بين الجوع والإنسانية : قصة إنسان فقد طعامه
مرض كرون الذي لم يحرم الكاتب من تناول الطعام فحسب بل و جزء من إنسانيته أيضاً
في البدء، لم يكن الأمر سوى وصفةٍ لدجاجٍ مشويٍّ، ثم لم يلبث أن أصبح كلَّ شيء بالنسبة لي.
جلستُ ذات مساءٍ أمام شاشةٍ صغيرة، أتابع رجلًا على يوتيوب يطهو الدجاج بمهارةٍ ودقة، وأحاول أن أتخيَّل مذاقه، كأنني أعيش تلك اللحظة معه. ولكن هيهات! فلو أنه وضع الطبق أمامي، لما استطعتُ أن أتناوله، ولا أن أشتمَّ رائحته حتى. ذلك أنَّ المرض الذي أصابني—مرض كرون—كان قد أحكم وثاقه على أمعائي الدقيقة، وربط أنسجتها بالمثانة عبر ناسورٍ ملعون. ولم أكن أودُّ أن أقترف جريمةً ضدَّ نفسي، فأبولَ دجاجًا مشويًّا!
وإذ حُرمتُ لذَّة الطعام، فقد وجدتُني أعيش على غذاءٍ ليس له طعمٌ ولا رائحة، يُسمى التغذية الوريدية الكاملة (TPN اختصارًا). وكان ذلك الغذاء العجيب يُضخُّ في عروقي من كيسٍ، فينقل إلى جسدي كلَّ ما يحتاج إليه من عناصرَ وماءٍ، ولكنه لم يكن يستطيع أن يخدع عقلي، الذي لم يفتأ يصرخُ بي في كلِّ حينٍ: "أنت جائع!"
ولم يكن أمامي إلا أن أبحث عن عزاءٍ وهميٍّ في مشاهدة الطعام! فصرتُ أراقبُ غوردون رامزي وهو يصنع صلصاته الفرنسية، ويُعدُّ التونة بقشر الليمون، وأتابع رجلًا على نتفليكس لا يبدو أنه يعرف شيئًا عن الطعام، وهو يلتهم كاو سوي في تايلاند بشهيةٍ مفتوحةٍ وقلبٍ مطمئن! كانت برامج الطبخ تفتحُ لي أبواب الجحيم، فإذا بي أقتحمها مستمتعًا بالألم، كأنني أكشطُ جرحًا لم يندمل، فلا يزيدني ذلك إلا تعذيبًا، ولا يزيدني التعذيب إلا شغفًا.
حتى إذا طالَ بي هذا الحال، خشيت زوجتي إيريكا أن يتسلَّل المرض إلى عقلي بعد أن سكنَ جسدي. كانت تراني جالسًا بالساعات، غارقًا في مشاهدة الطعام كالمسحور، فإذا سألتُها عن رأيها، أجابتني في ضيق: "أكره ذلك!"، وأشفقتُ عليها من قلقي، فحاولتُ أن أخدعها كما خدعتُ نفسي، واكتفيتُ بمشاهدة برنامج أنتوني بوردان "أجزاء مجهولة"، إذ كان فيه من السفر ما يصرفني عن الطعام، ولكنه لم يكن إلا وهْمًا آخرَ يضاف إلى أوهامي الكثيرة.
وأما المرض، فهو داءٌ عجيبٌ، لم يُكشف عن سره حتى الآن! فهو يُصيب الأمعاء، كأنها أرضٌ غزاها عدوٌّ خفيٌّ لا يُرى، فيحكم سيطرته عليها، ويُثير فيها الثورات والحرائق. ولا يرحم أحدًا، فهو يضربُ هذا في بطنه، ويترك ذاك ليُعاني من الإسهال المُضني، ثم يُهاجم ثالثًا بنوبات الألم والغثيان وفقدان الوزن، حتى لا يدري المرء متى يكون في سلامٍ ومتى يكون في حرب. وأما علاجه، فهو خليطٌ من الستيرويدات والأدوية المثبطة للمناعة، فإن لم يُجدِ ذلك نفعًا، لم يكن هناك مفرٌّ من الجراحة، التي تستأصل الجزء المصاب كأنها تبترُ عضوًا خان الجسد.
وفي الثلاثينيات من عمري، لم يعد المرضُ كما كان في الصِّغر، بل ازدادت سطوته، واشتدَّ بطشه. فقد تآمرت عليَّ الالتهابات الجديدة، واجتمعت مع الأنسجة الندبية التي خلفتها الجراحة الأولى في مراهقتي، فسدَّت الطريق أمام أمعائي، ولم يعد الطعام سوى مقامرةٍ خطرة، أدخلُ فيها مترددًا، أحيانًا أفوز، ولكن في الغالب، أخسر.
كان ذلك الداءُ اللعين قد ظهر في حياتي وأنا في الحادية عشرة. وكان أوَّل ما انتزع مني هو لذَّة الطعام، فأصبح الأكلُ مقززًا لا يثيرُ في نفسي سوى النفور والاشمئزاز.
وأتذكَّر يومًا كنتُ فيه جالسًا في غرفة الانتظار بقسم الطوارئ، أراقب القلقَ في عيون والديَّ، وأشعرُ بنحولي الذي يفضح المرض أمامهما. وكان التلفزيون أمامنا يعرض برنامج طبخ، فإذا بالمُقدِّم يُعدُّ عجةً بالجبن، لكنها لم تكن لي سوى كتلةٍ من القرف، أشبهَ بالأسمدة المحروقة! فقلتُ في ضيق: "لا أستطيع حتى النظر إلى ذلك."
فأجابت أمي، بصوتٍ يحاول أن يكون مرحًا، ولكنه كان يختبئ وراءه خوفٌ عميق: "أوه؟ هذا يبدو لذيذًا بالنسبة لي!"
بعد عامٍ من تشخيصي، بدأ الطبيب يُبدي قلقًا متزايدًا، إذ رأى أنني أفقد من الوزن أكثر مما ينبغي، وأن جسدي الهزيل لن يكون قادرًا على تحصيل ما يحتاجه من سعراتٍ حراريةٍ عبر الطعام العادي. ولما رأى أن لا بديل عن تدخله، قرَّر أن يضعني على علاجٍ غذائيٍّ يُعرف باسم التغذية المعوية، وهو أن تُضخَّ إلى بطني تركيبةٌ حليبيةٌ تمدني بما عجز الطعام عن منحه.
كان الأمر أشبه بطقسٍ يوميٍّ لا مفر منه، إذ كان عليَّ كلَّ ليلةٍ أن أدخل أنبوبًا مطاطيًّا مرنًا عبر أنفي حتى يستقر في معدتي، وأن أنتزعه صباحًا، بسرعةٍ كمن يريد أن يتخلَّص من قيدٍ يثقله، قبل أن أذهب إلى المدرسة كأن شيئًا لم يكن. غير أنَّ الليل لم يكن يخلو من مفاجآته، فكثيرًا ما كان الأنبوب ينفصلُ عن كيس المحلول الوريدي أثناء النوم، فيما تواصل المضخة عملها بلا هوادة حتى الصباح. وحين أستيقظ، أجد نفسي مغطىً بذلك السائل اللزج، مع ألم معدتي الفارغة.
ثم جاء اليوم الذي أُعطيتُ فيه خيارًا جديدًا: أن أشرب التركيبة خلال النهار بدلًا من أن أتحمل الأنبوب ليلاً. فاخترتُ ذلك دون تردد، ولو أن شرب تلك الكمية المطلوبة كان أقرب إلى المستحيل. كان بإمكاني أيضًا أن أشرب السوائل الصافية، فلم يتأخر والداي عن ملء الثلاجة بالمشروبات الغازية بنكهة الليمون والجيلاتين، وكأنهما يحاولان أن يُغطِّيا على قسوة الواقع بمذاقاتٍ مُصطنعة. ولكن الحقيقة لم تكن لتُمحى؛ فلولا ذلك الأنبوب الذي كنت أكرهه كمن يكره سلاسله، لما كنتُ لأبقى على قيد الحياة في سنوات ما قبل المراهقة.
لم يكن العلاج الذي خضعتُ له جديدًا تمامًا، فقد عرف الأطباء التغذية المعوية منذ أوائل القرن العشرين، إذ كانوا يضخون المرقَ والتركيبات الغذائية مباشرةً إلى المعدة، إما عبر أنبوبٍ يُدخل من الأنف كما كان الحال معي، أو عبر شقٍّ في البطن. ولكن كان لذلك النظام شرطٌ لا فكاك منه، وهو أن تكون الأمعاء قادرةً على أداء وظيفتها. إذ لم يكن في ظن الأطباء حينها أن تجاوز الجهاز الهضمي أمرٌ ممكن، بل كانوا يرونه ضربًا من العبث، إذ كيف تُعطى التغذية عبر الوريد دون أن تُسبِّب التهاباتٍ وحرقانًا لا يُطاق؟
إلى أن جاء ستانلي دودريك، وهو طبيب جراحيٌّ من جامعة بنسلفانيا، ليُغير تلك القناعات الراسخة.
في أحد عطلات نهاية الأسبوع من نوفمبر عام 1961، تُرك دودريك وحيدًا لرعاية ثلاثة مرضى خضعوا لإجراءاتٍ جراحيةٍ مختلفة. غير أن الأمر انتهى نهايةً مأساوية، إذ مات الثلاثة جميعًا قبل حلول يوم الاثنين. وقف دودريك أمام تلك المأساة مُتحيِّرًا، ثم راح يُفتش عن سبب ما حدث، حتى لم يجد من تفسيرٍ سوى أنه هو المسؤول، لا لخطأٍ اقترفه، بل لعجزه عن منْع ذلك المصير. وحين صارح مشرفه، الدكتور رودس، بما كان يجول في خاطره، لم ينهره الرجل، ولم يُوبخه، بل قال له في صوتٍ رصين: "لم يمت المرضى بسببك، بل بسبب الجوع!"
كانت تلك الكلمات كشرارةٍ أوقدت في نفس دودريك نارًا لا تنطفئ. فطلب إجازةً من تدريبه الجراحي، وانعزل في مختبرٍ صغيرٍ بقبو المستشفى، عاقدًا العزم على أن يجد حلًّا لهذا العدو الصامت الذي يفتك بالمرضى دون ضجيج. وأخذ يعمل في صمتٍ وإصرار، يُجرِّب ويُعدِّل، حتى صقل تركيبةً غذائيةً يُمكن إعطاؤها عبر الأوردة، متجاوزةً بذلك الأمعاء.
وبحلول أواخر الستينيات، كان قد توصَّل أخيرًا إلى ذلك المزيج العجيب: ماء، و كربوهيدرات، و بروتينات، و عناصر نزرة، و دهون، و أملاح، وفيتامينات متعددة — كلُّ ما يحتاج إليه الجسدُ ليبقى حيًّا، وإن كان في هيئةِ سائلٍ يُشبه غراء إلمر في لونه ورائحته.
غير أنَّ التركيبة لم تكن مثاليةً بعد، إذ كانت تُسبِّب حرقانًا شديدًا عند ضخها في الأوردة. ولم يكن دودريك رجلًا يُلقي السلاح عند العقبة الأولى، بل جرَّبها على نفسه، وعندما رأى تأثيرها، أدار يده نحو الدكتور رودس قائلًا: "لقد وضعتها في وريدي بالفعل، إنها تحرق كالنار السائلة!"
وهنا كان لا بد من حلٍّ جديد. ولم يلبث أن أدرك أن التغذية يجب أن تُحقن بالقرب من القلب، ليتم تخفيفها سريعًا عبر الدورة الدموية. ثم جاء الاختبار الحاسم حين أبقى كلبًا يُدعى ستينكي على قيد الحياة، مُغذَّى فقط بتلك التركيبة التي سُرِّبت إلى وريده الأجوف، وهو ذلك الوريد الكبير الذي يُعيد الدم غير المؤكسج إلى القلب. وعندها، تأكَّد أن ما توصَّل إليه لم يكن وهمًا، بل كان حقيقةً ستُغيِّر حياة الملايين. وهكذا، كان العالم على موعدٍ مع اختراعٍ جديد، حمل اسم التغذية الوريدية الكاملة (TPN).
قال لي طبيبٌ ذات يوم، وهو يشرح لي ما أصابني وكأنه يسرد حكايةً قديمةً يعرفها الجميع إلا أنا: "إذا ظل نسيجٌ ما ملتهبًا لفترةٍ طويلة، فإن الروابط التي تُمسك خلاياه تتفكك شيئًا فشيئًا، حتى يُصبح ليِّنًا لا يحتمل الثبات، وعندئذٍ قد تندمج الأنسجة بعضها ببعض، فتفتح بينها نفقًا صغيرًا يُعرف باسم الناسور." ولم يكن الطبيب يتحدث عن فرضياتٍ بعيدة، فقد أظهر التصوير المقطعي أن أمعائي قد شكلت نواسير متعددة، تلتف حول نفسها كأنها تبحث عن مخرجٍ ضائع، حتى غدا مسار الهضم عندي أشبه بمتاهةٍ غامضةٍ لا بممرٍّ مستقيمٍ كما ينبغي أن يكون.
وماذا كان يمكن أن يُفعل لمواجهة هذا الداء الغريب؟ لقد وجد الأطباء أن تثبيط الجهاز المناعي، بالأدوية المثبطة للمناعة، مع التغذية عبر الوريد، قد يمنح الأمعاء فرصةً للراحة، إذ لا يُطلب إليها هضم طعامٍ أو امتصاص شراب. وقد كان هذا هو الأمل الذي تعلقتُ به، ووضعتُ عليه رجائي، متمنيًا أن تنغلق النواسير كما تنغلق الجروح بفعل الزمن.
وفي سبيل ذلك، كان لا بد من إجراءٍ طبيٍّ لم أكن أعرف عنه شيئًا من قبل، إذ تم إدخال قسطرةٍ وريديةٍ رفيعة تُسمى القسطرة الطرفية المركزية، أو PICC، في وريدٍ داخل ذراعي، ثم وُجِّهت إلى الوريد الأجوف، تمامًا كما فعل دودريك مع كلبه ستينكي في تجاربه الأولى.
كان الممرض الذي تولَّى هذه المهمة يُدعى ستان، رجلٌ يُمارس عمله بتركيزٍ شديد. وكان، رغم الجدية التي تكسو ملامحه، يضع سماعاتٍ في أذنيه ويُغنِّي بصوتٍ خافت: I can’t get enough of your love، كأنما يريد أن يُلطِّف وقع اللحظة، أو أن يُنسي نفسه والآخرين خطورة ما يفعل.
وبما أنني لم أكن سأبقى في المستشفى، بل سأُرسَل إلى المنزل مع نظام التغذية الوريدية، فقد كان لا بد من أن أتعلم كيف أُديره بنفسي. فجاءت ممرضةٌ أخرى تُعلمني، خطوةً بخطوة، كيف أُعد التغذية كل ليلة، وكيف أُشغِّل المضخة على مدار 12 ساعةٍ كاملة. وأخذت تُريني كيف أحقن خليط الفيتامينات المتعددة في كيس المحلول الوريدي، وكيف أغسل القسطرة بمحلولٍ ملحي، وكيف أُراقب الأزرار والصفارات التي تصدرها المضخة أثناء ضخ الخليط في جسدي. ثم شدَّدت على نقطةٍ لم يكن ينبغي لي أن أغفلها: "كل شيءٍ يجب أن يُمسح بالكحول، فدخول أي بكتيريا إلى هذا النظام يعني أنها ستذهب مباشرةً إلى قلبك!"
ثم نظرت إليَّ في انتظار إجابةٍ، وسألتني: "هل فهمت كل ذلك؟"
لكنني، في تلك اللحظة، لم أكن أفكر فيما قالته، بل كنت شاردًا في أمرٍ آخر، أمرٍ بدا لي أكثر غرابةً من كل ما مررتُ به. كيف سيكون شعوري حين أكون في المنزل دون أن آكل؟
في تلك الأيام، كنتُ أعيش مع إيريكا في منزلٍ مزدحم، كما هي عادة كثيرٍ من الأزواج في سان فرانسيسكو، حيث يقطن معهم آخرون يشتركون في الحياة الاجتماعية اليومية. كان أحد رفاقنا في السكن يدير شركةً ناشئةً من غرفة المعيشة، والبيت دائم الضجيج، مكتظٌّ بالزوار، مُفعمٌ بالحركة. وما الذي يفعله الناس عندما يجتمعون؟ إنهم يطبخون ويأكلون ويشربون، وأنا... لن أفعل أيًّا من ذلك بعد اليوم.
في بداية تفاقم حالتي، كنا جميعًا قد اجتمعنا على تحضير طبقٍ من كوك أو فان، وكان طعامًا غنيًّا، و ناضج الطعم، و مليئًا بالنكهات القوية. يومها، جلستُ لتقشير عشراتٍ من حبات البصل الصغيرة، ثم دفعتُ الثمن لاحقًا، حين انهار جسدي في تلك الليلة من فرط الألم.
حين سألتني الممرضة إن كنا سنكون بخير، أجبتها بما ظننته حينها يقينًا: "أعتقد أننا سنكون بخير."
ففي الليلة الأولى في المنزل، كنَّا نتعثر في ترتيب الأمور: حقنُ المكونات، و توصيلُ الكيس بالمضخة، و ضبطُ القسطرة في ذراعي. وبينما نحن كذلك، رأت إيريكا فقاعة هواءٍ تتحرك في الأنبوب، فتوقفنا فجأة.
"هذا لا بأس به، أليس كذلك؟" سألتها وأنا أحاول أن أبدو هادئًا.
"لا أعرف... ماذا لو انفجرت في قلبك؟" قالت، ثم خرجت مُسرعةً إلى المطبخ، حيث كان هناك نحو عشرين شخصًا يطهون ويتسامرون، وبحثت بينهم عن طبيبٍ أو ممرضةٍ يُمكنها استشارتهم. ولم يطل بها البحث، إذ وجدت أخيرًا من يُطمئنها إلى أن الأمر لا يستدعي القلق، وعندها فقط بدأ ضخُّ التغذية من جديد.
وفي إحدى الليالي الأولى في المنزل، جاءت صديقة إيريكا لتُرفه عنا، فأحضرت أقنعةً علاجيةً للوجه. أخذنا صورةً سيلفي ونحن نضعها، وقد بدت إيريكا مشرقةً بحماسٍ لطيف، بينما ظهرتُ أنا جامدًا، كأنني في عالمٍ آخر. وفي ليلةٍ أخرى، جاء رفيقنا في السكن، روري، بألغازٍ لنحلها معًا، ولم يلبث الجميع أن وقعوا في سحرها. كنت أسمعهم يهتفون بحماسٍ كلما وجدوا قطعةً مفقودة، حتى بعد أن انسحبتُ إلى فراشي، ضعيفًا من المرض، وضعيفًا لأنني لم أكن قادرًا على مشاركة حماسهم، ولأنني لم أُظهر لهم ما يكفي من الامتنان لاهتمامهم بي.
في تلك الأسابيع الأولى، كنتُ نائمًا أغلب الوقت، وإن استيقظت، شعرتُ أن عقلي متأهبٌ بطريقةٍ غريبة، فيما كان جسدي هشًّا، كأنه ورق كرتونٍ مبلل. كنتُ أشعر بالجوع يسكن تحت أضلعي، ليس كإحساسٍ عابرٍ بالجوع، بل كتوترٍ متواصل، يشبه ما تشعر به وأنت على وشك البكاء. حتى صوت الثلاجة كان يكفي ليجعلني أرغب في دفن رأسي بعيدًا عنها. كنتُ أحلم بالطعام، و بالحلويات، و بالدونات، ومرةً رأيتُ في المنام أن زوجة أخي، وهي امرأةٌ صربيةٌ عنيدة، قد أحضرت لي صينيةً ممتلئةً بالنقانق، فاستيقظتُ وأنا أشتهيها كأنني لم أعرف الطعام قط.
حين تلقيتُ أول جرعةٍ من التغذية الوريدية، كان قد مضى عليَّ أسبوعٌ ونصف بلا طعام، أعيش على السوائل فقط. ثم، بسبب عطلةٍ وخطأٍ إداري، تُركتُ على نصف الجرعة المطلوبة أسبوعًا آخر، كأنهم أرادوا اختبار تحملي لهذا الخليط الغريب.
وكانت المفاجأة أنني، رغم كل هذا، لم أتوقف عن الشعور بالجوع. حتى بعد أسابيع من التغذية الوريدية الكاملة، كنتُ لا أزال أرى الأكياس البلاستيكية التي تحتويها، وأتساءل: تُرى... هل يُمكن أكلها؟
ومن الحق أن يُقال إن الإنسان يبدأ حياته وقد وُهِب جهازًا هضميًا طويلاً يبلغ طوله قرابة اثنين وعشرين قدمًا من الأمعاء الدقيقة، ولكن إذا اضطر الطب إلى استئصال جزءٍ كبيرٍ منه، حتى لم يبقَ منه إلا أقل من سبعة أقدام، فإن الجسم يصبح عاجزًا عن امتصاص الماء والمواد المغذية كما ينبغي له. وكانت أمعائي في ذلك الحين قد أُنهِكت وأُنهِك تماسكها، مما جعلني في حيرةٍ مما قد يُقدم عليه الأطباء، فإذا رأوا أن لا مناص من إزالة جزء كبير منها، فإن مصيري سيكون معلقًا بحبلٍ واهٍ، ذلك أنني كنت قد فقدت قدمين في شبابي، فإذا ما فقدت جزءًا آخر من أمعائي، فمعنى ذلك أنني سأُساق إلى قدرٍ لا مهرب منه: التغذية الوريدية الكاملة مدى الحياة. ولم يكن ذلك في وسعي، ولا كان عقلي ليتقبله أو يُسَلِّم به.
ولكن العلم، وإن استطاع أن يُطيل حياة المرضى الذين لا سبيل لهم إلى الطعام، فإنه لم يستطع بعد أن يجد السبيل إلى معالجة ما يتركه هذا الحرمان في النفس من أثر. فلقد عرفت كثيرًا من الشقاء بسبب مرض كرون، وعرفتُ معه كيف يمكن للمحنة أن تصوغ شخصية الإنسان، حتى خُيِّل إليّ أن نفسي لم تُشكَّل إلا من هذه التجارب القاسية، لكن التغذية الوريدية كانت أمرًا آخر، كانت كأنني جالسٌ على كرسيٍّ قديم في نزهة رائقة، ثم هبَّ من العدم شخصٌ مجهولٌ فركل إحدى قوائمه، فطار صحن الطعام الذي كنتُ أُمسِكه بين يدي، وتناثر ما فيه في الهواء، ثم لا أدري أين اختفى!
والطعام ليس ضرورةً فحسب، بل هو تجربةٌ يشترك فيها البشر مع سائر الكائنات الحية. تُمتص المواد العضوية وتُفكك، فيُحيلها الجسد إلى عملياتٍ كيميائية دقيقة، تُفضي في نهايتها إلى إنتاج طاقة تُسيِّر الجسد. ويحفز الطعام، منذ أن يقع عليه البصر، استجاباتٍ فسيولوجيةً دقيقةً في الدماغ، عبر العصب المبهم، مما يبعث على الشعور بالشبع. أما الإشارات الهرمونية، فإنها تزيد الأمر دقةً وتكاملًا، فهرمون اللبتين، الذي تفرزه الخلايا الدهنية، يُرسل رسائل إلى الدماغ ليُشعره بالامتلاء، لكن العجب كل العجب أن هذا النظام الدقيق يختل لدى من يُحرمون من الطعام الطبيعي، حتى وإن حُقنوا بمحاليل التغذية التي تضمن بقاءهم!
وما زلت أذكر تلك الطبيبة التي سألتها يومًا، وأنا في غمرة جوعي، عما يمكنني أن أفعله للتخفيف من حدته، فالتفتت إليّ في هدوءٍ، وقالت: "يمكنك أن تمضغ اللحم، ثم تبصقه." فبُهِتُّ لما سمعت، ولم أدرِ ما أقول.
إن من بين كل ما قاله لي الأطباء، لم أسمع نصيحةً أكثر إثارةً للدهشة من هذه! لم يكن ينقصني طعم الطعام بقدر ما كنت أفتقد معناه الاجتماعي، وأحِنُّ إلى ذلك الشعور الفطري بالامتلاء. فكيف أجد عزائي في مضغ الطعام ثم لفظه كما يفعل راعي بقرٍ يُلقي بتبن الماشية؟ ومع ذلك، فما أعجب العلم! فقد أثبتت الدراسات أن مجرد مضغ الطعام، وإن لم يُبتلَع، كفيلٌ بإطلاق إشاراتٍ إلى الدماغ تُحفِّز الشعور بالشبع، وكأن الجسم يُخدَع ليظن أنه قد تناول وجبةً حقيقية!
ولقد حدَّثني عالم الأعصاب الغذائي، بول سميتس، في المركز الطبي الجامعي بأوتريخت، فقال لي إن مأساة من يعتمدون على التغذية الوريدية لا تكمن في الحرمان من الطعام وحده، بل في أن هذه التغذية تُدخل إلى الجسد ببطءٍ شديد، حتى إن الدماغ لا يشعر بها، ولا يستجيب لها كما يستجيب للطعام الطبيعي. فليس العيب في تزويد الجسم بما يحتاجه من سعراتٍ حرارية، ولكن العيب في أن إشارات الرضا والشبع التي يبعثها الطعام في الدماغ تغيب غيابًا تامًا، فلا يجد الجائع راحة، ولا يشعر المُطعَم بأنه قد شبع.
ومن أجل ذلك، كان جوعي ليس إلا استجابةً طبيعيةً عصبيةً، يمكن أن تُفَسَّر بالعودة آلاف السنين إلى الوراء، حين كان الإنسان الأول يصارع للبقاء، ويتبع غريزته في طلب القوت، فإما وجده فشبع، وإما حُرِم منه فهلك جوعًا!
ولقد كان لي في تلك الأيام شأنٌ غريب، فقد كنت أعتمد على التغذية الوريدية، وكنت أفرُّ من المطبخ فرارًا، لا لأنني كنت أكره ما فيه من آنيةٍ وأدوات، ولكن لأنني كنت أشعر أنني غريبٌ في هذا المكان، كأنني أقتحم على أهله حياتهم، وأتطفل على عالمٍ لم يعد لي فيه مكان. فإذا أقبل المساء، عادت إيريكا من عملها، فأغلقتُ شاشة الحاسوب، حيث كان أنتوني بوردان يُلقي بشبكته في بحرٍ بعيدٍ ليصطاد عشاءه في جنوب إيطاليا. ثم نجلس معًا على السرير، فتسألني إيريكا، وهي تبتسم ابتسامتها الرائقة: "هل أطلقت اليوم ريحًا؟" فأجيبها مازحًا: "ليس اليوم!" فنضحك معًا على هذا السخف الذي صار مقياسًا ليومٍ جيد.
لكنها، مع الأيام، بدأت تأكل أقل، وعرفت أن أهل المرضى الذين يعتمدون على التغذية الاصطناعية يضيقون بالطعام، ويشعرون بالذنب كلما تناولوا لقمة، حتى إن بعضهم يفقد وزنه دون أن يدري. ولم يكن ذلك ما أردت لها، لكن ذلك ما حدث. ومع ذلك، لم تكن تشكو، ولم تكن تبدو متذمرة، بل كانت تبتسم في ودٍّ، وتُسلِّم حياتنا كما هي، ولكنني كنت أتساءل في نفسي: هل يُمكن لشجرةٍ أن تنمو وتزدهر وهي محرومةٌ من الغذاء؟ ونحن لم نكن قد أتممنا عامًا واحدًا من زواجنا بعد!
أما أنا، فقد كنت أعتزل في غرفتنا كلما خرجت إيريكا، وأفرط في مشاهدة برامج الطهي التي كانت تبعث في نفسها القلق. ولستُ أدري كيف مضت بي الأيام على هذا الحال، ولكنني قرأتُ فيما قرأتُ أن الأطباء، منذ أواخر السبعينيات، قد لاحظوا أن الذين يعتمدون على التغذية الوريدية يمرون بمراحل شتى من التكيف، فيها الحزن، ولكن ليس الحزن الذي يعرفه الناس، وإنما هو حزنٌ على فقد الطعام، كأن الإنسان لم يفقد طعامه فحسب، بل فقد معه شخصًا عزيزًا! وكنت أشعر أنني إذ أشاهد هذه البرامج، فإنما أنا أبحث عن شيءٍ ضاع مني، وأُحيي ذكرى ما كان لي، فإذا حاولت أن أكف عن مشاهدتها، أحسستُ أنني غريبٌ بين الناس، كأنني قدمت من كوكبٍ آخر، في عالمٍ يدور كله حول الطعام، وأنا وحدي المُستثنى من هذا النظام!
ولكنني ما لبثتُ أن وجدتُ في عالم الإنترنت ما يُخفف عني بعض ما كنت أجد من الوحشة، فإذا أنا لستُ وحدي في هذا الأمر العجيب! ولقد سألت في أحد المنتديات عن سبب تعلق الناس ببرامج الطهي، فحدثني أحدهم حديثًا غريبًا، إذ قال لي إنه لا يدري لماذا كان يُشاهد برنامج Diners, Drive-Ins and Dives مع غاي فييري، مع أنه كان نباتيًا! وكان آخر قد اشترى حلوى الكانولي، وجعل شريكه يصف له طعمها وصفًا دقيقًا، كأنه مذيعٌ في برنامج طهي!
وهذه التجارب التي مررت بها، والتي يمر بها كل من يعتمد على التغذية الوريدية، ليست غريبةً في أصلها، فقد عرفت البشرية مثلها في أزمنة أخرى. ففي عام 1944، نُشرت في جامعة مينيسوتا دعوةٌ تقول: "هل ستجوع حتى يشبع الآخرون؟" فاستجاب لها ستة وثلاثون رجلًا، وخضعوا لنظامٍ غذائي صارم، حتى فقد كل واحدٍ منهم ربع وزنه! ثم راحوا يتغيرون، فصاروا لا يفكرون إلا في الطعام، ويجمعون الوصفات، بل إن بعضهم استبدل بصور النساء صور الأطعمة، وكأن الطعام قد صار لهم معشوقًا لا يُفارقونه! بل إن أحدهم، وهو أعجبهم، قرر أن يغير حياته كلها، ليصبح طاهيًا!
وهكذا، إذا حُرِم الإنسان من الطعام، استبدت به فكرة الطعام! فإن الطعام، شأنه في ذلك شأن الألم والجنس، ضرورةٌ حياتيةٌ لا يستغني عنها المخلوق، وكل من لا يكترث لهذه الغرائز لا يستطيع أن يعيش طويلًا. ومن أجل ذلك، كان تذكر مواضع الطعام، والانتباه إلى وجوده، غريزةً متأصلةً في البشر، فإذا اشتد الجوع، اشتدت معها هذه الغريزة، كأنها تستيقظ من سباتها، فلا تدع لصاحبها راحةً ولا سكونًا.
وأما المرضى الذين يعتمدون على التغذية الوريدية، فإن أجسامهم تتغذى، ولكن عقولهم لا تدرك ذلك! فليس الحرمان الفسيولوجي وحده هو الذي يُضني الإنسان، ولكن الحرمان النفسي أشد وطأة، وأثقل حملًا. ولقد قال لي بول سميتس، وهو من علماء الأعصاب، إن الأمر ليس غريبًا، فإشارات الجوع في الدماغ تعمل وفق نظامٍ دقيق، فإذا اختل هذا النظام، أصاب صاحبه هوسٌ بالطعام، فلا يشغله شيءٌ كما يشغله هذا الحرمان القاسي. وهذا ما كنت أُحس به، وما كان يحس به كل من عرف الجوع، ولم يكن في وسعه أن يُشبعه!
ولبثتُ شهرًا كاملًا لم أذق طعامًا ولا شرابًا، حتى الماء لم يكن لي منه نصيب، ثم أقبل الطبيب ذات صباح، وقال لي في لهجةٍ يغلب عليها الحذر: "يمكنك الآن أن تُجرب شرب السوائل الصافية." ولم أكن أدري، حتى تلك اللحظة، كيف يكون للفم طعم، ولا كيف تبدو الحياة حين يعود إليها مذاق الأشياء. فلما ارتشفتُ أول قطرة من عصير التوت الأبيض، شعرتُ وكأنني أفيق من غيبوبةٍ طويلة، وكأن العالم بأسره قد استحال إلى نكهةٍ جديدة، ما كنتُ أعرف لها مثيلًا. ولما تناولتُ هلام التوت الأحمر، شعرتُ بتلك اللذة التي لا تدركها إلا نفسٌ قد حرمت، فإذا هي تذوق، فتهتز كما يهتز الظمآن للغدير البارد بعد طول ظمأ. ثم مضيتُ شهرين أتغذى بالتغذية الوريدية، واقتات بالسوائل الصافية، حتى جاءتني ممرضة الرعاية المنزلية، وسحبت القسطرة الوريدية من جسدي، ولا أذكر اليوم لماذا قرر الأطباء ذلك، ولكني أذكر أنني لم أُبالِ، فقد كنتُ على وشك أن أعود إنسانًا كاملًا، آكلُ وأشرب كما يأكل الناس ويشربون. ولقد كنتُ أتناول الطعام بحذر، ولكن كل لقمةٍ كنتُ أضعها في فمي كانت كأنها وليمةٌ عظيمة!
ثم قادتني إيريكا إلى جنوب كاليفورنيا، حيث منزل والديها، لنحتفل بعيد الشكر. ولقد جلستُ إلى مائدة العشاء، وتناولتُ الديك الرومي في حذرٍ شديد، كأنني أخشى أن ينقض عليَّ وهو لا يزال حيًا! ولكن الرحلة لم تدم طويلاً، فما إن قطعنا الطريق عائدين إلى سان فرانسيسكو، حتى شعرتُ بتلك التشنجات التي أعرفها جيدًا، وأحسستُ بأن الطعام يتسلل إلى المثانة، فتوقفنا في المستشفى، وهناك قال لي الأطباء بلهجةٍ لا تقبل الجدل: "لن يُغلق الناسور من تلقاء نفسه، والجراحة أمرٌ لا مفر منه." ثم حددوا لي موعدها بعد يومين من عيد الميلاد.
وهكذا، لم تكد تمر ثلاثة أسابيع على توديعي للتغذية الوريدية، حتى وجدتني أُستدعى إليها مرةً أخرى، وعادت القسطرة إلى مكانها، ولكن هذه المرة، كانت ممرضتان هما اللتان تولتا إدخالها، وقد كانتا تحاولان، في لطفٍ مصطنع، أن تُهوّنا عليَّ الأمر، ولكنهما لم تلبثا أن بدأتا تتبادلان التساؤلات بصوتٍ خافت: "هل هذا في مكانه الصحيح؟ لا، لا يبدو كذلك!" فنظرتُ إليهما في ضيقٍ وقلتُ في نفسي: "لو كان ستان هنا، لما حدث هذا!"
ثم جاءني روري ذات مساء، وجلس إلى جواري، وهو يحاول أن يُسلّيني بحديثه، فقال لي، وكأنما اكتشف شيئًا عجيبًا: "هل تعلم أنهم يصنعون ألغازًا ثلاثية الأبعاد؟" ثم التفتَ إلى إيريكا، وأعطاها شطيرة برغر، فتناولتْها منه، وخرجت بها إلى الخارج. ودخلت ممرضة تحمل أدويةً على صينيةٍ مزينة بزخارف قرمزية، فتوقف روري عن الكلام، وحدّق في المشهد بعينين متعجبتين، ثم هز رأسه، وقال وهو يضحك: "العالم ملتوٍ أحيانًا! من يظن نفسه ذاك الذي قرر أن يُقدَّم لك الدواء على صينية بطاطس مقلية؟" وضحكتُ في نفسي، فقد كنتُ قد طرحتُ على نفسي هذا السؤال مئات المرات من قبل!
ثم انصرف روري، وذهبت إيريكا، وبقيتُ وحدي في تلك الغرفة الصغيرة، والظلام يزحف إليها شيئًا فشيئًا، فأخرجتُ حاسوبي المحمول، وفتحتُ برنامجًا يصوّر صيادي مونتانا، وهم يطهون أضلاع الغزلان على نار المخيم.
وفي يوم عيد الميلاد، جاءت عائلة إيريكا إلى سان فرانسيسكو، فقد كنتُ عاجزًا عن السفر إليهم. وأقاموا في منزلنا مائدةً عامرةً بألوانٍ شتى من الطعام، خليطٌ من التقاليد السويدية والكورية، التي ورثتها العائلة. أما أنا، فقد اخترتُ أن أخرج في نزهةٍ مع كلبنا، بعيدًا عن هذا العالم الذي لم يعد لي فيه مكان.
إن البشر يختلفون عن سائر المخلوقات حين يتصل الأمر بالطعام، فليس هو لهم مجرد وسيلةٍ للبقاء، ولكنه فنٌّ، وهوية، وطقوسٌ اجتماعيةٌ عميقة. ولقد قالت سو مكلولين، وهي من مؤلفي كتاب "معنى الطعام": "كما تأكل الحيوانات لتعيش، يأكل البشر، ولكنهم يحوّلون هذه الضرورة إلى فنٍّ وطقوس، تجعل من الطعام عنصرًا في الرفاه النفسي لا يقل أهميةً عن البروتينات والكربوهيدرات."
إن الحرمان من الطعام ليس حرمانًا جسديًا فحسب، ولكنه حرمانٌ اجتماعي، وعزلةٌ قاسية. وقد أظهرت إحدى الدراسات، التي شملت واحدًا وخمسين مريضًا يعتمدون على التغذية المعوية، أن معظمهم كانوا يعانون من العزلة، ومن فقدان الهوية. فالطعام ليس مجرد تغذية، ولكنه لغةٌ نتحدث بها، ونظامٌ نرتب به أيامنا، وهو خيطٌ رفيعٌ يربطنا بالحياة والمجتمع.
وفي سبيل فهم تأثير العلاج الغذائي على حياة المرضى، يجري الباحثون استطلاعاتٍ نوعية، تُظهر أن تلبية الاحتياجات الفسيولوجية لا تكفي وحدها، إذ يظل التأثير النفسي والجسدي أمرًا لا يمكن إنكاره. ولقد أظهرت الإحصاءات أن ما يقرب من نصف المرضى يعانون من إرهاقٍ دائم، وأن ثلثهم يشكون من القلق، وأن ربعهم يعانون من الاكتئاب السريري.
ثم عثرتُ، ذات يوم، على ملاحظةٍ قديمة في حاسوبي، كانت تحمل عنوان "طعام أريد تناوله"، وفيها قائمةٌ طويلةٌ من الأطباق التي كنتُ أشتهيها أيام التغذية الوريدية: سرطان البحر بالفلفل الأسود، و فطائر البقان، و فطائر اللحم، و اللوكوم التركي، والدجاج المشوي! ولا أذكر اليوم لماذا اشتهيتُ تلك الأطعمة دون غيرها، ولكني أذكر جيدًا كيف كان جسدي يرسل لي الإشارات، يخبرني بأن شيئًا ما ليس على ما يرام. ولقد أدركتُ في النهاية أن الجوع، والحرمان، والبحث عن الطمأنينة في برامج الطهي، لم يكن إلا استجابةً طبيعية، بل كان أقرب ما يكون إلى التجربة الإنسانية ذاتها.
وبعد الجراحة، أفقتُ في غرفةٍ بالطابق الخامس من المستشفى، وكانت النافذة تُطل على برج Salesforce، الذي شُيّد حديثًا، ورأيتُ إيريكا تبتسم، وتقول لي في فرحٍ غامر: "لقد نجحت الجراحة! لم يُزل الجراح سوى ست بوصات من الأمعاء، وأصلح المثانة، ولن تحتاج إلى التغذية الوريدية مجددًا!". أنقذتني الجراحة من الحاجة إلى المزيد من التغذية الوريدية في المستقبل القريب، بينما دفعتني برفق نحو مستقبل بدون طعام — مرة أخرى، الراحة والمعاناة في نفس الوقت.
ثم دخل الجراح ذات مساء، وألقى نظرةً على النافذة، وقال في اشمئزاز، وهو يشير إلى البرج: "أكره ذلك الشيء، يبدو كأنه قضيبٌ عملاق!"
فنظرتُ إليه، وقلتُ مبتسمًا: "حقًا؟ أما أنا فأراه أشبه ببوريتو!"
مترجم من longreads بقلم Andrew Chapman