لم يعد أحدٌ اليوم يملك شعورًا بالطمأنينة تجاه عالم المعلومات والاتصال، ذلك العالم الذي كان يبدو في نظر الناس منتظمًا، يعمل بلا خلل، ولا يعرف الكلل. لكن ما حدث في السنوات الأخيرة جعل الصورة مختلفة؛ فقد كثرت المفاجآت، وتكررت حوادث الاختراق، وأصبح الشرّ يتخفى في ثوب التقنية الحديثة، تمامًا كما يتخفى السهم في كنانته، لا يُرى حتى ينطلق.
ولمواجهة هذا الواقع، بدأ الباحثون والمصممون بابتكار وسائل وقوانين وأدوات جديدة، هدفها الحد من هذا الشرّ والوقوف في وجهه، مهما اختلفت أشكاله. ومن هنا نشأت صناعة كاملة تُعنى بما يُعرف بأخلاقيات التصميم وأمنه؛ وهي لا تقتصر فقط على صدّ الهجمات أو الاختراقات، بل تهتم أيضًا بحسن استخدام الموارد، وتوفير الطاقة، وتنظيم قنوات التوزيع، التي كثيرًا ما تكون معقدة في طبيعتها.
وفي شهر أيلول/سبتمبر من عام 2024، وقعت حادثة غير مسبوقة في لبنان: انفجرت آلاف من الأجهزة الإلكترونية الشخصية دفعةً واحدة، في مشهدٍ فوضويٍّ مرعب، شلّ المدينة ونشر الذعر في قلوب الناس. لم يكن السبب خللًا كهربائيًا عابرًا، ولا عطلًا في التصنيع، بل كان أمرًا مدبرًا بعناية؛ فقد انفجرت تلك الأجهزة لمجرد وصول رسالة، وهو ما لم يُعرف له مثيل من قبل. وكشفت التحقيقات، خاصة تلك المتعلقة ببرنامج "بيغاسوس" التجسسي، أن ما جرى لم يكن صدفة، بل جزءًا من شبكة منسقة تنفذها شركات كبرى ذات نفوذ، مثل شركة "NSO"، التي لا تسعى إلى سدّ الثغرات الأمنية، بل إلى استغلالها في التجسس على الأفراد والمؤسسات.
لقد أصبحنا نحمل في جيوبنا أجهزة قد تحتوي على شرّ خفيّ، نستخدمها كل ساعة، ولا نعلم ما الذي تُخفيه من تهديد.
وعلى كل من يعمل في مجال التقنية، سواء كان باحثًا أو فنانًا أو مصممًا أو مبتكرًا، أن يشعر بالقلق الحقيقي. فالخطر لم يعد مقصورًا على أعطال الأجهزة، بل تعدّاه إلى هجمات غير مرئية: بعضها رقميّ، وبعضها بيئيّ، وبعضها ناتج عن تغيّرات مناخية أو اختلال في المعايير. والسؤال الذي يواجهنا جميعًا هو: كيف نتعامل مع هذا الشرّ المتعدّد الأوجه؟
الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، في كتابه الشهير "ذكاء الشر أو ميثاق الوضوح"، قدّم طرحًا عميقًا وصادمًا في آنٍ معًا. يقول إن الشرّ لا يكون شرًّا حقيقيًا إلا إذا كان غريبًا، غير متوقع، لا يمكن فهمه تمامًا، ولا التنبؤ بمخاطره، مهما حاولنا. وهذه القدرة على المراوغة هي ما تجعله ذكيًا. لكنه يرى أن هذا الذكاء لا يعني الخراب بالضرورة، بل يمكن أن يكون دافعًا لإعمال الفكر النقدي، وإنتاج أفكار خلاقة تقاوم هذا الشر، وتكشف وجهه الحقيقي. ولهذا، فإن العودة إلى أفكار بودريار ليست ترفًا فلسفيًا، بل ضرورة واقعية لمن يريد أن يُبصر هذا الخطر بعينين مفتوحتين.
شرور الذكاء الإصطناعي التوليدي
ثم ظهر نوع جديد من هذا الشرّ، يُسمى "الذكاء الاصطناعي التوليدي". وهو تقنية تُنتج صورًا ونصوصًا وأفكارًا بشكل آلي، دون تدخل بشري مباشر. وقد ظنّ البعض في بدايته أنه مجرد أداة مساعدة، لكن سرعان ما تبيّن أنه واقع يفرض نفسه، لا مجرد احتمال مستقبلي.
ولا حاجة هنا للدخول في تفاصيله التقنية المعقدة، فنتائجه تكفي: هذا النوع من الذكاء يُنتج كميات هائلة من المحتوى الذي لا يحمل في طياته أي نقد، ولا حس جمالي، ولا لحظة تأمل. بل هو تكرار، بل استنساخ مبتذل. والأسوأ أن السوق بات يلهث خلفه، طمعًا في الأرباح، متجاهلًا ما فيه من خواءٍ ثقافيّ وابتذال.
وقد بدأت شركات عملاقة مثل "يونيليفر"، و"إيكيا"، و"فايزر"، و"شركة الطيران الهولندية KLM"، باستخدامه لتحديث أنظمتها، وتحسين خدماتها، وتنظيم أعمالها. وكل ذلك تحت شعارات براقة مثل "الدمج"، و"التحسين"، و"التنفيذ". لكنها شعارات تخفي وراءها واقعًا آخر: نظام يعيد إنتاج السطحية، ويُقصي كل ما هو مميز أو نقدي. وبودريار، الذي سبق أن حذّر من هذا التكرار الخالي من المعنى، كان من أوائل من نبهوا إلى خطر هذا "التماثل المفرط"، أي تشابه كل شيء بحيث يفقد معناه.
وفي إسرائيل، يترافق انتشار الذكاء الاصطناعي التوليدي مع تطوّر متسارع لتقنيات عسكرية هجومية، لا دفاعية. تُطلق عليها أسماء تبدو بريئة أو حتى مطمئنة مثل "غوسبل"، و"لافندر"، و"القبضة الحديدية"، و"مابات 2000"، و"بازيل"، و"الذئب الأزرق". لكنها في الحقيقة إلا أدوات تُنتج أهدافًا للاغتيال، وتُعَمِّم العنف، وتُحَسِّن آليات التدمير.
وإذا تمّ تنفيذ هذه العمليات، تُستخدم الأدوات ذاتها في إعادة الإعمار. لكنها ليست إعادة إعمارمن أجل الإنسان، بل من أجل تثبيت واقع جديد يُعرف بالعنف البطيء – كما سماه الكاتب روب نيكسون – وهو نوع من العنف لا يُحدث دمارًا مفاجئًا، بل يُخرّب الأرض والبيئة ببطء، ويُضيّق الخناق على المهمّشين واللاجئين، لا فقط بالسلاح، بل بالمراقبة الدائمة.
من يقرأ بودريار لا يُفاجَأ عندما يرى أن هذه الأنظمة، التي تزعم محاربة الإرهاب، تتحوّل في الواقع إلى مصنع له. فالإرهاب، هنا، لا يأتي من الخارج، بل يولد من قلب هذه التقنيات ذاتها، من تعقيداتها التي خرجت عن السيطرة.
وقد لاحظ هذا الأمر المفكر الأنثروبولوجي ديفيد غريبر عندما زار الضفة الغربية، فقال إن ما يحدث هناك هو نوع من "الذكاء المعادي"، أي ذكاء لا يعمل على الإبداع، بل على الإبادة، بأساليب دقيقة، مرسومة، لا تخطئ الهدف، لكنها تُخطئ الحياة.
و لم تعد الآلة تكتفي بإنتاج المحتوى، بل باتت تُنتجه بطريقة مملّة ومهينة، كأنها تُغرقنا في سيل من النصوص الباردة، لا تُبالي بجودتها ولا بقيمتها، وكأننا لا نستحقّ سوى الرداءة. ومع هذا الفتور الرقمي، تظهر قسوةٌ أصبحت معتادة، كأنها جزء من النظام، يترافق معها نوع من العنف الصامت، عنف يزرع الرعب دون ضجيج.
وقد لاحظ الفيلسوف الفرنسي جان بودريار هذه الظاهرة منذ عقود، قبل أن تتضح لنا تفاصيل التكنولوجيا الحديثة. لم يكن يعلم وقتها كيف ستتحوّل هذه التقنيات إلى أدوات تُهين الإنسان والطبيعة، أو كيف ستُستخدم لأغراض مالية وسياسية تُغلفها تبريرات عامة تُسوّغ كل تصرّف. لكنه شعر مبكرًا بسيطرة واجهات ناعمة المظهر – مثل تطبيقات أو مواقع ذات تصاميم جذابة – تدّعي أنها تتفاعل مع المستخدم، بينما تُخفي وراءها تهديدًا يُحاصر المعنى، ويُفرّغ التاريخ والسياسة من جوهرهما، ويُحول كل شيء إلى أجزاء صغيرة من الأخبار والمعلومات المقطّعة.
وهذا ما أشارت إليه الباحثة "مايا ويند" من خلال دراستها للجامعات الإسرائيلية، حيث لاحظت أن الخطاب الأكاديمي – أي طريقة الكلام التي يستخدمها الأساتذة والباحثون – يبدو أنيقًا ومرتبًا، لكنه في الحقيقة يُخفي تشويهًا للتاريخ، ويُبرر الاستيطان، ويُروّج لدولة أمنية – أي تُسيطر فيها الأجهزة الأمنية على مفاصل الحياة – تنمو في الخفاء. كل ذلك يجعل من مقاومة هذا النظام أمرًا شبه مستحيل، ويجعل من التعاون الجماعي حلمًا بعيدًا يصعب تحقيقه.
وتُعتبر إسرائيل في هذا السياق نموذجًا لقوة رقمية مبرمجة، تُمارس سيطرة واسعة ومنظمة، لكنها – كما تنبأ بودريار – كلما زاد سطوع صورتها في الإعلام، كلما فقدت قدرتها على الإقناع، وظهرت على حقيقتها.
ومن هنا ينبع الغضب، وتتأجج مشاعر الإحباط، خاصة في الاحتجاجات الطلابية التي تنتشر في جامعات العالم. فالجامعات التي تُصرّ على التعاون مع هذا النظام ترفض أن ترى الحقيقة، أو أن تتحمّل المسؤولية، وكأنها لا ترى ما يراه طلابها: خطرًا متناميًا، يتغذّى من كل الاتجاهات. وإذا عدنا إلى أفكار بودريار، نكتشف معنى أوسع لهذا "الشرّ"، ونجد في الوقت نفسه مدخلًا جديدًا للمقاومة؛ مقاومة ذكية وخلاقة، لا تكتفي بمواجهة الاحتلال والعقبات المباشرة، بل تبحث عن طرق أكثر تعقيدًا وتنوعًا للردّ عليه.
الغباء المتضخم والذكاء الاصطناعي
كتب بودريار بصراحة أن سيطرة الذكاء الاصطناعي لا تؤدي إلى المزيد من الذكاء، بل تخلق نوعًا جديدًا من الغباء، يُمكن تسميته بـ"الغباء الاصطناعي". هذا الغباء لا يُشبه الأخطاء البسيطة الناتجة عن ضعف في التصميم أو نقص في تنوع العاملين – كما أشارت الباحثة "ميريديث بروسارد" – بل هو غباء أعمق، يضرب في جذور روح التفسير نفسها.
وقد شرح الباحث "توم غريموود" هذا الغباء بأنه أسلوب يُنظَّم فيه المحتوى بطريقة تُعيد إنتاج نفس التحيّزات القديمة – أي الأحكام المسبقة – مما يؤدي إلى خلق بيئة تشكّ دائمًا في كل شيء، وتتوقّع الخطأ قبل حدوثه. والنتيجة هي تكرار حوارات عقيمة، لا تُقدّم جديدًا، وتدور في حلقات مفرغة على الإنترنت.
ويرى غريموود أن هذا النوع من الغباء حديث ومعقد، يصعب التخلّص منه، لأنه مُحاط بهالة من العنف والتكنولوجيا، ومرتبط بأنظمة تمويل لا تتوقف، أي أنه مدعوم بمال وقوة مستمرة. أما المفكر "ديفيد غرايبر"، فقد لاحظ في كتابه "يوتوبيا القواعد" أن هذا الغباء لا ينبع من فراغ، بل من نظام متكامل يُقيد العقول ويُقيّد التفكير الحر.
وأكّد الباحث "أشيل مبيمبي" على أن هذا الغباء الاصطناعي له جانب عنصري أيضًا، أي أنه يُساهم في تكريس التمييز العنصري، ويُعبّر عن روح زمننا، التي لم تعد قادرة على إخفاء حقيقتها.
وهكذا يظهر أن الغباء الاصطناعي – كما تنبأ به بودريار – لم يعُد مجرد خلل، بل أصبح سمة رئيسية في عصرنا الحالي، وهو "شرّ ناعم"، أي لا يُؤذي مباشرة، لكنه مغطّى بتقنيات معقدة تجعله مقبولًا أو غير مرئي.
في مواجهة هذا الواقع، يحاول عدد من الباحثين والفنانين والمصممين تقديم بدائل. يبتكرون مفاهيم جديدة، ويصوغون مشاريع نقدية تُراجع السائد وتُعيد التفكير فيه. هذه المشاريع تُدعّم غالبًا بلجان أخلاقية، ومراجعات نقدية، وخطط لتطويرها مستقبلًا.
لكن بودريار كان يرى في هذا المسار خطرًا آخر؛ إذ أن الدخول في تفكيك كل تفصيل، وتحليل كل نقطة، ومحاولة تحسين كل جانب، قد يتحوّل بدوره إلى فخّ، أي دائرة مغلقة لا نهاية لها. فكل فكرة يمكن أن نُبررها، أو نقبلها، فقط لأننا قمنا بتحليلها وتفكيكها، وكأنّ التحليل نفسه يُضفي على كل شيء شرعية، مهما كان فارغًا أو مضرًّا.
كان هذا واضحًا في الفعالية الأخيرة لمبادرة تُدعى IDXA، حيث اجتمع باحثون ومفكرون لمناقشة قضايا متنوعة مثل الذكاء الاصطناعي الذي ينتج أعمالًا إبداعية، والتغير المناخي، والتقنيات التي تستخدمها الشرطة، بل وحتى الإرهاق الذي يصيب الموظفين نتيجة الضغوط المستمرة في بيئات العمل. كانت النقاشات حافلة بالأمثلة الذكية والتحليلات العميقة، لكن التناقضات الكبرى بين هذه الموضوعات سادها الصمت، وكأنّ الجمع بينها أمر يسير، وكأن العالم لا يعاني من تصادم حقيقي في القيم والمصالح.
ومع الوقت، لم تعد لغة النقد تؤدي دورًا حيًّا، بل باتت وسيلة باردة، تؤدي وظيفتها كما لو كانت آلة تكرر التعليمات. هكذا تساهم هذه الملاحظات النقدية في تثبيت ما يمكن تسميته بـ"هيمنة الخير" – ذلك المصطلح الذي أصبح مبرر للاستعلاء الأخلاقي و تبرير للحروب باسم نشر الديمقراطية التي لا يعترض عليها أحد، بل حتى الجهات المرتبطة بالصناعات الحربية باتت تتسابق إلى تبنّيه، كما لو أن دعمهم له يُبرّئهم من المسؤولية. وربما لو كان المفكر الفرنسي جان بودريار بيننا، لتوجّس من هذا التفاؤل السطحي، الذي لا يحاول مواجهة الغباء، بل يسعى لتبريره وتزيينه، في زمن صار فيه الشر يختبئ تحت مظاهر براقة وابتسامات وديعة.
كلما ازداد وعي الإنسان اليوم بما تخفيه التكنولوجيا من وجوه الشر، وبما تصاحبه من أشكال الغباء المنظَّم، ازداد شعوره بالحيرة. فالشر لم يعد يظهر بوضوح ليسهل رفضه، ولا الغباء يمكن التخلص منه بنقاش عقلاني بسيط، ولا يمكن تحويل الانحدار إلى أمل بنظرة تفاؤلية. والأدهى، كما لاحظ بودريار، أن العالم يفيض: يفيض بالمعلومات، والتفاصيل الدقيقة، والمواقف الأخلاقية، وحتى بالتحذيرات التي تزعم أنها تحمينا، لكنها لا تفعل شيئًا يُذكر.
لكن هذا الفيض لا يدفعنا نحو الفعل السياسي، بل نحو امتيازات نخبويّة وفسادٍ متخفي، حتى في داخل الأفكار ذاتها. أما النقد الذاتي، الذي كان في الماضي دليلًا على الوعي، فقد أصبح – في نظر بودريار – مجرّد مرآة تعكس ما نريد أن نراه، دون أن تمنحنا صورة حقيقية. لقد رأى أن الدفاع عن حقوق الإنسان أو العدالة الاجتماعية لا يؤدي بالضرورة إلى القضاء على الظلم، بل صار تمرينًا مستمرًّا في النقد يتم ترويضه وتفريغه من مضمونه شيئًا فشيئًا. ورأى في هذا كله علامة على وصول التفكير إلى حالة من الشلل الكامل، ما وصفه بـ"درجة الصفر للفكر"، وهي الحالة التي نعرفها اليوم بأسماء مختلفة، مثل "الواقعية الرأسمالية" (أي الإيمان بأن لا بديل عن النظام الرأسمالي)، أو "التفاؤل القاسي" (وهو المراهنة على الأمل رغم الواقع القاسي)، أو "استيلاء النخبة" (حين تحتكر النخب مفاتيح القرار والوعي).
لهذا السبب، دعا بودريار إلى نمط مختلف من التفكير، تفكير أكثر إبداعًا وجرأة، لأنه رأى أن الاستسلام لهيمنة الشرّ والغباء الاصطناعي يعني ترك مصير العالم في يد قوى لا تعبأ بالإنسان ولا بمصيره.
نظرة فاحصة للشر
في هذا الموضع من التحليل، قد يُخيّل إلينا أن بودريار، كغيره من المفكرين، سينزلق نحو الحنين إلى الماضي، أو نحو نظرة متشائمة تُنكر جدوى أي محاولة للإصلاح. بل إن البعض يتهمه بذلك. لكنه، في الحقيقة، لم يكن يدعو إلى اليأس، بل إلى نوع من التفكير العميق المليء بالحيوية. كان يرى أننا إذا اضطررنا أن ننظر إلى العالم كنظام واحد مغلق، فعلينا – آنذاك – أن نرفضه كلّه دفعة واحدة، مثلما يرفض الجسم مادة غريبة لا تتناسب مع طبيعته أو لا يقدر على هضمها.
وهذا الرفض لا يعني نهاية الطريق، بل قد يكون بدايته. وهذا ما رأيناه في مبادرة فنية وسياسية نادرة، قامت بها مجموعة من الفنانين والناشطين تحت اسم "TITiPI"، حيث وجّهوا نقدهم إلى شركة NVIDIA الشهيرة، وهي شركة تنتج رقائق إلكترونية تُستخدم في مجالات عديدة: من ألعاب الفيديو والتواصل، إلى البحث العلمي والطيران والخدمات اللوجستية (أي عمليات التوزيع والنقل)، بل وحتى في الصناعات العسكرية. إذ تزود شركات مثل لوكهيد مارتن وإلبيت بهذه الرقائق، مما يجعلها جزءًا من آلة الحرب العالمية.
سعت هذه المجموعة إلى كشف التشابكات بين المال العالمي، والذكاء الاصطناعي، وصناعة الأجهزة، وما تنقله هذه الأجهزة من صور العنف والدمار بطريقة غير مباشرة. وقد اتفق أعضاؤها على استخدام كل وسيلة ممكنة لابتكار طرق تُربك هذه الأنظمة أو تُفككها جزئيًا أو كليًا.
ولا عجب إن وجدنا صدى لهذا التوجه في حملات سابقة ضد شركة جوجل، الشركة التي ارتبط اسمها بمشاريع عسكرية مثل "نيمبوس" و"مافن"، فضلًا عن انتهاكاتها المعروفة للخصوصية، وتعاونها مع تقنيات تدمج الإنسان بالتكنولوجيا بشكل يقلق العديد من الباحثين.
وقد برزت مبادرات مثل "Fuck off Google"، التي لم تكن مجرد اعتراض، بل جمعت بين النقد والخيال الفني، كما رأينا في فعالية "أسبوع Fuck Google" التي نُظّمت عام 2010 ضمن مهرجان Transmediale، أو في مشروع "Schmoogle" على موقع Miss Data
ومع أن لهذه المبادرات أهميتها وضرورتها، فإنها كثيرًا ما تبدو عاجزة أمام الشر الذي ينتشر في كل مكان. نحن نُدرك وجود الروابط الخفية بين الأحداث، ونسعى إلى مواجهتها، لكننا في الحقيقة لا نملك الكلمة الأخيرة، ولا القدرة على إيقاف هذه القوى، بل وحتى تبرئة أنفسنا تمامًا من المساهمة فيها أمر بالغ الصعوبة.
فالشرّ لا ينزل فجأة من السماء، ولا يصدر عن شخص بعينه. بل يتسرّب في منظومة معقدة من القرارات اليومية، ومن تراكمات التأثير المتبادل، ومن الظروف الاجتماعية المتشابكة. كما أوضحت الباحثة "جوليا شو" في دراساتها، فالشر لا يُختزل في نية سيئة، ولا في رغبة صريحة في التدمير، ولا حتى في خروج مباشر عن القواعد، بل هو شيء أكثر التباسًا وغموضًا، يتوارى خلف الأفعال المعتادة، فيصعب أن نحصره في شخص أو مجموعة أو حتى ظاهرة واحدة.
وقد كتب المفكر "جان بودريار" أن من يحاول إتيان الشر عن قصد، لا يفهم طبيعته الحقيقية، إذ إن حصره في فعل مقصود يُضيّق من معناه العميق. وهذا ما نراه في الشخصيات الخيالية مثل "الجوكر"، أو في بعض الأعمال الفنية التي تناولها الباحث "وارويك"، حيث يُقدَّم الشر على أنه أداء مسرحي لا يلامس جوهره الحقيقي. وبودريار في كل ذلك لم يكن يرى أن هناك كائنًا أو جهة يمكن تحميلها المسؤولية وحدها؛ فالمسألة أعقد من ذلك بكثير.
فالشر لا يختبئ فقط في جنود إسرائليين يخططون لهجوم على المدنيين، ولا في الهجمات الإلكترونية التي تتسلل إلى أنظمة المعلومات، ولا حتى في الكوارث المناخية القادمة أو احتمال اندلاع حرب نووية. بل هو حاضر في البيانات الرقمية نفسها، في التطبيقات، وفي أعماق الصناعة التكنولوجية، وفي بيئة العمل، وحتى في الخوارزميات — وهي التوجيهات البرمجية التي تتحكم بكيفية عمل التطبيقات — التي تجعل كل شيء يبدو طبيعيًا بينما تُعيد إنتاج نفس النظام المهيمن. هذه هي ما أسماها بودريار "النظرة الفاحصة للشر": أي التمعّن في تلك الزوايا الدقيقة للتقنية، حيث الشر لا يبدو واضحًا، بل يتخفى في التفاصيل الصغيرة ويتسلل بأساليب ذكية تهدم النظام القائم من داخله.
ومن هذه الزاوية، قد يكون في "الذكاء الشرير" — أي تلك الجوانب الذكية في الأنظمة التي تساهم في تدهور الأوضاع — ما يُعيننا على مقاومة التراجع، وعلى رفض البلادة الفكرية، والإرهاب غير المعلن. فربما، نعم ربما، نحتاج إلى شيء من هذا الشرّ، بل وحتى إلى معرفة ما يُسمى "بالمعلومات الاستخباراتية الشريرة"، أي المعلومات التي تُكشف بوسائل ملتوية، من أجل إسقاط الأنظمة المُذلّة التي نعيش تحتها. وقد يكون الانحياز لهذا النوع من الشرّ شكلًا من أشكال التمرد على العالم بأسره. ولا شك أن هذه الفكرة قد تُثير الاستغراب، لكنها ليست دعوة إلى العنف أو التخريب، بل إلى وعي مختلف بالشرّ كما قصده بودريار؛ فليس هو القتل ولا الإرهاب ولا الخبث، بل الشر الذي يكمن في كل انهيار غير متوقع، وفي كل ارتداد داخلي في النظام، وفي كل نمو مفرط للتقنيات التي اعتدنا وجودها دون أن نلاحظ آثارها.
إن الأمر يُشبه إلى حدٍّ ما فكرة أن كل نظام يحمل في داخله سرًّا خفيًّا، روحًا هدامة، هي التي تضمن أن هذا النظام لن يبقى إلى الأبد، بل سيتفكك من تلقاء نفسه. ولهذا، إذا أردنا أن نُبصر هذا الشرّ الخفي، فلا ينبغي أن نقلّله إلى مجرد أخطاء عابرة يجب إصلاحها، أو تجاوزات مؤقتة يجب منعها، أو حالات شاذة ينبغي إعادة دمجها. فالشرّ ليس خللًا يُعاد إلى مكانه، بل هو حركة خفية داخل جسد النظام تدفعه نحو التفكك الذاتي. والشيء الوحيد الذي يمكننا فعله هو أن نتعلم كيف نفهم هذا الشر، ونُحسن قراءته والتعامل معه، وهو ما دعا إليه بودريار بدقّة.
ولكي نرى هذا الشرّ بوضوح، لا بد أن نزيل ما يغطيه من ضجيج الأخبار اليومية، ونتجاوز أدوات الإعلام والتعليق التي تُفرغ كل شيء من معناه. وهذا ما نراه عند مفكرين مثل "ليلى جولر" و"كيت كروفورد"، اللتين تبنّتا نهجًا تحقيقيًا أكثر عمقًا في دراسة التقنية، وهو نهج لا يكتفي بالنظر إلى الأجهزة الحديثة ومظهرها اللامع، بل يتساءل عن ظروف من يعملون خلف الكواليس، وعن الصناعات والخدمات التي لا يراها أحد.
لكن بودريار يذهب إلى أبعد من ذلك. فهو يدعونا إلى خطوة أكثر جرأة: أن نُدخل الشر في لعبتنا الفكرية، لا لنروّج له، ولا لنُطهّره، بل لنحوّله إلى مشهد فكري، إلى مسرح داخلي، هدفه الوحيد أن يفضح النظام من الداخل، وأن يفتح أعيننا على ما نغفل عنه.
اللعب بقواعدنا الخاصة
لعلّنا حين نحاول أن نفهم هذا الشرّ المختبئ في أعماق التكنولوجيا الحديثة، لا بدّ أن نقترب من نوعٍ خاص من الحكمة العملية المتمردة، تلك التي لا تخاف الغموض، ولا تهاب ما يبدو شاذًّا أو خاطئًا، بل تنظر إلى هذه الأمور بوصفها فرصًا لفهم أعمق وقلبٍ للنظام القائم. هذا هو جوهر ما أشار إليه الباحثان "جوفري" و"فولر" في كتابهما "شر وسائل الإعلام"، حين تحدّثا عن التسريبات التقنية، والعيوب البرمجية، والفيروسات، والأحداث غير المتوقعة، على أنها مفاتيح تفتح لنا بابًا لفهم الأنظمة التقنية الحديثة، لا بوصفها مجرد أدوات، بل كشبكات معقدة تكشف حقيقتها حين تختل.
وفي السياق نفسه، جاء طرح "ألكسندر جالوي" حين دعا إلى تأمل ما لا يمكن احتسابه بسهولة داخل هذه الأنظمة، كالفيروسات والاختراقات، ليس بغرض الشجب أو الإدانة، بل بدافع الفضول الخلّاق، أي الرغبة في معرفة خبايا هذه الظواهر واستيعابها بوصفها إشارات إلى شيء أعمق.
لم يكن جالوي يطلب منّا أن نحلّل الألعاب الإلكترونية فقط، بل أن نلعبها، وأن نتسلّل داخل قوانينها، فنختبر إمكانيات تخريب هذه القوانين من داخلها. أي أن نرى كيف يمكن للأنظمة التي تنتجها شركات مثل "إنفيديا" لصناعة الرقائق الإلكترونية، أو خدمات "جوجل"، أو أدوات المراقبة الرقمية الجديدة، أن تنقلب على من صنعها. فالفكرة ليست أن نتقن اللعبة أو نربح فيها، بل أن نرفض قواعدها نفسها، لا بالهرب منها، وإنما بابتكار قواعدنا الخاصة، وأن نمارس بها لعبنا المختلف، فنخلط بها الثوابت التي فُرضت علينا وكأنها طبيعية أو ضرورية.
وهذا "اللعب" الذي نقصده ليس لهوًا ولا تجربة فنية مؤقتة، ولا بحثًا جامعيًا يُكتب ويُنسى، بل هو دعوة حقيقية لإعادة تنظيم أنفسنا، وتكوين أنماط جديدة من العمل والعلاقات والمقاومة، تواجه هذا الشر الكامن في التكنولوجيا وتكشفه للنور. إنها دعوة لكتابة "ميثاق جديد"، كما اقترح بودريار، ميثاق يقوم على الذكاء والوضوح، نمارس فيه تجريب كل أنواع القواعد التي نحددها نحن بأنفسنا، حتى وإن كانت غير مألوفة أو "شريرة" بمقاييس السلطة. نطبّقها في أعمالنا، في تفاعلنا مع الأنظمة اليومية، في البرمجيات التي نستخدمها، في الاحتجاجات التي نشارك فيها، في الشبكات التي ننتمي إليها، وفي المؤسسات التي نخضع لها.
وبما أن التهديدات جسيمة، يرى بودريار أن علينا أن نكثّف أبعاد اللعبة كلّها في وحدة واحدة. وهذه الأبعاد، التي اقتبسها من المفكّر "روجر كايوا"، تشمل عناصر مثل التدرّب الجسدي، والمحاكاة، والاعتماد على الحظ، والسعي وراء الشعور بالدوار أو الخروج عن المألوف. بمعنى آخر، ينبغي أن تصير محاولاتنا الإبداعية – سواء كانت تصميمات، أو نصوصًا، أو أشياء ملموسة، أو مباني، أو بنى تحتية، أو احتجاجات، أو حتى وقائع غريبة – شكلًا من التحدّي المباشر، وتجريبًا للحظ، وتوليدًا للحيرة، ورمزًا لاحتمالات جديدة لم تكتشف بعد.
ولكي نلعب وفق هذه القواعد، علينا أن نقترب من جوانب الغموض في أنفسنا، وألا نحاول تبسيط ذواتنا في "تعريفات" أو "هويات" ثابتة ومحددة. فالمسألة لا تتعلق بأن نصبح مصمّمين أكثر راديكالية (أي أكثر تطرفًا في التغيير)، أو فنانين أكثر انخراطًا، أو باحثين أكثر جرأة، بل أن نتحرّك بلا هدف نهائي واضح، ولا نموذج مثالي، ولا حلّ جاهز. علينا، كما أصر بودريار، أن نستمر في التجريب داخل ما يبدو "غباءً"، وأن نتصالح مع الشرّ الذي تنطوي عليه أحدث التكنولوجيات، ونقاوم الانحدار العقلي والإرهاب غير الظاهر، من خلال قواعد نحاكي بها الواقع، ونختبره، ونراهن عليه، وننتج به أعمالًا جديدة وبحثًا نقديًا صادقًا.
وفي هذه المرحلة، يصبح من الضروري أن نتجاوز بودريار نفسه. فقد كتب أفكاره هذه منذ أكثر من عشرين عامًا، حين كانت التكنولوجيا لا تزال في بدايات تحوّلاتها، يتحدث عن الآلات الكاتبة، وأجهزة التصوير، وفيلم "تقرير الأقلية"، وأحداث 11 سبتمبر. أما اليوم، فقد تسارعت التطورات التقنية، وأصبحنا بحاجة إلى فكر معاصر أكثر التصاقًا بالواقع.
على سبيل المثال، تظهر حركات تهتم بالعصيان الرقمي في المجتمعات الرقمية، مثل مشروع "كودفليج" وغيره، وتسعى لتخريب الخوارزميات التي تتحكم فينا بطرق غير مرئية، كما في أعمال مجموعات مثل ASRG. وهناك أيضًا من يبحث في "خوارزميات المقاومة"، مثل بونيني وتريري، وهي نماذج قابلة للتطوير تسمح لنا بأن نجد "فتحات" أو منافذ داخل الأنظمة المغلقة، تتيح إمكانات قلبها رأسًا على عقب.
ومن هنا، لم يعد المطلوب إعادة ضبط "عين السيد" – أي أنظمة الرقابة والتوجيه – كما أشار ماتيو باسكوينيلي، بل المطلوب هو تشويه هذه العين، عن طريق كشف ما يُعمي رؤيتها أو يربكها، بل وما يشوّش قدرتنا نحن على الرؤية كذلك. من هنا يمكن أن نستلهم من تجارب مثل مشروع "etoy" أو من القصص التقنية مثل "الدب الفاخر يذهب للصيد"، وهي حكاية مشهورة عن القرصنة، لفهم أفضل لما سمّاه البعض "الغباء الاصطناعي"، أي فشل الذكاء الاصطناعي في فهم البشر والمجتمع. وهي دعوة لأن ندرك أن التكنولوجيا ليست فقط أدوات مادية، بل سياقات اجتماعية، وثقافة شعبية، وقضايا قانونية، ومصادفات، واكتشافات فنية، وتأملات فلسفية.
ويُمكن أن نستلهم أيضًا من أبحاث "ليزا بلاكمان"، التي كشفت عن وجود أخطاء أوسع، وطرائق مسدودة، وظلال ماضية – كأشباح مفاهيمية – ما زالت تؤثر في أنظمتنا الحديثة. وهذا ما تقصده كارولين باسيت حين تتحدث عن "مضاد الحوسبة"، أي شكل مختلف تمامًا من التفاعل مع الحوسبة لا يرفضها كليًا، بل يحمّلها بعدًا عاطفيًا وتاريخيًا جديدًا، ويلتزم بسياسة جذرية تعيد تشكيل الوسائط الرقمية بطرق جديدة.
هذا هو ما يمكن أن يعيد تفعيله تواطؤنا الإبداعي مع "ذكاء الشر". هو المسار الحيوي للاستكشاف والمقاومة، ذاك الذي فتحه بودريار في ختام كتابه، ليبقى علينا أن نستكمله نحن، في عالم صارت فيه التكنولوجيا كل شيء تقريبًا.
مترجم بتصرف من networkcultures
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي
بوركت على هذا المقال المفيد جداً.. نحتاج إلى الاستزادة نظراً لجفاف الكثير من ينابيع المعرفة بسبب كثرة التفاهات التي حولها.