هشاشة الإنسان فى فلسفة بيونغ تشول هان
تحليل نقدي لرؤية الفيلسوف الكوري-الألماني بيونغ تشول هان حول تأثير الرأسمالية الرقمية على إنسان العصر الحديث
عرفت الفيلسوف الكوري الألماني بيونغ-تشول هان في أواخر العقد الماضي، حين كنت أعدُّ كتابًا يتناول متعة الكسل وهمومه. وما إن بدأت أبحث في ظاهرة العمل المفرط والتحفيز المستمر الذي يرهق الإنسان المعاصر، حتى وقعت عيني على كتابه الشهير «مجتمع الاحتراق النفسي»؛ أو كما أحب أن أترجمه: «مجتمع الإنهاك»، والذي صدر بالألمانية لأول مرة عام 2010. وكان لقائي بهذا الكتاب أشبه بضربة برق مفاجئة؛ إذ وجدت كلماته تعبّر بدقة مذهلة عن تلك الهواجس القلقة التي كنت أشعر بها ولا أفلح في صياغتها. شعرت نحوه بمزيج غريب من الامتنان لأنه منحني وضوح الرؤية، والحسد لأنه سبقني إلى التعبير عنها.
في صلب تصوّر هان لـ «مجتمع الإنهاك» يظهر نوع جديد من السيطرة على الإنسان. ففي الماضي، خلال عصور الصناعة، كان العامل يُرغم على العمل تحت سلطة خارجية قاهرة، أشبه بما وصفه عالم النفس فرويد حين تحدث عن «الأنا العليا»، أي تلك الرقابة الداخلية الصارمة التي تتكوّن عندما يستبطن الطفل صورة الأب القاسي المانع. في تلك المرحلة، كان الإنسان يسمع في داخله صوتًا آمِرًا يقول له: «يجب أن تعمل أكثر» وكأن شخصًا آخر يتحدث من داخله ممثلاً سلطة خارجية.
أما في عصرنا الحالي، في زمن ما يسميه هان بـ «مجتمع الإنجاز»، تغير هذا الصوت. لم يعد يأمرنا بعبارة "يجب"، بل صار يُغوينا قائلاً: «تستطيع». هنا يقدم هان مفهومًا آخر سماه «مثيل الأنا»؛ وهي صورة مثالية في داخلنا تشكلت حين نظر إلينا والدانا بإعجاب في طفولتنا، فزرعوا فينا وهم الكمال وإمكانية تحقيق كل شيء. لم تعد السلطة الداخلية خصمًا يضغط علينا، بل أصبحت صديقًا لطيفًا يهمس دائمًا في آذاننا: «أنت قادر»، «يمكنك أن تحقق أكثر»، «تستطيع أن تصبح أعظم».
وفي هذا المناخ الذي يظن نفسه إيجابيًّا، لم يعد هناك مدير غاضب يصرخ في وجهك، بل مدرّب مبتسم يربّت على كتفك في كل لحظة، مشجعًا إياك على الاستمرار في الإنجاز، وهو في حقيقته يدفعك دون هوادة نحو الإنهاك. هنا يكمن وجه الخطورة الذي يكشفه هان؛ ففي هذا الجو يصبح الاكتئاب هو المرض الأهم والأخطر في مجتمع الإنجاز، لأنه نتيجة طبيعية لفشلنا المستمر في الوصول إلى ذلك المثال الكامل الذي نطارده دون توقف. فنحن نرهق أنفسنا في السعي وراء صورة كاملة للأنا، وحين نعجز عن بلوغها، نغرق في جلد الذات والحزن العميق.
وقد عبّر هان عن هذه الفكرة بعبارات حادة مليئة بالألم الصادق:
ذات الإنجاز المنهكة تطحن نفسها. إنها متعبة من ذاتها، منهَكة في صراع لا ينتهي مع نفسها. لا تستطيع الهروب منها، لا تقدر أن تنظر من الخارج أو تستند على الآخرين أو تنفتح على العالم. إنها تسجن ذاتها داخل نفسها، وفي هذا السجن تصبح فارغة، بلا روح. تركض في سباق جرذان، لا تنافس فيه أحدًا إلا نفسها وحدها.
وحين أعود الآن إلى قراءة هذه الفقرة أجدها كما وجدتها أول مرة: مذهلة في صدقها، كأنها تسرد تجربتي أنا بالذات. أسترجع من خلالها بداياتي في العمل الأكاديمي، حين كانت خيبة الأمل تهمس لي في كل لحظة. فالأبحاث ـ وهي في هذا المجال ذروة الإنجاز ـ كانت دومًا مؤجلة تحت ضغط مهام التدريس، وتصحيح أوراق الطلاب، والاجتماعات المتكررة التي لا تنتهي. وفي الساعات القليلة الفارغة من هذه الالتزامات، كنت أعود إلى أوراقي، لأكتشف أن أمامي عشرات الكتب والمصادر ينبغي مراجعتها قبل أن أكتب كلمة واحدة. هناك، في تلك اللحظات، كنت أُدرك عمق تعبي؛ لا أقوى على العمل، ولا أستطيع التوقف عنه. أعيش يقظة متعبة، ووعيًا مرهقًا لا أستطيع الهروب منه. كنت، بحق، كما وصف هان، إنسان يملك ذات الإنجاز الفارغة التي تحارب نفسها ولا تكسب شيئًا في النهاية.
يرى الفيلسوف الكوري الألماني بيونغ-تشول هان أن الحياة المعاصرة أصبحت أسيرة لعبادة جديدة سماها عبادة الشفافية؛ حيث صار الناس مضطرين على الدوام إلى كشف ذواتهم علنًا، يبوحون بأفكارهم وأسرارهم ومشاعرهم كأنهم في سوق مفتوح لا مكان فيه للاختباء. فوسائل التواصل الاجتماعي، مع ثقافة الشهرة السريعة، دفعت الجميع إلى هذا الاستعراض الإجباري، حتى غدت الهوية الشخصية مجرد ومضات صغيرة في سجل رقمي طويل، عبارة عن بيانات من تسجيلات الإعجاب والمتابعات الإلكترونية، لا موضع فيها للغموض الذي يميز حقيقة الإنسان، ولا للغرابة الطبيعية في النفس البشرية.
وربما لهذا السبب نلاحظ قلة ظهور هان الشخصي في مؤلفاته؛ فهو يتجنب أن يكون صوتًا مكررًا بين ضجيج الأصوات المنتشرة، ولا يريد أن يضيف نفسه إلى جوقة المتحدثين المتشابهين الذين يغرقون عالمنا المعاصر.
وُلد هان في مدينة سيول عاصمة كوريا الجنوبية عام 1959. في صغره كان مولعًا باللعب بالأسلاك والمواد الكيميائية، محاولًا تقليد والده الذي كان مهندسًا مدنيًا يعمل في مشاريع إنشائية كبيرة في بلاده. إلا أن هذه الهواية انتهت نهاية مأساوية حين تسبّب انفجار كيميائي في غرفته بحادث خطير كاد يفقده بصره، وترك في جسده ندوبًا واضحة لا تزال حتى اليوم. بعد هذه الحادثة ابتعد عن الكيمياء، واتجه لدراسة علم المعادن، وهو علم يدرس خصائص المعادن وطرق تكوينها.
لكن عقله وقلبه كانا قد بدءا يجذبانه بهدوء نحو أوروبا، وتحديدًا إلى عالم الفلسفة. وفي الثانية والعشرين من عمره، غادر بلاده متوجهًا إلى ألمانيا، مقنعًا والديه بأنه سيواصل دراسته العلمية هناك. قال في مقابلة مع صحيفة "إل بايس" عام 2023: «لو أخبرتهما أنني أريد دراسة الفلسفة لما سمحا لي بالسفر أبدًا». سافر وهو بالكاد يعرف شيئًا من اللغة الألمانية، لكنه مع الوقت تمكن أن يصنع لنفسه معجزة فكرية: من شاب كوري مغرم بالتكنولوجيا ودارس للمعادن، إلى فيلسوف مهاجر يكتب بلغة الألمان، وينتقد مجتمعهم ببصيرة نافذة. وقد عبّر عن هذا التحول قائلًا لصحيفة "دير تسايت": «صرت أعبث بمادة الفكر بدلًا من الأسلاك ومكاوي اللحام». ومن خلال هذا التصوير نفهم رؤيته للفكر لا بوصفه نشاطًا ذهنيًا فقط، بل بيئة متكاملة يعيش فيها الإنسان ويتنفس من خلالها.
وقد تَشَرَّب هان الفلسفة الألمانية بعمق، حتى صار من العسير الفصل بين فكره وبين تقاليد هذا التيار الفكري. فهو مندمج تمامًا في التقاليد الفلسفية الألمانية المعقدة، تلك التي جعلت من ألمانيا موطنًا رئيسيًا للتنوير الفكري وفي الوقت ذاته ساحة لنقد ذلك التنوير بشدة. فهو يواصل بوضوح ميراث مدرسة فرانكفورت الشهيرة، ويمد أفكارها لتشمل عصرنا الرقمي الحالي، كأنه يكتب فصلًا مكملاً لكتاب «جدلية التنوير»؛ وهو الكتاب الذي عالج العلاقة المتوترة بين التقدّم الحضاري وبين الوحشية الكامنة خلف هذا التقدّم، وبين الإبداع من جهة والتدمير من جهة أخرى، وهي العلاقة التي أفرزتها صدمة الحداثة.
وما من شك في أن حياة هان الشخصية تتردد أصداؤها في كتاباته وأفكاره. فقد كان في صغره مولعًا بالتجريب، يمزج بين العناصر المختلفة ليصنع شيئًا غير متوقع. لكن ذلك المزج انتهى بانفجار عنيف، وربما انتقل هذا الانفجار الرمزي من جسده إلى عقله، فصار يعالج الأفكار بدلًا من المواد، ويخشى انفجار الفكر أكثر من انفجار المادة. قال يومًا: «التفكير أخطر نشاط يمكن أن يمارسه الإنسان؛ إنه أخطر حتى من القنبلة الذرية».
لكن خطر التفكير عند هان لا يكمن في أنه يحرض على العنف، بل في أنه يكشف للإنسان قسوة العالم وعبثيته وسخافته أحيانًا. فهو يكتب انطلاقًا من تجربة سماها الفيلسوف تيودور أدورنو بـ «الحياة التالفة» في كتابه «مينيمال موراليا»؛ وهو كتاب يستشهد به هان باستمرار. فمع تقدم الرأسمالية الاستهلاكية المتوحشة، انهارت جميع الأشكال الثقافية القديمة والمؤسسات الاجتماعية الكبرى، ومعها تفكك وعي الإنسان بنفسه وتراجعت الروابط الحقيقية بين البشر. وكل ما يكتبه هان ليس إلا محاولة لفهم هذا التفكك المتسارع، والتحذير من نتائجه العميقة والخفية على روح الإنسان الحديث.
يكتب بيونغ-تشول هان كمن نجا تواً من انفجارين لا يُطاق تحملهما: أولهما ذلك الانفجار المادي الذي اشتعل في غرفته حين كان طفلًا، عندما شب الحريق بين الأسلاك والمواد الكيميائية، وكاد أن يودي بحياته؛ وأما الثاني فهو أعمق وأشد وقعًا، إذ يمثّل انهيار أشكال الحياة ذاتها التي كانت تمنح الإنسان معنى لوجوده، لكنها تلاشت. لم يعد هناك ما يمكن تسميته بـ "الآخر" كما يوضح في كتابه «طرد الآخر» الصادر عام 2016؛ أي أن العلاقات مع الآخرين فقدت عمقها وأصبحت سطحية وفارغة من المعنى الحقيقي.
لغته يغلب عليها الحزن العميق الدقيق، أشبه بما يسميه علماء النفس بالحزن الفرويدي المغلق، وهو حزن داخلي عميق لا يسمح بدخول الهواء إليه، أي لا يتنفس الأمل، بل يغلق على ألمه بإحكام. لا يعبر هان عن أمل بمستقبل مشرق، بل يقدم يقينًا مؤلمًا بأن الذات والعالم يسيران إلى هوّة سحيقة لا مهرب منها ولا رجوع بعدها.
وفي قلب هذا العالم المتفكك، تظهر الموسيقى كعنصر مميز في هوية هان الثقافية الألمانية. فهو يجد متعته الخاصة في أداء أغاني رحلة الشتاء للموسيقار النمساوي فرانز شوبرت؛ وهي سلسلة أغنيات تحكي قصة رجل يهيم وحيداً في ليل شتوي قارص، ينوح على حب ضائع، ويتجول وسط الوحدة وظلال الموت الذي لا يأتي. ولعل هذا الوصف لا يبتعد كثيرًا عن شخصية هان كما تتجلى في كتاباته: يمشي وسط شتاء حضاري قاسٍ، يتأمل بؤس الزمن المعاصر، وغياب الجمال، وانطفاء شغف الحب، وانهيار جوهر الإنسان.
وقد ذكر هان أحيانًا بعض المتع الصغيرة في حياته اليومية: اعتناؤه بحديقته، تناوله طعامًا لذيذًا في مطاعم راقية، أو جلوسه مع الآخرين مع شيء من التحفظ. هذه التفاصيل البسيطة، وإن بدت عادية، لكنها في نظره أشبه بأفعال مقاومة بسيطة، يتمسك من خلالها بعالم الحواس الراقية، الذي تبتلعه الحياة الرقمية الحديثة شيئاً فشيئاً. فهان لا يصرخ في كتاباته صرخات مباشرة، بل يعبّر عن غضب مكتوم، غضب لا يجد له متنفساً أو مخرجاً. وهو يرى أن الأنظمة السياسية والمالية والتكنولوجية ما هي إلا لصوص خفية، لم يكتفوا بسرقتنا، بل نحن من منحناهم طوعًا مفاتيح حياتنا وتخلينا بمحض إرادتنا عن حقنا في المقاومة.
وكما فعل مفكرو مدرسة فرانكفورت من قبله — وهي مدرسة فكرية ألمانية تنتقد النظام الرأسمالي من زوايا اجتماعية وثقافية عميقة — يرى هان أن الأزمة لا تكمن في الرأسمالية كنظام اقتصادي فحسب، بل في تغلغلها إلى أعماق الروح والثقافة. ففي كتابه «مجتمع الإنهاك»، يشرح كيف أن السلطة في زماننا لم تعد تحتاج للعنف والقمع الظاهري، بل تتسلل بخفاء إلى أعماق النفس، وتدفع الإنسان لاستغلال ذاته بنفسه حتى ينهار من فرط العمل والتنافس والإنجاز المستمر. فنحن اليوم في نظام لا يحتاج إلى سجون وأسوار حديدية، بل جعل من كل فرد سجانًا على نفسه. وفي كتابه «الرأسمالية ودافع الموت» (2019)، يقول: «الإنهاك والثورة لا يجتمعان»؛ إذ كيف يستطيع من أنهك نفسه في دوامة العمل أن يثور أو يقاوم؟
يتنقل هان في مؤلفاته بين موضوعات شتى: كالعمل، والزمن، والحب، والفن... لكنه يبقى ثابتًا في مشروع فكري واحد: محاولة الكشف عن الفراغ الروحي والسياسي الذي تخلفه الرأسمالية الرقمية في النفس الإنسانية. غير أن سؤالاً يطرح نفسه هنا: أليس هذا الإلحاح المستمر على تصوير السلبية والخسارة وحدها، يجعله في نهاية الأمر يعيد تكرار نفس المنطق الذي تسلكه الرأسمالية الرقمية نفسها؟ أليس هذا التشاؤم المستمر انعكاسًا لنفس الأزمة التي ينتقدها؟
ومن أبرز الصور المعبرة عن هذا التحول الحديث، ما يسمى اليوم بـ "التجارب الغامرة"؛ وهي عروض سياحية وترفيهية يدخل فيها الزائرون إلى قاعات مظلمة تحيطهم شاشات عملاقة تعرض عليها نسخ رقمية متحركة للوحات فنية شهيرة. فنرى ضربات فرشاة فان جوخ، وألوان مونيه الزاهية، وأشكال موندريان الهندسية، وصور دالي الذائبة، كلها تتفتت وتعود، تتفكك وتلتحم، وكأن الفن نفسه قد انفجر هو الآخر، ليتحول إلى دوامة من الأضواء المتحركة، تعلو وتهبط بلا استقرار ولا قرار.
لو قُدّر لك أن تزور أحد تلك المعارض الفنية الغامرة بعد قراءة ما كتبه بيونغ-تشول هان، فستنظر إليها بعين أكثر حدة وأعمق ريبة. لن تبدو لك مجرد عروض سريعة أو ألعاب ضوئية مبهرة، بل ستراها وجهًا من وجوه الخطر الخفي الذي يتسلل إلى أعماق زمننا. فهان يرى أن هذه العروض — إلى جانب غيرها من مظاهر الثقافة الرقمية — لا تكتفي بتجميل السطح، بل تمس جوهر التجربة الإنسانية في الصميم، وتضعها على المحك.
وفي هذا السياق، يستحضر هان ما فرق فيه المفكر الألماني فالتر بنيامين بين نوعين من التجربة: "إرفارونج" و"إيرليبنس". فـ"إرفارونج" تعني التجربة العميقة التي تغيّر الإنسان، تلك التجربة الفلسفية التي يصطدم فيها المرء بما لا يستطيع فهمه أو السيطرة عليه تمامًا، لأنها تواجهه بجديد غريب عنه. وهذه التجربة ليست سهلة ولا مريحة، بل مؤلمة أحيانًا، كما يشرح هان في كتابه «المجتمع المسكّن» الصادر عام 2020، لأنها تفرض على الإنسان أن يفتح نفسه لشيء خارجي يتجاوز حدوده.
وقد يكون الفن من أندر الوسائط التي تمنحنا هذا النوع العميق من التجربة. القصيدة، والمسرحية، واللوحة الفنية، قد تؤدي ذلك الدور الذي وصفه الكاتب فرانز كافكا حين قال: «إن الكتاب الجيد يشق البحر المتجمد داخلنا بفأس»؛ أي أنه يحرك في أعماقنا أسئلة وأحاسيس كنا نخشى أو نتجنب مواجهتها. وهكذا، يعيد الفن تشكيل طريقتنا في الإحساس والنظر والتفكير، بل وحتى في أسلوب عيشنا. ولعل هذا هو ما قصده الرسام الأمريكي مارك روثكو حين لاحظ أن كثيرًا من الناس ينهارون بالبكاء وهم يقفون أمام لوحاته؛ لأنها تلامس فيهم شيئاً دفيناً عميقاً يتجاوز جمال الألوان والخطوط.
من منظور هان، فإن لوحات روثكو ليست مجرد مشاهد بصرية جميلة، بل نافذة تخترق الحجاب الناعم الذي فرضته الحياة الرقمية، وتعيدنا إلى ذاك الارتجاف الجسدي والروحي الذي افتقدناه طويلاً. ولكن لكي يبلغ العمل الفني هذا الأثر، ينبغي له أن يربكنا، أن يصدم عاداتنا في الذوق والفهم. وهذه الصدمة لن تثمر إلا إن كنا مستعدين لها، في بيئة تتيح لنا التمهل والتأمل، لا السرعة واللهاث. فالتأمل البطيء هو ما يخلق العلاقة الحميمة بيننا وبين الفن؛ إذ لا نفهم اللوحة لأنها تبوح لنا بكل أسرارها، بل لأننا كلما اقتربنا منها، شعرت كأنها تبتعد، وكلما أوشكنا على القبض على معناها، أفلت من أيدينا. ولهذا نظل نتأملها طويلاً، وكأن الزمن توقف أو تلاشى.
أما في تلك المعارض المسماة بـ "المعارض الغامرة" مثل عروض فان جوخ الغامرة، فلا يجد الزائر نفسه داخل لوحات الفنان كما يروَّج، بل يُنتزع المعنى من العمل ذاته. صحيح أن هذه العروض تدّعي أنها تقرّبنا من ملمس العمل الفني وتكوينه، لكن النتيجة الحقيقية كما يراها هان أنها تقتل ما يسميه في كتابه «عبق الزمن» (2009) بـ "الجاذبية الزمنية" للعمل الفني؛ أي تلك العلاقة الدقيقة بين الشكل واللون والملمس والزمن الذي تشكّل فيه العمل. فلوحة فان جوخ مثلًا ليست مجرد بقع صفراء أو خطوط سوداء، بل علاقة حية مع زمنها وبيئتها وحياة صانعها. وحين تُحول إلى صورة رقمية تتحرك على شاشة، فإننا لا نعرضها بل نفككها، وننتزعها من جذورها.
وتحت سيطرة الرأسمالية الرقمية، لم يسلم الزمن ذاته من هذا المصير. فقد انفصل الزمن عن الغاية والقصة والمعنى الذي يربطه بالماضي والمستقبل. صار شبيهًا بتلك اللوحات الرقمية المتفككة: يتحول إلى نقاط متناثرة تدور بلا هدف، بلا اتجاه، بلا توقف. وفي مثل هذا الزمن لا يعود هناك مجال لتجربة "إرفارونج" العميقة، التي تتطلب استمرارية زمنية وشعورًا بالمعنى الذي ينمو مع الوقت؛ بل لم يبقَ سوى تجربة "إيرليبنس" السطحية، تلك التجارب السريعة المبتورة التي تلهينا دون أن تغيّرنا، كما يكتب هان في «المجتمع المسكّن».
إن لبّ تفكير بيونغ-تشول هان، في حقيقته العميقة، ليس أدبياً ولا سياسياً وحسب، بل هو مشروع فلسفي أولاً وأخيراً. فهذه المظاهر السطحية التي تملأ الثقافة الرقمية اليوم ليست إلا أعراضاً خارجية لأسئلة أعظم وأعمق ترتبط بـ الميتافيزيقا، أي علم ما وراء الطبيعة، حيث ينشغل الإنسان بأسئلة عن وجوده، ووعيه، والزمن الذي يعيش فيه. وهان في هذا يقف على خطى أستاذه الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هايدغر، الذي كتب هان عنه أطروحته للدكتوراه سنة 1994 حول موضوع "المزاج" — وهو مفهوم في الفلسفة يشير إلى الحالة الوجدانية التي تلوّن وعينا بالعالم — ثم عاد وكتب عنه دراسة ثانية عام 1999. ومثل أستاذه، يحاول هان أن ينفذ إلى ما وراء هذه الثقافة المتسارعة، باحثاً عن الكيفية التي يؤثر بها تسارع الزمن وسطوة البيئة الرقمية على صلة الإنسان بالعالم من حوله.
وفي كتابه الشهير «مجتمع الإنهاك»، قدّم هان تحليلاً فلسفياً بالغ الدقة لنقد ما سمّاه "المنطق الجديد للرأسمالية"، وهو منطق لا يقوم على استغلال الإنسان من الخارج كما في الأنظمة القديمة، بل يجعله يستنزف نفسه بنفسه طواعية. ولم يكن هذا الكتاب بداية أفكاره، بل ثمرة مسار فكري طويل، بدأه من قبل حين تناول موضوعات الموت، والفلسفة الشرقية، ومفهوم القوة كما يُدرس في الفلسفة الأوروبية الحديثة، المعروفة بـ "الفلسفة القارية".
غير أن كتابه «حول السلطة؟» الصادر عام 2005، كان قد مهد بشكل غير مباشر لهذا المفهوم الذي عاد إليه لاحقاً في «مجتمع الإنهاك»، حين لمح إلى نوع من السلطة لا يمارس الإكراه ولا القهر، بل يعمل في صمت ويقنع الناس بالخضوع طواعية.
فالسلطة، في الفهم التقليدي، ترتبط بالعنف والقوة القهرية؛ أي أن الحاكم يفرض سلطته بالتهديد والعقوبة. أما هان فيرى أن العنف لا يظهر إلا عندما تعجز السلطة عن التوسط مع الناس بلغة قريبة منهم؛ أي حين يشعر الناس أن السلطة غريبة عنهم ولا تعبر عن رغباتهم. أما حين تنجح السلطة في التسلل إلى النفوس بحيث تصبح وكأنها تعكس إرادتنا الذاتية، فإننا نذعن لها دون مقاومة بل بمودة. وهنا تتجلى أخطر أنواع السلطة: سلطة بلا سلاح ولا تهديد، لكنها بالغة النفوذ لأنها جعلت الخاضعين لها يتماهَون معها، أي يرون أنها جزء من ذواتهم.
وكلما تخلت هذه السلطة عن العنف الظاهر، زادت قوتها نفاذاً. يقول هان: "القوة المطلقة هي تلك التي لا نراها، ولا تعلن عن نفسها، بل تذوب تمامًا في ما يبدو طبيعياً وبديهياً لا يُطرح فيه أي تساؤل". وهذا تماماً ما يحدث في مجتمعات الإنهاك التي نعيشها تحت ظل الرأسمالية الرقمية؛ حيث لا يُجبر أحد على العمل قسراً، بل يعمل الجميع طواعية حتى ينهاروا من فرط التعب.
ولتثبيت هذا التحليل، يستند هان إلى عالم اللاهوت الألماني الأمريكي بول تيليخ الذي عرّف القوة بأنها مركزية الذات؛ أي أنها تلك الإرادة التي تنبع من الإنسان ذاته، ويدفع بها نفسه للاستمرار في الوجود. فالذات هنا ليست مجرد متلقية أو مفعولاً بها، بل هي الفاعل الذي يخلق وجوده بنفسه. وهان يقترب بذلك من الفيلسوف الكبير هيجل، الذي وصف الله بأنه الكائن الذي "يملك القوة لأن يكون هو ذاته". وهذه الإرادة للتماسك والاستمرار في الوجود، أصبحت في قلب الثقافة الغربية المعاصرة. وهي تتجلى اليوم بأوضح صورها في حالة النرجسية المفرطة التي تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث يُطلب من كل إنسان أن يعرض ذاته باستمرار أمام الجميع، وأن يعلن عن نفسه ليثبت وجوده. وكأنما لم يعد شعار الإنسان "أنا أفكر إذن أنا موجود"، بل صار: "أنا مرئي إذن أنا موجود". غير أن هذا الظهور الدائم يفرغ الإنسان من داخله شيئاً فشيئاً، فيفقد خصوصيته ويصبح صورة جوفاء، ومع ذلك يظل متشبثاً بهذه الصورة كأنها آخر ما تبقى له من معنى في الوجود.
ويمضي هان في رؤيته إلى ما هو أعمق من مجرد تغير اجتماعي عابر، فيرى أن ما نشهده اليوم هو تآكل تدريجي للمعنى ذاته في التجربة الحياتية، وهذا التآكل يبدو أوضح ما يكون على صعيد الزمن. فالرأسمالية الرقمية سرعت إيقاع الزمن حتى فقد الإنسان القدرة على التريث والتأمل. لم تعد الحياة تسير كخط سردي متصل يحمل حكاية تمتد من ماضٍ إلى مستقبل، بل صارت تتكون من لحظات منفصلة متتابعة تتراكم بلا ترتيب ولا غاية. وأحد أسوأ نتائج هذا التسارع الزمني هو ما يراه هان من تفكك العلاقات الإنسانية؛ إذ لم يعد الآخر بالنسبة لنا شخصاً نعرفه ونبني معه علاقة ثقة طويلة الأمد، بل أصبح مجرد عابر في سيل التجارب السريعة، مثل منشور عابر في مواقع التواصل.
فالثقة، كما يشرح هان، لا تنشأ إلا في بيئة تمنح الزمن حقه في الاستمرار والتراكم؛ حيث تقوم على الاعتياد، والتفرد، والوفاء بمرور الأيام. وهذه كلها مفاهيم لم يعد لها مكان في زمن يُسحق فيه المستقبل تحت وطأة اللحظة الحاضرة وحدها. ولذلك تلاشت مفاهيم مثل "الوعد" و"الإخلاص" و"الالتزام"؛ إذ إن كل منها يقوم على فكرة الامتداد إلى المستقبل، بينما لا أحد اليوم يعد بشيء، ولا أحد يلتزم، لأن لا أحد يفكر أصلاً في الغد. فكل شيء يحدث وينتهي في اللحظة ذاتها.
تتجلى آثار هذا العصر المضطرب – كما يرى بيونغ-تشول هان – بوضوح في مجال الحب تحديدًا. فالحب الصادق ليس مجرد ارتباط مريح أو ترف لطيف، بل هو استعداد عميق للمخاطرة، وللخوض في المجهول، ولتحمل لحظات من عدم الفهم أو الاستيعاب. ذلك لأن من يحب بصدق، يعلم أن الزمن سيبدّل أحواله، وسيتغير هو ومن يحب، بل وسيتغير العالم كله من حوله. ولهذا، فإن الحب يصبح في جوهره أقرب ما يكون إلى تجربة "النفي" التي يتحدث عنها هان؛ أي تلك التجربة التي يرفض فيها الإنسان المعارف السريعة والأحكام الجاهزة، ويقرر أن يفتح قلبه لما لا يُفهم إلا بالمعايشة والانفتاح الطويل على من يحب.
ولذلك، لا يرى هان الحب كما تصوره ثقافة الاستهلاك المعاصرة؛ التي تسوّق الحب كراحة آمنة أو انعكاس لصورتنا الذاتية، بحيث نحب الشخص الآخر لأنه يشبهنا أو يرضي غرورنا. الحب الحقيقي في رأيه أمرٌ أعقد وأعمق؛ إنه مواجهة حقيقية مع الآخر في اختلافه، وربما في ألمه أو اضطرابه، بل حتى في جانبه الجنوني. فالحب مغامرة وجودية يخوضها الإنسان وهو يعلم أنه يتخلى عن أمانه النفسي واستقراره العقلي. ولهذا فإن هذا النوع من الحب لا يجد مكانًا في عالمنا الحديث الذي يقدّس الراحة والسلامة النفسية، ويحاول أن يختزل الآخر في صورة بسيطة، آمنة، غير مهددة. وقد لخّص هان هذا المعنى بقوله في كتابه «معاناة إيروس» (2017): "الحب الحديث فقد كل تعالٍ وكل تجاوز."
وهذان المفهومان – التعالي والتجاوز – هما في عمقهما دعوة للخروج من المألوف، لكسر الإطار المحدود، والانفتاح على شيء أكبر من الذات. وقد طُرد هذان المفهومان لا من الحب فقط، بل من الفن أيضًا. ففي كتابه «خلاص الجمال» (2015)، يرى هان أن الفن الحديث أصبح امتدادًا لما يسمّيه "مجتمع الإيجابية"، أي المجتمع الذي يُنتج دائمًا صورًا جميلة وناعمة، سهلة الاستهلاك، بلا جرح ولا أثر. فالجمال الذي نجده في شاشة الهاتف البراقة، أو في الأسطح الملساء للأجساد في إعلانات التجميل، أو في الأعمال الفنية اللامعة مثل منحوتات جيف كونز، كلها تشترك في أنها تمنحنا سطح لامع لا يسمح بنفاذ البصر ولا بالتفكّر؛ سطح يخلو من أي شق، أو أثر، أو مقاومة.
وقد وجّه هان نقدًا لاذعًا لهذه الأعمال الفنية، فقال عن أعمال جيف كونز: "لا نجد فيها كارثة، ولا جرحًا، ولا حتى أثرًا للحام." وكأن هذه الأعمال خرجت إلى العالم دون عناء أو معاناة، دون أثر للكدح الذي يتركه الفنان في مادته. لقد اختفى "اللحام"، أي ذلك الأثر الذي يذكّرنا بأن الجمال قد يولد من تعب وصراع. وبهذا، لم يعد الفن يقاومنا، بل صار يقدم لنا وجبة خفيفة سهلة البلع. قال هان: "الكائن الناعم يزيل كل ما يعارضه. إنه يستبعد النفي." فأي مقاومة، سواء كانت خشونة في الحجر، أو كثافة في الطلاء، أو نشازًا في اللغة، أو غموضًا في الشكل، تصبح عائقًا يجب إزالته. ونتيجة أصبح الفن سلعة، تُستهلك كما يُستهلك مشروب حلو بارد لا يترك أثرًا في الحلق.
وإذا كان الجمال قد أصبح سطحًا أجوف، فإن السرد – أي فن الحكاية – لم يسلم من هذا التآكل أيضًا. لم تعد الحكايات قادرة على أن تُشعرنا بالمعنى أو الانتماء كما كانت في السابق. وفي كتابه «أزمة السرد» (2023)، يشرح هان كيف أن صعود التيارات الشعبوية والقومية ما هو إلا انعكاس لحالة من الضياع يعيشها الناس، بحثًا عن هوية أو قصة تجمعهم. هؤلاء الزعماء فهموا هذا التوق العميق للمعنى، وإن استغلوه لمآرب سياسية. ففي عالم انهارت فيه الرؤية المتماسكة للزمن، وصار التقويم مجرد جدول مزدحم بلا روح، ضاع الإحساس بالاستمرارية، وضاعت معه فكرة المجتمع.
ثقافة الاستهلاك التي تدفعنا إلى اللهاث وراء الجديد، والإثارة المستمرة، قد أضعفت قدرتنا على العيش في تجربة مشتركة، وهي تلك التجربة التي تُنتج الحكايات وتبني الروابط المجتمعية. لقد حلّت الشاشة الباردة محل نار الحكي الدافئة التي كان الناس يلتفون حولها. والنتيجة؟ أننا أصبحنا أفرادًا معزولين، يستهلك كلٌّ منا تجربته وحده، دون أن يشاركها مع الآخرين.
وهكذا، فإن الزمن، والحب، والفن، والعمل، والحكاية – وهي أبرز مجالات التجربة الحيّة – جميعها أصابها الجفاف، وأُفرغت من محتواها. لم تعد تمنحنا تلك التجربة التحويلية العميقة التي كان يسميها هان "إرفارونج"؛ أي تلك التجربة التي تغيّرنا وتترك فينا أثرًا باقياً. بل حلّ محلها نوع آخر من التجربة يسميه "إيرليبنس": تجربة سريعة عابرة، لا تترك أثرًا، ولا تغيّر فينا شيئًا.
في كتابه "فيتا كونتمبلاتيفا" (2022)، لا يكتفي بيونغ-تشول هان بالنقد والتشخيص، بل يمضي خطوة إلى الأمام ليقترح بديلًا لحالة يُسميها "ثقافة الإنجاز المنهكة"، أي ذلك النمط من الحياة الذي يُرهق الإنسان بالسعي المستمر إلى الإنتاج والإنجاز. وهان هنا يدافع عن حالة طالما نُظر إليها نظرة سلبية، وهي: الخمول. لكنه لا يقصد به الكسل أو التراخي، بل يرى فيه فرصة داخلية للإبداع، حين يتحرر الإنسان من ضغط الغايات العملية وأعباء الكفاءة والسرعة.
وفي سبيل توضيح فكرته، يستشهد هان بكلمات متأخرة للفيلسوف الألماني نيتشه، يتحدث فيها عن أولئك "المخترعين"، الذين لا يستطيعون أن يأتوا بشيء جديد إلا إذا أُتيح لهم وقت كافٍ للتأمل، وفرصة للحرية والهدوء، بعيدًا عن الاستعجال والمطالب اليومية. فالإبداع، كما يرى هان، لا يولد في الزحام ولا تحت ضغط النتائج، بل يظهر في المسافة، وفي الفراغ، وفي صمتٍ لا تفرضه الحاجة أو المصلحة.
وهذه الصورة التي رسمها نيتشه عن مجتمع الإبداع تشبه إلى حد كبير ما تصوره الشاعر الألماني نوفاليس في حلمه عن "جمهورية الأحياء"، وهو تصور شعري لعالمٍ يتّحد فيه البشر بروح من الانسجام. فالشعر عند نوفاليس، كما عند باقي الشعراء الرومانسيين الألمان، ليس مجرد كلمات مرتبة، بل هو وسيلة للوحدة والمصالحة والحب؛ إنه قدرة على رؤية الكل في الجزء، وعلى التماس المطلق في أبسط التفاصيل، كما لو أن الشعر يعدنا بنوع من الانسجام العميق بين الإنسان والعالم، بين المعروف والمجهول.
ولا تنفصل هذه الرؤية الشعرية عن طبيعة الشعر نفسه، إذ إنه لا يسعى إلى غاية محددة، ولا يخدم وظيفة نفعية، فلا يُطلب منه أن يُستثمر أو يُستخدم. وبهذا المعنى، يصبح الشعر أرضًا واسعة تحتضن كل شيء، الإنسان وغيره، الحيّ وغير الحيّ، المعروف والمبهم، دون أن تُقصي أو تُقصّر. ولهذا تخيّل نوفاليس ما سماه "العائلة العالمية"، وهي حلم بعالم لا حدود فيه للانتماء.
وما يضفي جمالًا خاصًا على هذا الحلم الشعري أنه، ببساطة، غير قابل للتحقيق. وهنا يظهر إدراك هان العميق؛ فهو لا يحاول تحويل هذا الحلم إلى مشروع تطبيقي، لأنه يعلم أن مجرد محاولة تنفيذ الحلم ستنقله من التأمل الهادئ إلى الفعل العنيف، ومن الروح الحرة إلى المطلب العملي. ولذا يظل فكر هان معلقًا بين ظُلمة الواقع الذي لا يُطاق، ونور المثال الذي لا يُنال؛ لا يستطيع إنكار الواقع بكل ما فيه من قسوة، لكنه أيضًا عاجز عن الوصول إلى المثال الذي يتوق إليه، وكأن بين الاثنين هاوية لا جسر لها.
وعند هذه النقطة، يُلاحظ قارئ هان ملاحظة مهمة – بل ممتعة أيضًا – وهي ميله إلى التعميم والمبالغة. ففي مواضع عديدة، يستخدم عبارات صارمة ومغلقة، مثل: "لقد انتهى الزمن الذي كان فيه للآخر وجود", أو "اللاوعي لم يعد له أي دور في الاكتئاب", أو "تم إلغاء كل أبعاد الوجود بالكامل". مثل هذه العبارات لا تترك مساحة للتأمل أو لإمكانية وجود بديل، بل تغلق الباب على كل احتمال، فلا تسمح للآخر أو للمجهول أن يظهر، وكأنها تُحكم الإغلاق على كل ما لا يتوافق معها.
وهنا، تصبح لغة هان نفسها أحيانًا جزءًا من المرض الذي تصفه. فقد يقرأه المرء ويشعر أن كلماته تُمثّل نوعًا من "النفي الهادئ"، أو أنها تسير على منوال تلك الإيجابية الجبرية التي ينتقدها هو نفسه، تلك الإيجابية التي تُلغي الألم والمعاناة باسم الراحة والسطحية. وبكلمات أخرى: قد يكون هان – دون أن يشعر – قد أصبح جزءًا من المشكلة التي يحاول أن يصفها وينقدها.
عند مقارنة بيونغ-تشول هان باثنين من أبرز المفكرين الذين استلهم منهم، فالتر بنيامين وثيودور أدورنو، يصعب التغاضي عن التباين الكبير بين أسلوبه وأسلوبهما. فبينما اشتهر كلاهما بدقتهما التحليلية وتأملهما العميق في التفاصيل الدقيقة للحياة والثقافة، يُلاحظ على هان ميله إلى إصدار أحكام سريعة وقاطعة. ويتجلى ذلك بوضوح في موقفه من أعمال الفنان الأميركي جيف كونز، إذ لا يميز بين عمل وآخر، بل يعامل جميع أعماله على أنها بلا قيمة أو خصوصية.
يكتب هان قائلًا: "فن كونز لا يحتاج إلى حكم، ولا إلى تأويل، ولا إلى تفكير أو تأمل". أي أنه لا يرى فيها ما يستدعي التفسير أو التأمل، وكأنها بلا روح ولا غاية. لا فرق لديه بين كرات السلة المُعلّقة داخل صناديق زجاجية، أو تماثيل ضخمة على هيئة حيوانات لامعة، أو صوره الذاتية الإباحية. كلها، في نظره، مجرد تجلٍّ للسطحية والتفاهة. ويكفيه أن يقول: "كونز يريد من المشاهد أن يقول فقط: واو!"
لكن، لو أننا أخرجنا أعمال كونز من قبضة هذا الحكم المطلق، ونظرنا إليها نظرة أكثر حيادًا وتأملًا، فهل يمكن أن نقول إنها تفتقر إلى العمق فعلًا؟ مثلًا، ذلك التمثال اللامع على هيئة دُبّ بلا ملامح، هل هو مجرد احتفاء بسطحية الثقافة الشعبية؟ أم أن هذا الفراغ الظاهري نفسه يحمل نوعًا من التحدي والتساؤل؟ نعم، قد يكون فن كونز غامضًا ويرفض التفسير، لكن ربما هذا الرفض ليس علامة على التفاهة، بل رغبة في البقاء مغلقًا، عصيًّا على الاختزال. ألا يذكّرنا ذلك بفكرة "النفي" نفسها التي يقدّسها هان؟ ولكن هنا، يأتي بأسلوب مختلف عمّا يتصوره هو.
أتذكر جيّدًا المرة الأولى التي قرأت فيها كتاب "مجتمع الإنهاك"، ولا تزال دهشتي آنذاك حاضرة في ذاكرتي، مصحوبة بإحساس بالتصديق. لكن حين أعيد النظر اليوم، أجد أن أفكار هان قد أصبحت تميل إلى التكرار، أقرب إلى أسلوب معتاد منه إلى تأمل حيّ يتجدد. فهو ينتقد غياب الانتباه في العصر الحديث، لكنه لا يفلت منه؛ كأنّه سقط في الفخ نفسه الذي يحذّر منه. وكم تمنيت لو أنه، لمرة واحدة، يترك الحديث عن نظريات كبرى وعن مصائر المجتمعات، ويتأمل شيئًا صغيرًا: عملًا فنيًّا بعينه، أو مكانًا معينًا، أو حتى شخصًا واحدًا فقط. وإذا كان يرى أن "التناغم مع الآخر" قد اندثر، كما يذكر في كتاباته، فلماذا نكتفي بالرثاء؟ لماذا لا نحاول أن نوقظ هذا التناغم من رقاده؟
ورغم هذا، فإن في بعض كتاباته بذورًا خفية لأمل مختلف. ففي كتابه المعنون "غياب" (2007)، يتحدث عن نوع آخر من الذات لا يشبه الذات الغربية المعتادة. في الفلسفات الشرقية، كما يشرح، لا تُبنى الذات على الامتلاء أو القوة، بل على التفريغ، أي على التخفف من التمركز حول النفس. فالإنسان، في نظر هذه الفلسفات، لا يُعرّف نفسه من خلال التميز أو العزلة، بل من خلال الاندماج في العالم، والتوافق معه، وكأنه يقول: "أنا جزء من هذا الوجود، لا خصم له ولا نقيض". هذه نظرة تختلف عن نظرة الإنسان الغربي الذي يسعى باستمرار إلى إثبات ذاته، والتأكيد على فرادته.
ولعل أجمل ما يقدّمه هان في هذا السياق هو صورة البحر، التي يستلهمها من قصة صينية قديمة للفيلسوف تشوانغ تزو، من القرن الرابع قبل الميلاد. تدور القصة حول سمكة ضخمة في أعماق بحر الشمال تتحوّل لاحقًا إلى طائر عملاق. ولو كانت هذه السمكة صغيرة، لاحتاجت إلى بذل جهد هائل ومقاومة مستمرة للطيران. لكن ضخامتها جعلت البحر والرياح يحملانها بلا عناء. وهكذا يرى هان أن العلاقة مع العالم لا ينبغي أن تكون علاقة مواجهة، بل انسجام. فالعقل إذا اتّسع كالبحر، لم يعد يخشى البحر، بل أصبح واحدًا معه. وكأن هان يقول: "إذا كان عقلك مثل البحر، فإن البحر لا يُخيفك، بل يحملك."
وهذا الفهم المختلف للذات لا يبقى حبيسًا للفكر المجرد، بل ينسحب أيضًا على حياة الناس اليومية، وعلى شكل المدن والشوارع. ففي العالم الغربي، تُقسّم المساحات بحدود صارمة، وتُنشأ الجدران، وتُرسم الحواجز، مما يُشعر الإنسان دائمًا بأنه محصور، مُقيَّد داخل حدود لا يجب أن يتجاوزها. أما في كثير من المدن الشرقية، على الرغم من الازدحام والضجيج، إلا أن الناس يتجاورون بطريقة أقل صخبًا وأكثر ألفة؛ يمرون ببعضهم بعضًا، لا ليحتكوا، ولا ليتجاهلوا، بل ليعيشوا قربًا صامتًا لا يُشعر أحدًا بالتعدي أو الغربة. وكأن كل فرد يبعث برسالة غير منطوقة إلى الآخر: "أنا هنا، وأنت هناك، ولن يؤذينا هذا القرب."
تتميّز طقوس التحية في بلدان الشرق الأقصى بطابع خاص من المودّة، مودّة لا تستند إلى غاية أو معنى محدد، وكأنها تعبير نقي عن الودّ، خالٍ من أي نفع أو مصلحة. فعندما يلتقي شخصان في الغرب، ويتبادلان المصافحة والنظرات، فإن كلًّا منهما يُظهر فرديته ويخاطب الآخر بوصفه كيانًا مستقلاً له سماته الخاصة. وبهذا اللقاء تنشأ، كما يصفها بيونغ-تشول هان، مساحة مليئة بالتفاعل، تتخللها نظرات الأعين، وحركة الأجساد، والكلمات المباشرة، وكأن الوجود ذاته في تلك اللحظة يريد أن يُثبت نفسه بالحضور والامتلاء.
أما في تقاليد التحية في الشرق، فالأمر يختلف جذريًّا. لا مصافحة ولا تبادل للنظرات المباشرة، بل انحناءة صامتة، لا تُوجّه إلى شخص بعينه، ولا تُقابل برد فعل معين. فهي، في جوهرها، تحية موجهة إلى الوجود ككل، لا إلى ذات محددة. العيون لا تبحث عن نظير، والوجوه لا تنتظر مقابلة وجه آخر. إنها حركة تجريدية خالية من التمركز حول الذات، لا يظهر فيها طرف يفرض وجوده، ولا آخر يخضع له. وكأن التحية نفسها فعل بلا فاعل، ومودّة بلا غاية. وبهذا، تتحقق – كما يرى هان – نوع من المحبة الشاملة، محبة لا تقوم على تفضيل شخص على آخر، ولا تستدعي استبعاد الآخرين كما تفعل الصداقة، بل تنبع من فراغ النفس من أنانيتها، فتُصبح الذات نفسها منفتخ=حة على العالم.
ويشير هان إلى أن الرومانسية الألمانية، وهي تيار أدبي وفكري نشأ في القرن التاسع عشر، اقترحت نموذجًا مشابهًا لهذه المحبة الشاملة، لكنه يحتفظ بروحانية أوروبية مختلفة. ففي تصورها، يمكن لكل الناس أن يكونوا "مواطنين في جمهورية الأحياء"، وهي مجتمع مثالي يتجاوز الحدود العرقية والدينية والاجتماعية، مجتمع لا يشترط التطابق ولا التناغم التام، بل يقع بين سكينة محبة الشرق وبين دفء صداقات الغرب، بين شمولية غير متحيّزة وفردانية ذات طابع وجداني.
وبالرغم من أن هان يبدو أقرب إلى هذه الرومانسية الفكرية، فإنه، كما يعبّر الكاتب هنا، يرى في الشرق الأقصى رؤيةً تمنح الحياة خفة وبهجة خاصة، وقدرة على ملاحظة التفاصيل الصغيرة التي تمنح الوجود عمقه. ففي ثقافة الشرق، يمتزج الشعر بالفكر، والعين بالعقل، وكأن الشاعر والمفكر يجلسان معًا يتأملان العالم بهدوء ولذة. ففي مشهد بسيط، يكتب هان عن طبق "التمبورا" – وهو طعام ياباني مكوّن من خضار أو سمك مغطّى بالعجين ومقلي – قائلًا إنه يتحوّل إلى "كتلة مقرمشة من الفراغ"، أي أن الفراغ ذاته يصبح طعامًا لذيذًا! وفي حدائق "الزِن" اليابانية – وهي حدائق صخرية تُستخدم للتأمل – تتجلّى الطبيعة لا بما هو ظاهر، بل بما هو غائب، وكأن الغياب نفسه يتحول إلى حضور خفيّ.
وهذا "الفراغ" الذي يتحدث عنه هان في سياق الثقافة الشرقية يختلف تمامًا عن الفراغ الذي ينتقده في الغرب، ذلك الفراغ الذي تنتجه ثقافة الاستهلاك، حيث تُفرغ الأشياء من معناها لتسهيل بيعها وتسويقها. أما فراغ الشرق، فهو فراغ مملوء بالمعنى، نابع من داخل التقاليد والثقافة، لا مفروض عليها من خارجها.
وقد أنهى هان إحدى مقابلاته الصحفية في عام 2023 – مع صحيفة إل بايس الإسبانية – بطريقة كشفت عن وجهه الآخر، الأكثر إنسانية ومرحًا. فعندما انتهى اللقاء، اقترح أن يذهب إلى مطعمه الإيطالي المفضّل، وهناك جلس على مائدة صغيرة، وتناول حساء السمك، وظهر على وجهه شيء من الانبساط، وخفّ عنه عبء الجديّة، وأطلق بعض النكات، وتحدث بحرية ودفء، بأسلوب لم يكن له وجود في الحوار الصحفي ذاته.
وهنا يطرح الكاتب تساؤلًا: لماذا لا يسمح هان لهذا الجانب المرح من شخصيته بأن يظهر في كتاباته؟ قد يجيب هان بأن أي لمحة إيجابية قد تفسد حدّة أفكاره النقدية، أو تخفف من وقعها الرمزي العنيف، لكنه – كما يبدو – قد يكون مخطئًا. فربما العكس هو الصحيح: ربما لا يكتمل فكر ناقد إلا حين يتسع للضحكة، ولا تكتمل الفلسفة إلا إذا فسحت مجالًا للبهجة.
مترجم من Aeon بقلم جوش كوهين وهو محلل نفسي و ممارس خاص في لندن.
مترجم بتصرف من publicseminar بقلم Jake Neuffer
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي
سوال هل المقالات هذي هي نفسها التي تكون بنقود في مواقعها ولا من اساس مجانيه لان سمعت ان هناك مقالات بنقود؟