اكتشف الكثير من الناس فكر الفيلسوف فريدريك نيتشه في سنوات شبابهم، ولم أكن استثناء. في خريف عام 2001، عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري، علمت أنني سأخضع لعملية جراحية في الدماغ، وكان عليّ اختيار كتب أقرأها خلال فترة التعافي الطويلة التي توقعت أن أمضيها مستلقيًا في السرير. توجهت إلى قسم الفلسفة في المكتبة واخترت كتبًا مثل "المأدبة" و"الجمهورية" لأفلاطون، و"أصل الأخلاق و فصلها" و"هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه. كانت هذه الكتب هي أول مدخلي إلى الفلسفة. وبعد الجراحة، عندما لم يكن بإمكاني فعل شيء سوى القراءة، وجدت نفسي موزعًا بين أفلاطون ونيتشه، لكن في النهاية تغلب نيتشه.
أعجبني نيتشه لأنه بدا مختلفًا عن كثير من المؤلفين الذين عُرفوا بأنهم ثوريون. فقط معه شعرت بأن القراءة نفسها تمثل تحديًا لما هو مألوف. كنت أعرف بشكل عام أن هناك مفكرين من القرن التاسع عشر، مثل ماركس وديكنسون وثورو، رفضوا ما نعرفه بالمجتمع. لكن نيتشه قدم لي تمردًا أعمق من ذلك. بطريقة ما، نجح نيتشه في التعبير عن أفكار ممنوع قولها، وبأسلوب لم يكن من المعتاد أن يُقال بها.
كان صوت نيتشه بلا شك صوت رجل يتحدى الواقع بجرأة. ربما كنت أكثر عرضة لجاذبية هذا الصوت في تلك اللحظة بالذات، إذ كنت أمر بتجربة قاسية تجردني من إحساسي بالرجولة، وهي الجراحة التي ستتركني طريح الفراش لشهر كامل، ضعيفًا وهزيلًا، ما تسبب في فقداني الوزن ومنعني من المشاركة في الرياضة المدرسية التي كانت جزءًا كبيرًا من هويتي ومن علاقاتي مع أصدقائي الذكور. في هذه الحالة، كانت تمجيدات نيتشه للألم تشدني بشكل خاص، فقد منحتني عباراته مثل "ما لا يقتلني يجعلني أقوى" قوة معنوية في مواجهة الصداع المستمر لأيام. فكرة القوة الرجولية أمام الألم كانت مجسدة في شخصيات قوية مثل أبطال المأساة الإغريقية والمحاربين الجرمانيين، ونيتشه احتفى بصفات فيهم مثل القدرة والصلابة وتأكيد الذات. كان مفهوم "تجاوز الذات" الذي قدمه نيتشه يجمع بين هذه الفضائل الرجولية.
نشأت في ثقافة قيل لي مرارًا إنها يسيطر عليها الرجال، بأصواتهم وأفكارهم و رؤيتهم للعالم. نشأت في أسرة تقدمية بمدينة إيست لانسنغ في ميشيغان، حيث قُدمت لي هذه الرؤية للعالم وقبلتها. لكن المفارقة كانت في أن صوت الرجولة الحازمة الذي واجهته في نصوص نيتشه هو ما شعرت بأنه الأكثر ثورية. في المنزل، لم يكن والدي يتحدث عن الرجولة، وكانت والدتي دائمًا تذكرني كيف أن الرجال لا يستمعون للنساء، وكيف أنهم عنيدون ومغرورون ولا يعرفون كيفية استخدام غسالة الصحون. في المدرسة، كانت هناك نقاشات حول كيف سيكون العالم أفضل لو أن النساء هن من يتحكمن في السلطة. ولم تكن هذه الأفكار تأتي فقط من المدرسين، بل حتى في اجتماعات صحيفة المدرسة، كان النقاش الدائم هو حول أخطاء الذكور في العلاقات، وهو أمر كان يثير قلقًا خاصًا بالنسبة لي كشاب مراهق.
بالطبع، لم تكن هذه الأفكار عن الرجال مؤذية بشكل كبير بمفردها، لكنّها كانت تأتي من جميع الاتجاهات. تحديات العالم كانت تطلب بشكل غير مباشر من الرجال أن يكونوا ذكوريين جداً، لكن لم يكن يُسمح للأشخاص المثقفين بالتعبير عن ذلك بوضوح. لم أجد هذا الفكر ممثلًا في الكتب حتى صادفت نيتشه.
ما أثار دهشتي في نيتشه لم يكن أنه قدم فكرة جديدة عن الرجولة، بل العكس تمامًا. كان يجسد تلك الصفات التي يبدو أن العالم يتطلبها من الفتيان بالفعل. فإذا أراد شاب في الخامسة عشرة أن يحقق شيئًا مهمًا، عليه أن يتحلى بتلك الجرأة والهدفية التي دعا إليها نيتشه – سواء قرأ نيتشه أم لم يقرأه. هذه الصفات كانت ضرورية لجذب الفتيات، والتفوق في الرياضة، وكسب احترام الأقران.
رؤية نيتشه للعالم كانت تختلف بشكل جذري عن تلك التي نشأت فيها في بلدة جامعية تقدمية. فهو كان يمتدح علنًا الصفات الذكورية التي كان المجتمع يفرضها على الفتيان و التى كانت مطلباً إجتماعياً أساسياً، بينما كان هذا المجتمع نفسه يدينها. ففي حين كانت هناك عقوبات اجتماعية صارمة ضد من لا يرقى إلى معايير الرجولة، كانت كل الحوارات في مدينتي تدين هذه المعايير نفسها باعتبارها ضارة و سامة. ورغم أن مصطلح "الرجولة السامة" لم يكن قد شاع بعد، إلا أن الرجولة كانت تُعتبر بالفعل في مدينتنا شيئًا سامًا. مواجهة نيتشه مع هذا التناقض الثقافي الذي كنت أعيش فيه كانت جديدة ومحررة.
أتذكر جيدًا أنه لم يكن هناك صبي في مدينتي لم ينشأ في أسرة تقدمية، أو على الأقل لم يصبح داعمًا للحزب الديمقراطي الأمريكي. لكن حتى بين هؤلاء، كان هناك -كما أرى الآن- تعطش لأدب يمجد الرجولة. كنت أتشارك كتبي عن نيتشه مع أصدقائي، ومن خلال قراءاتهم تعرفت على كُتّاب مثل إرنست هيمنغواي ويوكيو ميشيما وكورماك مكارثي. وكلنا كنا نعلم أن النظام الأبوي موجود وحقيقي، وأن النساء يتقاضين أقل من الرجال، وأن ثقافة الاغتصاب في جامعة ولاية ميشيغان كانت مشكلة جدية، وأن أمهاتنا يقضين وقتًا أطول في ترتيب المنزل مقارنة بآبائنا. ومع ذلك، كان هناك انجذاب كبير بين الفتيان للكُتّاب الذكور الذين قدموا لنا ما لم تقدمه لنا مدينتنا التقدمية: رؤية إيجابية للرجولة، رغم ما قد يشوبها من عيوب. قبل أن أتعرف على هؤلاء الكُتاب، كنت أعتقد أن الرجولة لا يمكن إلا أن تكون مشكلة يجب التغلب عليها، ولم أفكر قط أن بإمكانها أن تكون إمكانية إيجابية للعيش وأن تحسين نفسي لا يعني التغلب على رجولتي، بل إيجاد الطريقة الصحيحة للعيش بها.
بعد مرور اثنين وعشرين عامًا على لقائي الأول بفكر نيتشه، أصبحت باحثًا متخصصًا فيه. وبينما كنت أعمل على تفسير نسوي لأعماله ضمن كتاب يحمل عنوان نيتشه والنساء، عدت لأتأمل في تجربتي الأولى معه، وما كان يعنيه لي عندما كنت شابًا. وجدت نفسي في حالة من التناقض العميق، ما دفعني إلى إعادة التفكير في قضايا الجندر في الفلسفة.
على مدى خمسين عامًا، كانت الاستجابة الأكاديمية لفكر نيتشه حول الجندر متأثرة بالفلاسفة المرتبطين بالفكر القاري ما بعد البنيوي، مثل جاك دريدا وسارة كوفمان وجوديث بتلر. هؤلاء المفكرون رأوا في نيتشه حليفًا غير مباشر للقضية النسوية. فرغم أنه بدا متطرفًا في نظرته إلى النساء، إلا أن نيتشه علمنا أن الإنسان لا يملك جوهرًا ثابتًا، ولا حتى جوهرًا أزليًا للجنسين. إن "جنيالوجيا" (كلمة نيتشه، التي تبنتها بتلر) الرغبات الإنسانية التي تشكل مجتمعاتنا اليوم، كما طرحها نيتشه، تكشف أنها متأثرة بالتاريخ وقابلة للتغيير، وأن الهويات الاجتماعية — ومنها الهوية الجندرية — التي تقوم على تلك الرغبات، قابلة للتحول. فالإنسان يصبح ما هو عليه من خلال أدائه لهويته، التي تتجسد في الفعل نفسه، لا من خلال تعبير عن "ذات حقيقية" دفينة داخل أعماقه، تسبق الفعل وتحدده. هذا المفهوم، الذي تبنته بتلر في نظرية "الأداء الجندري"، يعتمد على أن الهوية تُشكل من خلال الأفعال، وليس من خلال ذات جوهرية سابقة للفعل.
لا أرفض هذا التفسير لفكر نيتشه، بل تفسيرًا له من الصحة والحكمة ما يستوجب الاعتراف به. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف نتعامل مع نيتشه الذي يخاطب فتى مراهقًا؟ نيتشه الذي يمجد الفضائل الذكورية، مثل القيم العسكرية عند الإغريق، وفضائل الرومان التي تفوقت في نظره على المسيحية التى لم يكاد يذكر فضائلها إلا ووصفها بالأنوثة المتهالكة. أما في عالم الفن، فإن التراجيديا التي عشقها نيتشه هي رمز للقسوة والرجولة، بينما كان يحتقر الرومانسية في الشعر والأوبرا باعتبارها مجالاً للترف والأنوثة. إنسان نيتشه الأعلى كان صورة رجولية بإمتياز، تجسد الإبداع الذي لا يتحقق إلا من خلال تدمير ما سبقه.
على مدى خمسين عامًا، تعاملت الأبحاث الأكاديمية مع المسائل الجندرية في أعمال نيتشه وكأنها قد تم تجريدها من مضمونها بسبب الإمكانات النسوية التي أُسندت إليها. ومع ذلك، من الناحية التفسيرية، يبدو هذا كأنه مجرد أمنية؛ فنقاد نيتشه نادرًا ما ينكرون كراهيته للنساء، لكنهم يقرون أن تمجيده للرجولة وتشويه صورة المرأة قد تم تحييدهما تمامًا من خلال التحليل الأكاديمي لأعماله. لكن هذا النهج يخاطر بتجريد كتابات نيتشه من حيويتها. فمن خلال تجربتي، عندما أشرح لطلابي أن نيتشه يُحتفى به بسبب إمكاناته النسوية، لا أرى منهم ردود فعل غاضبة أو متحمسة، بل تبدو على وجوههم نظرات فاترة، وكأن النصوص تصبح مملة عندما نعتبر أن الرسالة الواضحة، سواء كانت ذكورية أو كارهة للنساء، ليست هي الرسالة الحقيقية. وبهذا، نخلق فجوة بين الشباب المتعلم وبين النصوص التي قد يحتاجون إلى استيعابها بعمق. وهنا يكمن خطر تحويل نيتشه إلى شخصية غامضة، بل وربما مملة في الوقت ذاته.
إن هذا التفسير، الذي يسعى لتلميع صورة نيتشه، قد يخفي أهميته الثقافية الحالية خارج إطار الأكاديميا. وقد أثر ذلك فيّ لفترة طويلة، حيث أبعدني عن التفكير في نيتشه الذي جذبني في شبابي، عندما كان يمثل لي رمزًا للذكورة القوية. وها أنا أعيد التفكير في هذا النيتشه، عندما جاءني أحد الطلاب خلال ساعات العمل ليحدثني بخجل عن جوردان بيترسون، رابطًا بين مفهوم نيتشه لضبط النفس كعلامة للقوة وبين دعوة بيترسون للشباب لتنظيم غرفهم. من الواضح أن نيتشه ما زال يمثل للكثير من الشباب الذكور صوتًا ذكوريًا يخاطب تطلعاتهم وأحلامهم. لكن السؤال هنا: ما الذي يقدمه نيتشه لهؤلاء الشباب؟ ولماذا نجد أن قراءه الأكثر شغفًا هم غالبًا من هذه الفئة العمرية؟
عندما نصل إلى نيتشه في المناهج الجامعية، غالبًا ما يعترف أحد الطلاب بأنه قرأ بعض أعمال نيتشه في المدرسة الثانوية، وهذا الطالب يكون عادة من الذكور. يبدو أن نيتشه يثير اهتمام الشباب الذكور أكثر من غيرهم من الكُتّاب. حتى عندما يُظهر الطلاب إعجابهم بنيتشه، تثير الأسئلة الجدلية التي أطرحها حول أفكاره نوعًا من الحذر لديهم. هل يحكم إرادة القوة سلوك البشر حقًا؟ وهل يمكن أن يكون العنف محفزًا للصحة كما يدعي نيتشه؟ وهل يمكن قبول آرائه حول الرجال والنساء؟ هذه الأسئلة المباشرة تبطئ من وتيرة الحوار في بعض الأحيان، وتستدعي إجابات حذرة، وغالبًا ما يتم تجنبها في الأوراق المكتوبة. لكني لم أدرّس نيتشه قط دون أن يأتي طالب واحد على الأقل إلى ساعات العمل ليكشف عن شغفه بأفكاره، سواء كان هذا الشغف سابقًا للدراسة أم نتاجًا لها. لكن هذه النقاشات، رغم إثارتها، نادرًا ما تؤدي إلى استنتاجات واضحة حول كيفية تغيير أفكار نيتشه لفهمنا للعالم.
ربما يكون من غير العدل أن أطلب من طلابي اتخاذ مواقف واضحة تجاه هذه الأسئلة. فصمتهم قد لا يعكس الخوف من الجدل بقدر ما يعكس صعوبة إيجاد إجابات واثقة. أتذكر ملاحظاتي الهامشية على كتب نيتشه في مرحلتي الثانوية، حيث كانت تتأرجح بين التقدير والانتقاد الحاد في غضون صفحات قليلة. وعندما أطلب من طلابي تقديم إجابات واضحة وثابتة، فإنني في الواقع أطلب منهم أن يكونوا أكثر وضوحًا وثقة مما كنت عليه في تلك السن.
في سن المراهقة، وجدت في كتابات نيتشه مسارًا مليئًا بالجاذبية والخيال، ووعدًا بإيجاد معنى للرجولة. هذا المسار الذي جذبني وجذب أصدقائي كان مشبعًا بالسحر، ومع ذلك لم يكن غافلًا عما كنا ندركه من آثار تربيتنا التقدمية. لم يكن هذا الإغراء نتيجة للجهل بالواقع الاجتماعي، بل كان نتيجة إدراك مزدوج، حيث كنا نعي أننا لا نسعى للعودة إلى الأدوار الجندرية التقليدية. أصدقائي في مدينتي، الذين قرأوا "ما وراء الخير والشر" و"لمن تقرع الأجراس"، كانوا يتفاعلون بحماس مع تلك الصور المثالية للرجولة التي تطرحها هذه النصوص، لكنهم في الوقت نفسه، كانوا يتبنون رؤية ليبرالية حديثة، يدعمون زواج المثليين، ويستخدمون مصطلح "bro" بسخرية، ويصفون أنفسهم بأنهم نسويون بلا تردد. وفي هذا التشابه مع نيتشه، كان يظهر فهمهم العميق: نيتشه-مثلهم- لم يكن يعتقد بإمكانية العودة إلى الماضي.
المحور الرئيسي في فلسفة نيتشه هو موت الإله، واندثار المنظومات القديمة التي كانت تمنح العالم معنى. لقد أصبحت هذه المنظومات من الماضي، ولم يعد هناك سبيل للعودة إليها. كما عبّر المجنون في "العلم المرح"، فإننا تحررنا من تلك المنظومات القديمة، وصار الإنسان يتحرك بلا وجهة محددة... إلى الخلف، إلى الجوانب، وإلى الأمام. وفي "غسق الأوثان"، يخاطب نيتشه المحافظين قائلاً إنه في هذا العالم الحديث، العودة فيه إلى الماضي مستحيلة. ربما يُنظر إلى نيتشه على أنه يسعى لإعادة صياغة الرجولة من الماضي، لكنه لا يتطلع بجدية إلى الأدوار الجندرية التقليدية. بالنسبة له، الرغبة في العودة إلى تلك الأدوار ليست سوى وهم من أوهام الحداثة. ومن هنا، فإن أي شخص يسعى للبحث عن المعنى في تلك الأدوار القديمة لن يجد في نيتشه الحليف الذي يتوقعه.
نيتشه، بفلسفته التي تعد من أوائل بصمات الوجودية، كان يؤمن بأن الفراغ المعنوي الذي جاء به العصر الحديث يجب أن يُملأ بسرعة، لكن هذه المهمة تقع على عاتق الفرد القوي بما يكفي لتحملها. كل ما تحدث عنه نيتشه من رجولة، وكل ما شدد عليه من إرادة القوة وتأكيد الذات، لا يخدم نظامًا أبويًا قديمًا، بل يتم تسخيره من أجل خلق أشكال جديدة من الحياة التي لم تتضح بعد — مسارات جديدة للمعنى. بمعنى آخر، الطاقة الرجولية التي تمتلئ بالألم التي يعبر عنها نيتشه ترتكز على تلك الهاوية التي يحب أن يستحضرها في كتاباته. أرى أن هذه الرؤية تتلاءم كثيرًا مع الفتيان الذين نشأوا معتقدين أن الرجولة التقليدية باتت سامة، وأن المثُل الرجولية التي عاشها السابقون قد اندثرت دون أن يتم استبدالها بأخرى جديدة.
في أماكن مثل "إيست لانسنغ"، أصبحت الرجولة شبيهة بهاوية. الفكرة التي تتحدث عن أن التحولات في الديناميكيات الجندرية تفتح للفتيات فرصًا جديدة للمعنى، قد تم الترويج لها بشكل أكبر مقارنة بما تم توجيهه للفتيان. فقد قيل للفتيات، على سبيل المثال، إن بإمكانهن إيجاد المعنى في حياتهن من خلال مسيرتهن المهنية بدلاً من تكوين أسرة إذا أردن ذلك. أما الفتيان، فلم تُوجه لهم رسالة مشابهة بنفس القوة. الرسالة التي تدعوهم إلى تحقيق ذاتهم من خلال تأسيس عائلة كانت أضعف وأكثر ندرة. نتيجة لذلك شعر الفتيان بأن نموذج الرجولة القديم أصبح إشكاليًا، لكنهم لم يجدوا بديلاً واضحًا. ما تبقى لهم هو فراغ معنوي. نيتشه يسمي هذا الفراغ بـ "العدمية"، وأعتقد أن القول بأن الرجولة الحديثة أصبحت عدمية ليس مبالغة. فمن غير نيتشه يمكنه أن يعزي شابًا يشعر أن هويته الجندرية قد فقدت جذورها في عالم انفصل عن جميع محاوره التقليدية؟
لعل هذا هو السبب الذي يجعل الفتيان يستمرون في الانجذاب إلى نيتشه. بالطبع، الدوافع التي تدفعهم إلى قراءة نيتشه ليست بالضرورة تلك التي يجب أن نوجههم بها إليه. فالسعي الحثيث لتحقيق معنى ذاتي في عالم فقد القدرة على توفير المعنى، هو أمر محفوف بالمخاطر. ماذا لو تحول هذا السعي إلى حماس أعمى يمنعهم من رؤية الإمكانيات الأخرى، أو دفعهم نحو العنف؟ ولماذا لا يتحول إلى عنف في عالم يبدو بلا معنى؟ من الذي سيتحمل مسؤولية رعاية هذا العالم حينها؟ وماذا لو اختاروا معنى لحياتهم يتسم بالظلام أو البشاعة؟
خلال تسع سنوات قضيتها في جامعة شيكاغو، سمعت مرارًا من الأساتذة أو طلاب الدراسات العليا أن "ليوبولد" و"لوب"، اللذين كانا طالبين في كلية الحقوق بشيكاغو في عشرينيات القرن الماضي، وسعيا لارتكاب جريمة القتل المثالية ليصبحا "الإنسان الأعلى" كما تخيلاه وفقًا لنيتشه، بأنهما لم يفهما فلسفة نيتشه بشكل عميق، بل كانت رؤيتهما سطحية وكاريكاتورية. كما سمعت في مؤتمرات نيتشه شكاوى مشابهة عن ربط فلسفة نيتشه بفيلم "نادي القتال" الذي صدر عام 1999، وهو فيلم يتناول رجالًا يبحثون عن معنى ذكوري من خلال العنف الجسدي. هذه الصور الكاريكاتورية لفكر نيتشه قد تكون مبالغًا فيها، لكنها ليست بعيدة تمامًا عما يقوله نيتشه أو يفكر فيه. إنكار ارتباط هذه الأفكار بفكر نيتشه يحمل نفس المخاطر التي تحدثت عنها سابقًا فيما يخص القراءة النسوية لنيتشه: ذلك قد يؤدي إلى فصل رؤية الفيلسوف عن تأثيره الاجتماعي الحقيقي خارج الأوساط الأكاديمية.
رغم ذلك، أجد نفسي آمل أن يواصل طلابي الشباب البحث في فكر نيتشه والإغتراف من معينه. فالكثير منهم يكافحون للعثور على بدائل للرسائل التي تتهمهم بأنهم مصدر السموم في مجتمعاتهم. وقد وقع بعضهم في فخ أولئك مشاهير السوشيال ميديا الذين يدّعون تمثيل الرجولة، ليصبحوا بين مطرقة المشكلة وسندان الحلول التي تكون أكثر حدة وأسوأ نتيجة.
ما الحلول التي يقدمها نيتشه؟ من الصعب أن نختزل فكر نيتشه في الرجولة ضمن إطار ثابت أو عقيدة منظمة؛ محاولة كهذه ستشوه فكره الفذ. ولكن، ربما هذا ما يجعله المفكر الأنسب لعصرنا، حيث يشعر الرجال الفاضلون بالتمزق بين مطالب متناقضة. فهم ملزمون أخلاقيًا بالإستماع إلى أصوات النسوية، بينما يسعون أيضًا وراء هوية رجولية لم تعد تتماشى مع القوالب الجندرية الحديثة. إن الخروج من أنماط الرجولة القديمة لا يمكن أن يتحقق بمجرد إخبار الرجال بأن ذكوريتهم سامة أو شريرة. هنا، قد تحمل دعوة نيتشه للاعتراف بالذات كحل، كتصحيح لتلك الرسالة. ففي لحظاته الأروع، يصف نيتشه الرجولة كفعل بنّاء يساهم في تشييد عالم أفضل. في كتابه "ما وراء الخير والشر"، يقول: "الرجل النشط، الطموح، العدواني، أقرب إلى العدالة بمئة خطوة من الرجل المتفاعل". هذا النمط من الفاعلية الفردية قد يتجاوب مع الرجل الحديث الذي يشعر بالعزلة، ولكنه لا يدعوه إلى الغرق في بطولات مأساوية كتلك التي غرق فيها إليوت رودجر، قاتل "إيسلا فيستا"، الذي عّرف نفسه كأحد "الإنسل -أى العزوبة غير الطوعية". نيتشه، من خلال شخصية زرادشت، يخبر مستمعيه بأنه يسلك "طريقي"، لأنه "لا وجود للطريق"، ومع ذلك، يواصل زرادشت الحديث مع الرجال الباحثين عن المعنى عبر صفحات طويلة.
نيتشه يدعو دائمًا إلى التركيز، قائلاً: "صياغتي للسعادة؟: نعم، لا، خط مستقيم، هدف وفقط". ومع أن كلمة "هدف" تظل غير محددة، فإنه يترك السؤال مفتوحًا حول ما الذي يجب أن يسعى إليه، أو ما هي القيم التي يجب أن توجه هذا السعي. يبدو أن العنصر الأساسي في هذه الرؤية هو أن الرجل هو من يحدد هدفه بنفسه. هذه الصورة للسعي المركَّز والمستقل قد تكون نموذجًا صحيًا للرجال، ومن الواضح أن نيتشه يعتبرها ذكورية. ومع ذلك، لا يمكننا أن نغفل أن ملامح هذه الرجولة ليست ثابتة. هذا يأتي من فيلسوف يصف نفسه بأنه "تلميذ ديونيسوس"، الإله الذي يقارب الثنائية الجنسية، والذي يصوره نيتشه في كتابه المبكر "مولد التراجيديا" بوصفه العنصر الأنثوي في اتحاد جنسي مع أبولو. ديونيسوس يمنح طاقة الأرض الفوضوية، بينما يمنح أبولو القدرة على التشكيل والبناء. وفي لحظات أخرى، يعرّف نيتشه نفسه أو مشروعه الفلسفي بأريادني، المحبوبة الأنثوية البشرية لديونيسوس. وعندما يتحدث عن السعي الإبداعي الذي يمجده، لا يستند فقط إلى الرجولة الأبولوية، بل يستخدم أيضًا استعارة الأمومة.
في هذا السياق، يبدو نيتشه وكأنه يصرخ قائلاً: "كن رجلًا!"، ولكنه في الوقت ذاته يسأل: "ما هو الرجل؟". أتباعه المحافظون يسمعون صيحته فى صياغة الأمر فقط، بينما المثقفون النسويون يسمعونها كسؤال فقط.
قد تضع كتابات نيتشه الرجال في مأزق مشابه لما مررت به في شبابي: الحاجة إلى "أن تكون رجلًا"، وفي الوقت نفسه الحاجة إلى التساؤل حول ماهية الرجولة ذاتها. لكن الفارق الرئيسي، في نظري، هو أن نيتشه يحرر الإنسان من شعور الذنب تجاه هذا التناقض الداخلي، وكأنه يقول: يمكن للمرء أن يقوم بالأمرين معًا، وبثقة. لقد استغرق الأمر مني وقتًا طويلاً لأستوعب هذا، سواء في فكر نيتشه أو في حياتي الشخصية. فلا يمكن لمفهوم الرجولة إلا أن يكون مفهومًا مضطرباً في يومنا هذا، إذ إن عدم اضطرابه يعني فشل النسوية. ومع ذلك، يبقى الرجال موجودين، ويحتاجون إلى طرق لفهم أنفسهم بصورة إيجابية كرجال.
عندما كنت مراهقًا، سمعت نيتشه يقول: "كن رجلًا!"، وعندما أصبحت باحثًا شابًا، تخلّيت عن تلك النظرة الأحادية، وأصبحت أسمع السؤال: "ما هو الرجل؟". اليوم، كمعلم للطلاب الذكور الذين تأثروا بالرسالة الأولى فقط، تعلمت أن أستمع إلى كلا الرسالتين في آن واحد.
مترجم من مجلة thepoint بقلم Mat Messerschmidt