قصة بينوكيو الأصلية و مناهضة العمل
أليساندرو دلفانتي يتحدث عن إيطاليا في أواخر القرن التاسع عشر , والخيوط التى تُحركنا
إذا شعرتَ بأنّك ترغب في تحدي وظيفتك أو تعليمك، فلا تظن أنك تغرد خارج السرب؛ بينوكيو نفسه، بكل ما يحمل من دلالات رمزية، يقف إلى جانبك في هذا الشعور. فهو الذي رفض العمل، وباع كتاب الأبجدية الذي كان يملكه مقابل حفنة من المال. إنه نموذج للتمرد على النظام؛ مستعد لمواجهة كل العواقب، بل وحتى لإزهاق الأرواح، فقط ليتفادى أعباء الحياة العصرية. أما صديقه "لامبويك"، الذي آل به الحال إلى حمار، فقد قُدِّر له أن يموت من شدة الإرهاق في العمل. إن القصة الأصلية، إذن، يمكن أن تُقرأ كصرخة احتجاج ضد العمل، وربما تقدم لنا لمحة عن سياسات مناهضة العمل في يومنا هذا.
وإذا لم يكن هذا هو الانطباع الأول الذي يطرق ذهنك، فلعل السبب يعود إلى التحويرات التي أضفتها التفسيرات الحديثة على قصة كارلو كولودي التي نسجها في ثمانينيات القرن التاسع عشر، حيث خُفِّفت حدة التمرد الذي يتسم به بينوكيو، وخصوصًا في النسخة التقليدية التي أبدعتها ديزني. فلا شك أن القصة في ظاهرها تحمل طابعًا أخلاقيًا، إذ تصور دمية خشبية تسعى لتصبح صبيًا حقيقيًا عبر الالتزام بالطريق الذي يرسمه لها البالغون المسؤولون الذين تلتقيهم. غير أن عبقرية كولودي تتجلى في كونه قدّم للأجيال شخصية شقية، يجد الأطفال فيها صورةً تعكس تمردهم الفطري وهم يواجهون عالم الكبار ومتطلباته. ومع ذلك، فهذا مجرد جانب واحد من القصة.
إن القصة الأصلية لبينوكيو تعكس كذلك صعوبة التأقلم مع التحولات الجذرية التي شهدتها إيطاليا في أواخر القرن التاسع عشر، تلك الحقبة التي شهدت تغييرات سياسية واقتصادية أعادت صياغة معاني التعليم والعمل، حيث كان يتوقع من الناس أن يندمجوا في منظومة الاقتصاد الجديد.
وفي ضوء كونه دمية خشبية، يمكننا أن نتخيل أن بينوكيو كان من المفترض أن يكون جزءًا من هذا النظام، فهو، بحكم طبيعته الآلية، شيء خُلق ليُدار من قِبَل الآخرين. لكنه يمتلك ميزة فريدة: إنه بلا خيوط، يتمتع بحرية الإرادة، والمدرسة والعمل ليسا على قائمة أولوياته. وهنا يبرز السؤال: من سيسيطر عليه؟ وهل سيخضع للنظام؟
لا أمل في ذلك. حتى النهاية، يرفض بينوكيو في القصة الأصلية الذهاب إلى المدرسة أو الانخراط في عمل ما، رغم كل المآسي والمشكلات التي يواجهها نتيجة لذلك. فالحرية التي نالها بشكل سحري تقف حاجزًا أمام انصياعه لقواعد اللعبة. أما مرشدوه، فيبذلون قصارى جهدهم لإعادته إلى الطريق القويم. فالصرصار الناطق، الذي يمثل صوت الحكمة الأخلاقية، يسأله: "لماذا لا تتعلم حرفة على الأقل، لتكسب عيشًا كريمًا؟" لكن صبر بينوكيو ينفد سريعًا، فيرد: "من بين كل الحرف في العالم، لا يناسبني سوى واحدة: الأكل، والشرب، والنوم، واللعب، والتجول من الصباح حتى الليل." وحين يصر الصرصار على نصيحته، يقتله بينوكيو فورًا بضربة مطرقة.
وفي الفيلم الجديد لبينوكيو، الذي أخرجه غيليرمو ديل تورو بأسلوب بصري مذهل ورسوم متحركة متقنة، نجد حكاية مظلمة وساخرة، تقترب في جوانب عديدة من الموضوعات الأصلية التي نسجها كولودي في روايته. وكحال العديد من كتب الأطفال في القرن التاسع عشر، تتميز "مغامرات بينوكيو" بطابع فكاهي، لكنها أيضًا لا تخلو من العنف والمآسي والموت. يظل ديل تورو وفيًا لبعض السمات الجوهرية للقصة الأصلية؛ فهو يستخدم الدمية كأداة للتأمل في العلاقة بين الآباء والأبناء، ويضع القصة في سياق إيطاليا الفاشية، مما يضفي عليها خلفية مظلمة تعزز من تأثير الأحداث.
ومع ذلك، يغيب عن هذا الفيلم جوهر فكرة رفض بينوكيو للعمل والتعليم. بل على النقيض، يبدو بينوكيو في نسخة ديل تورو متحمسًا لفكرة العمل. ففي أحد المشاهد، عندما يمنعه جيبيتو من الذهاب إلى السيرك الذي وصل للتو إلى البلدة، يقول له: "علينا أن نعمل الآن." فيرد بينوكيو بحماسة: "العمل؟ أنا أحب العمل!" لكن في الحقيقة، هو لا يدرك ماهية العمل الذي يدعي حبه. وسرعان ما يسأل: "بابا، ما هو العمل؟" فيجيبه جيبيتو، في لحظة نادرة من السلطوية: "أوه، بينوكيو، من فضلك. لا مزيد من الأسئلة."
لا ريب أن الأسئلة ستثور، ولا بد أن الحيرة ستتجدد. ها هو بينوكيو، في حكاية "ديل تورو"، يجد نفسه عاملًا في عرض للدمى المتحركة، وقد بات السيرك الذي يضمه يستنزف من طاقته كل ما يستطيع، مستغلًا صعوده السريع إلى عالم النجومية. أما مديره، ذلك الرجل الذي يخلو قلبه من الرحمة، فقد بلغ به الجشع أن يسطو على أجور الصبي المسكين. ومع الإرهاق، والإفلاس، وحنينه إلى دفء البيت، كان طبيعيًا أن يصاب بينوكيو بخيبة أمل مريرة من العمل، بل ومن النظام الفاشي الذي يظلل حياته، وإن كانت تلك قصة أخرى.
وقد يسأل سائل: لماذا يبدو هذا الموقف مألوفًا لنا؟ والإجابة تكمن في أن خيبة الأمل في العمل قد عادت لتحتل مركز الاهتمام في السياسة والثقافة المعاصرتين. نجد أنفسنا مرة أخرى في مواجهة أزمات متلاحقة، اقتصادية كانت أو غير ذلك. ومع هذه الأزمات، تُطرح أسئلة عن معنى العمل وقيمته، وهي أسئلة تنبع من عمق معاناة الجماهير. يكفينا أن نذكر تلك القصص التي تكاثرت عن "الاستقالة الكبرى" في السنوات الأخيرة لتدلل على هذا التحول.
إننا نحيا في زمن يُضطر فيه الناس إلى العمل في ظروف هشة، تحت سيطرة تقنيات رقمية غايتها استنزاف كل ما يمكن من قدراتهم، وفي بيئات عمل أصبحت أكثر خطورة، كما برز بجلاء خلال الجائحة. وأما التعليم، فهو الآخر يعاني أزمة حادة، إذ تتفاقم ديون الطلاب يومًا بعد يوم، وتتهاوى قيمة الشهادات التعليمية في سوق العمل. في ظل هذه الظروف، لا غرابة أن يتصاعد الميل لدى كثيرين إلى الانسحاب من دوامة الحياة التقليدية، والبحث عن نمط آخر من العيش.
غير أن عصرنا هذا، بما يحمله من أزمات، ليس بالغريب عن العصور التي وُلد فيها بينوكيو. فقد كُتبت القصة الأصلية في حقبة من التحولات الجذرية للدولة الإيطالية الناشئة، حين نُشرت على أجزاء بين عامي 1881 و1883. كان كولودي يسرد قصته في زمن شهد صعود "اليسار التاريخي" إلى السلطة عام 1876، وهو تحالف من القوى الليبرالية والإصلاحية التي سيطرت على المشهد السياسي الإيطالي لعقود. بيد أن هذا التحالف ورث دولة موحدة حديثاً، لكنها كانت غارقة في ركود اقتصادي خانق.
ولمواجهة هذا الركود، بادرت حكومة ديبريتيس إلى تنفيذ برنامج من الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية يهدف إلى تحديث البلاد التي كانت تعتمد على الزراعة إلى حد كبير، وتحفيز الإنتاج الصناعي. ومن بين هذه الإصلاحات، جاء "قانون كوبينو" عام 1877، الذي جعل التعليم إلزاميًا لثلاث سنوات لجميع الأطفال بين سن السادسة والتاسعة. وهكذا، صار الذهاب إلى المدرسة فريضة على الجميع.
لكن هذه الإصلاحات لم تكن وليدة مُثل تقدمية تتعلق بمساواة فرص التعليم فحسب، بل كانت استجابة عملية لحاجة الاقتصاد الصناعي الناشئ إلى عمالة مثقفة. كان لا بد من تحويل السكان الريفيين إلى طبقة من العمال القادرين على القراءة والكتابة، وعلى الانسلاخ من الدورات البطيئة للزراعة، ليصبحوا قادرين على التكيف مع إيقاعات الإنتاج الصناعي: الحضور في الوقت المحدد، و اتباع الأوامر، و قراءة التعليمات، والتعامل مع وتيرة الآلات المتسارعة. وقد كتب أنطونيو غرامشي عن "الكتلة الزراعية-الصناعية" التي كانت القوة الدافعة لمثل هذه التغييرات، والتي استهدفت دعم صعود الاقتصاد الرأسمالي الإيطالي الناشئ.
في ذلك الزمن الذي شهد تقلبات الأمة الإيطالية الناشئة، كانت حكاية بينوكيو أقرب ما تكون إلى صورة تجسد الضرورة الوطنية والاقتصادية. فقد كان لزامًا عليه أن يتعلم حرفة، وأن يمتهن عملاً، ليخدم رأس المال والوطن. وكما نرى في زمننا من توترات تنشأ عن رفض العمل، فإن رفض بينوكيو في القصة الأصلية كان صورة حية للقلق الذي استبد بالناس حينذاك، قلق التحول الصناعي السريع، ودورات العمل المتسارعة التي أُجبر سكان الريف الإيطالي على التكيف معها، وكيف أُلقي عبء الأزمات الاقتصادية على كاهل الأفراد، مع أن أسبابها كانت أكبر من قدرتهم على السيطرة.
وكما في ذلك الزمن، نجد أنفسنا اليوم نعيش واقعًا مشابهًا؛ يُطلب من الناس أن يستثمروا في تعليمهم، وأن يضعوا مهاراتهم الرقمية في خدمة شركات التقنية الكبرى، وأن يعملوا في وظيفتين، ويتحملوا الديون، ويكفوا عن الشكوى. وكأن الأزمة لا تترك لهم خيارًا، ولا تمنحهم بديلًا.
وللحظة عابرة، تجرأ بينوكيو على أن يقول "لا"، وسعى وراء لذته اللحظية. لكنه، للأسف، لم يفلح. وهنا نجد زاوية عميقة للتحليل النفسي، قد تناولها النقاد ومفسرو الحكاية على مر العصور. فقد وُصفت قصة كولودي بأنها صراع بين اللذة والكبت، وصورة من صور الحياة والموت، وملحمة تنبض بمعاني التحول والبعث.
وتظهر في بعض التحليلات النقدية والتفسيرات الحديثة وعيٌ بأن بينوكيو، في سبيل بلوغ الخلاص، محكوم عليه أن يتخلى عن حريته، ويُسخّر جسده البشري الذي ناله حديثًا في خدمة العمل. إذ إن الإنسانية في نظره تتجسد في العمل، والعمل الجاد. وكما هو حال المتمردين الأفراد في قصص أخرى، فإن الهزيمة تكمن في لبّ رفضه. وما بارتليبي لهيرمان ميلفيل ببعيد، ذاك الذي قال عبارته الشهيرة: "أفضل ألا أفعل"، ثم انتهى به الحال إلى الموت جوعًا.
إن بينوكيو صغير، وساذج، ومنعزل عن العالم، فلا يملك أن يتخيل عالماً بعد العمل، عالماً يتحد فيه المنتجون الأحرار ليضعوا حدًا لبؤس العمل في ظل الرأسمالية. وبعد مئة وأربعين عامًا، لا نزال نحن نصارع مع هذه القضية ذاتها. ولكن، هل نحن حقًا محكومون بأن نجد خلاصنا وتحررنا من خلال العمل فقط؟
فإن كان الجواب "لا"، فعلينا أن ندرك أن أي سبيل للخروج من هذا المأزق يجب أن يكون جماعيًا. قد يجد الأفراد طريقتهم الخاصة لمقاومة العمل، ولكن من الذي سيقوم بالعمل اللازم للحفاظ على حياتهم؟ فلكل بينوكيو يأكل، ويشرب، وينام، ويلعب، ويتجول من الصباح حتى المساء، هناك على الأقل جيبيتو واحد، وجنية واحدة تعمل بجهد. هؤلاء هم العمال الأساسيون، والنساء، كما هو متوقع.
ولم يكن كولودي رجلًا ثوريًا، ولم يكن ليبلغ هذا الحد من التفكير. ففي نهاية قصته، يُروَّض بينوكيو، وتتحول الدمية المتحركة إلى فتى حقيقي. ويتم هذا التحول عبر حبه لوالده، وأيضًا من خلال العمل وادخار المال. لكن يبقى السؤال: هل يُعد ذلك خلاصًا أم لعنة؟
لعل المغني وكاتب الأغاني الإيطالي إدواردو بيناتو يملك جوابًا. ففي إيطاليا عام 1977، حيث كان رفض العمل يشكل مشهدًا بارزًا، ألّف بيناتو ألبومًا مستوحى من قصة بينوكيو. وفي مسار تحوله إلى صبي، غنى بيناتو أن الدمية قد اكتسبت خيوطًا، لكنها فقدت حريتها إلى الأبد: "الآن لا تخطو خطوة إلا إذا كان هناك شخص من أعلى يأمر ويسحب الخيوط بالنيابة عنك."
مترجم من مجلة lithub بقلم Alessandro Delfanti