لماذا نشعر بالوحدة ونحن محاطون بالأحباء؟
قد تكون محاط بالحب الغير مشروط و مع ذلك تشعر بالوحدة، هل تستطيع الفلسفة تفسير ذلك؟
أحد أكثر اللحظات التي شعرت فيها بالوحدة بحياتي حدثت منذ أكثر من خمسة عشر سنة، ومع ذلك فإن لدغتها المؤلمة ما زالت حية في ذاكرتي بشكل فريد. كنت قد عدت لتوي إلى وطني بعد فصل دراسي في إيطاليا. خلال إقامتي في فلورنسا، تطورت لغتي الإيطالية إلى حد أنني كنت أحلم بها. كما نمت لدي اهتمامات فكرية بالمستقبل الإيطالي، والدادائية، والعبثية الروسية، وكل ذلك بتأثير من إعجابي العميق بأستاذي الذي كان يدرس تلك المواضيع. وبالإضافة إلى ذلك، تأثرت بعمق بسوناتات الحب لدانتي وبترارك، وربما كان لذلك علاقة بعلاقة عاطفية كنت أعيشها في ذلك الوقت.
عندما انتهى فصلي الدراسي، عدت إلى بلدة صغيرة في نيوجيرسي، حيث كان المنزل الذي أقيم فيه هو منزل والد صديقي، وكان فى صدد تنفيذ عملية الرهن من قبل البنك ولكنه لم يُصادر بعد. كان والداه قد انتقلا للعيش في مكان آخر، وسمحا لي بالإقامة هناك مع صديقي وأخته وصديقها خلال فترات الإجازات الجامعية. أثناء إجازتي، قضيت معظم وقتي مع هؤلاء الأشخاص وعدد قليل من أصدقاء طفولتي الأعزاء.
عندما عدت من إيطاليا، كانت لدي رغبة شديدة في مشاركة ما اكتسبته من خبرات هناك. أردت أن أتحدث مع صديقي عن مدى جاذبية المستقبل الإيطالي على الصعيد الجمالي، رغم ما فيه من تعقيد فكري. أردت أن أعبر لأصدقائي المقربين عن تأثير سوناتات الحب الإيطالية على نفسي، وكيف تمكن بوب ديلان من تجسيد تلك القوة في أغانيه. شعرت بحاجة ملحة لمشاركة أجزاء من حياتي الفكرية والعاطفية التي أصبحت مركزية في فهمي لذاتي. كما شعرت برغبة كبيرة في الانخراط فكريًا وعاطفيًا بعمق، لأكون بكاملي هذه الشخصية الجديدة التي أصبحت عليها. لكن، عندما عدت إلى المنزل، لم أشعر فقط بعدم القدرة على التواصل مع الآخرين بطرق تلبي احتياجاتي الجديدة، بل شعرت أيضًا بعدم الاعتراف بما أصبحت عليه منذ مغادرتي. كان هذا الشعور بالوحدة عميقًا ومؤلمًا بشكل لا يوصف.
هذه التجربة ليست بالغريبة على الطلاب الذين يدرسون في الخارج. فحتى عندما يكون للمرء شبكة من العلاقات الداعمة، فإنه غالبًا ما يواجه ما يُعرف بـ"الصدمة الثقافية العكسية"، والتي وصفها عالم النفس كيفن جاو بأنها "عملية إعادة التكيف، وإعادة تشكيل الثقافة، وإعادة استيعاب الفرد في ثقافته الأساسية بعد العيش في ثقافة مختلفة لفترة طويلة من الزمن". وتعد مشاعر الوحدة سمة مميزة للأفراد الذين يمرون بمخاض هذه العملية.
ولكن هناك العديد من تجارب الحياة الشائعة الأخرى التي تثير مشاعر الوحدة، حتى لو كان الأفراد الذين يمرون بهذه التجارب لديهم أصدقاء وعائلة محبون لهم. كالطالب الذي يعود إلى عائلته وأصدقائه بعد سنة تحويلية أولى في الكلية، أو المراهقة التي تعود إلى منزل والديها المحبين ولكن المكبوتين منها بعد صحوتها الجنسية في المعسكر الصيفي، أو المرأة الملونة من الجيل الأول في كلية الدراسات العليا التي تشعر بالرعاية ولكن أيضًا "بين العالمين" دائمًا، ويساء فهمها ولا يراها أعضاء قسمها أو عائلتها وأصدقاؤها في الوطن بشكل كامل. ومثل ذلك أيضًا ممرضة السفر التي تعود إلى منزل شريكها وأصدقائها بعد مهمة عمل ذات معنى خاص أو مرهقة نفسيًا بشكل خاص، والرجل الذي يمر بانفصال صعب عن شريكة عاش معها لفترة طويلة، والمرأة التي تصبح أول أم في مجموعة أصدقائها؛ والقائمة تطول.
ولا يتطلب الأمر حدثًا تحويليًا في الحياة لإثارة مشاعر الوحدة. فمع مرور الزمن، غالبًا ما يحدث أن الأصدقاء والعائلة الذين اعتادوا على فهمنا جيدًا يفشلون في النهاية في فهمنا كما فعلوا من قبل، ويفشلون في رؤيتنا على حقيقتنا الجديدة كما اعتادوا من قبل. وهذا يؤدي أيضًا إلى الشعور بالوحدة، حتى وإن كانت الوحدة تزحف بشكل تدريجي وخفي إلينا. يبدو أن الوحدة تشكل خطرًا وجوديًا، وهو أمر يتعرض له البشر دائمًا ــ وليس فقط عندما يكونون بمفردهم.
في كتابه الأخير "الحياة صعبة" (2022)، يصف الفيلسوف كيران سيتيا الوحدة بأنها "ألم الانفصال الاجتماعي". ويجادل فى كتابه حول أهمية الاهتمام بطبيعة الوحدة - سواء لماذا تؤلمنا أو ما "يخبرنا به هذا الألم عن كيفية العيش" - خاصة في ضوء الانتشار المعاصر لثقافة الوحدة. ويشير بحق إلى أن الوحدة ليست مجرد مسألة عزلة تامة عن الآخرين، لكن يمكن للمرء أن يشعر بالوحدة حتى في غرفة مليئة بالناس. بالإضافة إلى ذلك، يشير إلى أنه بما أن الآثار النفسية والفسيولوجية السلبية للوحدة "تعتمد على التجربة الذاتية نفسها للوحدة"، فإن مكافحة الوحدة بشكل فعال تتطلب منا تحديد أصل هذه التجربة الذاتية.
اقتراح سيتيا هو أننا "حيوانات اجتماعية ذات احتياجات اجتماعية" تشمل بشكل حاسم الاحتياجات التي يجب أن نحبها وأن يتم الاعتراف بقيمتنا الأساسية. عندما نفشل في تلبية هذه الاحتياجات الأساسية -كما يحدث عندما نكون بعيدين عن أصدقائنا- فإننا نعاني من الوحدة. وبدون وجود الأصدقاء ليؤكدوا لنا أننا مهمون، فإننا نختبر "الإحساس المؤلم بالفراغ، وبالثقب الموجود في أنفسنا والذي كان يُملأ في السابق ولم يعد كذلك الآن". هذه هي الوحدة في أبسط أشكالها. (يستخدم سيتيا مصطلح "الأصدقاء" على نطاق واسع، ليشمل العائلة المقربة والشركاء الرومانسيين، وأنا أتبع استخدامه لتلك الكلمة هنا.)
تخيل امرأة تحصل على وظيفة تتطلب الانتقال لمسافة طويلة إلى منطقة لا تعرف فيها أحدًا. حتى لو كان هناك الكثير من الجيران والزملاء الجدد لاستقبالها عند وصولها، فإن ادعاء سيتيا هو أنها ستميل إلى تجربة مشاعر الوحدة، لأنها ليس لديها بعد علاقات حب وثيقة مع هؤلاء الأشخاص. بمعنى آخر، ستميل إلى تجربة مشاعر الوحدة لأنها ليس لديها بعد أصدقاء يعكس حبهم لها القيمة الأساسية التي تمتلكها كشخص، الأصدقاء الذين جعلوها ترى أنها مهمة. فقط عندما تقيم صداقات حقيقية، ستشعر بالاعتراف بقيمتها غير المشروطة؛ عندها فقط سيتم تلبية احتياجاتها الاجتماعية الأساسية لتكون محبوبة ومعترف بها. بمجرد أن تشعر أنها مهمة حقًا لشخص ما -من وجهة نظر سيتيا- فإن شعورها بالوحدة سوف ينحسر.
سيتيا ليس الوحيد الذي ربط مشاعر الوحدة بنقص الاعتراف الأساسي. في كتابها "أصول الشمولية" (1951)، تعرف حنة أرندت أيضًا الوحدة بأنها شعور ينتج عندما يفشل الاعتراف بالكرامة الإنسانية للفرد أو قيمته غير المشروطة كشخص وتأكيدها، وهو شعور يظهر عندما تكون هذه الاحتياجات الأساسية للحالة الإنسانية غير ملباة.
تحصل هذه الإفتراضات عن الوحدة على قدر كبير من الحديث وهذا صحيح، لكنها تفتقد شيئًا أيضًا. بناءً على هذه الآراء، تسمح لنا الصداقات المحبة بتجنب الشعور بالوحدة لأن الصديق المحب يوفر شكلاً من أشكال الاعتراف الذي نحتاجه ككائنات اجتماعية. وبدون صداقات محبة، أو عندما نكون بعيدين عن أصدقائنا، لا نتمكن من تأمين هذا الاعتراف. ولذلك نصبح وحيدين. لكن لاحظ أن الميزة التي أكد عليها الصديق هنا - قيمتي غير المشروطة - قد فقدت طابعها الشخصي بشكل جذري. إن الخاصية التي تعترف بها الصديقة في داخلي وتؤكدها هي نفس الخاصية التي تعترف بها وتؤكدها في صداقاتها الأخرى. وبعبارة أخرى، فإن الاعتراف الذي يُزعم أنه يخفف من الشعور بالوحدة من وجهة نظر سيتيا هو اعتراف الصديق بسمة مجردة وغير شخصية للذات، وهي صفة يجب أن يتقاسمها المرء مع كل إنسان آخر: قيمته غير المشروطة كإنسان. (الاعتراف الذي يقدمه لي الصديق المحب هو أنني "مهم كإنسان... تماماً مثل أي شخص آخر").
نظرًا لأن كرامتي أو قيمتي منفصلة عن أي سمة خاصة في نفسي كفرد، يمكن لصديقي التعرف على تلك القيمة والتأكيد عليها دون الاعتراف باحتياجاتي الخاصة وقيمي المحددة وما إلى ذلك أو الانخراط فيها. إذا كان سيتيا يقول ذلك بشكل صحيح، فيمكن لهذا الصديق أن يخفف من وحدتي دون الانخراط في مصدر تفردي عن الآخرين.
أو لنقل هل يمكنه ذلك؟ إن التفسيرات التي تربط الوحدة بالفشل في الاعتراف الأساسي (والتخفيف من الوحدة يتم عن طريق الحب والاعتراف بكرامة الفرد) قد تكون محقة بشأن أصل أشكال معينة من الوحدة. ولكن يبدو لي أن هذه ليست الصورة الكاملة، وأن مثل هذه الروايات تفشل في تفسير مجموعة واسعة من الظروف الشائعة الذي ينشأ فيها الإحساس بالوحدة.
عندما عدت إلى الوطن من الفصل الدراسي الذي قضيته في الخارج، عدت إلى شبكة من الصداقات القوية والمحبة. كنت محاطًا يوميًا بمجموعة صامدة من الأشخاص الذين اعترفوا وأكدوا باستمرار على قيمتي غير المشروطة كإنسان، وتحملوا ادعاءاتي البغيضة (هكذا بدا الأمر على ما يبدو) وقبلوني على الرغم من أنني كنت غريبًا بشكل حاسم عن الصديق الذي كانوا يعرفونه من قبل. ومع ذلك مازلت أعاني من الوحدة. في الواقع، على الرغم من أنني حظيت بصداقات وثيقة أكثر من أي وقت مضى ــ وكنت على مقربة من الأصدقاء وأفراد الأسرة كما كنت في أي وقت مضى ــ إلا أنني كنت أكثر وحدة من أي وقت مضى. وينطبق هذا أيضًا على السيناريوهات الشائعة الواردة أعلاه: الطالب الجامعي في السنة الأولى، والوالد الجديد، وممرضة السفر، وما إلى ذلك. كل هذه السيناريوهات مهيأة لمشاعر الوحدة المؤلمة على الرغم من أن الأفراد الذين يمرون بمثل هذه التجارب محتمل كثيراً يكون لديهم شبكة محبة من الأصدقاء والعائلة والزملاء الذين يدعمونهم ويدركون قيمتهم غير المشروطة.
لذا، لا بد أن الشعور بالوحدة ينطوي على ما هو أكثر مما تظهره رواية سيتيا (وغيرها مما قالها مثله). وبالتأكيد، إذا لم يتم الاعتراف بقيمة الفرد، فسوف يشعر بالوحدة الشديدة. ولكن كما يمكن للمرء أن يشعر بالوحدة في غرفة مليئة بالغرباء، فإنه يمكن أن يشعر بالوحدة في غرفة مليئة بالأصدقاء. ما يزعج التفسيرات التي تربط الوحدة بغياب الاعتراف الأساسي هو أنها تفشل في إنصاف الوحدة باعتبارها شعورًا ينبثق ليس فقط عندما يفتقر المرء إلى ما يكفي من العلاقات الإيجابية والمحبة، ولكن أيضًا عندما يدرك المرء أن العلاقات التي تربطه (بما في ذلك علاقات الحب بشكل خاص) تفتقر إلى الجودة الكافية (على سبيل المثال، الافتقار إلى عمق العلاقة و بالشعور المرغوب بالاتصال). وسوف ينظر الفرد إلى مثل هذه العلاقات على أنها تفتقر إلى الجودة الكافية عندما لا يلبي أصدقاؤه وعائلته الاحتياجات المحددة لديه، أو يعترفون بها ويؤكدونها كفرد معين هو عليه.
ونحن نرى هذا بشكل خاص في منتصف أو في أعقاب أحداث أى مرحلة حياتنا تكون انتقالية وتحويلية، عندما تحدث تحولات أكبر من المعتاد. ونتيجة لمرورنا بمثل هذه التجارب، فإننا غالبًا ما نطور قيمًا جديدة واحتياجات أساسية ورغبات محفزة من ذواتنا، مما يؤدي إلى فقدان القيم والاحتياجات والرغبات الأخرى التى كانت لدينا في هذه العملية. بمعنى آخر، بعد خوض تجربة تحويلية خاصة، نصبح أشخاصًا مختلفين في جوانب أساسية عما كنا عليه من قبل. إذا أصبح أصدقاؤنا، بعد هذا التحول الشخصي، غير قادرين على تلبية احتياجاتنا الأساسية التي تم تطويرها حديثًا أو التعرف على قيمنا الجديدة ورغباتنا المركزية وتأكيدها - ربما يرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنهم لا يستطيعون ذلك، لأنهم لا يدركون أو يفهمون (حتى الآن) من أصبحنا - سوف نعاني من الوحدة.
وهذا ما حدث لي بعد إيطاليا. وبحلول الوقت الذي عدت فيه، كنت قد طورت احتياجات أساسية جديدة ــ على سبيل المثال، الحاجة إلى مستوى معين ونوع معين من المشاركة الفكرية ــ والتي لم تتم تلبيتها عندما عدت إلى الوطن. علاوة على ذلك، لم أكن أعتقد أنه من العدل بشكل خاص أن أتوقع من أصدقائي تلبية هذه الاحتياجات. ففي نهاية المطاف، لم يكن لديهم الأطر المفاهيمية لمناقشة العبثية الروسية أو سوناتات الحب الإيطالية في القرن الثالث عشر؛ هذه لم تكن مجرد أشياء أمضوا أى وقت من حياتهم في التفكير فيها. ولم ألومهم. إن توقع تطويرهم أو الاهتمام بتطوير مثل هذا الإطار المفاهيمي بدا لي أمرًا سخيفًا. ومع ذلك، وبدون إطار مشترك، شعرت بعدم القدرة على تلبية حاجتي للمشاركة الفكرية وإيصال كامل حياتي الداخلية لأصدقائي، والتي تجاوزتها قيم جمالية محددة تمامًا، القيم التي شكلت الطريقة التي أرى بها العالم. ونتيجة لذلك، شعرت بالوحدة.
بالإضافة إلى تطوير احتياجات جديدة، أدركت أنني قد تغيرت في جوانب أساسية أخرى. لقد كنت أعلم أن أصدقائي يحبونني ويؤكدون على قيمتي غير المشروطة، ولكن عندما عدت إلى المنزل، شعرت بأنهم لم يعودوا قادرين على رؤية مصدر تفرد شخصيتي الجديد والتأكيد عليها. لقد تغيرت بشكل جذري. وفي الحقيقة، شعرت في بعض الأحيان بأنني أصبحت غير قابلة للفهم حتى بالنسبة لأولئك الذين يعرفونني جيدًا. بعد تجربتي في إيطاليا، أصبحت أرى العالم من منظور مختلف وأكثر دقة؛ إذ أصبحت قيم الجمال والإبداع والنمو الفكري أساس حياتي؛ وأصبحت عاشقة جدية للشعر، وفهمت نفسي كفيلسوفة مزدهرة. في ذلك الوقت، لم يكن أصدقائي المقربون قادرين على رؤية هذه الجوانب مني والتأكيد عليها، في حين أن الغرباء النسبيين في دوراتي الجامعية كانوا يدركونها. عندما عدت إلى المنزل، لم أشعر بأن أصدقائي يرونني حقًا.
لا يحتاج المرء إلى قضاء فصل دراسي في الخارج لتجربة ذلك. خذ على سبيل المثال الممرضة التي اختارت مهنتها في البداية كوسيلة لتحقيق الاستقرار المهني والمالي. قد تجد نفسها، بعد تجربة ذات معنى خاص مع أحد المرضى، مدفوعة بالرغبة في إحداث تغيير في حياة مرضاها. ومع تطور رغباتها، قد تتغير قيمها الأساسية أيضًا: حيث قد تطور قيمة جديدة تتمثل في تخفيف المعاناة كلما أمكن ذلك. وقد تجد بعض جوانب وظيفتها، تلك التي لا تنطوي على تخفيف المعاناة أو التي تنطوي على تخفيف محدود، لم تعد مرضية كما كانت من قبل. بعبارة أخرى، قد تكون قد طورت حاجة جديدة لشكل معين من صنع الفارق الهادف، وهذه الحاجة، إذا لم تتم تلبيتها، تجعلها تشعر بالسطحية وعدم الرضا العميق.
إن مثل هذه التغييرات - التغييرات في ما يحفزك حقًا وما يجعلك تشعر بالرضا العميق عن نفسك - هي تغييرات عميقة. فالتغيير في هذه النواحي يعني التغيير تمامًا. حتى لو كانت لديك صداقات محبة، إذا كان أصدقاؤك غير قادرين على التعرف على هذه الميزات الجديدة فيك والتأكيد عليها، فقد تفشل في الشعور بأنك مرئي لديهم، وتفشل في الشعور بالتقدير. عند هذه النقطة، يترتب على ذلك الشعور بالوحدة. ومن المثير للاهتمام والمزعج بشكل خاص أن مشاعر الوحدة تكون بارزة ومؤلمة خصوصاً عندما يكون الأشخاص غير القادرين على تلبية هذه الاحتياجات هم أولئك الذين يحبوننا بالفعل ويؤكدون قيمتنا غير المشروطة.
لذلك، حتى مع الأصدقاء المحبين، إذا تصورنا أننا غير قادرين على أن يتم رؤيتنا وتأكيدنا كأشخاص محددين، أو إذا لم تتم تلبية بعض احتياجاتنا الأساسية، سنشعر بالوحدة. وسيتيا على حق حين يقول إن الوحدة نتيجة غياب الحب والتقدير. لكنها قد تنجم أيضًا عن عجز - وأحيانًا فشل - أولئك الذين نحبهم و يحبوننا عن مشاركة قيمنا أو تأكيدها، أو تأييد الرغبات التي نعتبرها جوهرية في حياتنا، أو تلبية احتياجاتنا.
هناك طريقة أخرى لصياغة الأمر وهي أن احتياجاتنا الاجتماعية تتجاوز مجرد الاعتراف بقيمتنا كإنسان لديه احتياجات. يمكن أن تكون هذه الاحتياجات واسعة النطاق مثل الحاجة إلى الارتباط العاطفي المتبادل، أو محددة مثل الحاجة إلى مستوى معين من المشاركة الفكرية أو التبادل الإبداعي. ولكن حتى عندما تكون الحاجة محددة أو غير شائعة، إذا كانت حاجة عميقة تتطلب من شخص آخر أن يلبيها ولكن لم تتم تلبيتها، سنشعر بالوحدة. حقيقة أننا نشعر بالوحدة عندما لا تُلبى هذه الاحتياجات المحددة تظهر أن فهم هذا الشعور يتطلب الانتباه ليس فقط إلى ما إذا كانت قيمتي مؤكدة، ولكن أيضًا إلى ما إذا كان يتم الاعتراف بي وتأكيد فرديتي وخصوصيتي من قبل من حولي.
والأكثر من ذلك، بما أن الأشخاص المختلفين لديهم احتياجات مختلفة، فإن الظروف التي تنتج الوحدة ستختلف. أولئك الذين لديهم حاجة قوية للاعتراف بتفردهم قد يكونون أكثر ميلاً للشعور بالوحدة. بينما الآخرون، الذين لديهم احتياجات أضعف للاعتراف أو الارتباط العاطفي المتبادل، قد يواجهون قدراً كبيراً من العزلة الاجتماعية دون الشعور بالوحدة على الإطلاق. بعض الأشخاص قد يخففون من شعورهم بالوحدة من خلال تنمية دائرة واسعة من الأصدقاء غير المقربين بشكل خاص، والذين يلبي كل منهم احتياجات مختلفة أو يقدر جانبًا مختلفًا منهم. ومع ذلك، قد يستمر آخرون في الشعور بالوحدة إذا لم يكن لديهم صداقات عميقة وحميمة يشعرون فيها بأنهم مرئيون ومقدرون بشكل كامل في تعقيدهم وكامل كيانهم.
ومع ذلك، باعتبارنا كائنات دائمة التغير، ومع أصدقاء وأحباء يتغيرون باستمرار أيضاً، فإننا دائمًا عرضة للشعور بالوحدة والألم الناتج عن المواقف التي لا يتم فيها تلبية احتياجاتنا. يستطيع أغلبنا أن يتذكر صديقاً كان يلبي ذات يوم بعض احتياجاتنا الاجتماعية الأساسية، ولكنه في نهاية المطاف، تدريجياً وربما حتى بشكل غير محسوس، أخفق في القيام بذلك. وإذا لم يتم تلبية هذه الاحتياجات من قبل الآخرين في حياة المرء، فإن هذا الوضع سيؤدي إلى شعور المرء بالوحدة العميقة والمفجعة.
في مثل هذه الحالات، يمكن للعلاقات الجديدة أن تقدم عونًا ونورًا حقيقيين. على سبيل المثال، قد يكون لدى الوالد الجديد الوحيد أصدقاء ليس لديهم أطفال ولا يعرفون الاحتياجات والقيم التي تتطور خلال عملية الانتقال المعقدة للغاية إلى الأبوة؛ ونتيجة لذلك، قد ينمي علاقات مع آباء أو مقدمي رعاية جدد، هؤلاء الأشخاص الذين يشاركونه قيمه المتغيرة حديثًا ويفهمون بشكل أفضل أفراح وآلام وتناقضات إنجاب طفل. وبقدر ما تمكن هذه العلاقات الجديدة من تلبية احتياجاته وتسمح له بالشعور بصدق رؤيته، فإنها ستساعد في التخفيف من شعوره بالوحدة. إذاً يمكن للمرء أن يحاول مواجهة وحدته وجهاً لوجه من خلال البحث عن علاقات مع الآخرين الذين قد يشاركونه اهتماماته أو يكونون في وضع أفضل لتلبية احتياجاته المحددة. قد تكون الوحدة، إذن، مجرد حالة فراغ أو غياب للرفقة، ولكنا قد تكون أيضاً هي انعكاس لعمق التغيرات في ذواتنا وفي احتياجاتنا.
لكنك لا تحتاج إلى التخلص من العلاقات القديمة لتنمية العلاقات الجديدة. عندما يعجز أصدقاؤنا القدامى -الذين نظل ملتزمين تجاههم بصداقتهم- عن تلبية احتياجاتنا الجديدة، فمن الحكمة أن نتساءل عن كيفية إنقاذ الموقف والحفاظ على العلاقة. في بعض الحالات، قد نختار اعتماد استراتيجية سلبية، مع الاعتراف بمد وجزر العلاقات والتأخر الطبيعي بين تطور الاحتياجات وقدرات الآخرين على تلبيتها. يمكنك "الانتظار". ولكن بما أن تلبية احتياجاتك قد يكون صعبًا إذا لم توضحها بشكل واضح، فإن الاستراتيجية النشطة تبدو واعدة أكثر. لتتمكن من تلبية احتياجاتك بشكل أفضل، قد تحاول إيصال تلك الاحتياجات وتوضيح الطرق التي لا تشعر من خلالها بأنك مرئي.
وبطبيعة الحال، لن تنجح مثل هذه الاستراتيجية إلا إذا كانت الاحتياجات غير الملباة التي تثير شعور المرء بالوحدة هي احتياجات يمكن تحديدها والتعبير عنها. ولكننا في كثير من الأحيان - وربما دائمًا - سنجد أن لدينا احتياجات ورغبات وقيم لا ندركها أو لا نستطيع التعبير عنها حتى لأنفسنا. نحن -إلى حد ما- غامضون دائمًا أمام أنفسنا. ونظرًا لهذا الغموض، فإن درجة معينة من الوحدة قد تكون جزءًا لا مفر منه في الحالة الإنسانية. والأكثر من ذلك، إذا لم نتمكن حتى من فهم أو التعبير عن الاحتياجات التي تثير شعورنا بالوحدة، فإن تبني استراتيجية أكثر سلبية قد يكون الخيار الوحيد المتاح أمامنا. في مثل هذه الحالات، الطريقة الوحيدة للتعرف على احتياجاتك أو رغباتك التي لم تتم تلبيتها هي ملاحظة أن شعورك بالوحدة قد بدأ في التلاشي بمجرد أن يبدأ شخص آخر في تلبية تلك الاحتياجات والرغبات.
مترجم من Aeon بقلم Kaitlyn Creasy