الدولة في أفريقيا هي دولة استعمارية
عند تحليل الاقتصادات القومية، يعتمد العديد من الاقتصاديين بشكل أساسي على مفهوم الدولة كوحدة أساسية من أسس التحليل. ولكن، في الكتب الدراسية الاقتصادية، غالبًا ما يتم التعامل مع الدولة على أنها جهة خارجية محايدة، لا تتأثر بالعمليات الاقتصادية الفاعلة، وكأنها كيان واحد غير متغير في كل مكان. هذا التصور ينبع من رؤية أوروبية مركزية للدولة، تفترض أن جميع الدول هي دول قومية وستفالية خالدة، تستند إلى مبادئ عصر التنوير. غير أن هذا المفهوم مضلل، فالدول ليست كيانًا محايدًا، بل هي نتاج سيرورات تاريخية عميقة. لذلك، من الضروري إعادة التفكير في تحليلات "مفهوم الدولة" في الاقتصاد – سواء فيما يخص التحليلات القطرية، أو البيانات القطرية، أو تقييمات "الأسس الاقتصادية الكلية" – من خلال أخذ التعقيدات الفريدة للدولة في أفريقيا بعين الاعتبار. في هذا المقال، سأوضح كيف نشأت الدولة الأفريقية كمشروع استعماري وما هي التداعيات المترتبة على تصويرها بشكل خاطئ على أنها دولة محايدة.
دولة لا مثيل لها
غالبًا ما يتم تصوير الدولة في أفريقيا بشكل غير دقيق على أنها مؤسسة محايدة لا تتأثر بتاريخ إشكالي، بينما في الحقيقة، التاريخ الذي يكتنف نشوء الدولة الأفريقية يؤثر بشكل جوهري على حاضرها. فالدولة، في أبسط تعريف لها، هي مؤسسة سياسية تُنشأ لإقامة الأمن والنظام في نطاق حدودها الجغرافية. لكن في الاقتصاد، يتم التعامل مع الدولة وكأنها نموذج موحد قابل للتطبيق في كل مكان، على غرار أوروبا وآسيا والأمريكيتين. وهذا التصور الخاطئ عن الدولة فى افريقيا يجعلها تبدو وكأنها تطمح إلى محاكاة الدول الغربية، خاصة الأوروبية والأمريكية.
الأكثر من ذلك، أن الدولة فى افريقيا غالبًا ما يتم تقييمها ومقارنتها استنادًا إلى معايير الدول الغربية، وهو تصور مضلل وغير دقيق تاريخيًا. فالدولة فى افريقيا مختلفة تمامًا، فهي وليدة الغزو الاستعماري والإبادة الجماعية والثقافية، وأيضاً العبودية. وقد أُنشئت لدعم هذه العمليات ولا تزال تلعب دورًا في تنفيذها، باستخدام العنف كأداة رئيسية. المستعمرون لم يهدفوا فقط إلى استغلال الأسواق والمواد الخام، بل سعوا أيضًا إلى إزاحة الأنظمة المعرفية المحلية وتهميش الشعوب المستعمرة، وفي هذه العملية، أصبحت الدول الاستعمارية هي مركز إنتاج المعرفة والإنسانية. وهذه الهيمنة هي أصل تفوق النموذج الليبرالي في تحليل الاقتصاد الأفريقي.
تأريخ الدولة في أفريقيا
الدولة في أفريقيا ليست إفريقية في جذورها، بل هي نتاج الاستعمار الأوروبي، وقد تم تصميمها لخدمة المصالح الاستعمارية التي لا تزال تحافظ على أهدافها حتى اليوم. النموذج الحديث للدولة في أفريقيا لم ينشأ في عام 1648 عند توقيع معاهدة وستفاليا، بل يرجع تاريخه إلى 2 يناير 1492 مع انتهاء حرب الاسترداد. كانت تلك الحرب سلسلة من الصراعات وعمليات الإبادة الجماعية وإبادة المعرفة التي ارتكبها التاج الإسباني في شبه الجزيرة الإيبيرية ضد المسلمين واليهود الأفارقة، والنساء. امتدت تلك الحروب من عام 781 حتى سقوط مملكة غرناطة النصرية في 1492. والنتائج المتشعبة لحرب الاسترداد، التي أسست المركز والمحيط، أصبحت الطريقة الرئيسية التي تم بها تنظيم الدول والاعتراف بها في النظام الدولي. هذا النموذج للدولة تم فرضه بالقوة على أفريقيا كجزء من العمليات الاستعمارية، محملًا معها المشكلات التي فشلت أوروبا في حلها، خاصة مسألة الأقليات.
على مدار التاريخ، كانت الدولة -أو بالأحرى النموذج الغربي للدولة- هي النموذج الوحيد المقبول عالمياً لإدارة الحياة السياسية وتنظيمها. وقد تم تكريس هذا النموذج خلال معاهدة وستفاليا عام 1648. ولكن علينا أن ندرك أن معاهدة وستفاليا لم تكن بداية ولادة الدولة الحديثة بقدر ما كانت عملية لتعزيز فكرة الدولة من خلال ترسيخ مفهوم السيادة. ومع ذلك، بالنسبة لأفريقيا، الأهمية الكبرى لتلك المعاهدة تكمن في كونها اللحظة التي تم فيها انتزاع السيادة من الشعوب وتحويلها إلى أداة في أيدي الدولة الاستعمارية. هذا أدى إلى بداية الاستعمار الرسمي لأفريقيا والعالم الجنوبي، والذي تجسد في وصول 500 إنجليزي إلى جزيرة رونوك في عام 1584، وتأسيس أول مستعمرة إنجليزية في الخارج. كان ذلك بمثابة رد فعل من إنجلترا البروتستانتية ضد إسبانيا الكاثوليكية، في إطار الصراع المستمر بينهما ضمن عملية حروب الاسترداد. وقد تسارعت وتيرة الاستعمار مع احتلال جزر البهاما عام 1648، تلاه تأسيس سانت كيتس ونيفيس في عام 1660. المفارقة الكبرى في توقيع معاهدة وستفاليا، التي اعترفت بسيادة الدول الأوروبية، تكمن في أن الأوروبيين قرروا ألا يحاربوا بعضهم البعض بعد الآن، بينما اجتمعوا بعد ذلك بقرون، وفي برلين تحديدًا، للاتفاق على تقسيم أفريقيا واستعمارها، وسلب سيادة شعوبها.
استعمار الأرض والعقول ونظريات المعرفة
عملية الاستعمار في أفريقيا لم تقتصر على احتلال الأرض، بل كانت في جوهرها احتلالًا للعقول. فقد تم تهجير الأنظمة الفكرية والمعرفية الأفريقية واستبدالها بأنظمة غربية، مما ترك القارة الأفريقية وأهلها على أرض معرفية هشة. الأفارقة باتوا متأرجحين في كافة مناحي الحياة؛ معرفيًا، وقانونيًا، ودينيًا، وعقائديًا، واقتصاديًا، وسياسيًا، وأخلاقيًا. هذه الهشاشة التأسيسية هي التي تفسر استمرار قوة الدولة الاستعمارية في أفريقيا حتى ما بعد الاستعمار. ورغم تحقيق الاستقلال السياسي، إلا أن القوميين الذين ورثوا هذه الدولة الاستعمارية استمروا في إدارتها، مع إدخال بعض التغييرات التجميلية التي لم تمس جوهرها.
وهذا يفسر لماذا لا يزال ما يُطلق عليه الاقتصاد الأفريقي اليوم يعتمد بشكل كبير على النموذج الليبرالي الغربي، وكيف أن الأنظمة القانونية الأفريقية لا تزال تستند إلى القانون الروماني الهولندي والقانون العام الإنجليزي. بعبارة أخرى، يعيش الأفارقة في إطار نظري مزدوج: فكر غربي استعماري وفكر أفريقي أصيل. وبسبب هذه الأسس الهشة، تم وصف الدولة في أفريقيا بمصطلحات متعددة، مثل "دول في مرحلة الولادة الدائمة" و"دول فاشلة". ولكن إذا كانت الدول الأفريقية لا تزال في مرحلة الولادة، فمن الذي يعطل نموها؟ وإذا كانت تلك الدول تُوصف بالفشل، فمن الذي خذلها ومن المستفيد؟
الدولة الاستعمارية في أفريقيا
قبل الاستعمار الأوروبي، كانت في أفريقيا أشكال متنوعة من الدول، لكن الاستعمار أزاح كل هذه الهياكل واستبدلها بالنموذج الأوروبي للدولة. هذا النموذج يتميز بأربع سمات رئيسية:
(1) نموذج الحرب،
(2) نموذج الاختلاف،
(3) البقاء للأصلح،
(4) إرادة القوة.
يتمثل نموذج الحرب في التنميط العرقي، وتصنيف البشر إلى أعلى وأدنى، وخلق تسلسلات هرمية للبشر. بالإضافة إلى نموذج نموذج الاختلاف، الذي يضخم الفوارق البشرية ويستغلها، مكنهم ذلك من إنكار إنسانية السود، واستعبادهم، وتسليعهم، وغزوهم واستعمارهم. هذا الإرث العنيف هو ما شكّل الدولة في أفريقيا، ولا تزال حتى يومنا هذا مؤسسة عنيفة إلى حد كبير. الدولة وُلدت من رحم الحرب، وظلت مؤسسة قائمة على إخضاع الآخر المختلف، الذي كان يُعتبر قابلاً للإستعمار وقابلًا للاستغلال. وعندما نالت الدول الأفريقية استقلالها السياسي، لم تختفِ هذه الأهداف، بل بقيت مترسخة في بنية الدولة الأفريقية.
أطرح هنا فرضية أن القوميين الأفارقة قد ضُللوا في معركتهم للسيطرة على الدولة، إذ كانوا يسعون للهيمنة على مؤسسة إشكالية من الأساس، مؤسسة تواصل خدمة أهدافها الأصلية بغض النظر عن من يتولى قيادتها. هذا هو السبب وراء الإخفاق المستمر لأشكال الحكم المختلفة في أفريقيا ما بعد الاستعمار. نرى فشلًا واضحًا في تجارب الانفصال في إريتريا وجنوب السودان، وفشل الملكيات في إي سواتيني والمغرب. كما أنه من الواضح أن الفيدرالية العرقية في إثيوبيا تعاني من إخفاقات كبيرة، شأنها شأن الفيدرالية القبلية في نيجيريا. في دول مثل زيمبابوي، أنغولا، الكاميرون وغينيا، نجد أن بقاء الزعماء في مناصبهم لفترات طويلة لم يُحسّن الوضع، بينما تشهد جنوب أفريقيا، التي كانت تُعد نموذجًا للتنوع العرقي، مستويات غير مسبوقة من البطالة، والفقر، وعدم المساواة. في توغو، ورغم انتقال السلطة من الأب إلى الابن في عائلة إياديما، تستمر البلاد في الغرق في الأزمات بعد 48 عامًا من الحكم. اليوم، هناك سبع دول أفريقية يحكمها مزيج من الأب والابن، أو حتى الأخ. ومن بين هذه الدول بوتسوانا، كينيا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، الغابون، توغو، موريشيوس، وملاوي. هذا النجاح الملحوظ للدولة الاستعمارية في أفريقيا، رغم الانتقادات، يعكس فعالية ما أسس عليه المستعمرون هذه الدول: الحرب، الاختلاف، والبقاء للأصلح، وإرادة القوة.
في الصومال، نجد أن فن الحكم العشائري أدى إلى تفاقم الصراعات، سواء كانت بين الأجيال كما في حالة حركة الشباب، أو بين الحكومة المركزية والحكومات الإقليمية. وحتى التنافس بين الصومال البريطاني، والإيطالي، والفرنسي لا يزال يؤثر على استقرار الدولة. من المؤكد أن الدولة الاستعمارية هي جذر المشكلة في أفريقيا.
صمود الدولة الاستعمارية في أفريقيا
أثناء النضال ضد الاستعمار، كان القوميون يطمحون للسيطرة على الدولة، غير مدركين أنها كانت مؤسسة قمعية وسامة من الأساس. لكن الحركات المناهضة للاستعمار كانت تسعى في جوهرها إلى إعادة تشكيل العالم وفق مفهوم "عدم الهيمنة"، الذي قدمته جيتاشيو. بعبارة أخرى، الهدف كان صناعة عالم جديد يرفض الهيمنة ويعيد توزيع القوة بشكل عادل. في هذا السياق، يبدو الاستقلال الوطني الذي حدث في ظل نظام عالمي هرمي مجرد استمرار لنفس العلاقات الاستعمارية، وهو ما يُطلق عليه "الاستعمار الجديد"، حيث تستمر علاقات القوى غير المتكافئة بين المُستعمِرين السابقين والمُستعَّمرين السابقين أيضاً حتى بعد نهاية الاستعمار الرسمي.
عندما استولى القوميون الأفارقة على الدولة، واجهوا ثلاث خيارات عند الاستقلال:
(1) التخلي تمامًا عن هذا الهيكل الاستعماري وبناء شيء جديد كليًا،
(2) العودة إلى النماذج التقليدية لأشكال الدولة ما قبل الاستعمار مع بعض التعديلات،
(3) الاستمرار في إدارة النموذج الاستعماري للدولة على أمل تغييره تدريجيًا.
اختارت معظم الحكومات الأفريقية ما بعد الاستعمار الخيار الثالث. وكما يُظهر التاريخ، فإن المشكلات المستمرة التي تعاني منها أفريقيا هي نتيجة مباشرة لفشل المشروع القومي في تحويل الدولة الاستعمارية إلى أداة وطنية. هذا الصراع المستمر يعكس نضال القوميين من أجل تحقيق التوازن بين السيادة الوطنية والضغوط العالمية، وفقًا لما وصفه جيتاشيو.
الآثار المترتبة على المؤسسات خارج الدولة
بعد فرض النموذج الاستعماري للدولة على أفريقيا والمستعمرات الأخرى، تم تصدير مجموعة من المؤسسات الكبرى التي لا تزال تؤثر بشكل عميق على تلك الدول. من هذه المؤسسات:
(1) الاقتصاد العالمي الرأسمالي،
(2) نظام سيادة الدولة المرتبط بالأمم المتحدة بعد عام 1945،
(3) هيمنة الثقافة الأوروبية-الأمريكية الشمالية واللغات الأوروبية،
(4) النظام الأخلاقي المتمركز حول أوروبا وأمريكا الشمالية والذي يغلب عليه الفكر المسيحي،
(5) النظام القانوني الأوروبي الذي يتخذ من القانون الروماني الهولندي أساسًا له، خاصة في أمريكا الشمالية.
هذه المؤسسات تواصل ترسيخ الهيمنة الغربية وتعزز نموذج الدولة الذي فرضه الاستعمار على المجتمعات الأفريقية. و هناك أسباب عديدة تفسر فشل الدولة في أفريقيا. من أبرزها التباين الكبير بين الدول المكونة للولاية الأفريقية الحديثة، والتي تتوزع على ولايات مختلفة بفعل الحدود الاستعمارية المصطنعة. وفي هذا السياق، تجد العديد من الجماعات العرقية والإثنية نفسها منتشرة عبر أكثر من دولة، وقد اعترضوا على فرض االحدود بقولهم "الحدود وجدتنا هنا"، وهو ما يزيد من تعقيد عملية بناء الدولة وبناء الأمة.
بجانب هذه العوائق، فإن الدولة الأفريقية ما بعد الاستعمار لا تزال متمركزة بشكل كبير حول النموذج الغربي، سواء على المستوى البنيوي أو المعرفي أو العملي. المؤسسات الرئيسية للدولة، مثل السلطة القضائية، بقيت دون تغيير هيكلي كبير، مع الحفاظ على المنطق القانوني والفقه الذي ورثته من النظام الاستعماري.
من الناحية الاقتصادية، تظل الدول الأفريقية ما بعد الاستعمار اقتصادية استخراجية ومنفتحة على الهيمنة الخارجية، والأهم من ذلك، لا تزال تعاني من توجهات معادية للسود. فبدلاً من أن تكون الدولة وسيلة لمعالجة المظالم التاريخية مثل تجارة الرقيق، والاستعمار، والفصل العنصري، نجد أن الدولة تعمل في الغالب على إدامة الوضع القائم.
نأخذ هنا مثالًا بارزًا من جنوب أفريقيا، حيث يتضمن الدستور، وتحديدًا في الفصل 25، قضية الملكية الخاصة التي أثارت الكثير من الجدل. هذا الفصل هو الأطول في الدستور وقد استغرق التفاوض بشأنه أطول وقت. هذه القضية سمحت فعليًا للمستفيدين من الفصل العنصري بالحفاظ على ثرواتهم التي تحصّلوا عليها بطرق غير مشروعة، بينما بقي الضحايا غارقين في فقرهم.
بهذه الطريقة، عملت الدولة والدستور جنبًا إلى جنب على شرعنة وتبرئة الجرائم التي ارتكبها النظام الاستعماري ونظام الفصل العنصري، خاصة ما يتعلق بسرقة الأراضي. فقد ضمنا، بشكل فعّال، استمرار البنية الاستعمارية والفصل العنصري في النظام الديمقراطي الجديد المفترض، مما جعل التغيير الفعلي في موازين القوى الاقتصادية والسياسية مجرد وهم.
مترجم من developingeconomics بقلم Everisto Benyera