تحسين النسل واليونسكو: كيف صاغ جوليان هكسلي رؤيته؟
زعم جوليان هكسلي بأن تحسين النسل هو مفتاح التطور والتناغم البشري
في ذلك القرن الثامن عشر، حيث كانت أوروبا تتقلب بين أحلام التنوير وقيود الماضي، وقف بعض علمائها يتأملون مستقبلًا يزدهر فيه العقل، ويتناغم فيه الإنسان مع الطبيعة. وكانوا يحلمون بمجتمع تتوازن فيه الأخلاق مع معارف العلم، وتتآلف فيه القيم مع قوانين الكون. غير أن هذا الانسجام لم يكن يسيرًا كما توهَّمه الحالمون، بل كان محفوفًا بالعوائق، مشروطًا بقوانين الطبيعة الصارمة. فالأرض، مهما اتسعت، لا تطيق أن تمتد فيها التجمعات البشرية إلى غير حد، ولا أن يظل التزايد السكاني مستمرًا بلا قيود. إذ ما تزايد البشر إلا واستُنزفت الموارد، فإذا بالتقدم الذي بُذلت له الجهود يتقهقر، وإذا بالحضارة التي توهَّمها الناس سبيلاً إلى الرقي، تتحول إلى عبء يوشك أن يقوض أركانها.
ومن هنا، أطلق توماس مالتوس، ذلك الاقتصادي البريطاني، تحذيرًا صارخًا في خواتيم ذلك القرن: ينبغي أن يُحكم نمو السكان، وإلا فإن الطبيعة ستتولى بنفسها فرض قيودها الصارمة. وكما أن لكل كائن حيٍّ في هذا الوجود حدًّا لا يستطيع تجاوزه، فكذلك الإنسان لا بد أن يجد التوازن الذي يجنبه الفناء. فإن هو فشل في ذلك، جاءت الحرب، أو المجاعة، أو المرض، لتعيد الأمور إلى نصابها القاسي.
ولم يكن كلام مالتوس نبوءة عابرة، بل جاء في زمن كانت فيه بريطانيا تموج بتحولات عميقة. فقد صنعت الثورة الصناعية ثراءً لم يسبق له مثيل، لكنها في الوقت ذاته جلبت بؤسًا لم يعرفه الناس من قبل. وازدحمت المدن بالجموع، ففسدت البيئة، وانتشرت الأوبئة، واستفحل الفقر حتى صار جزءًا من حياة الملايين. وأخذت أعمال الشغب والإضرابات تتوالى، حتى بدا أن التقدم نفسه قد حمل معه بذور الدمار. ولم يكن غريبًا أن يصف توماس كارلايل إنجلترا، في منتصف القرن التاسع عشر، بأنها "تموت من الإعياء"، وكأنها أرهقتها ثروتها العظيمة، لا من قلة الموارد، بل من سوء توزيعها، ومن الفوضى التي خلّفها تضخم سكاني لم يُحسن التحكم فيه. فجأة أدركوا أن العالم المستنير حلماً صعب المنال.
وفي غمرة هذه الفوضى، جاءت نظرية أخرى تستمد جذورها من أفكار مالتوس، لكنها ارتدت ثوبًا علميًّا أكثر دقة وتأثيرًا. فقد طرح تشارلز داروين قانون الانتقاء الطبيعي، مؤكدًا أن الكائنات الحية لا يمكن أن تستمر في التكاثر بلا حساب، فالموارد شحيحة، والصراع من أجل البقاء لا يترك إلا للأصلح فرصة الاستمرار. ولكن إذا كان هذا القانون يفسر التطور في عالم الحيوان، فكيف ينعكس على الإنسان؟ هنا برزت إشكالية جديدة، فقد كان في هذا الطرح ما يُفقد الإنسان تميزه، وما يجرّده من طابعه الإلهي، فيجعله مجرد كائن يخضع لقوانين الطبيعة كما تخضع لها سائر المخلوقات.
وقد عبّر الشاعر ماثيو أرنولد عن هذا الشعور بالضياع حينما شبّه الفراغ الروحي الذي أحدثته نظرية التطور بصوت المحيط الذي يتراجع، فيترك خلفه صمتًا مهيبًا موحشًا. أما أولئك الذين انطلقوا من فكر داروين ومالتوس، فقد رأوا الأمر من زاوية أخرى؛ إذ اعتقدوا أن التقدم العلمي المتمثل فى التقدم فى العلوم الطبية والاجتماعي المتمثل فى دور المؤسسات الخيرية قد أخلّ بقانون الانتقاء الطبيعي، فجعل الضعفاء قادرين على البقاء، وأتاح للأقل كفاءة أن يعيشوا، مما أبطأ التطور، بل وربما أعاقه تمامًا.
وكان من بين هؤلاء فرانسيس غالتون، ابن عم داروين، الذي رأى في هذا المشهد كارثة لا تقل فداحة عن نهاية العالم. ولم يكن في وسعه أن يترك الأمور تسير على هذا النحو، بل رأى أن على المجتمعات البشرية أن تتدخل بوعي في مسيرة التطور، فتأخذ بزمام الأمور، وتُخضع قوانين الطبيعة لإرادتها. وهكذا، جاء كتابه "العبقرية الوراثية" عام 1869، ليقترح مشروعًا يقوم على تحسين النسل، بحيث يتم التحكم في تكاثر البشر، فيُشجع الأكثر موهبة على الإنجاب، ويُحدّ من نسل الأقل كفاءة، علّ البشرية تصل بذلك إلى نوع أرقى وأكمل.
لكن هذه الفكرة، التي بدأت كتجربة علمية تنشد التقدم، سرعان ما انحرفت عن مسارها، وتحولت إلى واحدة من أفظع الجرائم التي عرفها التاريخ. ففي مطلع القرن العشرين، انتشرت برامج تحسين النسل في الولايات المتحدة، حيث جرى تعقيم أصحاب الأمراض العقلية قسرًا، وكذلك نساء من السكان الأصليين، باعتبارهن "أقل شأنًا". ثم بلغت الفكرة منتهاها المظلم في ألمانيا النازية، حيث لم يعد تحسين النسل مجرد وسيلة علمية، بل صار أداة للتطهير العرقي، فجُرّدت الملايين من حقهم في الحياة، باسم الحفاظ على "نقاء العِرق".
وقد لخّص أوجين فيشر، أستاذ الطب الألماني وعضو الحزب النازي، هذا الفكر المروع حينما أعلن في عام 1939: "أنا أرفض اليهودية بكل الوسائل المتاحة لي، وبدون تحفظ، من أجل الحفاظ على الإرث الوراثي لشعبي". ولم يكن في قوله هذا سوى تبرير بارد لإبادة جماعية.
وحين انكشفت فظائع معسكرات الاعتقال، لم تكن الإدانة موجهة إلى النازيين وحدهم، بل امتدت إلى الفكرة ذاتها، إلى ذلك الحلم الذي بدأ بوعد التقدم وانتهى بجريمة لا تغتفر. وصارت كلمة "تحسين النسل" لا تُذكر إلا مقرونة بالعار. وكما كتبت المؤرخة الأمريكية نانسي ستيبان عام 1991، فقد أُقصيت الكلمة من قاموس العلم، كما أُقصيت من ضمير البشرية، كأنها لم تكن سوى وهمٍ جلب معه الخراب.
استجابة لعواقب الحرب، وما خلفته من دمار شامل، وما انبثق عنها من أفكار شديدة القسوة كتلك التي استندت إلى نظريات العرق والتصنيف البشري، التفت العالم إلى ضرورة إعادة بناء تصور جديد لمستقبل الإنسانية، تصور يقوم على أسس من العدل والمساواة والتعاون بين الشعوب. وفي هذا السياق، كان إنشاء منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، المعروفة باسم اليونسكو، في عام 1945، علامة فارقة في هذا المسعى. فمنذ اللحظة الأولى، رأت هذه المؤسسة أن مهمتها الكبرى هي محاربة الجهل والتعصب، وهما السلاحان اللذان كان لهما نصيب في إشعال نار الحرب العالمية الثانية. وكان مؤسسو هذه المنظمة يحلمون بأن تكون مركزًا يُضيء دروب السلام ويُرسّخ مبادئ التعددية الثقافية، حتى تُطوى صفحة النزاعات وتُمحى أسبابها. غير أن هذا الحلم كان يواجه إشكالًا جوهريًا، إذ إن الرجل الذي اختير لقيادة هذه المؤسسة الناشئة لم يكن سوى أحد الداعمين لفكرة تحسين النسل.
وُلد جوليان سوريل هكسلي في لندن عام 1887، لأب وأم جمعا بين حب العلم والأدب. فقد كانت أمه، جوليا أرنولد، معلمة، وكان أبوه، ليونارد هكسلي، كاتبًا معروفًا. وإذا كان للأب شأن في عالم الكتابة، فإن للأم صلة بأعلام الأدب، إذ تنتمي إلى أسرة الشاعر ماثيو أرنولد، وكانت هذه العائلة مولعة بالعلوم والآداب على السواء، بينما كان ليونارد ابن توماس هنري هكسلي، عالم الحيوانات الشهير الذي لُقب بـ"كلب داروين المدافع" و"كاهن التطور الأعلى" بسبب دفاعه عن نظرية الانتقاء الطبيعي. ورث جوليان وشقيقه ألدوس هكسلي، الذي كتب لاحقًا رواية "عالم جديد شجاع" (1932). غير أن الشهرة العلمية والأدبية لم تكن كافية لجلب الثروة، فقد كانت الأسرة تعيش ضمن حدود الطبقة المتوسطة، تستطيع أن تستأجر مربية لأطفالها، لكنها تجد مشقة في تحمل نفقات تعليمهم الجامعي. ولهذا، كان الأبوان يخشيان ألا يتمكن أبناؤهم من الالتحاق بالجامعة ما لم يحصلوا على منح دراسية. وقد استطاع جوليان أن يحقق هذا الطموح، فالتحق بإيتون ثم بجامعة أكسفورد، حيث تعزز لديه الاعتقاد بأن فرص التعليم يجب أن تكون متاحة فقط لأولئك الذين يثبتون جدارتهم، وهو اعتقاد سيترك أثره في أفكاره لاحقًا.
وفي أكسفورد، وجد جوليان نفسه ممزقًا بين حب الأدب وشغف العلم، فقد دفعته والدته إلى التفكير في دراسة الآداب الكلاسيكية، لكن ميوله العلمية غلبت في النهاية، فاختار دراسة علم الحيوان بين عامي 1906 و1909. وكان من حسن حظه أن تلقى تعليمه على يد جي دبليو جينكينسون، عالم الأجنة الذي كان قد بدأ حياته بدراسة الأدب الكلاسيكي قبل أن يتحول إلى العلوم الطبيعية. وربما لهذا السبب، لم تكن دروسه تقتصر على نقل المعارف العلمية، بل كانت تدفع طلابه إلى التفكير في الأسئلة الفلسفية الكبرى: كيف يمكن تفسير العقل البشري من خلال القوانين البيولوجية؟ وهل للحياة هدف محدد أم أنها مجرد سلسلة من الأحداث العشوائية؟ لقد أثرت هذه التساؤلات في فكر هكسلي، فحاول معالجتها في كتاباته المبكرة، مثل "الفرد في المملكة الحيوانية" 1912 و"مقالات لعالم أحياء" 1923، وهي أعمال جعلته يكتسب مكانة علمية مرموقة، إذ امتاز بقدرته على تبسيط الأفكار المعقدة وجعلها في متناول الجميع.
أما جذوره الفكرية في تحسين النسل، فمن الصعب أن يُحدد المرء متى بدأت تتشكل لديه. غير أن من الواضح أنه تأثر بمعلمه في أكسفورد، جيفري سميث، الذي لم يكن عالم حيوان فحسب، بل كان أيضًا مهتمًا بفكرة تحسين البشرية. كما تأثر بصديقه ألكسندر كار-ساوندرز، الذي كتب عن مالتوس وتحسين النسل. ولعل وجوده في أكسفورد، حيث كانت فكرة "رجل أكسفورد" – ذلك النموذج المثالي للشخص المتعلم تعليمًا رفيعًا والمتميز وراثيًا – منتشرة، قد عزز لديه هذا الميل.
ورغم انشغاله بتحسين النسل، لم يكن هذا المجال هو اهتمامه الوحيد. ففي عام 1923، شارك في تأسيس "المجلة البريطانية لعلم الأحياء التجريبي"، ثم أسس لاحقًا مجموعة بحثية حملت اسم "التخطيط السياسي والاقتصادي"، كان هدفها دراسة التغيرات الاجتماعية المتوقعة من خلال العلوم. وعندما تولى منصب أمين جمعية لندن لعلم الحيوان في عام 1935، سعى إلى نشر العلوم البيولوجية وجعلها أكثر ارتباطًا بالحياة العامة.
وكان انخراطه في منظمة اليونسكو نتيجة لمشاركته في اجتماع للمعهد الدولي للتعاون الفكري عام 1944، وهو الاجتماع الذي مهّد لتأسيس الوكالة الدولية الجديدة. وقد حضر هكسلي هذا اللقاء للدفاع عن ضرورة أن يكون للعلوم مكان في هذه المؤسسة، التي كان يُفترض أن تُعنى بالتعليم والثقافة فقط. وسرعان ما أصبح مشاركًا فعالًا، حتى إنه عندما اضطر المرشح الأول لمنصب المدير العام لليونسكو إلى الاستقالة، وقع اختيار المسؤولين على هكسلي ليكون البديل. ففي عام 1946، تولى منصب أول مدير عام لهذه المنظمة، إذ رأى المسؤولون أنه يمتلك المعرفة والقدرة على معالجة القضايا الفكرية الكبرى. ولكن بقي السؤال: هل ستتوافق أفكاره حول تحسين النسل مع الرؤية الإنسانية التي تبنتها اليونسكو؟
إنّا لننظر اليوم إلى تحسين النسل وكأنه وصمة ألحقها التاريخ بالفكر النازي، فنراه مقترنًا بفظائع التطهير العرقي، ونحسب أن لا سبيل إلى فصله عن تلك الجرائم التي اقترفها النازيون بحق الإنسانية. ولكن هكسلي لم يكن يراه على هذا النحو، بل كان يفرق بين تحسين النسل والتطهير العرقي، ويرى في الأول وسيلة لتطوير الجنس البشري، لا أداة لإبادة الأعراق واستئصالها. ففي كتابه "نحن الأوروبيون" الذي نشر عام 1935، وقف هكسلي في مواجهة عنصرية الفاشيين وأولئك القوميين المتعصبين، وأنحى باللائمة على السياسات التي انتهجتها ألمانيا النازية في تحسين النسل. ومع ذلك، فقد ظل مؤمنًا بالمبدأ ذاته، وإن حاول أن ينأى به عن تهمة العنصرية، مستندًا في ذلك إلى ما كشفت عنه دراسات علم الوراثة والإحصاء من أن الاختلافات بين الأفراد داخل المجموعة العرقية الواحدة تفوق تلك التي توجد بين المجموعات المختلفة.
وإذا تأملنا أفكار هكسلي، أدركنا أن فهمنا الحديث لتحسين النسل قد شابه التبسيط والإجمال، وأفضى بنا إلى تصورات مشوهة لا تعكس حقيقة هذه الفكرة في تطورها التاريخي. فكما تذهب المؤرخة الأمريكية ديان بي بول في كتابها "التحكم في الوراثة البشرية" (1995)، لم يكن تحسين النسل حركة واحدة ذات وجه واحد، بل كان حركة متشعبة المسالك، متعددة الأشكال، فقد كان في بعض الأحيان ينحو منحىً راديكاليًا، فتُسنّ قوانين التعقيم القسري كما حدث في بعض الدول، وفي أحيان أخرى، كان يتخذ طابعًا أقرب إلى سياسات الرفاه الاجتماعي التي اعتمدتها كثير من الحكومات الغربية. والحقيقة أن معظم دول الغرب قد مارست نوعًا من تحسين النسل في صورة أو أخرى، فبينما ذهبت ألمانيا النازية إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه الوحشية، اتبعت دول أخرى وسائل أقل عنفًا، كتشجيع الاستشارات الوراثية بدلًا من التعقيم، ومنح الدعم المالي للأزواج الذين عُدّوا "موهوبين وراثيًا" لتشجيعهم على الإنجاب. وفي بريطانيا، لم يكن تحسين النسل يحمل ذات المعنى لكل من تحدّث عنه، فكان لكلٍ رؤيته الخاصة، وكان تصور هكسلي عن دوره في اليونسكو أكثر تعقيدًا مما قد يبدو في ظاهر الأمر. وإن أردنا أن نفهم موقفه على حقيقته، وجب علينا ألا نغفل تعقيدات المسألة، وألا نسارع إلى مساواته مباشرةً بتلك الفظائع التي ارتكبتها النازية.
وكانت رؤية هكسلي لليونسكو قائمة على تصور خاص لمفهوم التطور، تصور لم يكن واضح المعالم منذ البداية، وإنما تشكل على مهل، عبر سنوات طويلة من الفكر والتجربة. فقد وُلدت أفكاره من رحم التحولات الكبرى التي شهدها العالم في مستهل القرن العشرين، حيث أخذت الحقبة الفيكتورية في التلاشي شيئًا فشيئًا، وأخذ عصر جديد يبزغ بأفكاره ونظرياته. وكان ذلك زمنًا احتدم فيه الجدل حول التقدم والتطور، وتصدّر فيه الفلاسفة والعلماء ساحة النقاش، كلٌ يقدّم حججه ويعرض براهينه.
ومن بين الأسماء التي لمعت في هذا السياق كان هربرت سبنسر، ذلك الفيلسوف الإنجليزي الذي وضع قبل عقود، في سبعينيات القرن التاسع عشر، تصورًا عن المجتمعات البشرية باعتبارها كيانات تخضع لقوانين التطور، كما تخضع الكائنات الحية في الطبيعة. وكان يرى أن التنافس بين الأفراد والجماعات يؤدي إلى انتقاء الأصلح، وأنه هو السبيل إلى التقدم والارتقاء. غير أن مفهوم التنافس عنده لم يكن يعني بالضرورة الصراع الفردي المحض، بل كان يتسع ليشمل التعاون، حيث يكون النجاح حليف الجماعات التي تتمتع أعضاؤها بالقدرة على العمل المشترك والتنسيق فيما بينهم. غير أن هذا الجانب من فكره قد غاب عن كثير من معاصريه، إذ لم يروا فيه سوى دعوته إلى الصراع، وتأصيله لفكرة البقاء للأقوى.
ولكن، إن كان سبنسر قد تبنّى هذا التصور، فإن توماس هنري هكسلي، جدّ جوليان، لم يكن ليقبل به على إطلاقه. فقد كان صديقًا لسبنسر، لكنه لم يكن ليستسيغ ما ألحّ عليه من تأكيد الصراع والتنافس باعتبارهما قانونًا حتميًا للمجتمع البشري. وكان مما زاد من رفضه لهذا التصور أنه قد ذاق مرارة الفقد حين اختُطفت ابنته الصغيرة من بين يديه، فأخذ يتساءل: أهذه هي الطبيعة التي تزعم أنها تنتقي الأصلح؟! أهذه هي العدالة التي يُقال إنها تحكم قوانين التطور؟! ولم يكن هذا الاعتراض مجرد شعور عاطفي طارئ، بل كان رؤية متكاملة عبّر عنها بوضوح في محاضرة ألقاها في جامعة أكسفورد عام 1893، وكانت بمثابة ردٍّ على أطروحات سبنسر، إذ قال فيها: "فلنفهم، مرة وإلى الأبد، أن التقدم الأخلاقي للمجتمع لا يقوم على محاكاة قوانين الطبيعة الكونية، ولا على الفرار منها، بل على مقاومتها." لقد كان يرى أن المجتمع الإنساني، إن أراد أن يتقدم، فعليه أن يسعى إلى تجاوز القوانين العمياء التي تحكم الطبيعة، لا أن يستسلم لها، وكان يعتقد أن الفرد لا ينبغي له أن يقتصر على احترام الآخرين فحسب، بل يجب عليه أن يمد إليهم يد العون والمساعدة.
غير أن هذه الرؤية، وإن كانت نبيلة في ظاهرها، فقد اصطدمت بمشكلة لا يمكن التغافل عنها، وهي أن الحد من الانتقاء الطبيعي داخل المجتمعات البشرية قد يؤثر على مسار التطور ذاته. فإن كانت قوانين الطبيعة تُخضع الكائنات لعمليات انتقاء صارمة، تبقي على الأصلح وتستبعد الأضعف، فإن التدخل الإنساني في هذه العملية قد يخلّ بالتوازن، فيؤدي إلى تزايد السكان دون ضابط، ومن ثم قد يتعرض التقدم البشري للتباطؤ أو التراجع. فالكائنات الأخرى تعيش وتموت وفقًا لما تسمح به بيئاتها الطبيعية، أما الإنسان فقد بدا وكأنه في طريقه إلى التحرر من هذه القيود، يزداد عددًا دون أن يكون ثمة ما يحدّ من نموه. ولذا، فقد رأى بعض المفكرين أن نجاح البشرية في البقاء والتكاثر، إذا لم يكن محكومًا بضوابط صارمة، فقد يتحول من نعمة إلى نقمة، ومن دليل على الارتقاء إلى تهديد يحدق بالمستقبل الإنساني ذاته.
لقد كان توماس هكسلي شديد القلق إزاء مشكلة الاكتظاظ السكاني، فقد رآها معضلةً لا بدّ لها من علاج، وكان يظنّ أن بعض هذا العلاج قد يكمن في التنافس الطبيعي الذي يُبقي على الأقوى ويحدّ من انتشار الضعفاء. ولكنه، على الرغم من ذلك، لم يكن يميل إلى اللجوء إلى تحسين النسل كحلٍّ مباشر، إذ خشي أن يؤدي الأخذ بهذه الفكرة إلى ما هو أشد خطرًا، وهو الاعتقاد بأن قوانين الانتقاء الطبيعي ستقوّض أسس الأخلاق البشرية المتقدمة، وتجعل الإنسان يفقد إحساسه بالمسؤولية تجاه بني جنسه. لذلك، فقد ارتأى أن يكون العلاج مستندًا إلى الوازع الأخلاقي، وأن تكون مسؤولية الأفراد تجاه المجتمع هي العامل الذي يحدّ من التكاثر. ولكن، إذا لم يكن هذا الوازع الأخلاقي مستمدًّا من الدين، ولم يكن قائمًا على قوانين الطبيعة ذاتها، فمن أين يُستمد إذن؟! كان هذا هو السؤال الذي بقي معلقًا حتى جاء حفيده جوليان ليقدّم جوابه.
وكان جواب جوليان هكسلي قائمًا على تصور جديد للطبيعة، تصور يختلف عما كان سائداً من قبل، إذ لم يكن يرى في الطبيعة ميدانًا للصراع والتنافس المحض، كما تصوّرها كثير من العلماء والفلاسفة، بل كان يرى فيها مبدأً آخر أكثر عمقًا وأشد دلالة، وهو مبدأ التعاون والتناغم. فالطبيعة، في جوهرها، لم تكن صراعًا دائمًا بين الكائنات، بل كانت شبكةً معقدةً من العلاقات المتداخلة، تقوم على التعاون والتكامل أكثر مما تقوم على العداء والتنافس.
وقد استوحى هكسلي هذا التصور من كتاب الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون "التطور الخلّاق" الذي صدر عام 1907، ذلك الكتاب الذي قلب كثيرًا من المفاهيم العلمية السائدة، وطرح رؤيةً جديدةً للتطور لم تكن تعتمد على البقاء للأصلح فحسب، بل كانت ترى في التطور عمليةً ديناميكية مستمرة، تسير باتجاه مزيد من التعقيد والتكامل. وكان برجسون يعتقد أن الكائنات الحية لا تسير في خطٍّ مستقيم نحو البقاء والتكيّف، وإنما تتطور بطريقة تجعلها تزداد تعقيدًا بمرور الزمن، فكلما ازدادت الكائنات تعقيدًا، زادت قدرتها على التكيّف مع بيئتها، واتسعت أمامها سبل البقاء. فالطحالب، على سبيل المثال، تبدو بسيطةً إذا ما قورنت بجسم الإنسان، الذي يشتمل على أنظمةٍ متداخلة وأعضاءٍ متخصصة وموادٍ كيميائية عصبية غايةً في الدقة. وكانت الفكرة الجوهرية عند برجسون أن الكائنات كلما زادت تعقيدًا، أصبحت أكثر قدرةً على التحكم في مصيرها، وأقل خضوعًا للقيود التي تفرضها البيئة عليها. فالكائن البسيط الذي يعتمد في حياته على ضوء الشمس فقط قد يكون مهددًا بالموت بمجرد أن يحجب السحاب الضوء عنه، ولكن مجموعةً من الكائنات البسيطة إذا اتحدت معًا وأخذ كلٌّ منها على عاتقه وظيفةً مختلفة، فإنها تصبح أكثر قدرةً على مواجهة التحديات. فمنها ما يتخصص في التمثيل الضوئي، ومنها ما يتكفل بالحركة، ومنها ما يضطلع بوظائف أخرى، كما هو الحال في المجتمعات البشرية، حيث يتوزع العمل بين الأفراد، ويصبح التعاون هو الوسيلة التي تضمن لهم البقاء والتقدم. ولم يكن هذا المبدأ بعيدًا عن تركيب جسم الإنسان ذاته، فالعين، على سبيل المثال، لا تعمل إلا لأن بعض خلاياها قد تخصصت في ضبط العدسة، وبعضها الآخر أصبح عضلاتٍ تُحركها، وبعضها صار أعصابًا بصريةً تنقل الإشارات إلى الدماغ. وكان برجسون يرى في هذا التعقيد المتزايد دليلًا على أن التطور لا يسير وفق خططٍ جاهزةٍ أو قوالب ثابتة، وإنما هو عمليةٌ حيةٌ تتشكل باستمرار، وتُبدع أنظمةً جديدةً أكثر مرونةً وأشد قدرةً على التكيف مع ظروف الحياة المتغيرة.
وقد أخذ هكسلي بهذه الفكرة، ووسع نطاقها ليجعلها تشمل ليس فقط الكائنات الحية، بل الثقافة البشرية أيضًا. ففي مقاله الشهير "فكرة التقدم" الذي نشره عام 1917، أشار إلى أن الاتجاه التطوري الرئيسي لم يكن مجرد زيادة في التعقيد البيولوجي، بل كان أيضًا زيادةً في التناغم بين الأجزاء، بحيث تصبح أكثر تكاملًا وأكثر قدرةً على العمل المشترك. وكان يؤمن بأن الجنس البشري يستطيع أن يحقق تقدمًا حقيقيًا إذا ما تمكن من تحقيق هذا التناغم، بحيث يصبح المجتمع البشري أشبه بكائنٍ حيٍّ واحد، لكلّ فردٍ فيه دوره ووظيفته، ولكلّ عنصرٍ فيه حقه في أن يحتفظ بخلفيته الثقافية الخاصة وميزاته البيولوجية، طالما أن ذلك لا يضر بالمجموع.
وكان التناغم عند هكسلي فكرةً أساسيةً لم تقتصر على المجال العلمي والفلسفي، بل امتدت إلى رؤيته السياسية والاجتماعية. فعندما خدم في الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، وجد نفسه في مواجهة عالمٍ تتجلى فيه الفوضى بأبشع صورها، عالمٍ تسوده الانقسامات القومية والصراعات الدامية. وفي ذلك الوقت، سمع بفكرة عصبة الأمم، ورأى فيها نموذجًا لما يمكن أن يكون عليه العالم إذا تحققت مبادئ التعاون والتكامل بين الشعوب، ولكنه لم يكتفِ بهذه الرؤية، بل أراد أن يذهب بها إلى أبعد من ذلك، وأن يجعل من العلم وسيلةً لتحقيق هذا التناغم. ففي كتابه "الدين دون وحي" الذي نشره عام 1927، ذهب إلى أن العلم قادرٌ على توحيد البشرية من خلال تقديم رؤيةٍ مشتركةٍ للمستقبل، تستند إلى فهمٍ علميٍّ مشتركٍ لأصلنا التطوري. وكان يرى أن هذه الرؤية يمكن أن تكون أساسًا لدينٍ جديد، لا يقوم على الوحي، بل على المعرفة العلمية، وكان يطلق على هذا المشروع اسم "الإنسانية العلمية"، ذلك المشروع الذي صار فيما بعد جزءًا من فكرته عن تحسين النسل في منظمة اليونسكو.
وفي ثلاثينيات القرن العشرين، وبينما كانت النازية تزداد قوةً في ألمانيا، وتنتشر أفكارها حول نقاء العرق الآري، لم يتردد هكسلي في مواجهتها، فقد رأى في هذه الادعاءات مجرد غطاءٍ بيولوجيٍّ لأجندةٍ سياسيةٍ خبيثة. وفي كتابه "نحن الأوروبيون" الذي صدر عام 1935، كتب بوضوح أن مفهوم العرق الآري ليس سوى وهمٍ لا سند له في العلم، وإنما هو حيلةٌ استخدمتها النازية لتبرير سياساتها العنصرية. ولم يكن الوضع في بريطانيا أفضل حالًا، فقد كان علم الوراثة يُستخدم هناك لتكريس النظام الطبقي وتعزيز سلطة الطبقات الحاكمة، مما جعل تحسين النسل أداةً تخدم الامتيازات بدلاً من أن تكون وسيلةً لتحقيق العدالة الاجتماعية. ومع ذلك، فإن هكسلي، على الرغم من هذه المشكلات، لم يتخلَّ عن فكرة تحسين النسل، بل ظلّ متمسكًا بها، مؤمنًا بأنها، إذا أُحسن استخدامها.
لم تكن رؤية هكسلي لتحسين النسل شبيهة بتلك التي انتشرت في ألمانيا أو بريطانيا في ذلك العصر، بل كانت قائمةً على تصور مختلف تمامًا، تصورٍ يقوم على الإيمان بأن تحقيق المساواة في البيئة الاقتصادية والاجتماعية، عن طريق توزيع الثروة مثلًا، هو السبيل الأنجع لظهور الأفراد الموهوبين بيولوجيًا، لا بمحض الصدفة، بل كنتيجة طبيعية للظروف المثلى التي تتيح لهم بلوغ أقصى إمكاناتهم. وقد وقف هكسلي أمام جمعية تحسين النسل في عام 1936 ليؤكد هذه الرؤية قائلاً: "إن نظامنا الاجتماعي الحالي لا يسمح لغالبية الناس بالتعبير عن قدراتهم الجسدية الكاملة"، بل إن "الملكات الفطرية العالية تُهمَل أو لا يُحسَن استغلالها إلا في أضيق الحدود". ولم يكن يرى سبيلاً لظهور المواهب الوراثية إلا من خلال انسجام البيئة مع الطبيعة البشرية، ذلك الانسجام الذي وحده كفيلٌ بأن يُثمر أفرادًا موهوبين، قادرين على الإبداع والتميز. وكان يؤمن بأن تحسين النسل ليس مجرد وسيلة لتعزيز قدرات الأفراد الأحياء فحسب، بل هو منهجٌ يُراد به رسم معالم مستقبل البشرية بأكملها. غير أن السؤال الذي ظل معلقًا هو: ما هي تلك القدرات العالية التي ينبغي البحث عنها؟ وكيف يُقاس النجاح؟
ولم تمضِ سنةٌ على محاضرته تلك حتى صار هكسلي نائبًا لرئيس جمعية تحسين النسل في بريطانيا، وظل يشغل هذا المنصب حتى عام 1944. وهذا يدل دلالةً واضحةً على أنه، حتى في ذروة تصاعد النازية في ألمانيا وما رافقها من أفكار عنصرية حول تحسين النسل، لم يفقد هكسلي إيمانه بهدفه، ولم يتخلَّ عن سعيه إلى تعزيز ظهور أفراد "موهوبين" متفوقين بيولوجيًا. غير أن مفهومه عن النجاح لم يكن قائمًا على الهيمنة أو الاستعلاء، بل على فكرة التناغم البيولوجي. فقد كان يرى أن التطور هو في جوهره عمليةٌ تسير نحو تناغمٍ متزايد بين الأجزاء، لا نحو صراعٍ دائمٍ بينها.
وكان هذا التصور يمتد إلى فهمه لعلم الوراثة ذاته، إذ كان يعتقد أن بعض الأفراد يرثون جيناتٍ أكثر تناغمًا وتكاملًا من غيرهم، بينما يُحرم آخرون من هذا الامتياز، فتظهر لديهم الأمراض والمشكلات الصحية المختلفة. وكان يشير في كتاباته إلى "مجمع الجينات" و"التوازن الجيني"، مما يكشف عن نظرته إلى الوراثة باعتبارها عمليةً ديناميكيةً لا تقتصر على مجرد نقل الصفات، بل تتعلق بمدى انسجام هذه الصفات مع البيئة المحيطة. وكان يؤمن بأن أولئك الذين يمتلكون جيناتٍ متناغمةً لا يمكن أن يظهروا ويزدهروا إلا في بيئةٍ اجتماعيةٍ متناغمة، بعيدةٍ عن الفوضى السياسية، ومحصنةٍ ضد ويلات الحرب والاكتظاظ السكاني. وحين عُيّن مديرًا لمنظمة اليونسكو عام 1946، كانت هذه الأفكار قد تبلورت لديه بشكلٍ أوضح، وصارت الأساس الذي بنى عليه رؤيته لتحسين النسل في تلك الوكالة الدولية.
وقد وُلدت منظمة اليونسكو، منذ نشأتها، لتعزيز النزعة الدولية والكونية، فجاء هكسلي ليُسرع الخطى نحو هذه الغاية، فكتب عام 1946 كتيبًا يشرح فيه الفلسفة التي ينبغي أن تقوم عليها هذه المؤسسة. وكان يرى أن لليونسكو ثلاثة أهدافٍ رئيسيةٍ لا بد من تحقيقها. أما أولها، فهو أن تستمر البشرية في مسيرتها التطورية نحو مزيدٍ من التناغم. وأما ثانيها، فهو تحقيق المساواة في البيئات الاجتماعية، بحيث تُتاح الفرصة أمام الجميع لإظهار إمكاناتهم الحقيقية، فتنكشف الفوارق الفطرية بين الأفراد، ويظهر بوضوحٍ أولئك الأقل موهبةً وراثيًا، ممن لا يستطيعون بلوغ أقصى قدراتهم حتى في ظل بيئةٍ عادلة. وأما ثالث هذه الأهداف، فهو تثقيف الناس وإفهامهم أن المساواة التامة بين البشر ليست أمرًا واقعًا، بل إن بينهم تفاوتًا فطريًا يستدعي توفير بيئاتٍ عادلةٍ تُبرز إمكانات كل فردٍ كما هي، دون تزييفٍ أو تحريف.
وكان هكسلي قد وضع أسس هذه الفكرة منذ زمنٍ طويل، حين كتب عام 1927 نصًا بعنوان "الدين دون وحي"، دافع فيه عن مفهومه لما أسماه "الإنسانية العلمية". ولكنه حين تولى مسؤولية اليونسكو، لم يكتفِ بهذه الفكرة، بل وسّع نطاقها، وجعلها تقوم على ما سماه "الإنسانية العلمية العالمية"، تلك الفكرة التي تقوم على تسخير العلم ليس فقط لفهم الطبيعة، بل للتحكم فيها وتوجيهها نحو خدمة البشرية.
غير أن هذه الكونية التي أرادها لليونسكو لم تكن، في نظره، مجرد امتدادٍ للمفاهيم التقليدية عن المواطنة العالمية، التي سعت عصبة الأمم إلى ترسيخها منذ عشرينيات القرن الماضي، بل كانت قائمةً على أسسٍ أعمق، تنبع من قوانين البيولوجيا ذاتها. فقد كان يرى أن البشرية لن تبلغ المرحلة التالية من تطورها إلا حين تدرك أن المسألة ليست مجرد شعاراتٍ سياسيةٍ عن الوحدة والسلام، بل هي، في جوهرها، عمليةٌ بيولوجيةٌ تقوم على التناغم المتزايد بين الأجزاء، تمامًا كما يحدث في جسم الكائن الحي، حيث تتكامل الخلايا والأنسجة والأعضاء في نسقٍ متناغمٍ يجعل الحياة ممكنةً ومستقرة. وكان يؤمن بأن تحقيق هذا التناغم، على مستوى البشرية جمعاء، هو الهدف الأسمى الذي لا بد أن تسعى إليه اليونسكو، وهو الطريق الذي لا مناص منه لكي تنتقل الإنسانية إلى طورٍ جديدٍ من التطور.
في الكتيب الذي أصدره عام 1946، مضى هكسلي يعيد النظر في العملية التطورية، فقسمها إلى ثلاث مراحل متميزة، وهي فكرة لم يكتفِ بعرضها عرضًا عابرًا، بل عمّق البحث فيها لاحقًا في كتابه "الإنسانية التطورية" الصادر سنة 1954. أما المرحلة الأولى، فقد كانت غير عضوية، وأسماها "المرحلة الكونية"، إذ اشتملت على التفاعلات الفيزيائية والكيميائية الأولية التي أفضت إلى تكوين الكواكب والنجوم والأنظمة الشمسية. ثم جاءت المرحلة الثانية، فكانت بيولوجية، إذ بدأت المادة غير العضوية تنتظم وتتكاثر، وسرعان ما أدى هذا التنظيم الذاتي إلى زيادة التعقيد، وتعزيز قدرة الكائنات على البقاء والتكاثر، بحيث غدت المنافسة بينها أشد، فلم يكن لها من سبيلٍ إلا أن تتحسن أو تفنى. أما المرحلة الثالثة، التي أطلق عليها هكسلي "المرحلة النفسية الاجتماعية"، فقد جاءت لتشهد كيف استطاع العقل أن ينظم العالم، لا من خلال الصراع وحده، بل من خلال الثقافة والتقاليد، الأمر الذي أفضى إلى ما وصفه بأنه "تطور ثقافي قائم على الخبرة التراكمية"، أو "التقاليد التراكمية". وكان العقل، بما يملكه من قدرة على التعبير والتجريد، يسرّع هذه العملية عبر اللغة والمفاهيم والثقافة، بحيث غدا التطور نفسه، في هذا الطور الأخير، أسرع مما كان عليه في المراحل السابقة. وكما هو الحال في الكائنات الحية، فإن الثقافة، بدورها، كانت تسير نحو تكاملٍ متزايد، كما أوضح هكسلي في حديثٍ صحفي عام 1946:
لا بد للإنسان أن يجد إيمانًا جديدًا بنفسه، ولا أساس لهذا الإيمان إلا في رؤيته للعالم بوصفه كُلاً عضويًا، تتوازن فيه حقوق البشر وواجباتهم توازنًا واعيًا، كما تتوازن خلايا الجسد في وظائفها... ومن خلال التعاون المشترك، يجب أن نضع أسسًا واعية لنظام عالمي جديد، يكون الخطوة التالية في تطورنا البشري.
وكان التعاون المتناغم، في نظره، هو السبيل لتحقيق هذه الغاية. غير أن القرن العشرين قد أثبت أن الحرب والنزعة القومية كانتا عقبتين خطيرتين في طريق التكامل الثقافي المنشود. ولم يكن هكسلي يرى في النزاعات السياسية وحدها عائقًا أمام هذا المسار، بل كان يعتقد أن النمو السكاني المفرط يشكل عقبة أخرى لا تقل خطورة. فقد كان يرى أن التحيز القائم على الطبقة أو العرق قد أدى إلى توزيعٍ غير متساوٍ للموارد، وأن الاكتظاظ السكاني من شأنه أن يفاقم هذه المشكلة، إذ إنه، كما علمنا مالتوس، سيؤدي إلى استنزاف البيئة، ومن ثم إلى صراعات داخلية حول الموارد المحدودة. ولم يكن هذا الجانب وحده ما أقلقه، بل رأى أن التقدم الطبي قد سمح ببقاء أفراد يعانون من أمراضٍ مختلفة وجيناتٍ غير ملائمة، مما أتاح لهم فرصة أكبر للتكاثر، الأمر الذي من شأنه أن يضعف عملية التناغم الطبيعي. ولهذا، حين تولى إدارة اليونسكو، كان أحد أهدافه الرئيسية هو التحكم في معدلات التكاثر، لا بهدف تقليص عدد السكان فحسب، بل لضمان انسجامهم الجيني وتحقيق التناغم في الحياة البشرية.
وفي كتيبه لعام 1946، مضى هكسلي يُلقي على عاتق الوكالة مهمة نشر المعرفة العلمية حول مخاطر الإنجاب غير المنضبط، وتشجيع إقامة ما وصفه بـ"مرافق تنظيم الأسرة". وكانت هذه المرافق ستوفر استشاراتٍ وراثية لمساعدة الأفراد على اتخاذ قرارات بشأن إنجاب عدد أقل من الأطفال، أو الامتناع عن الإنجاب كليةً في بعض الحالات. ولم يكن هدف هكسلي التوعية فحسب، بل كان يأمل أن تسهم هذه التدخلات في إبطاء ارتفاع معدلات الولادة، وفي تعليم الناس تقنياتٍ جديدة كالتلقيح الاصطناعي، وتبني الأجنة، وحفظ "الأمشاج المجمدة"، بحيث يُعاد تشكيل البنية الوراثية للمجتمع بطريقة تحقق أقصى درجات التناغم والتطور.
غير أن هكسلي لم يكن ينظر إلى التكاثر وحده بوصفه العامل الحاسم في تحسين البشرية، بل كان يولي الذكاء اهتمامًا بالغًا. فقد كان يرى أن التقدم الإنساني لا يتحقق إلا بزيادة عدد الأفراد الأذكياء، وكان يؤمن بأن الذكاء، بوصفه صفة موروثة، يمكن تعزيزه من خلال الانتخاب الطبيعي الواعي. فإذا كان الأبوان يتمتعان بذكاء مرتفع، فإن احتمال إنجابهم لأطفالٍ أكثر ذكاءً يزداد، ومن ثم فإن رفع متوسط الذكاء العام للمجتمع سيؤدي إلى زيادة عدد الأفراد العباقرة. وقد لفت هكسلي إلى أن متوسط الذكاء في عصره كان يدور حول 100، بينما كان العباقرة يصلون إلى 160. ولكنه تساءل: ماذا لو ارتفع هذا المتوسط إلى 120؟ ألا يعني ذلك أن عدد الأفراد الذين يبلغون 160 سيزداد، بل وقد تظهر حالاتٌ أكثر ندرة تصل إلى 180 أو حتى 200؟ وهكذا، كانت رؤيته لتحسين النسل ترتكز على التطور بوصفه عملية تناغمٍ وتقدمٍ مستمر، فكلما ارتفع متوسط الذكاء، كلما تحسنت "العقلية العالمية"، وسارت الإنسانية نحو مستقبلٍ أكثر تطورًا. وكان يرى أن تحقيق هذا الهدف يتطلب توجيه المجتمع بحيث يُثني أولئك الذين لا يتمتعون بقدراتٍ عقلية عالية عن الإنجاب.
لكن هذه الآراء لم تمر دون معارضة، فقد ووجه هكسلي بالانتقاد منذ اللحظة الأولى. ففي عام 1946، كانت اليونسكو لا تزال في طور التكوين، وكانت تُدار من قبل لجنة تحضيرية، مما جعل كتيب هكسلي يُنشر قبل أن يُناقَش رسميًا. ولم يلبث أن ظهر للجميع أن هذه الوثيقة لم تكن تعبر عن رؤيةٍ جماعية، بل كانت تجسيدًا لفكر المدير وحده. وفي عالم ما بعد الحرب، كان من العسير على كثيرٍ من الناس تقبل رؤيةٍ كهذه علنًا، إذ بدت لهم امتدادًا لفكرة تحسين النسل التي كانت قد لقيت إدانةً واسعة إثر الجرائم النازية. وهكذا، رُفضت الوثيقة، واعتُبرت وجهة نظر شخصية لا تعكس سياسة المنظمة، وأصبح واضحًا أن ما كان يطمح إليه هكسلي لن يجد سبيله إلى التطبيق بسهولة.
كانت اليونسكو، في ذلك الحين، واقعة تحت ضغطٍ آخر لا يقل شأنًا عما واجهته من تحدياتٍ فكرية وعلمية، فقد كان عليها أن تحافظ على المبادئ المسيحية في التعليم، وأن تراعي ما كان يُرى وقتها من ثوابت دينية راسخة. ولم يكن غريبًا، والحال هذه، أن ينهض المؤرخ المسيحي السير إرنست باركر، وهو أحد أعضاء اللجنة، ليعترض سريعًا على ما عدّه، كما قال هكسلي لاحقًا، "موقفًا ملحدًا". ولم يكن باركر وحده في موقفه، بل إن تشجيع هكسلي على تنظيم الأسرة قد أثار استياء آخرين من أعضاء اللجنة، إذ كانت الدول التي كانت في طريقها إلى الانضمام إلى اليونسكو ما تزال تتشبث بالكاثوليكية أو بدياناتٍ أخرى لا تقل عنها تشددًا في هذه المسائل، فلم يكن يسوغ لها أن تقبل تبريرات هكسلي التطورية أو تأييده لفكرة تحديد النسل. ولكن هكسلي، من جانبه، لم يكن يخفي عدم إعجابه بالكنيسة، بل كان شديد النقد لمواقفها. وقد كتب فيما بعد: "لقد تفاقم الاكتظاظ السكاني بسبب معارضة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لما أسمته 'تنظيم الأسرة غير الطبيعي' (أي المتعمد)". على أن هكسلي، وقد رأى ما أثارته آراؤه من اعتراض، لم يكن له بد من أن يتبنى نهجًا أكثر هدوءًا وأقل وضوحًا، لكنه لم يكن يشك في أن اليونسكو، عاجلًا أو آجلًا، ستضطلع بمواجهة مشكلات العالم، وستدفع بالأمم نحو تحديد النسل بصورة أكثر صراحة ووضوحًا.
كان يرى في اليونسكو عقلًا متطورًا، يقود نظامًا دوليًا متناغمًا، ويقف في وجه التحيزات، والتعصب القومي، والاكتظاظ السكاني، وكان يعتقد أن السبيل إلى ذلك هو تحسين النسل، لا عن طريق التوجيه والتعليم وحدهما، بل بالتخلص من التركيبات الجينية السيئة، واتخاذ خطواتٍ مدروسة في العملية التطورية، وصولًا إلى تحقيق تناغم بيولوجي تدريجي، وتناغم نفسي اجتماعي متزايد. بيد أن هذه الآراء، على ما فيها من طموحٍ وتخطيط، لم تكن لتجد سبيلها إلى التنفيذ، إذ لم تكن متناغمة مع رؤية اللجنة لليونسكو، فكان لا بد، تحت وطأة الانتقادات التي وجهها أعضاء الوكالة وآخرون، من أن تُوجه هذه العملية التطورية بخطوات أصغر، وأقل إثارةً للقلق، ولو مؤقتًا.
ومنذ اللحظة الأولى، واجه هكسلي تحدياتٍ جسيمة في منصبه كأول مديرٍ عام لليونسكو، فقد كانت الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، غير متحمسة له، وكانت تنظر إليه بعين الريبة، لا لشيءٍ إلا لأنه كان قد زار الاتحاد السوفيتي مرتين قبل تعيينه، ولأنه كان صريحًا في حديثه عن "التعاون"، مما جعل المسؤولين الأمريكيين يرون فيه خطرًا شيوعيًا محتملًا. ومع ذلك، فقد صوتت الولايات المتحدة لصالح تعيينه، ولكنها اشترطت ألا تتجاوز مدة خدمته عامين، بدلًا من الستة أعوام التي كانت معتادة. وخلال هذه الفترة، بدا أن هكسلي قد خفف من حدة كتاباته عن تحسين النسل، ولكن من الخطأ أن يُفهم ذلك على أنه تراجعٌ عن رؤيته الكبرى للبشرية، إذ لم يكن هذا الانحسار إلا تكتيكًا مؤقتًا، فرضته الضرورات السياسية والاجتماعية التي أحاطت به.
لم يكن هكسلي يكتفي بالدعوة إلى التعليم، أو بمكافحة الفقر، أو بالتحذير من مخاطر الاكتظاظ السكاني كما فعل مالتوس وغالتون، بل كان يرى في اليونسكو جزءًا من رؤية تطورية أوسع، تهدف إلى خلق تناغمٍ أكبر بين أفراد المجتمع العالمي، وتحقيق انسجامٍ أعمق بين الإنسان والطبيعة. وكان يتصور عالمًا تتداخل فيه الثقافات، وتتآلف فيه الشعوب، ويُنسق بين أجزائه المختلفة تنسيقًا عالميًا محكمًا. وكما أن الخلايا في الجسد تؤدي وظائفها على الوجه الأكمل حين تتلقى توجيهها من الدماغ، فقد كان يعتقد أن الثقافات الإنسانية، هي الأخرى، يمكن أن تصبح أكثر ترابطًا وتناغمًا تحت إشراف اليونسكو. ولم يكن هذا التنسيق مشروعًا عابرًا، أو خطةً آنية، بل كان يراه عمليةً طويلة الأمد، ستتحقق رويدًا رويدًا، وإن لم يكن ذلك في حياته. فقد كان يدرك أن تحسين النسل وتنظيم الأسرة لم يكونا مقبولين في منتصف القرن العشرين، لكنه كان واثقًا من أن الزمن سيهيئ لهما القبول، وأن المجتمعات، كلما ازدادت تعليمًا ووعيًا، ستدرك ما في هذه الأفكار من فوائد ومزايا. ولذا، كان تحسين النسل عنده فكرةً مستقبلية، لم يكن يعجل بها، بل كان يثق بأن العالم سيسير إليها طوعًا حين تحين الساعة.
وكانت هذه القناعة تملأه منذ وقتٍ مبكر، ففي عام 1936، حين ألقى خطابًا أمام جمعية تحسين النسل، نشرت مجلة "نيتشر" مراجعةً لكلمته، قالت فيها إن آراءه "مصيرها أن تصبح جزءًا من دين المستقبل، أو من أي مجموعةٍ من المشاعر التي قد تحل محل الدين المنظم".
ومن الخطأ، في رأي البعض، أن يُنظر إلى أفكار هكسلي على أنها آراءٌ قديمة عفا عليها الزمن، فإننا، حتى اليوم، نجد أن اليونسكو تواصل سعيها إلى تحقيق المساواة بين البيئات، ومعالجة الفقر، وتحسين ظروف التعليم، وهي الأهداف نفسها التي كانت جزءًا من رؤية هكسلي للعالم. بل إن بعض أفكار تحسين النسل، التي نُظر إليها يومًا ما بعين الريبة، قد أصبحت اليوم واقعًا مألوفًا في بعض الأوساط، فقد بات تشخيص الأجنة يُجرى بصورة روتينية، وحين يُكتشف أن الجنين يعاني من خللٍ وراثي، يلجأ بعض الآباء إلى الإجهاض القانوني. كما أن التلقيح الاصطناعي، الذي لم يكن في زمن هكسلي سوى حلمٍ بعيد، قد أصبح الآن وسيلةً تتيح للأفراد اختيار الحيوانات المنوية والبويضات والأجنة التي يُرجح أن تنتج أطفالًا يتمتعون بصفاتٍ وراثية متفوقة. وقد يكون البعض منا ينفر من الحديث عن تحسين النسل، أو يرى في رؤية هكسلي للإنسانية العلمية العالمية ضربًا من السذاجة، ولكننا، في الواقع، نتخذ اليوم قراراتٍ تتعلق بالوراثة والإنجاب، لم يكن هكسلي ليجد فيها ما يستحق الاستهجان، بل كان سيرحب بها، ويرى فيها تحققًا بطيئًا لأفكاره التي سبق بها عصره.
وكما أدرك المؤرخون، فإن "تحسين النسل" لم يعد اليوم سياسةً مركزيةً تُفرض من أعلى، بل أصبح يحدث غالبًا من خلال الخيارات الفردية، دون أن يشعر الناس بأنهم يسهمون، بقصدٍ أو بغير قصد، في دفع عجلة التطور، أو في السير على الطريق الذي رسمه هكسلي، والذي كان، في وقتٍ من الأوقات، يبدو وكأنه خطةٌ مدروسةٌ، ومرسومةٌ بعنايةٍ، على يد أول مديرٍ عام لليونسكو.
مترجم بتصرف من Aeon بقلم ستيفان بيرنهاردت-رادوس باحث دراسات عليا في كلية الفلسفة والدين وتاريخ العلوم في جامعة ليدز ، المملكة المتحدة.
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي