بدأ إيفالد إيليينكوف مسيرته الفلسفية داخل الاتحاد السوفييتي في زمن خاص، ذلك الزمن الذي أعقب وفاة ستالين، وعُرف بفترة الذوبان السياسي. في هذا العصر، أُعلن أن الستالينية ليست إلا عبادة شخصية متطرفة، بعيدة كل البعد عن الإنسانية والعقلانية. و كان المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي علامة بارزة في هذا التغير، حيث دُعي الاتحاد إلى العودة إلى "المعايير اللينينية". ولم يكن ذلك مجرد نداء سياسي، بل كان يعني أيضًا استعادة روح عشرينيات القرن الماضي، تلك التي تميزت بالرومانسية الثورية، بعد عقود من الحكم البيروقراطي الستاليني. كما كان يعني استعادة الأممية التي اندثرت خلال زمن العزلة القومية.
في عهد خروتشوف، خطت الحكومة السوفييتية خطوات جريئة نحو دعم حركات التحرر الوطني، متجاوزة الحدود التقليدية لعلاقاتها الدولية، حيث أقامت علاقات مع شخصيات مثل جوزيف بروز تيتو ودول أخرى غير متحالفة. ومن أبرز الأحداث التي شهدتها تلك الحقبة، كان مهرجان الشباب والطلاب العالمي الذي عُقد في صيف عام 1957، حيث اجتمع فيه شباب من اثنتين وخمسين دولة. ولم يكن الفن بمنأى عن هذا التغير، ففي عام 1959، استضافت روسيا معرضًا ضخمًا للفن الأمريكي، حيث انكشف للجمهور السوفييتي عوالم جديدة من التعبيرية التجريدية، تجلت في أعمال روثكو وبولوك ودي كونينغ. ووسط هذا الزخم الثقافي والفكري، بدأت الأرض تُوصف بـ موطنًا مشتركًا للبشرية جمعاء، وانكمشت الانقسامات الأيديولوجية لتصبح كأنها ظلال من الماضي.
لقد كان رفض الستالينية حركة فكرية شاملة، إذ أُعيد تعريفها بوصفها غير عقلانية، أشبه بالأساطير، مليئة بالشعائرية والعقائدية الجامدة. لذلك، بدا طبيعيًا أن تنزع الفلسفة الروسية ما بعد الستالينية إلى العقلانية والتحليل العلمي. وإذا تأملنا قائمة أعلام الفكر السوفييتي في تلك الفترة، كـميراب مامارداشفيلي، وألكسندر زينوفيف، وإيفالد إيليينكوف، وغورغي شيدروفيتسكي، نجدهم جميعًا قد انشغلوا بالتفكير والتحليل والتقدم العلمي. كانوا جميعهم يؤمنون بعالمية الفلسفة العقلانية التي تعود جذورها إلى عصر التنوير الأوروبي، وكانوا يرون أنفسهم ناطقين باسم الإنسانية جمعاء. ومع ذلك، تفرقت مساراتهم الفكرية لاحقًا، رغم احتفاظها بتشابه عائلي على حد وصف فيتجنشتاين.
أما إيليينكوف، فقد ترك أثرًا خاصًا في نصه المبكر كوزمولوجيا الروح، حيث أعلن منذ البداية أن الفكر الإنساني يمثل ذروة تطور المادة. رفض إيليينكوف وجود أشكال أسمى من الفكر، مثل الإله أو الروح العالمية، وكتب قائلاً:
الفكر هو أسمى منتج لتطور الكون. ومع ولادة الدماغ المفكر، تصل المادة الكونية إلى درجة تعقيد لا يمكن تجاوزها. وبعد ذلك، لا يبقى سوى الانحدار نحو التفكك، سواء على المستوى البيولوجي-الفيزيولوجي أو إلى كيمياء بسيطة مع وفاة الدماغ.
وأشار إيليينكوف إلى أن الفلسفة الحقيقية لا يمكن ممارستها إلا إذا آمنا بأن الدماغ البشري هو أرقى أدوات التفكير الممكنة، وإلا فسنقر بوجود شيء ما فوق الطبيعة، وهو غير قابل للمعرفة والتصور. ومن وجهة نظره، هذا الإقرار لا يؤدي إلا إلى الشك واللاأدرية.
عند النظر إلى هذا الطرح، نجد إيليينكوف ملتزمًا بمبادئ الماركسية السوفييتية التي تنفي وجود شيء يتجاوز الطبيعة، مؤكدة أن الدماغ البشري نتاج لتطور الطبيعة الجدلي. كانت المادية التاريخية جزءًا لا يتجزأ من المادية الجدلية، حيث ارتبط التاريخ البشري بالعمليات الكونية الجدلية. ومع ذلك، كان هناك خلاف جوهري بين الماركسية السوفييتية والماركسية الغربية حول مكانة المادية الجدلية.
وفي هذا السياق، يأتي ألكسندر كوجيف ليقدم تفسيرًا مثيرًا في مخطوطته غير المنشورة صوفيا. يرى كوجيف أن الفهم التقليدي للطبيعة كان قائمًا على السحر، الذي يعتمد على إمكانية تحويل الأشياء. ويعتبر أن الجدلية هي امتداد لهذا التفكير السحري. لكنه أشار إلى أن الفلاسفة الإغريق كانوا أول من أسس مبدأ الهوية، مستبعدين إمكانية تحول الأشياء إلى أشياء أخرى. واعتبر كوجيف أن خطأهم كان في تطبيق هذا المبدأ على البشر.
وهكذا، قدم كوجيف قراءة خاصة لهيغل، معتبراً أن الجدلية الهيجلية تعود بالسحر إلى الواجهة، لكنها تقتصر على البشر فقط. ويرى أن هيجل استقى هذا التفكير من اللاهوت العبري الذي جعل الله رمزًا للفناء والخلق. ومع محاولة المسيحية التوفيق بين اللاهوت العبري والفلسفة الإغريقية، أثبت هذا المزج استحالته، مما دفع هيجل إلى تطوير رؤيته الخاصة للبشر ككائنات قادرة على التحول الذاتي.
إن هذا الطرح الهيجلي دخل الفلسفة السوفييتية بلبوس الماركسية-اللينينية-الستالينية، لكنه، كما يرى كوجيف، كان يحمل في طياته خطأً جوهريًا حينما حاول توسيع الجدلية لتشمل الطبيعة. وقد أدى ذلك إلى إضعاف المادية الجدلية، مما أثر سلبًا على تطور العلوم في الاتحاد السوفييتي.
إن فهم كوجيف للجدلية الهيجلية في الطبيعة والحياة يوصف بأنه رآها مجرد عبثية، وقد أضاف في سياق نقده:
إنني أرى أن هيجل قد وقع في خطأ جسيم، ولا أستطيع في هذا المقام أن أقدم نقدًا حاسمًا لفلسفته، لكنني أرغب في أن أوضح أن الجدلية الحقيقية، سواء في بعدها الميتافيزيقي أو الظاهراتي، لا وجود لها إلا في خيال هيجل، أو في ما يسمى بـ 'الشلينجي'.
إن سعي هيجل لتوسيع نطاق الجدلية ليشمل الطبيعة ينبع من رغبة ساذجة في تحقيق وحدة شاملة. لكن العالم، كما أراه، يتسم بازدواجية واضحة: فبينما تتسم الطبيعة بالتطابق مع ذاتها وتخضع للعلم في وصفها، نجد أن الإنسانية هي التي تنبض بالجدلية أو بالسحر الفكري.
وفي مقاله علم الكونيات، يتحدى إيليينكوف الفهم السائد للعلاقة بين المادية الجدلية والمادية التاريخية كما درجت في الفكر السوفيتي. يستهل مقاله بمناقشة فرضية الموت الحراري للكون، والتي تفترض أن الكون، وفقًا للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، سيخسر تدريجيًا طاقته حتى يصبح صحراء باردة خالية من الحياة. ويجد إيليينكوف أن هذه الفرضية تفتقر إلى القبول لأنها تحرم الطبيعة من طابعها الجدلي. فإذا كانت الطبيعة مجرد حدث عابر يبدأ وينتهي، فإنها بذلك تغيب عنها الضرورة، تلك الضرورة التي تشكل جوهر الجدلية. ويعتبر إيليينكوف أن الفلسفة الحقيقية لا تتعامل مع المصادفة، بل مع الضرورة، ويرى في فرضية الموت الحراري مدخلًا إلى الشك واللأدرية، وهو ما يرفضه بكل وضوح.
ويؤكد إيليينكوف أن الطبيعة لكي تكون جدلية، عليها أن تخوض في عدد لا حصر له من الدورات الكونية، إذ لا تكفي دورة واحدة لتحقيق ذلك. ومن هنا تبرز مسألة أساسية في طرحه: عندما تنتهي دورة وجود الطبيعة، كيف يمكن بدء دورة جديدة؟ إجابته على هذا التساؤل تتسم بالجرأة: فهو يرى أن البشرية، في المستقبل، ستتمكن من حيازة المعرفة الكافية والطاقة اللازمة لتفجير ليس الأرض فحسب، بل الكون بأسره. وبهذا التفجير، سيعود الكون إلى حالة من الفوضى الطاقية التي ستعيد إطلاق عملية الخلق الكوني. ويستند إيليينكوف في هذا التصور إلى قوانين المادية الجدلية التي يرى أنها ثابتة، مما يعني أن الكون الجديد سيسير بالضرورة على خطى المسار الجدلي الذي وصفه كوجيف بالسحر.
وفي منظور إيليينكوف، فإن الإبداع الإنساني الأسمى لا يكمن في بناء الكون، لأن الطبيعة تقوم بذلك بذاتها، بل في العودة إلى حالة الفوضى الأولى. وهو يربط هذه الفكرة بالمشاريع الثورية للطليعة الروسية، مثل أوبرا النصر على الشمس التي تصور أبطالها يسيطرون على الشمس ويفرضون عهدًا من الفوضى. غير أن إيليينكوف يضع ثقته في التكنولوجيا، التي يراها أداة للنفي والهدم، تضاهي في قوتها إله الكتاب المقدس أو الروح المطلقة لدى هيجل. ومن خلال التكنولوجيا، يتمكن البشر من تجاوز طبيعتهم ذاتها بل وتدمير تلك الطبيعة. وهكذا يجعل -من إدخال السلبية المطلقة بواسطة التكنولوجيا - الطبيعة ذاتها جدلية. ويصبح الإنسان، وهو مسلح بتكنولوجيا الهدم، شبيهًا بالإله الذي يقود إلى النهاية بقدرته على الفناء. وبذلك، لا تتحقق الجدلية في الطبيعة إلا عبر دمجها في التاريخ البشري، الذي هو تاريخ التكنولوجيا. في هذا السياق، تتبدل أماكن المادية الجدلية والمادية التاريخية: تصبح الطبيعة جدلية لأنها مجرد لحظة في التطور الجدلي لتاريخ "الكائنات المفكرة"، كما يسميها إيليينكوف.
وتظهر أهمية هذا التصور حين يربطه إيليينكوف بفكرة التجديد الكوني من خلال الانتحار الجماعي وتدمير الكون القديم، وهو ما يتطلب قدرة على الفناء كانت تُنسب تقليديًا إلى الآلهة. ووجد إيليينكوف ومعاصروه في تطوير القنبلة النووية رمزًا لهذه القدرة الجديدة التي اكتسبها البشر. وقد عبّر غونتر أندرس عن هذا الإحساس الجديد بالقوة في كتابه تقادم الإنسان بقوله: إن المطلق أو اللامتناهي في وعي الإنسان الحديث ليس قوة الإله أو الطبيعة، بل قوتنا نحن، لأننا قادرون على إفناء بعضنا البعض، فنحن أسياد النهاية … نحن اللامتناهيون.
وفي حين كان النقاش الأخلاقي حول القنبلة النووية يركز غالبًا على مخاطرها التدميرية، رأى إيليينكوف، بتأثير هيجلي واضح، أن هذه القوة السلبية ليست مصدر خطر فقط، بل وسيلة لترقية البشرية والكون بأسره. وفي هذا السياق، اعتبر الانفجار النووي تجسيدًا أسمى للتفكير والفناء. ويشير إيليينكوف في مواضع عدة إلى أن القوة النووية تمثل أعلى مظاهر الفكر، بما تحمله من إمكانات تدميرية.
وفي وصفه للانفجار الكوني الذي سيحدثه البشر، يقول إيليينكوف:
إن التفكير هو الرابط الضروري الذي يتيح تجديد المادة الكونية. وهو السبب الفعّال الذي يؤدي إلى إطلاق الاحتياطيات اللانهائية للحركة. تمامًا كما يتسبب الآن في التفاعل المتسلسل الذي يدمر كمية صغيرة من المادة المشعة بشكل مصطنع. وفي هذه الحالة، يبدو أن العملية ستأخذ شكلًا متسلسلًا يعيد إنتاج نفسه على نحو لولبي، ويخلق الظروف لاستمراره على نطاق أوسع. وسيمتد هذا التفاعل ليشمل الاحتياطيات الطبيعية للحركة في الكون، تلك المرتبطة بالموت الحراري. وباختصار، سيتحقق ذلك في شكل انفجار كوني هائل يولّد الهياكل الأولية التي تنتشر عبر الفضاء الكوني. ومن منظور الفيزياء الحديثة، لا يبدو هذا مستحيلًا على الإطلاق
إن تأملًا عميقًا في ما طرحه إيليينكوف يقودنا إلى تصور مذهل وغير مسبوق: الكون الذي نعيش فيه، بكل تفاصيله وتعقيداته، يجب أن يتحول إلى قنبلة نووية، يُفجَّر فتنتشر شظاياه في سحابة مشعة. هذه السحابة، التي تحمل في طياتها بذور الحياة، ستنمو تدريجيًا حتى تتشكل في هيئة كون جديد يعيد إلى الوجود ألقه وتجدده.
ولكن إيليينكوف لا يقف عند هذه الصورة المتطرفة دون تساؤل أخلاقي أو فلسفي؛ إذ يرى أن البشرية لا ينبغي أن تركن إلى انتظار الموت، ذلك الموت البطيء الذي يتسرب إلينا كظلال قاتمة في كون يمضي نحو البرودة والتجمد. بل يرى أنه ينبغي للإنسانية أن تختار الانتحار الجماعي، حيث تفجر نفسها والكون معها، ليكون هذا الفعل الشجاع والنهائي إعلانًا للحياة المتجددة. ويؤكد إيليينكوف أن البشرية، بصفتها كائنات مفكرة، عليها أن تختار المواجهة النشطة مع الموت، بدلًا من الاستسلام لبرودة الخمود. ولكن هذه الفكرة، بما تحمله من بعد فلسفي وجودي، تردد أصداءً نيتشوية واضحة، رغم أن إيليينكوف يبتعد عنها بإصراره على تماسكه مع التقاليد الماركسية وتعويله على التكنولوجيا بدلًا من الطاقة الحيوية.
وهنا يُطرح تساؤل عميق: هل يمكن أن يفضل البشر الموت البطيء في كون متجمد على اختيار الفناء الفوري بانفجار نووي؟ إذا حدث ذلك، فإن الطبيعة تصبح مجرد حادث عرضي، والفلسفة الحقيقية، تلك التي تبحث عن المعنى والضرورة، تفقد قدرتها على الوجود. سيحل الشك واللاأدرية، وستفقد البشرية بوصلتها الفلسفية. فكيف يمكن منع هذا المصير؟ وكيف يمكن للبشرية أن تُقدِم على مثل هذا القرار الجريء بالانتحار الجماعي؟ هنا يظهر إيليينكوف بإجابته:
الإنسان، باعتباره روحًا مفكرة، يعيد إلى الطبيعة دينها القديم. الطبيعة، في شبابها، أنجبت الروح المفكرة. والآن، هذه الروح، بتضحيتها بوجودها الخاص، تعيد إلى الطبيعة الأم التي تحتضر بـالموت الحراري، شبابها المتقد. إنها تمنحها الفرصة لتبدأ دورات جديدة من التطور الهائل، دورات قد تنتهي يومًا ما، في مكان وزمان آخر، بظهور عقل مفكر جديد وروح مفكرة جديدة تنبثق من قلب الكون المبرد.
بهذه الرؤية، ترتبط كرامة الإنسانية، بل وهدفها الأسمى، بالوفاء بهذا الالتزام الأخلاقي العميق تجاه الطبيعة. فالحديث عن دين قديم يمتد بجذوره إلى أبعاد تاريخية وفلسفية عميقة، يمكن تناولها من زوايا متعددة. ومن هنا يستحضر إيليينكوف تحليل كوجيف، الذي يقارن بين الجدل الهيجلي والاقتصاد الرمزي لمارسيل موس. ذلك الاقتصاد الذي يقوم على تبادل الهدايا، تلك العادة التي سبقت الاقتصاد السوقي لكنها ما زالت حية في العلاقات الإنسانية اليومية.
يرى موس أن الهدايا ليست مجرد فعل تبادلي بسيط، بل إنها تحمل في طياتها قوة رمزية. قبول الهدية يجعلنا نشعر بالتبعية لمن قدمها. بهذا المعنى، فإن تقديم هدية هو في حد ذاته وسيلة لاكتساب السلطة على الآخر. وإذا كانت الخسارة المالية في الاقتصاد السوقي تُعد ببساطة خسارة، فإن الخسارة الواعية في الاقتصاد الرمزي تكتسب معنى أعمق وقيمة رمزية أعلى. ومن هنا، يصبح الفعل الرمزي، والفناء الذاتي بشكل خاص، مصدرًا لزيادة القيمة الرمزية للفرد.
لكن موس، في بساطة تشبيهه، يُظهر أيضًا الجانب العنيف في هذا التبادل. فهو يشير إلى أن دعوة أحدهم إلى العشاء، على سبيل المثال، تُلزم المدعو بتقديم دعوة مقابلة، وهو ما يعبر عنه الألمان بكلمة "الانتقام" (sich zu revanchieren). وهكذا، يصبح التبادل الرمزي نوعًا من الحرب الخفية: الهدية هجوم، والهدية المضادة هجوم مضاد.
إذا تأملنا في مفهوم التبادل الرمزي الذي يشكل لبنة أساسية في بناء المجتمعات البشرية، أدركنا أنه عادة ما يتسم بالتوازن المتبادل. بيد أن هذا التوازن قد ينحرف أحيانًا ليأخذ شكلًا غير مألوف، ينطوي على تدمير ذاتي شامل ومنفرد. هذا الشكل الغريب يُعرف في الأوساط الأنثروبولوجية بمصطلح البوتلاتش، وهو تعبير مستعار من لغات السكان الأصليين في أمريكا الشمالية. يشير المصطلح إلى طقس تنافسي بين القبائل، حيث تسعى كل قبيلة إلى إثبات تفوقها من خلال تدمير ممتلكاتها. القبيلة التي تدمر قدرًا أكبر من ممتلكاتها تحظى بالمرتبة الأعلى في النظام الاجتماعي والسياسي، حتى يحين موعد الطقس التالي.
وقد تناول الباحث مارسيل موس هذا الطقس في كتاباته، مُبرزًا النشوة التي تصاحب هذا التدمير الذاتي، لكنه لم يغفل الإشارة إلى المصالح الذاتية الكامنة خلف هذا السلوك. يقول موس:
الاستهلاك المفرط للثروة، خاصة في طقوس البوتلاتش التي تتميز بالإسراف، وأحيانًا بالتدمير المحض، يمنح هذه المؤسسات مظهرًا من الإسراف الطفولي والإهدار العبثي. ففي هذه الطقوس لا تُمنح الثروات فقط بل تُهدر وتُدمر عمدًا؛ المعادن الثمينة تُلقى في البحر، والموارد تُستهلك حتى الفناء. غير أن هذا التدمير المفرط ليس مجرد تعبير عن السخاء، بل هو وسيلة لبناء هرمية اجتماعية؛ فالمانح يُظهر تفوقه وسلطته، بينما القابل يضع نفسه في مرتبة التابع
في هذا السياق، يبرز البوتلاتش كتعبير عن منافسة شرسة بين الأفراد والمجتمعات، حيث يُسعى إلى التخلص مما يثقل كاهل الإنسان بالدَّيْن، سواء أكان ماديًا أم رمزيًا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لمن يكون هذا الدَّيْن؟ يجيب موس بأن الإنسان مدين للطبيعة ذاتها.
ولاحقًا، صاغ الفيلسوف جورج باتاي فلسفة شاملة حول هذا المفهوم. فعندما نصف شخصًا بأنه موهوب، فإننا نعني أنه تلقى موهبة من الطبيعة. لكن الفنان أو الشاعر، كما يرى باتاي، يشعر بحتمية رد هذا العطاء للطبيعة من خلال تدميره، لا انتفاعًا به. لماذا هذا الالتزام الغريب؟ لأن قبول عطاء الطبيعة يجعل الإنسان رهينًا لها، ويضعه في موقف الخضوع. ومن هنا، يرى باتاي أن السيادة الحقيقية تكمن في رفض هدايا الطبيعة، وفي تدمير الذات كوسيلة للتحرر من عبودية الطبيعة.
أما الفيلسوف إيليينكوف، فقد تبنى رؤية مغايرة. إذ رأى أن الطبيعة ليست مجرد قوة مهيمنة، بل إنها قد تصبح خادمة للإنسانية التي تتمتع بقدرة على إعادتها إلى نقطة الصفر. ومن هذا المنطلق، يصبح الانتحار الجماعي للبشرية، وفقًا لإيليينكوف، تحقيقًا لواجب أخلاقي يتمثل في رد هبة الحياة للطبيعة. بهذا الفعل، تمنح البشرية للطبيعة شبابها من جديد.
غير أن هذا التصور يحمل في طياته تعقيدات فلسفية؛ إذ يجعل من العملية الديالكتيكية للكون مرهونة بالاختيارات الأخلاقية للبشرية. يرى إيليينكوف أن الكون لا بداية له ولا نهاية، بل هو دائرة لا نهائية، تتحقق من خلال دورات متكررة من الخلق والتدمير. ومن هنا، يصبح التبادل الرمزي بين الإنسان والطبيعة جزءًا من هذه الدورة الكونية، حيث ينتهي كل عصر كوني بقرار البشرية بتدمير ذاتها، ليبدأ عصر جديد.
هذا التصور لا يبتعد كثيرًا عن الرؤى الهندية التي ترى الكون كدورة أزلية. ففي الهندوسية، يُطلق على نهاية كل عصر كوني برالايا، وهو تدمير بالنار يُمهِّد الطريق لخلق كون جديد. في هذه الفلسفة، تتجلى فكرة أن التدمير ليس نهاية، بل بداية جديدة، حيث يصبح الكون جزءًا من نظام كوني أوسع تحكمه الدارما، أو القانون الكوني.
والدارما، في الفلسفة الهندية، ليست خاضعة لإرادة البشر، بل هي قوة مستقلة تنظم شؤون الكون. وعلى الإنسان أن يتبعها، لا أن يفرضها. إنها تشبه الروح المطلقة لدى هيجل، مستقلة عن الأخلاقيات البشرية، رغم أنها تفرض نظامًا أخلاقيًا على البشر.
أما في السياق الروسي، فإن رؤية إيليينكوف تتلاقى مع رؤى الكوزميين الروس في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. بيد أن الفارق يكمن في أن الكوزميين سعوا إلى تحقيق وعد الخلود المسيحي من خلال التكنولوجيا، بينما سعى إيليينكوف إلى تجديد الكون على الطريقة الهندية عبر نار كونية شاملة. في كلتا الحالتين، يرتبط مصير الكون بقرارات البشرية الأخلاقية، سواء في الحاضر أم الماضي أم المستقبل. وهكذا، يصبح وجود الكون ذاته، بل وإمكانية تحقيق فلسفة ديالكتيكية حقيقية، مرهونًا بهذه القرارات. ولعل هذا يفسر لماذا احتلت الأخلاق مكانة مركزية في فلسفة إيليينكوف المتأخرة.
مترجم من e-flux بقلم بوريس جرويس فيلسوف وكاتب مقالات وناقد فني ومنظر إعلامي وخبير مشهور عالميًا في الفن والأدب في الحقبة السوفيتية، وخاصة الطليعة الروسية.