشفَ رئتاه، لكن الجهاز أتاح له أن ينتظر في قائمة زراعة الأعضاء. سأل ممرضاته: "هل يمكنني أن أذهب إلى البيت وأنتظر هناك؟"، فكان الجواب حاسمًا: "إن أزلنا الأجهزة عنك، متَّ. ولا يمكنك أخذها معك".
وأخيرًا، في أبريل 2021، زُرعت له رئتان جديدتان.
كان الدكتور جون مارينارو، طبيب الطوارئ والعناية المركزة في جامعة نيو مكسيكو، ممن أرادوا أن يدفعوا باستخدام جهاز الإيكمو (ECMO) إلى آفاق أبعد وأبعد. فكل عام، يُصاب ما يقرب من أربعمئة ألف أمريكي بتوقف القلب خارج المستشفيات، وعلى الرغم من توفر الإنعاش القلبي والرئوي، ومزيلات الرجفان، والعقاقير القوية، فإن من ينجو من هؤلاء لا يتجاوز الواحد من كل عشرة. وهنا، كما قال لي مارينارو، يأتي دور الإيكمو.
في غرفة صغيرة، إلى جوار وحدة العناية المركزة للأطفال، ضمت مضخات الإيكمو وأجهزة التوصيل، أراني مارينارو كيف يُدخل قنية الإيكمو في جسم المريض، مستعينًا بنموذج من أنابيب PVC البيضاء. وعلى خزانة خلفه، علقت بطاقات شكر مرسومة بخط أطفال الصف الأول، كانوا يعبّرون بها عن امتنانهم لإنقاذ معلمتهم بالإيكمو. قال لي: "إذا وُجد ما هو أفضل من الإنعاش القلبي الرئوي، فإننا سننقذ مزيدًا من الأرواح".
وفي فرنسا، كان رجال الإنقاذ قد سبقوا إلى استخدام الإيكمو منذ عام 2011، إذ صاروا يضعون مرضى النوبات القلبية على الأجهزة في أي مكان، حتى في مترو الأنفاق أو داخل متحف اللوفر. أما في مدينة مينيابوليس، فقد بدأ الدكتور ديمتريس يانوبولوس، طبيب القلب بجامعة مينيسوتا، برنامجًا شبيهًا عام 2014. وكان مما وجده مفاجئًا له، إذ قال لي: "استطعنا إنقاذ ما يقرب من نصف المرضى، ولم أكن أتوقع أن تكون نسب النجاة بهذا المستوى". وفي دراسة عشوائية، تبين أن 43٪ من مرضى توقف القلب الذين عولجوا بالإيكمو والإنعاش القلبي الرئوي قد نجوا، بينما لم ينجُ سوى 6٪ ممن تلقوا الإنعاش القلبي وحده.
وقد بدأ مارينارو اهتمامه بالإيكمو لإنقاذ مرضى الانسداد الرئوي، ذلك الداء الذي ألهم الطبيب جون جيبون منذ عام 1931. ففي سنة 2016، توفي أربعة من مرضى مارينارو بسبب هذا المرض في مستشفاه. وفي العام الذي تلاه، أطلق وفريقه برنامجًا جديدًا للعلاج باستخدام الإيكمو. ومنذ ذلك الحين، لم تُسجَّل وفاة واحدة فيمن عُولجوا فورًا. وسرعان ما توسع في استخدام هذا الجهاز لعلاج توقف القلب، إذ بإمكانه أن يحل مؤقتًا محل القلب حتى يعود إلى وظيفته.
كان معظم مرضاه قد خضعوا لما يقرب من خمسين دقيقة من الإنعاش القلبي الرئوي قبل وصلهم بالإيكمو. وقال لي: "أنت، كطبيب طوارئ، تدرك ماذا تعني خمسون دقيقة من الإنعاش دون تحسن... في نيو مكسيكو، وبعد ساعة من هذا الجهد، أُعلن الوفاة غالبًا". لكنه أضاف: "رغم ذلك، نحو ثلاثين في المئة من هؤلاء المرضى ينجون".
وأضاف متحمسًا: "لو ضاعف دواء للسرطان معدل النجاة ثلاث مرات، لما صدقه الناس! أما نحن، فقد ضاعفنا النجاة ثلاث مرات لتوقف القلب خارج المستشفى. وهذا أمر غير مسبوق في الطب!".
وروى لي قصة مريض أُجري له الإنعاش القلبي مدة ثلاث ساعات، نُقل خلالها إلى مستشفيين مختلفين، حتى أدخله فريق مارينارو إلى جهاز الإيكمو. وقد خرج الرجل من المستشفى على قدميه. وحدّثني عن فتاة تدعى صوفيا، عمرها ستة عشر عامًا، أُصيبت بتوقف القلب في حمام ستاربكس. استمر الإنعاش القلبي لها ساعة وتسع دقائق، وكانوا على وشك أن يتوقفوا. جلست والدتها، الدكتورة أنجلينا فيلاس آدامز، مع زوجها في غرفة الطوارئ، وقد زارهم قسيس للمواساة.
وكانت بروتوكولات مارينارو تمنع استخدام الإيكمو بعد أكثر من ساعة من الإنعاش، لأن فرص الشفاء العصبي حينها تكاد تنعدم. لكن أحد المسعفين قال إنه رأى صوفيا تتحرك. كانت تلك الحركة علامة على وجود ما يسمى بـ"الوعي الناجم عن الإنعاش القلبي"؛ فقد كانت ضغطات الصدر تحرك ما يكفي من الدم لتجعل ذراعها تستجيب. فتراجع مارينارو عن البروتوكول، ووضع صوفيا على الجهاز. وبعدها، في وحدة العناية المركزة، همس أحدهم في أذنها قائلاً: "اضغطي على يدي"، فاستجابت.
قال والدها، بادي، وهو يتساءل: "هل ستستفيق؟".
أما مارينارو، فقال إن مضخة الإيكمو تشبه في نظره آلة عصير ذات سائل أحمر. وبعد يومين، تعافى قلب صوفيا، وتم فصلها عن الجهاز. وعندما استعادت وعيها، قالت: "أصابع قدمي مضغوطة". فقد كانت الأحذية الهوائية التي تُستخدم لمنع تجلط الدم تضغط على قدميها.
وقالت صوفيا، حين قابلتها بعد شهور في ألبوكيركي: "الإيكمو أنقذ حياتي... لقد عشت حين كان ينبغي أن أموت".
قال مارينارو: "يجب أن نستخدم هذا كثيرًا!"، فهو يعتقد أن الإيكمو يجب أن يكون في كل مكان. وسألني: "كيف نجعل الإيكمو متاحًا بحيث يمكن لإنسان أن يموت في أي مكان، في أي وقت، ويكون هناك مَن يستطيع إنقاذه؟"
وفي مؤخرة سيارة إسعاف، أراني جهاز إيكمو بدائيًّا، كان هو وطبيب آخر يُدعى دارين براود قد ابتكراه للحالات الطارئة في الميدان. أطلقا عليه "كرانك-مو"، أي الإيكمو اليدوي. وبينما كنت أُدير الذراع في السيارة، أصدر الجهاز صوتًا كصوت سيارة Hot Wheels، وكان تصميمه بسيطًا بشكل مدهش.
وحين خرجنا من سيارة الإسعاف، قال مارينارو: "ربما نرسل بضع نسخ من هذا الجهاز إلى المستشفى الريفي حيث تعمل أنت". وعندها، خطر لي كل أولئك المرضى الذين ربما أنقذناهم لو سبقنا إلى هذا الجهاز.
قبل نحو عشر سنين، دخل فتى في مقتبل العمر، يائس الرجاء، إلى مستشفى في نيو إنجلاند. كان مثل شانيا آرمز، مصابًا بالتليف الكيسي. زرع رئة في وقت سابق، غير أن الزرع بدأ يخونه، وأمله الأخير كان في زرعٍ ثانٍ. رُبط بجهاز ECMO، ذلك الجهاز العجيب الذي يمدّ القلب والرئتين بالحياة، بينما انتظر المجهول.
مضى شهران، ثم جاءت الفاجعة الثانية: اكتشف الأطباء أن السرطان قد غزا جسده، وأنه غير قابل للشفاء. عندها، سُدّت كل الطرق أمامه. رئتاه لا يُرتجى شفاؤهما، والسرطان جعله غير مؤهل لزرعٍ جديد. فبقي معلقًا بين السماء والأرض، على جسر من أنابيب لا يؤدي إلى بر الأمان.
أعضاء من الفريق الطبي قالوا إن في استمرار ECMO إسرافًا لا يبرره أمل، فالزرع لم يعد ممكنًا، وهذه الأجهزة نادرة، يحتاجها آخرون يُرجى لهم الشفاء. أضف إلى ذلك التكلفة الباهظة: دراسة حديثة من عام 2023 قدّرت متوسط تكلفة علاج مرضى كوفيد على ECMO بما يقرب من تسعمائة ألف دولار، وقد تتعدى ملايين إذا طال العلاج. وكان من الصعب أن يعيش هذا الفتى في وحدة العناية المركزة إلى ما لا نهاية.
لكن آخرين خالفوهم الرأي. قال الدكتور روبرت تروغ، طبيب الأطفال وأستاذ الأخلاقيات الذي شارك في متابعة الحالة، وكتب عنها في مجلة "لانسيت": "كان الصبي يراسل أصدقاءه، ويقضي وقته مع عائلته، ويؤدي واجباته المدرسية عبر الإنترنت". ولأن جهاز ECMO لا يُغيب الوعي، فقد كان حاضر الذهن، يشارك في حياة ذات معنى.
الدكتور راغو سيثالا، المتخصص في العناية المركزة في مستشفى بريغهام والنساء، رأى أن هذه الحال تكشف عن معضلة أخلاقية عميقة. وقال خبير آخر: "التكنولوجيا سبقت الأخلاق".
رأى أنصار الاستمرار أن المرضى يُبقَون على أجهزة التنفس أو غسيل الكلى من غير رجاء في الشفاء، فلماذا يكون ECMO استثناء؟ لكن الدكتور كينيث براجر، مدير أخلاقيات الطب في مركز كولومبيا الطبي، ردَّ قائلاً: "هو مختلف". فأجهزة التنفس قد تُستخدم في المنازل، أما ECMO فلا يعمل إلا في وحدة العناية المركزة. ثم إن المريض على ECMO قد يكون في تمام الوعي، يمشي، يتمرّن على دراجة ثابتة، ومع ذلك قلبه ورئتاه لا تصلحان لحمل الحياة. قال براجر: "لا يوجد شيء يشبه هذه التكنولوجيا".
ذلك التشابه العجيب بين ما يبدو حياة وبين واقع الموت، هو ما يجعل ECMO ظاهرة محيرة. وقد كتب براجر وزملاؤه في مجلة "سيركيوليشن": "إنه وجود غير مستقر، يثير أسئلة عن معاني الحياة والموت كما ألفناها". فالمريض على ECMO قد يبدو في عافية، يشعر بأنه بخير، لكنه من دون شفاء أو زرع لا يستطيع مغادرة العناية المركزة، ولا أمل له في البقاء طويلًا.
وعندما تقترب النهاية، يدخل المريض نفسه في المحادثة عن توقيت الموت، إذ عليه أن يختار لحظة الفراق. قال براجر: "من يقرر، فكأنه يصدر حكمًا بالإعدام".
ويكاد يكون من المؤكد، بل لعله أصبح يقينًا عند أهل العلم والطب، أن استخدامنا لجهاز ECMO كلما أردنا دفع الموت عن المرضى، إنما يجرّنا إلى نتيجة غير مأمونة، وهي أن أعدادًا متزايدة من الناس سيبقون أحياء في وحدات العناية المركزة، لا بالحياة التي يعرفها الناس، ولكن بحياة تُنفَخ فيهم من خلال الأجهزة فحسب. وقد قال براجر، وهو من الذين خبروا هذه الأمور وعالجوها: "هذه مشكلة عظيمة"، ثم أردف: "وستغدو أعظم".
وإنما يرجع بعض هذا إلى أن الأطباء، على علمهم وخبرتهم، لا يستطيعون أن يتنبأوا بيقين من الذي سينتفع بـ ECMO، أو من الذي سيصل به إلى طريق مسدود. قال براجر: "نضع الناس على الجهاز، نظن أن فيه جسرًا يعبر بهم إلى الشفاء، ثم لا نجد الجسر ولا العبور"، وذلك لأن أجسامهم لا تستعيد قوتها، أو لأنهم، ببساطة، لا تنطبق عليهم شروط زراعة الأعضاء.
وما تزال لتوقّعات المرضى وآمالهم أثرها في الأمر. فقد قصّ عليّ الدكتور راغو سيثالا قصة دعوى قضائية، رفعها أهل امرأة في برونكس، زعموا فيها أن الأطباء قصّروا في علاجها، حين لم ينقلوها إلى مركز يوفر ECMO. وكانت هيئة المحلفين قد أدانت الأطباء عام 2019، ومنحت المرأة تعويضًا بلغ عشرة ملايين دولار، بعد أن خفّضه الاستئناف عام 2021. وقد عبّر بعض المراقبين عن خشيتهم من أن يتعلّق الناس بهذا الجهاز، كما يتعلّقون بالإنعاش القلبي الرئوي، فيظنونه واجبًا في كل نوبة قلبية.
وأخبرني الدكتور بلير بيغام، طبيب الطوارئ وأخصائي العناية المركزة، أنه رأى خلال الجائحة كثيرًا من المستشفيات تستجلب أجهزة ECMO، ثم لا تلبث أن تستخدمها بغير تدبّر، مع مرضى لا يُرجى لهم شفاء. قال لي: "إذا وُجد زر لـ ECMO، فإنك لا تلبث أن تضغطه". أما الدكتورة جيسيكا زيتير، وهي طبيبة مختصة في الرعاية التلطيفية، فقد وصفت هذا الميل لإضافة جهاز بعد جهاز، ودواء بعد دواء، بأنه "حزام نهاية الحياة". وقال بيغام: "نحن نبذل للناس المزيد والمزيد، حتى حين لا يكون من الخير أن نفعل". وأضاف: "المشكلة الكبرى أننا نخاف أن نترك الناس يموتون".
وفي مارس من عام 2023، زرت مختبر الدكتور روبرت بارتليت، الرجل الذي طوّر جهاز ECMO في السبعينيات، ثم انتقل بمختبره من جامعة كاليفورنيا في إيرفين إلى جامعة ميشيغان. كانت السماء في آن آربر ملبدة بالغيوم، ولكن المختبر كان مشرقًا يعج بالحياة. أما بارتليت، وقد بلغ الرابعة والثمانين، فقد كان يتعافى في منزله من عملية طبية، غير أنه اتصل أثناء زيارتي، يحدثني عمّا يجري في مختبره.
وقد كان من أهم ما يعمل عليه المختبر إيجاد وسيلة لإخراج المرضى من وحدة العناية المركزة وهم ما يزالون على الجهاز، بل من المستشفى كلها. قال بارتليت: "ينبغي لهؤلاء أن يستطيعوا في النهاية أن يعودوا إلى بيوتهم وهم يحملون هذه الأجهزة".
ولهذا الغرض، كان الباحثون يسعون إلى تصميم ECMO صغير، أقرب إلى رئة صناعية يمكن ارتداؤها. وفي قاعة المؤتمرات، جلست إلى باحث شاب يدعى غابرييل سيلو، وهو يلف أقراصًا ملتفّة بقماش شفاف. وكانت هذه الأقراص تحتوي على ألياف بلاستيكية دقيقة المسام، تمكّنها من أداء عمل الشعيرات الدموية في الرئة، إذ تسمح بتبادل الأوكسجين مع الدم. قال سيلو، وهو يلتفت إليّ من طاولته: "هذا يسهل تبادل الغازات". وعلى مقربة منه، كانت سلّة مملوءة بنماذج مختلفة الأحجام، يُرتَجى أن تُربط بأسطوانة أكسجين محمولة، ويجري الدم عبرها بغير حاجة إلى مضخة.
وفي غرفة أخرى، كان فريق المختبر يطور غشاءً جديدًا لـ ECMO، يُفرز أكسيد النيتريك. فقد جرت العادة أن يتعرّض مؤكسج الدم لتجلطات دموية، مما يضطر الأطباء إلى إعطاء المرضى أدوية مميعة للدم، لكنها قد تؤدي إلى نزيف خطير. قال بارتليت على الهاتف: "التجلط والنزيف هما أكبر مشكلتين تواجهان ECMO"، ثم أردف: "لكن أكسيد النيتريك يمنع التجلط، من غير أن يسبّب النزيف"، وهو ما قد يجعل هذا الجهاز أكثر أمانًا، وربما يصلح للاستخدام في البيوت.
وفي نهاية الممر، رأيت ما قد يكون أبدع ما أنجزه المختبر. فقد اصطحبني ألفارو روجاس بينيا، المدير المشارك للمختبر، إلى غرفة انتظار، تقع على مقربة من غرفة العمليات...
قال لي ألفارو روجاس بينيا، وقد أشار بيده إلى منصة وسط الغرفة: "انظر إلى هذا". فدنوت منها، وأمعنت النظر، فإذا قلبٌ معزولٌ يخفق أمامي كما تخفق القلوب في الأجساد. كان متصلاً بأنابيب تربطه بدائرة ECMO خاصة، وقد لفّوه بكيس بلاستيكي يحفظ رطوبته ويمنع جفافه. وكان ينبض، نعم ينبض، حيًا يتحرك، يتلوّى وينفتل مع كل نبضة، كأنما الحياة ما تزال تجري فيه، وإن خلا الجسد من حوله.
ثم ناولني روجاس بينيا جهاز آيباد، وقد ظهر على شاشته برنامج يتتبع هذا القلب النابض، ويراقبه من خلال عشرة معايير فسيولوجية أو نحو ذلك. وأعجبَ ما رأيت، أن القلب كان، على الرغم من انفصاله عن الجسم، يولّد ضغط دم طبيعيًّا، كما لو أنه في مكانه من الصدر، يؤدي مهمته كاملة. وبفضل ECMO، استطاع الباحثون أن يُبقوا هذا القلب حيًّا خارج الجسم، لا لساعة أو ساعتين، بل لأربع وعشرين ساعة كاملة. وبعد دقائق قليلة، قالوا، سيُزرع هذا القلب في حيوان آخر في غرفة العمليات المجاورة.
وأما زراعة الأعضاء، فهي ليست أمرًا هيّنًا، ولا تُنال بالتمني. إنها تشبه الفوز بعدة يانصيب دفعةً واحدة. إذ لا بد أن يكون المتبرع بصحة تمكّنه من الإبقاء على وظيفة العضو، ولا بد أن يكون قريبًا، جغرافيًّا، بحيث لا يطول وقت النقل. ويجب أن يتوافق العضو مع فصيلة دم المتلقي، ولا يجوز أن يكون المتلقي مريضًا مرضًا يُضعف جسمه عن احتمال العملية. وهذه الشروط كلها يجب أن تجتمع دفعةً واحدة في لحظة يتاح فيها العضو. ولو اختلّ شرط واحد، بطل الأمر كله. ولهذا السبب، يموت كل يوم سبعة عشر إنسانًا في الولايات المتحدة، لأن جزءًا من هذه المعادلة يفشل، أو لأن الأعضاء ببساطة غير متوفرة. وقال لي روجاس بينيا: "إن سبعين في المئة من أعضاء المتبرعين تُرفض"، لأن فيها ما لا يوافق أو ما لا يرضي شروط الزراعة المثلى.
ولكن، لو طُبِّق ECMO على زراعة الأعضاء كما ينبغي، فإن الأثر قد يكون عميقًا ثوريًّا. فإذا أمكن الحفاظ على الأعضاء حيّة خارج الجسم حفظًا موثوقًا، صار من الممكن إرسالها إلى بنك مركزيّ، تُجمع فيه وتُحفظ حتى الحاجة. ولن يعود وقت النقل عائقًا أو عاملًا ضاغطًا. وسيمكن، حينئذٍ، أن تُطابق الأعضاء مع المتلقين تطابقًا مثاليًّا، وتُعالج الأعضاء الهامشية خارج الجسم بالأدوية، حتى تُصبح صالحة للاستعمال. وستنتهي بذلك قوائم الانتظار، وقد تغدو الزراعة جراحة لا طارئة، بل جراحة يُخطط لها كما يُخطط لأي عملية أخرى.
وقد بدأت جماعة في تورنتو هذا الطريق بالفعل، في مجال زراعة الرئتين، فاستطاعوا أن يستخدموا نحو سبعين بالمئة من رئات المتبرعين، بينما لا تزيد النسبة في الولايات المتحدة عن عشرين بالمئة.
ولكن ECMO، كما يُستخدم اليوم، لا يخلو من مخاطره. فقد يضع المريض على جسر لا يؤدي إلى ضفة، فيبقى معلقًا في المنتصف، لا حيًّا كما يجب، ولا ميّتًا كما يُرجى. غير أن بارتليت يرى في هذه التكنولوجيا جسرًا آخر، لا إلى التيه، بل إلى مستقبل جديد. وقد ذهب به الأمل أن قال لي: "ربما كان لها استخدامات تتجاوز الزراعة نفسها". وتابع: "قد يكون لدينا أعضاء تقوم بوظائف محددة"، مثل إنتاج عوامل التجلّط، أو تصنيع خلايا الدم الحمراء. بل وقد نستأصل كبدًا أصابه السرطان، فنعالجه خارجيًّا، ثم نعيده إلى صاحبه سالمًا معافى. قال: "نحن نعتقد أن كل هذه الأشياء يمكن أن تكون ممكنة".
مترجم من newyorker بقلم Clayton Dalton
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي