إن السؤال عن قيمة الحياة هو أحد التساؤلات الأساسية التي تعكس طبيعة تجربتنا الإنسانية. سؤال يمتد عبر الزمان والمكان، ويعبر عن رغبة عميقة في فهم مكانتنا في هذا العالم. ومع ذلك، مهما كانت الإجابة المقدمة، فإنها قد لا تشبع دائمًا تلك الرغبة العميقة لمعرفة قيمة وجودنا.
عند التفكير في هذا التساؤل، يجب أن نأخذ في الاعتبار بعض النقاط الأساسية. قد ينبع هذا التساؤل من معاناة أولئك الذين يعيشون في بلدان تمزقها الحروب، أو يعانون من الإستعباد، أو يواجهون أزمات بيئية. وعلى العكس، قد يكون هذا السؤال وليد الامتياز، حيث يتم طرحه من قبل أولئك الذين ينعمون بالوقت والراحة للتفكر. وقد يكون هذا السؤال غير مطروح أصلًا في العصور الأولى للبشرية، أو غير مألوف في الثقافات التي تختلف تجاربها الاجتماعية عن تجربتنا الحالية.
عند النظر إلى الحياة على الأرض، نجد أن هذا السؤال يصبح أكثر تعقيدًا. بالنسبة لمعظم الكائنات الحية، ويبدو أن الهدف الأساسي للوجود هو التكاثر، والارتباط بالدورة التطورية والبيئية. ومع ذلك، حتى مع هذا الفهم العلمي، يبقى السؤال مطروحًا: "ما هي القيمة الحقيقية لكل هذا؟"
ولا توجد إجابة قاطعة لهذا التساؤل. قد تكون الحياة، بكل تعقيداتها وتطوراتها، قد ظهرت ببساطة دون وجود معنى أعلى لها. بل وقد يبدو أحيانًا أن الكوكب قد يكون أفضل حالًا بدون بعض الأنواع، بما في ذلك الإنسان. من الممكن أن يكون غياب البشر مفيدًا للنظام البيئي، لأننا، كبشر، نميل إلى تدمير الكوكب وأنفسنا، محملين بالخوف والعداء تجاه جنسنا. وبينما كان للبشر تأثير هائل على الأرض، هناك القليل من الأدلة التي تشير إلى أننا جعلنا العالم مكانًا أفضل بشكل عام، أو أن الكائنات الأخرى استفادت من وجودنا، باستثناء الطفيليات وبعض الحيوانات التي ارتبط وجودها بتدخلاتنا.
مع ذلك، أصبحت ظروف استمرار الحياة على الأرض أكثر هشاشة بسبب تدخلات البشر. هذه الحقيقة المرة لا يمكن تجاهلها أو تعويضها بمجرد ذكر الإنجازات الإبداعية أو الأعمال الخيرية لبعض الأفراد. قد نتساءل إذًا عما إذا كان لنا الحق في التساؤل عن قيمة الوجود دون أن نصحح أخطاءنا أولًا. ورغم ذلك، يبقى السؤال "ما هي قيمة الحياة؟" مسألة ملحة لا يمكن الهروب منها.
تشكيك الفلاسفة في السؤال
قد يعتبر الكثيرون أن قيمة الحياة لا تقدر بثمن، ويرون أن مجرد التساؤل حولها هو أمر غريب أو سخيف. قد يجادلون بأن الحياة في حد ذاتها جيدة، لأن "الخير" يعني تعزيز الحياة ودعم الازدهار البشري. وقد لا يفكر البعض في هذا السؤال أبدًا لأنهم مشغولون بمحاولة البقاء على قيد الحياة أو يستمتعون بحياتهم كما هي. ومع ذلك، فإن هذا التساؤل يهم البعض على مستوى فكري عميق. بالنسبة للبعض، يعبر هذا السؤال عن معاناة وجودية تتعلق بالحياة والموت، حيث يمكن أن يتأرجح تقييم الحياة بين كونها عبئًا كبيرًا أو خيرًا مرغوبًا بشدة. هذا التساؤل له تداعيات مهمة، تتعلق بقضايا متعددة مثل معنى الحياة، والإنتحار، والإجهاض، والقتل الرحيم، وعقوبة الإعدام، وحتى حقوق الحيوانات.
إن رؤية سيغموند فرويد للتساؤل عن قيمة الحياة كعلامة على اضطراب نفسي تعكس وجهة نظر تقليدية. ولكن في العصر الحديث، يتم التعامل مع هذا التساؤل بطريقة مختلفة، حيث يُعتبر المرور بأزمة وجودية علامة على تفكير صحي قد يساعد في توجيه الحياة نحو تحقيق الذات بشكل أفضل. قد يسأل بعض الأفراد عما إذا كان العالم سيكون أفضل بدونهم، ولكن هذا التفكير يعكس غالبًا حالات من الألم المزمن أو اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب الحاد.
لكن الآن، علينا أن نواجه هذه المسألة بشكل مباشر: هل للوجود قيمة؟ وإذا كان الجواب نعم، فما طبيعة هذه القيمة وما مدى أهميتها؟
في رسالته إلى الكاتبة والمحللة النفسية ماري بونابرت (13 أغسطس 1937)، يعبر سيغموند فرويد عن فكرة غريبة مفادها أن التشكيك في معنى أو قيمة الحياة يعد علامة على إضطراب نفسي. وعلى الرغم من أن الظروف العالمية في ذلك الوقت، والتي قد تُشبه ظروفنا اليوم، تفرض مثل هذه التساؤلات، إلا أن فرويد رأى في هذا التساؤل اضطرابًا. ومع ذلك، فإن التفكير المعاصر الأكثر انفتاحًا يعتبر أن المرور بأزمة وجودية ليس بالضرورة علامة على مرض نفسي. بل قد يكون أحيانًا خطوة إيجابية نحو تحقيق الذات وإيجاد هدف في الحياة، كما أشار مقال نُشر في MedicalNewsToday عام 2022.
بعض الأشخاص قد يفكرون في أن العالم سيكون أفضل حالًا لو لم يكونوا موجودين، ولكن غالبًا ما يرتبط هذا الشعور بحالات مرضية خطيرة أو اضطرابات نفسية، مثل الاكتئاب أو الألم المزمن، والتي تجعل الشخص يشعر بعدم الجدارة أو الرغبة في الانتحار. بينما هناك أمثلة حقيقية لأفراد قد يُقال إن العالم أفضل بدونهم، مثل الدكتاتوريين أو القتلة المتسلسلين، وتجار الأسلحة الدوليين. إلا أن الغالبية العظمى من البشر لا ينطبق عليهم هذا الوصف.
قيمة الحياة عند شوبنهاور
الفيلسوف آرثر شوبنهاور يرى أن الحياة بطبيعتها مليئة بالمعاناة، وهي أشبه بصفقة تجارية خاسرة حيث لا تعود المكافآت المتوقعة على المرء بما يعوض عن الأوجاع والمشاكل. في كتابه "العالم كإرادة وتمثيل"، يعرض شوبنهاور فكرته بأن السعادة واللذة ليس من السهل تحقيقهما، وحتى عندما نحصل عليهما، فإنهما تفتحان الطريق لمزيد من الرغبات التي تتركنا في نهاية المطاف في حالة عدم رضا.
يعتقد شوبنهاور أن الإنسان يقضي وقته في مواجهة معاناته ومعاقبة الآخرين، وفي النهاية يواجه الجميع مصيرًا واحدًا، وهو المرض والموت. وبالنسبة له، لا تساهم الصعوبات التي يمر بها الإنسان في بناء شخصيته بشكل كافٍ لتعويض الشرور التي يواجهها. ولذلك، يرى شوبنهاور أن الحياة تفشل في تبرير وجودها.
شوبنهاور يرى أن الوجود في حد ذاته لا يحمل قيمة حقيقية، ويقدم دليله على ذلك بأن الملل دليل على هذه الفكرة. فلو كانت الحياة بحد ذاتها تحمل أي قيمة إيجابية، لما شعر الإنسان بالملل مطلقًا، إذ يكفي مجرد العيش والاستمتاع بوجوده دون الحاجة لفعل شيء محدد. ولكن، وفقًا لشوبنهاور، فإن غياب هذا الاكتفاء الذاتي في فترات الخمول الطويلة يثبت أن الحياة ليست كافية بذاتها لإشباع رغبات الإنسان، كما أوضح في كتابه "تفاهة الوجود".
قد يتصور البعض شخصًا يغرق في التأمل الجمالي لأعمال فنية أو في لحظات تأمل صوفية للطبيعة، ولكن حتى في هذه الحالة، سيأتي الوقت الذي يشعر فيه بالملل، ويدرك مرور الزمن. ولكن هذا لا يعني أن هذه اللحظات لا قيمة لها. الملل ليس دليلاً قويًا بما يكفي للطعن في قيمة الوجود. يجدر بالذكر أيضًا أن القيم تختلف في درجاتها، والوجود قد يحمل بعض القيمة حتى لو لم يصل إلى أقصى طموحات البعض.
يمكن التفكير في فكرة أن الوجود قد يحمل قيمة نفعية، تُعوّض عن نقص القيمة الجوهرية. ولكن قبل أن نغوص في هذه الفكرة، علينا أن نتأمل في إشكالية اعتبار الوجود ذاته ذا قيمة جوهرية.
هيجل وقيمة الوجود
في كتابه "علم المنطق"، يجادل هيجل بأن مفهوم "الوجود" هو من أكثر المفاهيم تجريدًا. فعندما نفكر في الوجود، نجده مشابهًا جدًا لفكرة العدم، وكما يستنتج هيجل، فإن الوجود يفتقر إلى الصفات التي يمكن أن تُعبّر عن أي قيمة ملموسة.
المشكلة الرئيسية في إضفاء قيمة على الوجود بحد ذاته تكمن في أننا لا نملك أي تجربة مباشرة للعدم الكامل. لا يمكننا أن نكون واعين للعدم، وإذا كان العدم يسود قبل وبعد الحياة، فإننا لا نستطيع تجربته بشكل مباشر، لأن الوعي مرتبط بالوجود وليس بالعدم. إذا كانت الحياة تنتهي بالعدم، فلا يمكن القول إن العدم أفضل أو أسوأ من الوجود، لأن العدم لا يحمل أي صفات يمكن المقارنة بها. وكما يقول الفيلسوف المعاصر ريكي جيرفيس: "عندما يسألني الناس، 'كيف تشعر بعد الموت؟'، أجيبهم: 'كيف كان شعورك خلال الأربعة عشر مليار سنة التي سبقت ولادتك؟ إنه الشعور نفسه!'" هذا التعليق الساخر يبرز حقيقة أن العدم لا يحتوي على أي خصائص ملموسة، وبالتالي لا يمكن مقارنته بالوجود. فلا يمكن القول إن "عدم الولادة أفضل"، لأن العدم لا يملك خصائص يمكن اعتبارها أفضل أو أسوأ.
على الرغم من ذلك، هناك من يرى أن عدم الوجود أفضل من الحياة، ليس فقط كاستجابة لحياة بائسة، بل كحقيقة عامة. فقد قال سوفوكليس، على سبيل المثال: "عدم الولادة هو الخيار الأفضل بلا شك؛ ولكن عندما يولد الإنسان ويرى نور الحياة، فإن الأفضل هو أن يعود إلى حيث أتى في أسرع وقت ممكن." هذا القول يحمل شيئًا من السخرية، لأنه من المستحيل لأي شخص أن يختبر "عدم الولادة" أو أن يعرف ما يعنيه. قد تكون هناك حياة شديدة المعاناة تجعل أصحابها يتمنون لو أنهم لم يولدوا، لكن هذه الرغبة تأتي من تجربة ملموسة داخل الوجود، وليس من خارجها.
وهكذا، نستنتج أنه لا يمكن مقارنة الوجود بالعدم لتحديد أيهما أفضل. العدم لا يحتوي على أي خصائص، وبالتالي لا يمكن وصفه أو مقارنته بأي شيء.
قيمة الوجود
عندما نتناول مسألة ما إذا كان للوجود قيمة، لا ينبغي أن نحصر هذا التساؤل العميق في النظرة التشاؤمية التي تبناها سوفوكليس أو شوبنهاور. هذا السؤال هو جزء أصيل من رحلة الفكر البشري، ولا يقتصر على من يعانون من أزمات نفسية أو نزعات سوداوية، بل هو نتيجة طبيعية للتفكر في طبيعة الحياة وغاياتها.
إذا تأملنا الوجود فلسفيًا، نجد أنه يمثل ما يحدث للكائنات المحتملة. وكما يشير قاموس الأصول اللغوية، فإن كلمة "exist" تعني الظهور والتحول، ما يعكس الطبيعة المتغيرة والديناميكية للوجود. وبالنسبة للكائنات الحية، فالوجود ليس مجرد حدث ثابت، بل هو قدرة على التحول والتطور. ومن هنا، يمكننا القول إن قيمة الوجود تكمن في الإمكانات المحتملة التي يقدمها، سواء تحققت هذه الإمكانات أم لا.
وعلى مستوى أوسع، يمكن اعتبار وجود أي كائن حي صدفة مدهشة ضمن المخطط الكوني. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الحياة هي "أثمن هدية" كما يُقال، لأن الهبة تستدعي وجود مانح، مما يفتح الباب أمام تساؤلات دينية معقدة حول من هو هذا المانح ولماذا توجد الحياة. هذه التساؤلات، رغم عمقها، تظل مثار جدل، إذ يصعب على الإنسان أن يفهم وجوده فهمًا كاملًا سواء من منظور ديني أو فلسفي.
قد تكون الحياة ثمينة، سواء كانت هبة أم لا، ولكن هذا يعتمد على طريقة تفسيرنا لها. فالإجابة على سؤال "ما قيمة الوجود" تظل غامضة. ومع ذلك، يرى الكثيرون أن الوجود يرتبط بهدف يسعى الإنسان لتحقيقه. وهنا يظهر التساؤل حول ما إذا كان هناك كيان يقف وراء هذا الهدف، مما يعيدنا إلى جدلية الإيمان بهذا الكيان من عدمه، وهو أمر يصعب حسمه بشكل قاطع. لذلك قد يكون من الأفضل أن نعيد صياغة السؤال: هل الوجود وسيلة لتحقيق غايات أم غاية في حد ذاته؟
الإجابة المبسطة هي أن الوجود يمثل فرصة لبناء الذات وتشكيلها. إنه مهمة مفتوحة تتطلب من الإنسان أن يصنع لحياته معنى وقيمة. وقد تناول العديد من الفلاسفة مسألة "ما الذي يجعل الحياة جيدة"، لكن ما نحاوله هنا هو تحديد قيمة الوجود بعبارات فلسفية شاملة. إذا اعتبرنا الوجود وسيلة لتحقيق حياة ذات معنى، فهذا يعني أن الإنسان هو من يتحمل مسؤولية تحقيق هذا الهدف، رغم أن الحظ والظروف قد تلعب دورًا مهمًا في تحديد مساره. ومع ذلك، فإن قيمة الحياة لا تكمن فقط في تحقيق النتائج النهائية، بل في الجهد والمحاولة المستمرة للوصول إلى الأهداف.
وفي النهاية، يمكن القول إن الوجود هو حدث عرضي يمنح الإنسان مجموعة من الفرص لصياغة حياة ذات مغزى. الاحتفاء بالوجود لا يكون في مجرد إمتلاكه، بل في العمل الدؤوب والمكافآت التي قد يجنيها الإنسان من هذا العمل.
مترجم من philosophynow