في نهاية الأسبوع الماضي، وجدتني أمام كتاب يتجاوز حجمه سبعمائة صفحة، فما كان مني إلا أن التهمته في يومين اثنين. ولست أقول هذا تفاخُرًا، ولا حتى ادعاءً بالتواضع، وإنما أقولها كنوع من التنبيه، بل كتحذير! لقد أمسكت بكتاب "العالم الغراب" وما إن بدأت به، حتى شعرت أنني لا أستطيع أن أتركه. نعم، هو كتاب عن السلطة واستبدادها، عن رجال لا يريدون التفريط فيها، عن أناس مدفوعين بالذنب يفعلون ما لا يُنتظر، وعن أمورٍ أخرى من هذا النوع المخيف. لكنه، رغم كل ذلك، لم يكن كتابًا عن الواقع، لم يكن مرآةً لهذا العالم. لقد امتلأ بالسحر، وبالغربان، وبالنكتة، وبشيء من الخفة الماكرة. ولهذا، لم أشأ أن أتوقف حتى لفظت الصفحات أنفاسها الأخيرة.
ومع هذا كله، شعرت بشيء من الذنب. فقد كان عليّ، ربما، أن أُبطئ من وتيرتي، أن أتمهّل، لكن التمهّل صار الآن عملًا صعبًا، بل عسيرًا على النفس.
ذلك أن العناوين التي تصفعنا بها الصحف هذه الأيام عناوين كئيبة، وكأنها لا تعرف غيرها. وحتى الكتب – ويا للعجب – لم تسلم من هذا الجو الخانق. فالناس منشغلون بالضرائب والتعريفات، قلقون من حظر الكتب ومن محو المعارف، من إعطاء العنصرية والتحيز الجنسي ورهاب المثليين شرعية مكشوفة وتربيتة مشؤومة على الظهر. والمؤلفون، من ناحيتهم، يخشون على أرزاقهم. أما أولئك الذين ما زالوا ينظرون إلى الفن بعين الاحترام، فإنهم لا يخفون جزعهم من طوفان المحتوى الفارغ الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي بلا روح. حتى القُرّاء صاروا يمرّون فوق الفقرات كما يمرّ السائح فوق المدن: مرورًا بلا تدبّر. وكأن الناس يقرؤون بالكيلو! وسمعت هذا الأسبوع من يسأل على موقع "Bluesky": ما معنى أن نقرأ كتابًا؟ ما الذي نفعله حين نفتح كتابًا؟ ما القراءة أصلًا؟
تمهّل. اضبط خطواتك. ابتعد قليلًا. خذ نفسًا.
قال أحد المدربين الرياضيين الذين أتابعهم وأنا أركب دراجتي الثابتة الصغيرة: "المعلم يعلّم ما يحتاج أن يتعلمه". وأضيف من عندي: والكُتاب، هم أيضًا، يكتبون ما يحتاجون أن يفعلوه. وأنا، مثلي مثل غيري، أنظر إلى الأخبار من خلال ما أفعله أو ما يشغلني. فأرى المؤلفين يحدّقون في الفراغ، يتساءلون عمّا يعنيه كل ذلك لمستقبل الكتابة، وأرى أمناء المكتبات غاضبين من حظر الكتب، وأرى الباعة والقرّاء ينظرون إليهم معًا، ويضيفون قلقهم الخاص فوق قلق الآخرين. والنتيجة؟ لا شيء يتبخّر. بل كل شيء يتراكم.
وأظن – ولا أجزم – أن هذا التمرير القهري لأخبار الحزن والأسى قد غيّر فينا شيئًا. فقد صارت القراءة نفسها فعلاً قهريًّا، ومتسرّعًا، ومدفوعًا بجوع استهلاكي لا يشبع. نريد المزيد والمزيد والمزيد، دون أن نهضم ما نأخذ. وأنا شخصيًا، بدأت أشعر كما لو أنني أبتلع الكتب دون أن أتذوق طعمها. أعلم أن التشبيه مزعج، وربما يُغضب عشّاق الكتب. ولكنها ليست فكرة "الكتب كخضروات" التي يجب أن نأكلها كي نبقى بصحة جيدة! لا، بل الأمر أشبه برعي جائر. إنه مرض العصر: الإشباع اللحظي الذي لا يبني شيئًا على المدى الطويل.
فما هي القراءة؟ وماذا نفعل حين نُعطي الكتب من وقتنا ومن نفوسنا؟ أودّ أن أقول إن القراءة فعل إبطاء مقصود. فنحن، حين نقرأ، نخرج من ذواتنا إلى قصص لا نعرفها، وإلى شخصيات لم نلتق بها من قبل، وإلى أفكار قد تكون جديدة علينا تمامًا. نمرّ على الجمل، والحوار، والفقرة، والفصل، كأننا نمشي على طريق مليء بالتفاصيل. نحاول أن نفهم، وأن نتذوّق، وأن نتخيل. نتخيل شكل الناس، ولباسهم، ومدنهم، ولغاتهم. نقرأ، ربما، لنفهم العالم. وربما فقط لنرتاح، أو لننسى، أو لنفرّ، أو لنبكي على شيءٍ محزن مؤقت نرجو أن ينتهي في الصفحة التالية.
في زاوية من زوايا عقلي، بينما أنا غارقة في القراءة، يواصل العالم دورانه، لا يكلّ ولا يملّ. العناوين الرئيسية ما زالت هناك، لا تختفي. أحيانًا تبدو معقولة بعد أن أطوي صفحة أو فصلًا. وأحيانًا، لا تعني شيئًا، لا بالأمس ولا اليوم. بل أحيانًا – وأقولها بصدق – لا معنى للكتب ذاتها، مهما أعدت القراءة ومهما قلّبت الصفحات. وأتوقّف، لا لأسأل نفسي: "ما هي القراءة؟"، بل أسأل سؤالًا أكثر إرباكًا: "كيف يقرأ الناس أصلًا؟" كيف يمكن لعقلنا أن يستوعب شيئًا، مهما كان بسيطًا، فضلًا عن التقاط تلك التفاصيل الصغيرة، وشذرات القصة، وجُمل الكاتب، أسلوبه والذي يستحق أن يُسطّر أو يُعلَّم عليه أو يُضحكنا ضحكة صغيرة من فرح مفاجئ؟
تتنازع في داخلي فكرتان. واحدة تعود إلى طفولتي. وأنا صغيرة، اعتدت تدريب نفسي على الادخار، والاحتفاظ بالأشياء الجميلة، كأن أترك القميص الأنيق لمناسبة خاصة، أو أتناول حبات M&Ms واحدة تلو الأخرى، مرتبة حسب ألوانها، لأُطيل متعتي بها. هذا النوع من ضبط النفس يظلّ معك، يرافقك حتى حين تكبر: لا تفتح كل الهدايا الآن، لا تستخدم كل الأشياء دفعة واحدة، فقد لا يأتيك مثلها بعد ذلك. لكنّ هذه الفكرة تصطدم بأخرى أكثر استعجالًا: أن الوقت هو الآن. فلا تؤجل فرحتك. اقرأ الكتاب الذي كنت تدّخره. التهمه في ساعات لو أردت. اشرب الشاي الطيب، تناول الشوكولاتة الفاخرة. تمتع بها كما تستحق.
أيّ الفكرتين أصدق؟ الحقيقة أنّ الإجابة لا تكمن في واحدة منهما وحدها. بل فيهما معًا، أو خارجهما تمامًا. ما أعنيه هو هذا: إن كنت مؤخرًا تشعر بشيء من التردد، شيئًا من التجمد في الحركة، وإن كنت لا تدري ما الذي عليك فعله، أو كيف يجب أن تكون، فخذ وقتك. حدّد إيقاعك بنفسك. اقرأ الكتاب، نعم، لكن أيضًا تواصل. واعتنِ بنفسك. ولا تلزم نفسك بأن تقرأ كل الأخبار إن كانت تشعرك بالثقل، أو تسلبك الرغبة في أن تفعل أي شيء آخر له معنى عندك. لا أحد قادر على حمل كل شيء في لحظة واحدة.
أما عني، فإنّ محاولة الإمساك بكل شيء دفعة واحدة تُشعرني بالضيق، بل بالاختناق. وهذا الشعور – ولنعترف – بات ملازمًا لكل ما أفعله مؤخرًا، سواء مارسته فعليًا أو فكّرت فيه فقط. قرأت "العالم الغراب" بهذه السرعة لأني كنت أتنفس بصعوبة، ولأنه كان كتابًا شيّقًا، ولأنني حين كنت أقرأه، كنت أنسى كل ما يحزنني. شيء في داخلي يشعر أنني لم أُنصف الكتاب، وشيء آخر يشعر أنني لم أُنصف نفسي.
ما أريد قوله، ببساطة، هو أننا، رغم كل شيء، لا نزال بحاجة إلى أن نستمر، على أي مستوى كان. أن ننجز ما هو ضروري – من طعام، وفواتير، وعمل – لكن أيضًا أن نمنح أنفسنا الأشياء الجيدة: الأسرة، والأصدقاء، والضحك، والهواء الطلق. هذه الأشياء، حتى وسط العاصفة، تظلّ تستحق الفرح. و لا ننسى القراءة، نعم، القراءة من بين هذه الأشياء. لا أعني أنها "جيدة لك" بمعناها الصحي أو التعليمي فقط، بل بمعناها الكامل: فرح، وتعلّم، وتجربة، وفهم، واتساع، وترفيه، وهروب مؤقت. كل هذه الأشياء الطيبة تستحق وقتك واهتمامك.
فتمهّل. وحدّد وتيرتك.
مترجم من reactormag بقلم Molly Templeton
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي
يمكن أحتاج أكون أبطئ
للأسف تعودت السرعة مع أنها ليست من أطباعي أحب التمعن في كل شيء لكن أنا لا حيلة لي في هذا العالم السريع !
و ماهو الحل لمشكلة انني لا أستطيع الصبر أو التمعن في شيء، دون أن أمل منه