حقيقة الخيال: بين الوهم والواقع ومنطق الأدب
بين الحقيقة والخيال: هل نحن من نرسم الحدود أم أن الواقع نفسه مراوغ؟
في سبتمبر من عام 2023، أصدرت ليندا كومز كتابًا يحمل عنوانًا دالًا: الاستعمار وقصة شعب وامبانواغ، ونشرته دار بنغوين راندوم هاوس ضمن فئة "الكتب الواقعية للأطفال". وكان موضوعه يتناول ذلك اللقاء الأول، الذي جمع بين شعب وامبانواغ والأوروبيين، وما ترتب عليه من وقائع وتفاعلات. ولم يكن في الأمر ما يثير الريبة، فالموضوع تاريخي، والتصنيف واضح، والناشر معروفٌ بمكانته. لكن بعد عامٍ واحد، شهدت مقاطعة مونتغومري في ولاية تكساس حدثًا غريبًا، حينما أصدرت لجنة من المواطنين قرارًا بنقل الكتاب من قسم "الواقعية" إلى قسم "الخيال"، وكأنها بذلك لا تعيد تصنيفه فحسب، بل تعيد تعريف الحقيقة ذاتها. ولم يهدأ الجدل، ولم ينقطع الأخذ والرد، حتى اضطرت اللجنة، في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 2024، إلى إعادة تصنيفه تحت فئة "الواقعية" من جديد، وكأنها بذلك تقرّ بما أنكرت، وتعود إلى ما فرّت منه.
ولكن، لماذا اهتمت المقاطعة بإعادة تصنيف كتابٍ للأطفال، وما الذي دفع لجنةً – لم يكن بين أعضائها أمين مكتبةٍ واحد – إلى التدخل في أمرٍ كهذا؟ إن تصنيف الكتاب على أنه "خيال" لم يكن مجرد إجراء إداري، بل كان، في جوهره، إعلانًا بأن محتواه غير صحيح، وبأن الوقائع التي يعرضها لا تستحق أن تُدرج ضمن سجل الحقيقة. لقد كان القرار تعبيرًا عن موقفٍ أيديولوجي، أكثر منه مسألة تنظيمية، إذ لم تكن الغاية تنظيم الكتب بقدر ما كانت إعادة رسم حدود ما يُعد حقيقيًا، وما يجب أن يُنظر إليه على أنه زائف، وما ينبغي تصديقه، وما يستحسن إنكاره.
وفي هذا السياق، يبدو تصنيف الكتب – وهو عمل ظاهره بريء – ممارسةً تحمل في طياتها سلطةً هائلة، فهي لا تقتصر على تنظيم العناوين داخل المكتبات، بل تحدد ما إذا كان العمل ينتمي إلى عالم الحقيقة أم إلى عالم الخيال. ولعلنا لا نحتاج إلى دليلٍ على ذلك أبلغ من استخدام كلمة "الخيال" نفسها في حياتنا اليومية. فحينما قال الممثل جوني ديب، أثناء مهرجان كان السينمائي لعام 2023، إن وسائل الإعلام قد صنعت حوله "قصصًا خيالية مروعة ومُلفقة"، لم يكن يقصد سوى أن هذه القصص محض أكاذيب، وأنها لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة. وحينما كتب الصحفي شكيل هاشم أن "ضمانات الذكاء الاصطناعي لدى ميتا هي مجرد خيال معقد"، لم يكن يعني إلا أن هذه الضمانات وهمٌ محض، لا وجود له إلا في الأذهان. وفي مثل هذه السياقات، يصبح "الخيال" نقيضًا للحقيقة، ومرادفًا للتلفيق والتحريف، وهو ما يجعل من استخدامه أداةً قادرةً على تشكيل إدراكنا للواقع.
ولكن، إذا كان الخيال أكاذيب، وإذا كان الكتاب لم يُوصف بأنه "واقعي سيئ يجب إزالته من الأرفف", بل نُقل إلى خانة الخيال، أفلا يكشف ذلك عن نوايا اللجنة؟ لم يكن هدفها نقد المحتوى، أو الطعن في تفاصيله، بقدر ما كان حرصها منصبًا على أمرٍ واحد: ألا يُعتبر الكتاب جزءًا من الحقيقة. فإذا لم يكن واقعًا، فلا بد أنه خيال، وإذا لم يكن خيالًا، فلا بد أنه واقع. وهكذا تتبدى لنا المفارقة: هل يكون الخيال هو كل ما لم يُعترف به على أنه واقع؟
إن هذا السؤال، الذي قد يبدو بسيطًا للوهلة الأولى، يكاد يكون من أعقد المسائل الفلسفية، إذ ما زال الفلاسفة، حتى يومنا هذا، يختلفون في تعريف "الخيال"، ولا يتفقون على جعله مرادفًا للمحتوى الزائف. فوجود معلومات خاطئة داخل العمل لا يكفي ليجعله خياليًا، إذ إن كثيرًا من الكتب الواقعية – من كتب العلم القديمة التي ضمت نظرياتٍ أُبطلت، إلى كتب التاريخ التي تضمنت أخطاءً، إلى المذكرات التي احتوت على تناقضاتٍ – لم تُنقل إلى رفوف الخيال بمجرد اكتشاف هذه الأخطاء، بل بقيت في خانة الواقعية، ولكنها اعتُبرت واقعيةً سيئة. وعلى الجانب الآخر، ليس كل ما يُصنف تحت "الخيال" يتضمن معلوماتٍ زائفة، فهناك أعمالٌ روائيةٌ تقوم على سرد وقائع حقيقيةٍ بالكامل، كما هو الحال في رواية الغرفة الإضافية (2008) لهيلين غارنر، التي تسرد قصةً واقعيةً عن تجربة الكاتبة في رعاية صديقٍ يحتضر. بل إن وجود نوعٍ أدبيٍّ كاملٍ يُسمى "الخيال التاريخي"، حيث يمكن للرواية أن تكون متوافقةً مع كل الحقائق المعروفة، ومع ذلك تظل مصنفةً ضمن الخيال، يكشف عن تعقيد العلاقة بين الخيال والواقع، ويؤكد أن الخيال لا يعني بالضرورة احتواءه على معلومات زائفة معروفة.
لكن، ما الذي يجعل كتابًا ما واقعيًا؟ إن المعيار هنا ليس صحة المعلومات الواردة فيه، بل إيمان كاتبه بصحتها، وتصديق قارئه لها. وقد أخبرني أحد أصدقائي، ممن يعملون في الكتابة الإبداعية، أن الواقعية لا تتحدد بمقدار الصواب والخطأ، بل تتحدد بمدى اعتقاد المرء بصحة ما يكتبه، بعد بحثٍ وتمحيصٍ. فإذا كان الكاتب يؤمن بما يسطره، وكان القارئ مستعدًا لتصديقه، كان الكتاب واقعيًا، حتى وإن تبين لاحقًا أن بعض ما ورد فيه غير دقيق. وبناءً على ذلك، يمكن للواقع أن يكون زائفًا، ولكن يظل واقعًا طالما أن الناس يؤمنون به.
أما القول بأن "الواقعية" هي انعكاس صادق لـ"الحقيقة"، فليس سوى تبسيط يفتقر إلى الدقة، بل قد يكون تضليلًا يتجاهل تعقيد علاقتنا بالحقيقة ذاتها. فهل نحن معنيون بالحقيقة لذاتها، أم أننا ننشغل بها فقط حينما تخدم أغراضًا أخرى؟ إننا لا نبحث عن الحقيقة لمجرد كونها صحيحة، وإنما تدفعنا إليها اعتبارات أوسع، تتجاوزها لتشمل مصالحنا ومشاريعنا الفكرية. وقد أشارت جين هيل، في مقالتها "البحث غير المبال عن الحقيقة" (1988)، إلى هذا المعنى بوضوح، حينما أكدت أن السعي الظاهري وراء الحقيقة يمكن وصفه، في كل الأحوال، بأنه مشروع لا يتطلب ذكر الحقيقة ذاتها. فالحقيقة، بحد ذاتها، لا تمتلك أي قوة تحفيزية، ولا تُطلب لذاتها، وإنما تُطلب لما قد تُفضي إليه من منفعة أو انسجام مع قناعاتنا.
وإني لأذكر، حين كنت حديث العهد بدراسة الفلسفة، أنني كنت مفتونًا بما تطرحه من أسئلة، حتى خُيّل إليّ أنني أسعى إلى الحقيقة – تلك الحقيقة المطلقة التي لا يرقى إليها شك – وأنني من أجلها قررت أن أنغمس في الدراسات العليا، عساني أدرك ما هو "صحيح" وما هو "حقيقي" بالفعل. ولكن ما أسرع ما تبدد ذلك الوهم، حين سألني أحد الأصدقاء سؤالًا بسيطًا ولكنه بالغ الدلالة: "هل تهتم بعدد النجوم الموجودة في الكون في هذه اللحظة؟" لم أجد بدًا من الاعتراف بأنني لا أكترث بذلك، وكان هذا الاعتراف كافيًا لهدم التصور الذي شيدته لنفسي. أدركت حينها أنني، كغيري، لا أسعى إلى الحقيقة لذاتها، بل أسعى إليها فقط حينما تتصل باهتماماتي، أو تخدم أغراضًا أعمق من مجرد كونها صحيحة.
فلو كانت الحقيقة ذات قيمة مطلقة، تُطلب لذاتها، لوجب علينا أن نولي كل حقيقة – مهما بلغت تفاهتها – القدر ذاته من الاهتمام، ولكن الواقع يشهد بخلاف ذلك. تخيلوا رجلًا يقضي حياته في تسجيل أعداد السيارات المتوقفة في موقفٍ عام، بدقةٍ لا يُنازعه فيها أحد، دون أن يكون لهذا الجهد أدنى فائدة. ألن يبدو لنا هذا الرجل غريب الأطوار؟ إذن، مجرد كون شيءٍ ما صحيحًا لا يكفي لأن نجعله موضع اهتمامنا، وإنما تتحدد قيمة الحقيقة بمدى ارتباطها باستفساراتنا ومشاريعنا الفكرية.
ومن ثم، فإن الفرق بين الواقعية والخيال لا يكمن في أن الأولى تستند إلى الحقيقة وحدها، بل في أنها تنظم رؤيتنا للعالم، وترسم لنا حدود ما يستحق أن يُقرأ ويُكتب عنه. إن لجنة مقاطعة مونتغومري، حين قررت إعادة تصنيف كتاب ليندا كومز، لم تكن بصدد مراجعة شاملة لجميع الكتب الواقعية التي قد تحتوي على أخطاء أو مغالطات، وإنما استهدفت كتابًا بعينه، لأنه شكك في سردية اعتادت عليه، وصدم فهمها للواقع، وأربك تصورها للبلاد والتاريخ. لم يكن الأمر إذن متعلقًا بالحقيقة المجردة، بل كان انعكاسًا لصراع أعمق حول أي الحقائق تستحق أن تبقى وأيها ينبغي أن يُقصى.
ولعل هذا يقودنا إلى تأمل العلاقة المعقدة بين الواقع والخيال، وكيف أن كليهما يُعرّف أحدهما الآخر. فنحن نهتم بالخيال لأنه يتيح لنا تصور عالم مختلف عن عالمنا، ولكنه – رغم ذلك – لا ينفصل عن هذا العالم، بل يُقاس انحرافه عنه دائمًا بمقاييسه. حتى طبيعة الخيال ذاتها تتأثر بتصورنا للواقع، بل تتغير بتغير الثقافات واختلاف مفاهيمها عن الحقيقة. إن دراسة مقارنة لمفهوم "الخيال" عبر الثقافات تكشف لنا عن هذه الحقيقة بوضوح، إذ إن كل جماعة بشرية، بقدر ما تختلف في تصورها للواقع، تختلف أيضًا في تحديد ماهية الخيال ووظيفته. وهذا ما يمكننا أن نلمسه عند مقارنة الفلسفة التحليلية الغربية بتصورات الفكر الصيني الكلاسيكي حول الخيال.
لقد اتخذ الخيال، في الفلسفة التحليلية في مطلع القرن العشرين، موقعًا جوهريًا باعتباره وسيلة لاختبار النظريات العامة حول المعنى، والدلالة، والوجود. فقد كان لزامًا على أي نظرية تحاول تفسير كيفية الإشارة إلى الأشياء، أو البحث في الفارق بين "الوجود" و"الكينونة"، أن تتعامل مع الشخصيات الخيالية، التي بدت وكأنها – على حد تعبير إيمي توماسون – "كائنات غريبة وغير عادية، تختلف تمامًا عن الأشياء العادية". وقد كان أليكسيوس ماينونغ، في عام 1904، قد سعى إلى حل هذه الإشكالية من خلال التمييز بين "الكينونة" و"الوجود"، ليبرهن على أن بيغاسوس، مثلًا، هو كائن غير موجود. أما جوتلوب فريجه، فقد وضع في عام 1892 تمييزًا آخر بين "المعنى" و"الإشارة"، ليكشف عن سبب امتلاك الأسماء الخيالية للمعنى رغم أنها تفتقر إلى المرجع. فاسم "أوديسيوس"، على سبيل المثال، لا يشير إلى كائن حقيقي في العالم، لكنه لا يزال يحمل معنى، لأنه يمثل طريقةً ما في التناول والفهم.
إذا تأملنا ما استقرت عليه الفلسفة التحليلية في العصور الحديثة، وجدنا أن تناولها لمفهوم الخيال لم يكن قائمًا بذاته، ولم يكن له أن يستقل عن قضايا الميتافيزيقا وفلسفة العقل واللغة، فكأن الخيال لم يكن إلا ظلًّا ممتدًّا لمسائل الوجود والمعنى والإمكان. وها هم أولاء فلاسفة العصر، يختلفون في تعريف الخيال، لا لأنه موضوع عصيّ على الإدراك، ولكن لأن منهجهم ذاته يقتضي أن يتناوله كلٌّ منهم بأداته التي ألفها، فمنهم من يراه نوعًا من التظاهر بالإثبات، ومنهم من يجعله محض عوالم ممكنة تُبنى في الذهن، ومنهم من يعدّه لعبة ذهنية توجهها النية والتخيّل. بل إن ثمة من أنكر أن يكون للخيال ماهية جوهرية، فجعله من طائفة الظواهر التي لا تخضع لحدود صارمة، وإنما يُعرف بالوظيفة لا بالماهية!
وهنا يبرز لنا أمر ذو بال، وهو أن هذا التيار الفلسفي لم يطرح تساؤلاته اعتباطًا، وإنما جاء امتدادًا لإرث قديم، إرث بدأ منذ أن تساءل الفلاسفة الأقدمون عن طبيعة الوجود، وقسّموا الأشياء إلى ما هو حقيقي وما هو أدنى من الحقيقة. يمكن القول إن الفلسفة التحليلية لم تنشأ من فراغ، ولم تأتِ بأسئلتها من العدم، بل ورثت، كما يرث الأبناء عن آبائهم، تلك الفكرة اليونانية القديمة التي ميزت بين درجات الوجود، فزعمت أن بعض الأشياء أقل "واقعية" من غيرها، وأن بين الظاهر والباطن فجوة لا تردمها العقول بسهولة. ومن هذه الزاوية، جاء مفهوم "الخيال" في الفلسفة الأنجلو-أوروبية مرتبطًا بما هو متخيل، أي بما لا يُعدّ حقيقيًا في ميزان المعرفة، لأن هذه الفلسفة حملت إرث أفلاطون الذي وضع حدًا صارمًا بين "المظهر" و"الواقع"، فرأى أن الأول ظل زائل، والثاني جوهر ثابت. ومن هنا، كان لا بد أن يقف الخيال في معسكر المظهر، بينما تصطف الواقعية في معسكر الحقيقة.
وإذا نظرنا في أصول الميتافيزيقا الأفلاطونية، وجدناها تنحاز إلى الكينونة الثابتة، وترى أن المعرفة الحقّة لا تتعلق إلا بما هو أبدي، ثابت لا يدركه التغير ولا يمسه التحول، لأن الثابت وحده هو الذي يمكن معرفته على وجه اليقين. ولعل هذا يفسر لنا سر انتقاد أفلاطون للفنانين والشعراء القصصيين في "الجمهورية"، إذ رأى أنهم لا يصنعون إلا صورًا خادعة للعالم المحسوس، وهو نفسه، في نظره، ليس إلا نسخة ناقصة عن عالم المُثل. أما أرسطو، فكان له رأي آخر، إذ رأى في "فن الشعر" أن البشر ميالون بطبعهم إلى المحاكاة، وأن هذه المحاكاة ليست نقصًا أو عيبًا، بل هي جوهر الفن، وروحه الحية التي تجعله قادرا على تصوير الواقع بطرق تتجاوز مجرد النسخ الساذج. ومن هنا، نشأ في الفلسفة الأنجلو-أوروبية تصورٌ للخيال يربطه بالمحاكاة والتظاهر واللعب التخيلي، باعتبارها الأدوات التي تحدد العلاقة بين النسخة والأصل، و بين المظهر والواقع.
ولكن هذه الرؤية، التي نشأت في أحضان الفلسفة الغربية، لم تكن بالضرورة المهيمنة في كل الثقافات. ففي المجتمعات التي لم ترى في التمييز بين المظهر والواقع خطًا حاسمًا، لم يكن الخيال يُفهم بوصفه نقيضًا للواقع، ولم يكن يُنظر إليه على أنه محض تظاهر. ويمكننا أن نجد مثالًا واضحًا على ذلك في الفلسفة الصينية القديمة، التي سعت، شأنها شأن الفلسفة اليونانية، إلى فهم طبيعة العالم، لكنها سلكت في ذلك طريقًا مختلفًا، فلم تفترض وجود حقيقة مطلقة تتجاوز الظواهر، بل رأت أن الحقيقة ذاتها متجذرة في العالم، وأن "الطاو" (道)، وهو المبدأ الذي تنبثق عنه جميع الأشياء، ليس ثابتًا، بل متغير باستمرار. ومن هنا، لم يكن الخيال في الفكر الصيني مقابلًا لواقع ثابت، بل كان جزءًا من عملية دائمة من التحول والتغير.
وقد يتساءل المرء: كيف يمكن لهذه الرؤية أن تعيد تشكيل نظرتنا للخيال؟ وللإجابة عن ذلك، لا بد أن نعود إلى أفلاطون، الذي رأى أن العالم الذي نراه ليس سوى ظل لعالم آخر أكثر حقيقة، وأن المعرفة لا تُنال بالحواس، بل لا بد من التعقل والتأمل لاكتشاف ما وراء الظواهر. ولكن الميتافيزيقا الصينية لم تأخذ بهذا التقسيم، بل رفضت فكرة الثبات المطلق، ورأت أن العالم ليس سوى حركة متغيرة، وأن ما يُظن فارغًا أو غير حقيقي ليس إلا أصل كل الأشياء. وعليه، لم تكن هناك حاجة للتمييز بين ما هو "واقعي" وما هو "خيالي"، لأن كل شيء جزء من شبكة متحركة من التحولات.
ولعل هذا يفسر لنا لماذا تحمل الكلمة الصينية للخيال ("شياوشو"، 小說) دلالة مختلفة عن نظيرها في الفكر الغربي، فهي تعني حرفيًا "حديث صغير" أو "أقوال صغيرة"، وليس في ذلك تقليل من شأنها، وإنما هو تصنيف وظيفي يعكس ترتيبًا ثقافيًا للخطابات. فقد كانت الثقافة الصينية تعتمد تسلسلًا هرميًا صارمًا، تضع فيه الكلاسيكيات الكونفوشيوسية والتواريخ الرسمية في القمة، بينما تضع النصوص السردية التخيلية مثل "شياوشو" في مرتبة أدنى. وليس هذا لأن الأولى تحمل الحقيقة، والثانية مجرد ترف أدبي، بل لأن الأولى كانت معنية بتنظيم الحياة، بينما كانت الثانية تروي قصصًا. وهكذا، لم يكن "الخيال" في الفكر الصيني مقابلاً للواقع، ولم يكن يُعتبر من الدرجة الثانية في سلم الوجود، بل كان له دوره الخاص، يؤدي وظيفته في نسيج الحياة الثقافية، دون أن يُفرض عليه أن يكون نسخة مشوهة عن الواقع، أو أن يُنفى إلى عالم الظلال كما فعل أفلاطون.
نظراً أنه تُعدّ الكلاسيكيات الكونفوشيوسية نصوصًا مقدسة، تُحاط بمهابة التقليد وتُحفظ بحرص الديانة. فإذا كان شأنها كذلك، فكيف يتأتى للدراسات النصية أن تجد لنفسها موطئ قدم في رحاب الفلسفة، وهي التي لم يكن يُتاح لها إلا أن تنحصر في الكتابات التفسيرية؟ أما التاريخ، فهو أمر آخر، فقد كان ينبغي أن يُكتب ويُعاد تدوينه باستمرار، فغدا بذلك أرفع الأنواع الأدبية مقامًا وأشدها إجلالًا، حتى صار النموذج الذي تتأسس عليه جميع الخطابات الثقافية.
على أن الناظر إلى هذا الأمر من زاوية الفكر الغربي قد يجنح إلى تصور يفرق بين "شياوشو" والتاريخ على نحو يجعله يرى في الأول ضربًا من الخيال، وفي الثاني صورة من الحقيقة. بيد أن هذا التصور لا يخلو من إسقاطات ميتافيزيقية لا تتسق مع الإطار الفكري للصين. وكيف يكون ذلك، وأنت ترى أن ثنائية "شياوشو/متخيل" و"تاريخ/حقيقي" لا تستقيم مع طبيعة الأعمال نفسها؟ فقد كانت الأشكال المبكرة من الخيال تتخذ طابعًا تقريريًا وتنقل وقائع حدثت بالفعل، كما أن التواريخ الرسمية لم تخلُ من مساحاتٍ أُفسحت فيها للابتداع والتلفيق. وهكذا، لم يكن انتقاص "شياوشو" نابعًا من كونه خيالًا أو افتراءً، وإنما لأن تفسيره لم يكن يسيرًا على الأفهام، ولأن معانيه لم تكن تنبثق للذهن في وضوح. وما كان من ضعف "شياوشو" فإنه لم يكن في طبيعته المتخيلة، وإنما في اعتباره غير ملائم لنقل المعنى.
ولم يكن التاريخ ليُرفع إلى هذه المنزلة لأنه سجل الحقائق، بل لأنه أرسى دعائم النشاط الأدبي، وأتاح للمشتغلين بالكتابة والقراءة والتفسير أرضًا ثابتة يقيمون عليها صروح المعاني. ثم إنه كان خاضعًا للتأويل، وهذا ما جعله صالحًا ليكون وعاءً يُفرغ فيه المعنى، لأن ولاية السماء، وهي التي تحكمت في نظرة الصينيين للأحداث، اقتضت أن يُنظر إلى التاريخ باعتباره مرآة تعكس شرعية الحاكم أو انعدامها. أما "شياوشو"، فإنه لم يحظَ بهذه القدرة التفسيرية، لأن كثيرًا من أمثلته الأولى لم تكن سوى سرديات تُشبه التقارير، امتلأت بعناصر خارقة للطبيعة من أشباح وظواهر غامضة ومعجزات وأمور لم يجرِ بها مألوف العادة. ولعل مما يسترعي الانتباه أن هذه "السجلات العجيبة"، على الرغم من تصنيفها ضمن "شياوشو"، لم تكن تُعد محض خرافة أو أسطورة، بل كانت تُرى على أنها ضرب من التاريخ، غير أنها لما حوت من الغرابة لم يكن من الممكن إدراجها ضمن السرديات التاريخية الرسمية.
ولذا، فإن ما كان من نصوص وكتابات بدا عسير التفسير، أو افتقر إلى وضوح المغزى، صُنِّف ضمن ما هو "صغير" أو "غير ذي شأن"، لأن العلماء لم يستطيعوا أن يستخلصوا منها دروسًا واضحة، فجُعلت في مرتبة أدنى من التاريخ. وليس من العدل أن يقال إن هذه النصوص كانت ملفقة، وإنما الحقيقة أنها لم تحظَ بإطار تفسيري مستقر يجمع عليه الجميع. وبما أن الخيال لا يمكن أن يُقاس بمعيار ثابت من الواقع، فإن "شياوشو" لم يكن ليُنظر إليه على أنه دعوة لمحاكاة العالم، بل كان كيانًا قائمًا بذاته، لا يخضع لمقارنات تقرر ما هو حقيقي وما هو خيالي.
وإذا أردنا أن نمثل لهذا الأمر بمثال محسوس، فلنتأمل في حال مجتمعين مختلفين ينظران إلى البطة الخشبية كلٌ من زاويته. أما المجتمع الأول، وهو الذي يعيش على صيد البط، فإنه يتخذ البطة الخشبية طُعمًا يجذب إليه الطيور الحية، ولهذا كان من الضروري أن تكون البطة الخشبية شبيهة بالحقيقية إلى حد يخدع البط الآخر، ولكن مختلفة في الوقت نفسه بما يكفي ليعرف الصيادون أنها ليست هدفًا لإطلاق النار. فهنا، كانت طبيعة البطة الخشبية تُفهم في علاقتها بواقع مادي ملموس، والهدف من التساؤل عن طبيعتها لم يكن إلا ليقرر ما ينبغي فعله بها.
وأما المجتمع الثاني، فهو الذي لا يرى في البطة الخشبية إلا كائنًا جماليًا يُقدَّر لما فيه من إبداع في الشكل واللون، ولا يهمه إن كان يشبه الحقيقة أو يطابقها، وإنما يهمه أن يكون مثيرًا للاهتمام، جذابًا للعين، باعثًا على التأمل. وهكذا، فإن تساؤل الناس عن طبيعة البطة لا ينطلق من معيار موضوعي، بل من أذواقهم وردود أفعالهم تجاهها. وما تكشفه لنا هذه المقارنة أن المفاهيم لا تُعرَّف في ذاتها، وإنما تُفهم في ضوء النظم الفكرية التي تنشأ داخلها. فالخيال، كما نراه، ليس كيانًا ثابتًا بخصائص محددة، بل هو مفهوم ينشأ في إطار رؤية ميتافيزيقية معينة.
ومن هنا، فإن المقارنة بين التصورات الأنجلو-أوروبية والصينية حول الخيال تظهر لنا كيف أن ما نعتقده بشأن العالم يُؤثر في الكيفية التي نفهم بها الخيال. فالميتافيزيقا لا تبدأ إلا من خلال ملاحظتنا للوجود، وهي لا تُحفظ إلا برغبتنا في إدراكه، ثم إنها، حين تُؤسس، تفرض أثرها على كيفية تمثيلنا لهذا الوجود. وليس غريبًا بعد ذلك أن يُفهم الخيال وفقًا لهذه المنظومات الفكرية التي نشأت قبل أن يُصاغ مفهومه ذاته.
إذا كان الخيال جزءًا من ممارسة ثقافية تتسم بالغنى والتنوع، فإن الحديث عنه لا يجوز أن ينحصر في الإطار الميتافيزيقي وحده، بل ينبغي أن يمتد ليشمل الأطر الاجتماعية والتاريخية التي يُصاغ فيها هذا الخيال، ويُنتج ويُستهلك. ولكن الأهم من ذلك، أن تكون لنا رؤية واعية لمسار تطور الخيال، في ارتباطه بسياقه وتفاعله مع محيطه، لأن مثل هذه الرؤية تمكّننا من تأمل طبيعة الخيال من موضع أكثر إدراكًا، نعي منه الأسئلة التي نطرحها ولماذا نطرحها. عندئذٍ نستطيع أن نكون أكثر وضوحًا في فهم ما هو على المحك حين نخوض في تنظيرنا حول الخيال، فنرى بجلاء كيف يمكن لهذا الخيال – وكيف كان – أن يُستخدم في النظرية كما في الممارسة.
ولعل ما جرى في لجنة مقاطعة مونتغومري خير شاهد على ذلك، فقد انصب اهتمامها على الأعمال التي رأت في محتواها تهديدًا للصورة الإيجابية للتاريخ الأمريكي، فكان أن حاولت إعادة تصنيف بعض الكتب من "واقعية" إلى "خيالية" لا لشيء إلا لأن مضامينها لم تتفق مع هوى اللجنة. ومن ذلك نستبين كيف أضحى الخيال أداة يُستخدم بها وعليها، لا لضبط المعاني فحسب، بل لإدارة الصورة الذهنية التي يريد القائمون على الأمر فرضها على الجمهور. وليس ما قامت به لجنة تكساس سوى مثال بالغ الوضوح على هذا التوظيف للخيال، وإن لم يكن بدعًا في بابه، فقد سبقته إليه أساليب أخرى كانت أكثر خفاءً، وإن لم تكن أقل تأثيرًا.
وما تشير إليه الممارسات الحالية والتاريخية، فضلًا عن النظريات التي تدعمها، هو أن الخيال ليس مفهومًا عالميًا تنطبق عليه حدود التعريف الواحد في جميع الثقافات. قد يكون صحيحًا أن البشر جميعًا يروون قصصًا من بنات أفكارهم، لكن هذا لا يعني أن للخيال تعريفًا ثابتًا يصلح لكل بيئة ثقافية. فالخيال، في جوهره، مصطلح مُحمّل بدلالات ثقافية، ولا يخلو من تبعات ميتافيزيقية تفصله عن أنماط الكتابة الأخرى.
ومن هنا، فالأجدر بنا أن نعدل عن التساؤل التقليدي عن ماهية الخيال، ذلك التساؤل الذي يحاول تعريفه في معزل عن التاريخ أو المنطق، وأن نسأل بدلًا من ذلك عن الوظيفة التي نريد للخيال أن يؤديها. فالأسئلة التي نطرحها عن الخيال تنبع من أصول فكرية يمكن تتبعها، فإذا كنا نصرّ على ضرورة وضع تعريف جامع مانع للخيال، فمن الخير أن نتساءل عن الغاية من ذلك: ما هي نظرية الخيال التي نحتاج إليها لمواجهة الإشكالات التي يطرحها واقعنا الراهن؟
إن متابعة الاستخدامات الحديثة للخيال، ولا سيما في الإعلام الناطق بالإنجليزية في القرن الحادي والعشرين، تبين لنا أن استدعاء مفهوم الخيال أضحى وسيلة لتفنيد الادعاءات دون الحاجة إلى تكبد كلفة اجتماعية. فخشيةً من الملاحقة القانونية بدعوى التشهير، تحرص الأفلام والمسلسلات على التنويه بأن أحداثها محض خيال، ولكن في مواضع أخرى، يُستخدم مصطلح "الخيال" بمعنى أقرب إلى "الإشاعة"، أي أنه توصيف لادعاء لا يمكن إثباته، ومن ثم يمكن رده دون تمحيص. وإذا كنا نسأل عن طبيعة الخيال، فحقيق بنا أن نفعل ذلك بقصد الوصول إلى فهم لا يسمح لمن يريدون التلاعب بالحقيقة أن يكذبوا ثم يفروا من العواقب بدعوى أنهم كانوا "يخلقون خيالًا"، ولا يتيح لمن يريد إسقاط مزاعم الآخرين أن يصفها بالخيال كما لو كان في يده الحكم القاطع، أو كما لو كان الخيال نفسه يمكن أن يُسوّق على أنه حقيقة دون أن يترتب على ذلك تبعات.
غير أن من أخص خصائص الخيال – وأعجبها وأعلاها قيمة – أنه يفتح بين "الصحيح" و"الزائف"، وبين "الحقيقي" و"المتخيل"، فسحة لا تخضع لهذه الثنائية الصارمة التي اعتاد الناس على التعامل بها مع العالم. فالخيال الجيد لا يكتفي بأن يقدم محتوى مدروسًا أو يبني شكله على الابتكار، بل يضفي على نفسه نوعًا من الإحالة الذاتية التي تجعل القارئ يتردد بين أن يقبله على أنه واقع أو أن ينفي عنه ذلك. فهل يُعقل أن يكون للخيال عملٌ خاص يمكن أن ننتظره منه، بحيث نعيد النظر في طبيعته ووظيفته في ضوء ذلك؟
ولئن كان الفصل بين الخيال والواقع تمييزًا جديرًا بالحفظ، فإن فلاسفة الخيال لا يزالون يواجهون تحديات جسامًا في مسعاهم لتحديد ملامحه ورسم حدوده. وما دام الأمر كذلك، فإن البحث في هذا الميدان لن يتوقف، لأن طبيعة الخيال ليست مجرد مسألة أكاديمية، وإنما هي قضية تتصل بصلب الممارسة الثقافية، وتمس جوانب متعددة من الإدراك الإنساني والتفاعل الاجتماعي.
مترجم بتصرف من Aeon بقلم Hannah H Kim
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي