موت رمسيس الثالث: مؤامرة كبرى وخيانة في قلب مصر القديمة
تم اغتيال رمسيس الثالث في مؤامرة الحريم بقيادة زوجته الثانوية تيي وابنها الأكبر بنتاور.
مقدمة
كان رعمسيس الثالث، الذي عُرف كذلك باسم "وسر ماعت رع مري آمون رعمسيس حقي إونو"، ثاني ملوك الأسرة العشرين، وآخر الفراعنة العظماء في عصر المملكة الحديثة بمصر. تولّى الحكم في يوم السادس والعشرين من شهر مارس عام 1186 قبل الميلاد، وظلّ جالسًا على عرشه حتى يوم الخامس عشر من أبريل عام 1155 قبل الميلاد.
وقد امتدّ حكمه طويلًا، لكنّه شهد انحدارًا في قوى مصر السياسية والاقتصادية. كانت البلاد تعاني من ضرباتٍ خارجية لا تهدأ، ومن أزماتٍ داخلية تُنهكها، حتى أثّرت تلك الأوجاع على نضارة الثقافة المصرية وبهائها.
ومع ذلك، فقد وقف رعمسيس الثالث صامدًا، يدافع عن وطنه بمهارة وحنكة. لقد أبطأ تدهور البلاد بما كان له من خبرة في الميدان، حتى لقّبه المؤرخون بـ"فرعون المحارب". وكانت له اليد العليا في المعركة الكبرى ضد "شعوب البحر"، أولئك الغزاة الذين حطّموا إمبراطورياتٍ عظيمة، لكنهم لم يتمكنوا من اقتلاع جذور مصر.
وفي زمنٍ عصفت فيه أزمة العصر البرونزي المتأخر بالحضارات، نجح رعمسيس في الحفاظ على كيان مصر، وإن لم يخرج من المعركة سالمًا من الجراح. فقد تركت الغزوات أثرًا عميقًا، وأرهقت جسد الدولة.
ولم يكن رعمسيس الثالث عظيمًا في الحرب فقط، بل كان من بناة المعابد العِظام. شيّد في طيبة الغربية أحد أضخم المعابد الجنائزية، وهو ما يُعرف اليوم بمدينة هابو. لكن نهايته لم تكن بقدر عظمته؛ فقد اغتيل ضحية مؤامرة دبرتها زوجته الثانوية "تيي" وابنها "بنتاور". كانت فتنة القصر تلك سببًا في أزمة خلافة زادت من سرعة سقوط الدولة. ورغم ذلك، فقد تولى العرش بعده ابنه رعمسيس الرابع، ولحقه أبناء آخرون فيما بعد.
اسمه، وبداياته، وتولّيه العرش
كان اسم رعمسيس الثالث يُخطّ في النقوش الهيروغليفية على هذا النحو:
wsr-mꜢʿt-rʿ–mry-ỉmn rʿ-ms-s–ḥḳꜢ-ỉwnw،
ويُنطق "وسر ماعت رع مري آمون رعمسيس حقي إونو"، ويعني:
"عدالة رع قوية، محبوب آمون، وُلد من رع، حاكم هليوبوليس".
هو ابن الملك ست نخت والملكة "تيي مرن إسى"، تلك الملكة التي أُجيز لها شرف وضع اسمها داخل خرطوش ملكي، وهو أمر نادر لنساء القصر.
وقد بدأ حكمه، كما يرجح المؤرخون، في مارس سنة 1186 قبل الميلاد، واستمر حتى أبريل 1155 قبل الميلاد. ونظرًا للتواريخ الدقيقة التي دوّنت عن جلوسه على العرش في اليوم السادس والعشرين من شهر شمو، ووفاته في اليوم الخامس عشر من الشهر ذاته في السنة الثانية والثلاثين من حكمه، فقد بلغ عهده ما مجموعه واحدًا وثلاثين عامًا وشهرًا واحدًا وتسعة عشر يومًا. وهناك من يرجّح تواريخ أخرى، تبدأ من سنة 1187 وتنتهي في 1156 قبل الميلاد.
ولم يكن تتويجه خاليًا من الرموز؛ ففي مدينة هابو، نُقش أن أربعة حمائم طارت نحو الجهات الأربع من الأفق، لتُعلن للناس وللآلهة معًا أن:
حورس الحي، رعمسيس الثالث، ما يزال على عرشه، وأن نظام ماعت، أي العدالة الكونية، يسود في الكون وفي المجتمع.
عهد الحرب التي لا تنتهي
ما إن جلس رعمسيس الثالث على العرش، حتى وجد نفسه وسط دوامة من الفوضى السياسية، تلك التي اجتاحت العالم القديم مع انهيار العصر البرونزي المتأخر. كانت مصر تحيط بها الأخطار من كل صوب؛ فالغزوات الأجنبية لا تكاد تنقطع، منها ما عرف بشعوب البحر، ومنها الليبيون، وكلهم طامعون في أرض النيل وخيراتها. وفي الداخل، بدأت الأزمات الاقتصادية تطلّ برأسها، واشتد الصراع بين القوى، حتى باتت الأسرة العشرون على شفا الانهيار.
وفي السنة الثامنة من حكمه، نزلت جيوش شعوب البحر على مصر، من البر والبحر معًا. وكان من بينهم الفلستيا، والدانونا، والشردانا، والمشواش، والتجكر. لكن رعمسيس الثالث لم يهرب من قدره، بل واجههم في معركتين حاسمتين:
معركة دجي: وقعت على حدود مصر الشرقية، في بلاد دجاهي، وهي ما يُعرف اليوم بجنوب لبنان.
معركة الدلتا: وهنا ظهرت عبقرية رمسيس الحربية؛ إذ استدرج أساطيل الأعداء إلى مصب النيل، حيث كان قد أعد كمينًا بحريًا. ورغم ما عُرف عن المصريين من ضعف في القتال البحري، فإنهم قاتلوا ببسالة لا تعرف اليأس.
نشر رعمسيس جنوده من الرمّاحين على ضفاف النهر، وأمطرت سهامهم السفن المعادية بوابلٍ لا يرحم.
أما الأسطول، فقد استعمل الخطاطيف لجرّ سفن الأعداء وإرغامهم على القتال وجها لوجه. وكانت النتيجة هزيمة ساحقة لشعوب البحر.
وقد خلدت بردية هاريس هذه اللحظات بكلمات مؤثرة:
أما الذين وصلوا حدودي، فنسلهم انقطع، وقلوبهم وأرواحهم زالت إلى الأبد. وأما الذين تقدموا معًا عبر البحار، فاللهب استقبلهم عند مصبات النيل، بينما سياج من الرماح حاصرهم على الشاطئ، سقطوا قتلى، وأكوامًا من الرأس إلى الذيل.
وبعد النصر، لم يقتل رعمسيس كل من بقي حيًا، بل استخدم بعض هؤلاء الغزاة كرعايا، وأسكنهم في جنوب كنعان. وربما كان وجودهم هناك أحد الأسباب التي ساهمت لاحقًا في ظهور دول جديدة، كفلسطين، بعد أن تراجع النفوذ المصري في آسيا.
وخلال سنوات حكمه، ظل الوجود المصري حاضرًا في بلاد الشام، حتى وصل إلى جبيل، ويُحتمل أنه قاد حملات أخرى شمالاً نحو سوريا. وفي الجهة الغربية، اضطر أيضًا لمواجهة الليبيين في حربين كبيرتين خلال العام الخامس والحادي عشر من حكمه. وقد بلغت مصر من القوة آنذاك ما مكّنها من أن تدّعي السيادة على قبائل برقة، وتعين حاكمًا مصريًّا مواليًا على اتحاد قبائل المشوش والليبو وسوبدو.
الأزمات الاقتصادية
لكن الحرب، يا صاحبي، لا تأتي دون ثمن. فقد أنهكت نفقات القتال خزائن الدولة، وبدأت الإمبراطورية تفقد قبضتها على بلاد آسيا. وفي السنة التاسعة والعشرين من حكمه، وصلت الضغوط ذروتها، حين وقع أول إضراب عمالي معروف في التاريخ. فقد تأخرت حصص الغذاء التي كانت تُقدّم لعمال ومهندسي مقابر الملوك في قرية "ست ماعت حت إمنتي واست"، وهي ما تُعرف اليوم بـ"دير المدينة".
وكانت الأقدار قد زادت المِحنة، إذ اجتاح العالم تغير مناخي كبير، قد يكون سببه ثوران بركان هيكلا، فاحتجبت الشمس عشرين عامًا تقريبًا، حتى عام 1140 قبل الميلاد. وكان لهذا آثار قاسية:
ارتفعت أسعار الحبوب بشدة، خصوصًا في عهد رعمسيس السادس والسابع.
أما أسعار الطيور والعبيد، فثبتت على حالها، وهو ما دلّ على أن النظام الاقتصادي قد اختل، وفقد توازنه.
وقد امتد هذا التبريد المناخي إلى أواخر عهد رعمسيس الثالث، فلم يعد قادرًا على تأمين الطعام حتى لأولئك الذين كانوا يعملون في خدمة مقابر الأجداد.
ورغم هذه الأزمات، فإن النصب والآثار الرسمية لم تشر إليها قط، وكأنها لم تكن. فقد أراد رعمسيس أن يُقلد جده العظيم، رعمسيس الثاني، فبنى لنفسه صورة تفيض بالاستقرار والعظمة ومن مشاريعه التي تُظهر هذه الرغبة:
توسعات معمارية كبيرة في معابد الأقصر والكرنك.
وبالطبع، معبده الجنائزي الضخم في مدينة هابو، الذي لا يزال إلى اليوم من أعظم المعابد حفظًا وأكملها بنيانًا.
لكن، إذا تأملت بعين فاحصة، فإن القلق الذي كان يعصف بذلك العصر يتجلى في التحصينات القوية التي شُيّدت حول المعبد، في ظاهرة لم تعرفها المعابد المصرية الداخلية من قبل.
المؤامرة والموت
لم يكن موت رعمسيس الثالث موتًا طبيعيًا كما ظن الناس قرونًا طويلة، بل كان اغتيالًا دُبّر بليل، من داخل القصر نفسه، ومن أقرب الناس إليه. ولم نعلم هذا إلا بفضل ما عُثر عليه من نصوص محاكمة كُتبت على أوراق البردي، وعادت إلى النور بعد أن طواها الزمن. ففي اليوم الخامس عشر من الشهر الثاني من فصل "شمو" سنة 1155 قبل الميلاد، وأثناء احتفالٍ في مدينة هابو، جرت المؤامرة الكبرى.
كانت العقل المدبر لهذه الجريمة هي الملكة تيي، إحدى زوجات رعمسيس الثلاث – وهنّ تيتي، وإيزيس تا-حمدجرت، وتيي. أرادت تيي أن تجعل ابنها بنتاور هو ولي العهد، لكن رعمسيس كان قد قرّر أن يخلفه ابن الملكة تيتي، وهو رعمسيس أمون-حر-خبشف، الذي سيُعرف لاحقًا باسم رعمسيس الرابع. وهكذا، بدأت تيي تُحرك الخيوط من خلف الستار، وتنسج مؤامرتها داخل دهاليز الحريم الملكي.
وقد كشفت وثائق المحاكمة عن شبكة ضخمة من المتآمرين، تضم رجالًا ونساء من داخل القصر، ومن حوله، بل ومن قلب الدولة نفسها. كان من بينهم:
الملكة تيي نفسها، وابنها بنتاور
رئيس الحُجّاب بيبكامين
سبعة من سقاة القصر، وهو منصبٌ رفيع في البلاط
رئيسا خزينة الدولة
حاملا رايتين عسكريتين
كاتبان ملكيان، ومنادٍ يُذيع الأوامر
ولم تكتفِ المحكمة بجلسة واحدة، بل عُقدت ثلاث جلسات منفصلة، وأسفرت عن إدانة 38 شخصًا، جميعهم حُكم عليهم بالموت. وقد أُعطي البعض خيار الانتحار بالسم، بدلًا من الإعدام، وهو ما كان يُعد في ذلك الزمن نوعًا من "الرأفة النبيلة".
لكن المصريين القدماء، ما كانوا ليتركوا من خان البلاد يهنأ في مماته. فقد نُهبت مقابر تيي وبنتاور، ومُحيت أسماؤهم من كل أثر، لحرمانهم من الحياة الأبدية. لم يترك المصريون لهم ذكرًا، إلا ما احتفظت به برديات المحاكمة، وبعض بقايا قبورهم المنهوبة.
ولم تخلُ جلسات المحكمة من الفضائح؛ فقد حاولت بعض النساء من حريم القصر، ممن وُجهن إليهن التهم، أن يغوين القضاة بأنوثتهن، عساهن يخرجن بغير عقاب. لكنهن كُشفن، وأُمسكن متلبسات، وكان جزاء القضاة المتورطين عقوبات قاسية لا رحمة فيها ولا شفقة.
ورغم هذه العاصفة، انتهى الأمر كما أراد الملك. تولّى رعمسيس الرابع العرش بعد وفاة أبيه، في حين فشل بنتاور في الوصول إليه. وكان رعمسيس الثالث قد مات في عامه الثاني والثلاثين من الحكم، قبل أن تكتمل صياغة الأحكام، لكن إعدام المتآمرين وقع في نفس السنة، كما سجلت الوثائق.
وكان الناس، طيلة قرون، يظنون أن المومياء الملكية لا تحمل أي أثر لجروح. ولكن في عام 2011، ظهر ما لم يكن في الحسبان.
الجرح القاتل في الرقبة:
لاحظ فريق ألماني وجود لفائف كثيرة حول الرقبة، ما أثار الشك.
ثم جاءت الأشعة المقطعية المصرية، بإشراف الدكتور أشرف سليم والدكتورة سحر سليم، لتكشف الحقيقة المذهلة:
لقد ضُرب الملك بسكين حاد في عنقه، جرحٌ عميقٌ امتد حتى العمود الفقري، قطع القصبة الهوائية، والمريء، والأوعية الدموية.
نُشرت هذه النتائج في مجلة BMJ العلمية سنة 2012، وشارك فيها الدكتور زاهي حواس والدكتور ألبرت زينك.
قال زينك عن الجرح:
كان القطع عميقًا وواسعًا إلى درجة أنه وصل إلى العظم... لا شك أن هذه الإصابة كانت قاتلة.
إصابة إضافية في القدم:
لم تقف الجريمة عند العنق فقط؛ فقد كشفت الأشعة أن إصبع القدم الكبير الأيسر قد بُتر بسلاح حاد، ربما فأس أو سيف.
ولم يكن هناك أثر لشفاء، مما يعني أن الإصابة وقعت قبيل الوفاة مباشرة.
وفي لمسة مصرية مميزة، عالج المحنطون الجرح بما أمكنهم:
صنعوا إصبعًا من الكتان، ولفّوه في القدم، ووضعوا حوله ست تمائم، لعل السحر يُعيد للملك توازنه في العالم الآخر.
كل هذا يشير إلى أن رعمسيس الثالث لم يُقتل على يد رجلٍ واحد، بل هاجمه أكثر من شخص، بأسلحة مختلفة، وبتخطيط دقيق، فوقع اغتياله في صمت، بينما كان الناس من حوله يظنون أن الفرعون لا يموت إلا موتًا طبيعيًا.
قبل هذا الاكتشاف، كان الناس يظنون أن موت رعمسيس الثالث كان غامضًا، وأنه ربما قُتل بطريقة لا تترك أثرًا على الجسد. وكانت الألسن تهمس بأن بين المتآمرين رجالًا يمارسون السحر، قد يكون بعضهم قد دسّ له سمًا قاتلًا. بل إن بعضهم لم يتردد في القول إن أفعى قرنية – من ذلك النوع الفتاك – ربما كانت السبب في موته. ولعل ما يزيد هذه الظنون قوة أن مومياء الملك تحمل تميمة سحرية ضد الثعابين، وذاك أمر لا يأتي صدفة عند المصريين القدماء.
وكان العجب كل العجب أن الخادم المسؤول عن طعام الملك وشرابه كان من ضمن المتهمين. بل إن بين المتآمرين من كان يُلقب بـ"الثعبان"، وآخر يُعرف بـ"سيد الثعابين"، وكأن هذه الأسماء كانت تشير منذ البداية إلى دورهم المظلم في هذه الجريمة.
أما من جهة المصير، فقد فشل المتآمرون حتمًا، لأن التاج انتقل كما أراد الملك، إلى خليفته المعين رعمسيس الرابع. ومع ذلك، يبدو أن رعمسيس الثالث كان في قرارة نفسه يخشى على مصير ولده، فقد جاء في بردية هاريس الكبرى أنه توسل إلى الإله آمون أن يحفظ لابنه حقه في الخلافة، وكأن قلبه لم يكن مطمئنًا لما يُدبَّر في الخفاء.
التحليل الجيني وقصة بنتاور
وفي محاولة لفهم ما جرى، لجأ العلماء إلى أدوات العصر الحديث، فحلل فريق الدكتور ألبرت زينك مومياء رجل مجهول دُفن إلى جوار رعمسيس الثالث. وقد دلّ التحليل الجيني على أن بينهما علاقة أب وابن، وهو ما يُرجّح أن تكون هذه المومياء تعود إلى بنتاور، ابن رعمسيس الثالث والمتمرد الوحيد عليه.
ومع أن سبب وفاته ظلّ غامضًا، فإن أسلوب تحنيطه كان يوحي بشيء من العقاب أو الإهانة. أما من الناحية الوراثية، فقد أظهرت دراسات STR (وهي واسمات جينية قصيرة متكررة) أن رعمسيس الثالث وبنتاور يتشاركان في 50٪ من المادة الوراثية، وينتميان معًا إلى مجموعة كروموسومية تُعرف باسم E1b1a-V38، وكل ذلك يدعم بشدة فرضية القرابة بينهما.
وفي عام 2010، قاد الدكتور زاهي حواس فريقًا علميًا أجرى دراسات إشعاعية وأنثروبولوجية وجينية دقيقة، شملت 11 مومياء ملكية من عصر الدولة الحديثة، وكان الهدف أن يُحددوا العلاقات الأسرية، ويكشفوا عن أمراض وراثية أو معدية إن وجدت. وفي 2012، كرر الفريق الدراسة، هذه المرة على مومياء رعمسيس الثالث ورفيقه المجهول في القبر.
ثم، في عام 2022، جاء الباحث س. أو. واي. كيتا ليُعيد تحليل بيانات 8 واسمات STR من هذه الدراسات، مستخدمًا خوارزمية تقسم الناس إلى ثلاث مجموعات كبرى: أوراسيون، وأفارقة جنوب الصحراء، وشرق آسيويون. وكانت المفاجأة أن التحليل أظهر أن الغالبية، ومنهم رعمسيس الثالث وتوت عنخ آمون، لديهم صلة قوية بأفارقة جنوب الصحراء، في تحليل القرابة الذي أجراه كيتا.
لكن كيتا، وقد كان حذرًا في استنتاجاته، نبّه إلى أن هذا لا يعني أنهم لا ينتمون إلى مجموعات أخرى، بل إن التفكير النمطي هو من يحجب تلك الانتماءات. وأضاف أن اختلاف الخوارزميات قد يُنتج نتائج مختلفة، في إشارة إلى تعقيد التراث البيولوجي وصعوبة تفسيره تفسيرًا قاطعًا.
الإرث العظيم
وأما عن الإرث الذي خلّفه رعمسيس الثالث، فقد حفظته لنا بردية عظيمة، تُعرف بـبردية هاريس الأولى، أمر بكتابتها ابنه وخليفته رعمسيس الرابع. تسجّل هذه البردية الهبات الضخمة التي قدّمها الملك للمعابد: من أراضٍ واسعة، وتماثيل من الذهب، ومشاريع بناء كبرى في كل من بر-رعمس، وهليوبوليس، ومنف، وأتريبيس، وهيرموبوليس، وثينيس، وأبيدوس، وقفط، والكاب، وغيرها من المدن، بل حتى في النوبة.
وتروي البردية أيضًا أن الملك أرسل بعثة تجارية إلى أرض بونت، واستخرج النحاس من مناجم تمنة، الواقعة في جنوب كنعان. تقول البردية في نصٍ نادر:
أرسلتُ رسلي إلى أرض عاتيقا، إلى مناجم النحاس العظيمة. حملتهم سفنهم، وسار بعضهم على الحمير. لم يُسمع بهذا في زمن أي ملك سابق. وجدوا المناجم، واستخرجوا منها نحاسًا لا يُحصى، حمّلوه في السفن، وأعيدوا به إلى مصر، فبلغوا بسلام.
بدأ رعمسيس الثالث يعيد البناء من حيث توقّف السابقون، فعاد إلى معبد قديم في الكرنك كان لأمنحتب الثالث، وشرع في تشييده من جديد ليجعله معبدًا لخونسو. ثم واصل جهده حتى أتمّ بناء معبد مدينة هابو في عامه الثاني عشر، وكان هذا من أعظم ما شيّده. وراح يُزيّن جدرانه، لا بالمشاهد الدينية فحسب، بل بصور من حروبه البرية والبحرية ضد شعوب البحر، أراد لهذا المعبد أن يكون سجلًّا لانتصاراته. ومن العجب أن هذا المعبد لا يزال حتى يوم الناس هذا من أفضل معابد الدولة الحديثة حفظًا وبقاءً.
ثم مرت القرون حتى جاء عام 1886، حين اكتشف علماء الآثار مومياء رعمسيس الثالث، فانبهروا بها، وراحت صورها تُستنسخ في أفلام هوليوود، وأصبحت رمزًا للمومياء المصرية في الخيال الغربي. وكان قبره المعروف باسم KV11 من أوسع وأفخم القبور في وادي الملوك، يدلّ على مجد صاحبه وسلطانه.
وفي سنة 1980، قام العالمان جيمس هاريس وإدوارد ف. وينتي بإجراء فحوص بالأشعة السينية على جماجم وهياكل فراعنة الدولة الحديثة، وكان بينها بقايا رمسيس الثالث. فخرجت التحليلات تشير إلى تشابه كبير بين ملوك الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين، وبين سكان النوبة في العصر الحجري الوسيط، كما لاحظا تشابهًا مع سكان بلاد الشام المتوسطيين المعاصرين، واقترحا أن هذا كله يرجع إلى اختلاط عرقي، وأن الرعامسة كانوا من أصل شمالي، يجمع بين الجنوب والشمال.
وفي أبريل من عام 2021، كانت لمومياء رمسيس الثالث رحلة أخرى، لا تشبه ما عرفه في حياته من مواكب، بل كانت موكبًا ذهبيًا للفراعنة، نُقلت فيه مومياه، إلى جانب مومياوات 17 ملكًا و4 ملكات، من المتحف المصري إلى المتحف القومي للحضارة المصرية، في حدث حضره العالم كله وأبهر العقول.
الخلاف الزمني
وأما عن زمن حكم رمسيس الثالث، فذلك مما اختلف فيه العلماء، وليس لهم فيه يقين. وقد أثّر هذا الغموض في تأريخ الانتقال من العصر البرونزي المتأخر إلى العصر الحديدي في بلاد الشام. ويُربط هذا الانتقال عادة بظهور الفخار الفلسطيني الميسيني في السهل الساحلي، وهو ما يُعتقد أنه حدث في العام الثامن من حكم رمسيس الثالث، عند استقرار شعوب البحر هناك.
غير أن القياسات الكربونية الحديثة والأدلة الأخرى تشير إلى أن هذا الانتقال ربما حدث في وقت متأخر، يصل إلى 1100 ق.م، بينما التأريخ التقليدي يضعه نحو 1179 ق.م. ومن هنا بدأت محاولات العلماء لتحديد زمن دقيق لحكم الملك.
فقد اقترح بعضهم العام 1159 ق.م كنقطة ارتكاز، بناء على تأريخ ثوران بركان هيكلا في آيسلندا، الذي حدده العلماء عام 1999. إذ إن الوثائق المعاصرة تقول إن الملك واجه صعوبات في إمداد عمال دير المدينة بالمؤن في عامه التاسع والعشرين، فربط الباحثون بين هذه الأزمة وبين آثار ذلك الثوران، فرجّحوا أن يكون العام الثامن والعشرون أو التاسع والعشرون من حكمه قد صادف 1159 ق.م.
لكنهم لم يغفلوا احتمال وجود فارق بسيط قدره سنة واحدة، إذ أن مخازن الحبوب في مصر كانت كافية لتغطي سنة سيئة واحدة على الأقل. وهذا يعني أن حكم رمسيس الثالث ربما انتهى بعد ثلاث أو أربع سنوات من ذلك التاريخ، أي نحو 1156 أو 1155 ق.م.
ثم جاء من اقترح تاريخًا آخر، فقالوا إنه ربما كان "2900 سنة قبل الحاضر"، أي نحو 950 ق.م، وذلك بعد إعادة فحص طبقات الرماد البركاني. لكن هذا الرأي لقي اعتراضًا، إذ لم يؤيد أي عالم مصريات معروف هذا التاريخ المتأخر لحكم رمسيس الثالث، فاستنتجوا أن ثوران هيكلا وقع بعد زمن رمسيس الثالث بمدة طويلة.
وفي عام 2002، جاءت دراسة جديدة استعملت تأريخًا كربونيًا عالي الدقة لرواسب الخث التي احتوت على طبقات الرماد البركاني، وخرجت بنتيجة أن الثوران وقع في الفترة ما بين 1087 و1006 ق.م.
مترجم من Brewminate بمراجعة المؤرخ Matthew A. McIntosh
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي