بعد اللاعنف : نهاية المقاومة السلمية فى فلسطين
لماذا اضطر الفلسطينون إلى إتخاذ طريق السلاح فى مقاومتهم ؟
لقد طال غيابي عن الضفة الغربية، حتى كاد أن يطويها النسيان في ذاكرتي. ستّ سنوات مرّت منذ زرتها آخر مرة، وعشر سنوات منذ أن كنت من المقيمين فيها. وفي غيبتي، تغيّرت أشياء كثيرة، حتى رام الله، التي عرفتها ذات يوم بلدة هادئة صغيرة الملامح، صارت اليوم مدينة بالمعنى الكامل للكلمة. نشأت فيها أحياء جديدة، وازدحمت شوارعها بالناس والمركبات، واكتست واجهات المحال بالزجاج اللامع وبضائع مستوردة من خلف البحار: قهوة "كابتشينو"، ومعجّنات فرنسية كـ"كرواسان"، ونظارات شمسية بتوقيع مصمّمين عالميين، وسترات ثقيلة من ماركة "نورث فيس"، وأحذية من نوع "تيمبرلاند". حتى متجر الحلوى الذي يحمل اسمًا أجنبيًا فخمًا "كرامبز" بدا لي كأنه نكتة صامتة، تهمس بأن هذه النخبة الفلسطينية اكتفت من أحلام التحرير بالسكر الغربي والتغليف الأنيق.
في أيامي الأولى من العودة، اعتراني الارتباك. فالخريطة الذهنية التي كنت أحتفظ بها عن المدينة لم تعد تنطبق على ما رأيت، وكأن الطرق ذاتها قد التفّت وتشابكت، وانقلبت عليّ. لم يكن التغيير في ظهور الجديد فحسب، بل في اختفاء القديم. أمور كثيرة كنت أعرفها لم أعد أذكرها، وأماكن كانت مألوفة أصبحت بلا ملامح، وكأن ذاكرتي هي التي خذلتني، لا المدينة.
جئت إلى الضفة الغربية في تلك اللحظات التي سمح فيها العالم لنا بأن نحلم. كنّا نعتقد أن حتى أعظم الأنظمة قد تهتز حين يخرج الناس إلى الشوارع بلا سلاح، مطالبين بحياة كريمة خالية من الإذلال. لكنها كانت لحظة قصيرة، تبخرت بسرعة، وبقيت في جسد الحركة الاجتماعية رمقٌ أخير، يحتضر في الظلال، بينما نبتت أدوات أخرى للمقاومة: عمليات طعن فردية، ودهس متعمّد، وردود انتقامية من المحتل. ففي عام 2015، بعد العدوان على غزة، ارتفعت حوادث الدهس إلى ستة أضعاف. وعلى مدى سبع سنوات تالية، تضاعف عنف المستوطنين تسع مرّات. وفي عام 2021، بدأ عدد الشهداء على أيدي جنود الاحتلال في التزايد، حتى بلغ ذروته في السابع من أكتوبر 2023، حيث عادت المجموعات المسلحة إلى الظهور في شمال مدن الضفة الغربية.
وبينما الأرض تمضي في مدارها الطبيعي، فإن الزمن في فلسطين يبدو كأنه يدور في حلقة لا تنكسر: سنوات طويلة من الخذلان والصمت، تتبعها أيام من الغليان والاحتجاج، توهمك بأن التغيير وشيك، ثم ما تلبث أن تعود إلى صمت أثقل من سابقه. صار هذا التكرار نفسه نوعًا من القسوة، وجعلني أشعر أن من أحببتهم قد بدأوا يختفون واحدًا تلو الآخر: من رحل عن البلاد، ومن مات، ومن اعتُقل، ومن انطفأ صوته في صمت لا يراه من لم يعرف وجع الاختفاء. صارت هذه الغيابات حاضرة رغم غيابها، تثقل النص وتمنحه عمقًا لا يحتاج إلى شرح، كأنها تصرخ من خلف الجدران ثم تسكت، لا من تعب الصوت، بل من تعب القلب.
وما أقسى أن تفكر في هذا السكون، ليس لأنه يخلو من الضجيج، بل لأنه كُتب على أرواحٍ كانت حيّة تفيض بالحضور والجرأة، فإذا بها تختار الصمت، لا استسلامًا، بل حمايةً من خوف لم تعرفه من قبل. أتحدّث عن أصدقاء، عن رجال ونساء راهنوا على الكلمة وعلى الظهور، فإذا بي لا أجرؤ على ذكر أسمائهم أو حكاياتهم، خشية أن يكون في ذلك ما يؤذيهم. غير أن هذا الصمت، من بعيد، كان أعلى صوت سمعته في الضفة. أعلى من صرير الريح بين الحقول، ومن هدير السيارات عند الحواجز العسكرية، ومن طنين الطائرات فوق المخيمات، ومن انفجارات القذائف في سماء غزة وجنوب لبنان.
وكان الخريف قد تأخّر هذا العام، فلم تهطل الأمطار كما ينبغي، وبدا لون التلال، خارج نافذة سيارة الأجرة التي أقلّتني نحو مخيم عايدة، بنيًّا باهتًا، يميل إلى الرمادي، خاليًا من الزرع، جافًّا كأن الأرض قد عزفت عن الحياة. وصلت رام الله قبل يومين، وها أنا الآن في طريقي إلى أطراف بيت لحم، إلى المخيم العتيق الذي يحاصره جدار خرساني شاهق يبلغ طوله ستة وعشرين قدمًا، يعزله عن القدس كما يُعزل القلب عن نبضه.
قليلون من النشطاء الذين أعرفهم، ممّن اعتُقلوا بعد السابع من أكتوبر، وافقوا على الحديث. لكن منذر عميرة قبل، وهو رجل عرفته في السابق، كان دائم الحضور في المظاهرات، صامتًا في زمنٍ تعجّ فيه الأصوات، وله في الميدان أثر لا يُخطئه من عرف دروب الضفة. واليوم، وهو في الرابعة والخمسين من عمره، عريض المنكبين، كثّ اللحية، استقبلني عند ظل الجدار، عند النقطة التي تفصل المخيم عن باقي العالم.
جلسنا على كراسٍ بلاستيكية، لا يظلّلها سقف، فيما كانت شمس الظهيرة تسكب وهجها على فناء منزله. ساد بيننا صمتٌ هادئ، فيه شيء من الطمأنينة، حتى هرول حفيده نحوه بضحكٍ طفولي، وقفز إلى حجره، قبّله على وجهه، ثم صاح بصيحة فرح وانطلق من حيث أتى. كان منذر عميرة، ككثير من أبناء جيله من النشطاء، قد ذاق السجن وهو لا يزال فتىً في سنوات شبابه الأولى، إبّان الانتفاضة الأولى. وحين بدأت إسرائيل، في بدايات الألفية الجديدة، ببناء الجدار العازل خلال الانتفاضة الثانية، شرع هو وأهل مخيم عايدة يخططون ويُعدّون ويستنفرون، ويستقبلون المتضامنين الأجانب لمشاركتهم في المظاهرات. قال ببساطة: «كنا ندعوهم ليحمونا». استلهموا هذا النهج من قرى في الشمال، قطعها الجدار عن أراضيها وبساتينها وأقاربها.
وفيما لجأ آخرون إلى الرد عبر العمليات المسلحة، أخذت فكرة "المقاومة الشعبية" تشق طريقها في الوعي الفلسطيني، شيئًا فشيئًا، كطريق بديل. غير أن المقاومة السلمية، في فهم عميرة، لم تكن مجرد احتجاج بالحجارة، بل كانت تنظيمًا محكمًا، وتعاونًا بين الناس، وبناء شبكات دعم تسمح للحياة أن تستمر في ظل بطشٍ يومي لا يعرف الرحمة. قال: «أعلنا أنفسنا كحركة سلمية»، أي كحراك مدني علني يُظهر الحق ولا يلجأ إلى السلاح.
ورغم أن جذور هذا النوع من المقاومة تعود إلى أكثر من قرن، فإن الفارق بين الكفاح المسلح والسلمي لم يصبح واضحًا في نظر الدول الغربية إلا حين صارت إسرائيل شريكًا للولايات المتحدة في حربها على ما أسموه "الإرهاب". وكانت الفكرة بسيطة ومباشرة: أن تقف، أن ترفض مصيرك القسري، وأن توقظ بشجاعتك الآخرين ليقفوا بدورهم. هكذا كانت انتفاضة 1936، وهكذا كانت نهاية الثمانينيات، وحتى بدايات انتفاضة 2000. لكن حين طالت الانتفاضة الثانية وارتفع ثمنها البشري، استعادت المقاومة السلمية جاذبيتها القديمة.
كان ميزان القوى يميل لإسرائيل من حيث التسليح، لكن الفلسطينيين راهنوا – على الأقل نظريًّا – على أن السلمية قد تخلخل هذا الميزان. فصور المتظاهرين العُزّل، الذين كانوا يختنقون بالغاز أو يسقطون برصاص القناصة، كانت تنتقل من شاشة إلى أخرى، تكشف الوجه الحقيقي للعدوان. وكانت هذه هي الخطة: أن يدفع هذا العنف المجرّد الضمير العالمي إلى اتخاذ موقف. فإسرائيل تعتمد اعتمادًا لا غنى عنه على المساعدات الغربية، خصوصًا من الولايات المتحدة وأوروبا. وكان هذا هو رهانهم الأخلاقي والسياسي.
ظلّ مخيم عايدة، على مدار عشرين عامًا، رمزًا لهذا النهج. فُتحت بيوت سكانه أمام الأجانب المتضامنين، وسرعان ما انتقلت قصص المعاناة عبر الوسائط إلى العالم كله: قصص عن اقتحامات منتصف الليل، عن شباب يُنتزعون من أسِرّتهم، وعن غازات لا تنقطع. وفي 2017، سُجّل المخيم على أنه أكثر منطقة في العالم تعرضًا للغاز المسيل للدموع. لكن بعد السابع من أكتوبر، قال عميرة إن المظاهرات توقفت تمامًا، إذ بدأت السلطات الإسرائيلية، منذ اللحظة الأولى، بمطاردة النشطاء واعتقالهم.
وفي ديسمبر، اقتحم الجنود منزل والدته بحثًا عنه، فضربوا شقيقه حتى فقد وعيه، ثم توجهوا إلى منزله هو. كسروا الباب، كبّلوه هو وابنيه، وانهالوا عليه بالضرب على ساقيه بأعقاب البنادق. ثم اقتادوه إلى مركبة عسكرية، نقلوه من سجن إلى آخر، واستمر الضرب طوال ثلاثة أشهر، يتكرر بشكل متقطع.
لم تُوجه إليه تهمة واحدة. كانت "جريمته"، كما فهمها، أنه نشر بيتًا شعريًا لنزار قباني على صفحته على "فيسبوك":
«يا مجانين غزة، إن عصر العقل السياسي ولى من زمان، فعلمونا الجنونا».
واحتُجز تحت ما يُعرف بـ"الاعتقال الإداري"، وهو إجراء قانوني يسمح للسلطات الإسرائيلية باعتقال الفلسطينيين دون تهمة واضحة، ولفترات متكررة، دون محاكمة أو استئناف. ومنذ السابع من أكتوبر، غدا التعذيب الجسدي والجنسي في السجون أمرًا ممنهجًا. وفي أغسطس، نشرت منظمة "بتسيلم" الحقوقية تقريرًا وصف تلك السجون بأنها تحولت إلى "شبكة من معسكرات التعذيب". وقد قضى عشرات المعتقلين نحبهم أثناء الاحتجاز.
نعم، كانت الظروف التي لاقاها عميرة في سجنه هذه المرة أسوأ بكثير من كل ما مرّ به من قبل. زُعزعت نوافذ الزنازين حتى صارت مفتوحة في وجه البرد، مكتظة خانقة لا تُطاق. أما الضرب، فكان روتينًا يوميًّا. وروى لحظة لم تبارح ذاكرته: الحراس راحوا يكدّسون المعتقلين بعضهم فوق بعض، ثم اقترب منه أحدهم، يحمل عصًا طويلة، وأخذ يمررها على جسده، حتى استقرت بين فخذيه، يعبث بها، ثم هوى بها عليه، كما قال: "بوم!" كانت الضربة على شعرةٍ من أن تسحق خصيتيه.
في الزنزانة المجاورة، كان هناك معتقلون من قطاع غزة. وكان صراخهم يخترق الجدران ويصل إلى أذني عميرة، إذ إن تعذيبهم لم يكن ينقطع، لا ليلًا ولا نهارًا. وفي أحد الأيام، اقترب طائر صغير من نافذته الضيقة، وحطّ على عتبتها، فتوسل إليه عميرة، بلهجة المشتاق، ألا يطير، أن يبقى معه لحظات، يسلّيه ويؤنسه، كأنه يحدّثه. لكن الطائر طار. أما الطعام، فكان بالكاد يُؤكل، شحيحًا إلى درجة أن جسده فقد أكثر من سبعين رطلًا (أي نحو ثلاثين كيلوغرامًا)، وبدأ يتبول دمًا من شدة الإنهاك ونقص التغذية. قال بصوته المنهك: "كنت قريبًا جدًا من الموت". وبعد عشرة أسابيع ونصف، أُفرج عنه دون أن يُعرَف السبب أو التهمة.
غير أن عميرة لم يكن وحده في هذا المصير. فالنشطاء الذين عرفناهم، أنا وهو، والذين قضوا أعوامًا طويلة في سجون الاحتلال، تحطّموا من جديد، ولكن هذه المرة داخل الزنازين التي تلت السابع من أكتوبر. قال إن بعض أصدقائه، ممّن كانت لهم مواقف وصلابة معروفة، صاروا يلازمون بيوتهم، لا يغادرونها، ويتجنبون المرور من الطرقات التي فيها نقاط تفتيش. بل إنهم قالوا له إنه "مجنون" لأنه لا يزال يخرج إلى الشارع، يواجه، ويعرض نفسه للخطر. لكنه، كما قال، لم يحتمل فكرة البقاء مختبئًا.
وفي صباح اليوم التالي، صحبني عميرة في رحلة إلى الشمال، في مركبته القديمة، عبر شوارع رام الله. كنا متجهين إلى قرية بورين، التي تبعد نحو ثلاثين ميلًا، لنشارك المزارعين في قطف الزيتون. كان عميرة صامتًا طوال الطريق، متجهم الوجه، متوترًا على نحو واضح، حتى بلغنا مقطعًا من الطريق رقم 60، وهو طريق استيطاني تمرّ بجانبيه بؤر المستوطنين. هناك، أشار بإصبعه وهو يعدّد ما فُقِد.
قال مشيرًا إلى قرية "سينجل": "هنا، يريدون بناء جدار يعزل القرية تمامًا". كانت القوات الإسرائيلية تصادر الأراضي شيئًا فشيئًا، تبني ما تسميه "مناطق عازلة" تفصل بين المستوطنات والقرى الفلسطينية، فتجعل الأرض كأنها رقع مقطّعة، وكل قرية منعزلة عن الأخرى، أشبه بجزر مفصولة عن البحر. ثم أشار إلى "ترمس عيا": "هنا، أحرق المستوطنون أكثر من عشرين بيتًا، وقتلوا شابًا".
لكنه حين مررنا ببلدة "لبن الشرقية"، ابتسم قليلًا وقال: "هنا كنا أمام قصة نجاح". كانت قوات الاحتلال تمنع طلاب المدارس من استخدام الطريق الرئيسي المؤدي إلى مدارسهم، فبدأ هو ونشطاء آخرون بمرافقتهم، في مجموعات صغيرة، كل صباح. قال: "هاجمنا الجيش مرات كثيرة، لكننا في النهاية انتصرنا". توقفت المضايقات. وكان ذلك قبل ثلاث سنوات. ثم أضاف بنبرة يملؤها الأسى، كأنه يعتذر: "قصص النجاح مثل هذه قليلة جدًا".
ثم مررنا على بلدة "بيتا". قال إن ثمانية عشر شخصًا من أهلها قُتلوا على يد الجنود منذ عام 2021، وكان آخرهم فتاة شابة تحمل الجنسية الأمريكية وتُدعى آيسنور إيغي. وبيتا واحدة من قريتين فقط لا تزالان تنظمان احتجاجات أسبوعية بانتظام. لكن عميرة قال لي جملة لم أنسها: "الحركة ليست فقط أن تذهب إلى مظاهرة". ثم أوضح: "إنها، قبل ذلك، أن تساعد الناس على البقاء". هذه، في الوقت الحاضر، هي كل ما تبقّى. ولهذا كنا متوجهين إلى بورين: لنقف إلى جانب الفلاحين في موسم الزيتون، إذا ما قرر المستوطنون أو الجنود أن يهاجموهم.
كنت قد زرت بورين منذ سنوات. ما زلت أذكر خضرتها الكثيفة التي كانت تتخلل أزقتها الضيقة المرصوفة بالحجارة القديمة. أما اليوم، فقد اكتست التلال والحقول بلون التراب اليابس، كأن الحياة تسللت منها. أوقفنا مركبة عميرة على أطراف القرية، ثم صعدنا جميعًا إلى عربة قديمة من طراز "سوزوكي ساموراي"، تتأرجح بنا يمنةً ويسرةً، يقودها رجل قوي البنية اسمه نمر عيسى. اتجهنا في طريق ترابي شديد الانحدار نحو بساتين الزيتون.
كان ينبغي لذلك الصباح أن يكون صباحًا ريفيًّا هادئًا، فموسم قطف الزيتون من أكثر الطقوس ارتباطًا بالهوية الفلسطينية. عادةً ما يكون مناسبة فرح، يعود فيها أهل المدن إلى قراهم، فتتجمع العائلات حول الأشجار. لكن صباحنا ذلك لم يكن فيه شيء من الفرح. لم يكن في المكان إلا عيسى، وابنه المراهق، صلب الجسد، صامت النظرات، ومعهما سبعة نشطاء: ثلاث إسرائيليين، وأربع فتيات من المكسيك، وإيطاليا، والولايات المتحدة. كانوا يعملون في صمت، بحركات خبيرة، يشدّون الأغصان بأكفهم، يقطفون حبّات الزيتون الخضراء والبنفسجية، ويلقونها على الشِباك القماشية الممتدة تحت الأشجار.
أما عميرة، فقد ترجل من العربة، تناول مشطًا بلاستيكيًّا بسيطًا، انحنى إلى الأرض، وبدأ بالعمل.
نعم، كنت أعرف أحد أولئك الإسرائيليين جيدًا: إنه جوناثان بولاك، الناشط الذي لا يتعب ولا يهدأ، والذي ذاق طعم السجون مرارًا خلال مشاركته في مظاهرات الضفة الغربية. جاء، كعادته، في ثياب سوداء باهتة، كأن الزمن أكل لونها. أشار بإصبعه إلى التل الذي يعلونا من جهة الشمال، على مسافة لا تزيد عن مئتي متر، وقال بصوت بالكاد يُسمع: "نحن الآن أسفل يتسهار مباشرة. انظر، يمكنك أن ترى البيوت هناك."
ومن بين ما يزيد على 370 مستوطنة ونقطة استيطانية إسرائيلية في الضفة الغربية، كانت مستوطنة "يتسهار" واحدة من أكثرها عنفًا ودموية. فقد أقدم مستوطنوها على إحراق بساتين الزيتون، وإشعال النيران في السيارات والمنازل والمساجد الفلسطينية، واقتحموا القرى في هجمات دامية، حتى أن بعض المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم وصفوا هذه الأفعال بأنها أشبه بالمذابح. ولم يكن جنود الاحتلال غائبين عمّا يجري، بل كانوا في كثير من الأحيان شهودًا صامتين، لا يتدخلون إلا لحماية المستوطنين.
ومن بين هؤلاء المستوطنين، كان هناك رجل يُدعى يعقوب، ويُعرف أيضًا باسم "يتسحاق ليفي فيلانت"، وهو منسق الأمن في يتسهار. وقد فُرضت عليه عقوبات من قِبَل إدارة بايدن، العام الماضي، مع ستة عشر مستوطنًا آخر. وكان هذا يعقوب قد وجّه مسدسه نحو رأس المزارع الفلسطيني نمر عيسى، في آخر محاولة له للوصول إلى أشجار الزيتون الخاصة به، وقال له بلهجة تهديد قاطع: "سأقتلك إن عدت."
كانت الأرض بين الأشجار تغصّ بالأشواك، إذ إن موجة العنف التي اجتاحت الضفة بعد السابع من أكتوبر دفعت كثيرًا من الفلسطينيين إلى هجران أراضيهم، خشية التعرض لهجمات أو اعتقال. قال لي الناشط الإسرائيلي بولاك: "لم يكن هناك حصاد أصلًا في الموسم الماضي، لذا لم يكن فاشلًا فقط، بل غائبًا." ولهذا السبب جاء هو ومجموعة من النشطاء إلى هذا المكان؛ حتى لا يتحوّل الإهمال إلى عادة، وحتى لا يغدو قطف الزيتون ذكرى أليمة تضاف إلى سلسلة طويلة من الخسائر الفلسطينية.
كان عميرة قد غادر التلّ مع بولاك لملاقاة ناشط آخر، عندما ظهر الجنود فجأة. فهرب ابن عيسى مسرعًا، حاملاً أغلب ما جُمع من الزيتون. أما أنا، فقد استطعت أن أرتدي سترتي الواقية التي كتب عليها "صحافة" قبل أن يلاحظونا. ظهر في البداية ثلاثة جنود، على الأرجح من الاحتياط، في الثلاثينيات أو الأربعينيات من أعمارهم، لحاهم غير مرتبة، في آذان بعضهم ثقوب، وبنادقهم متدلية على أكتافهم بلا كثير من الانضباط.
صرخ أحدهم، بالعربية، في وجه نمر عيسى، يأمره بالنزول من الشجرة: "ممنوع!" لكن عيسى تجاهله، وواصل قطف الزيتون، كأنما لم يسمع. راح جندي ممتلئ الجسد، جامد الملامح، يُصوّر الموجودين بهاتفه، بينما بادرت الناشطات الأجنبيات — من بينهنّ إيطاليات — إلى تصويره بدورهن. أما الجندي الثالث، وكان اسمه "ماتان"، فقد اقترب مني، وقال إن المنطقة مغلقة بأمر عسكري، وإن ما يقوم به عيسى من قطف الزيتون على أرضه يُعدّ "استفزازًا".
سألني من أين أنا.
قلت له: "من أمريكا."
قال: "أوه، جميل."
طلبت منه أن يُريني نسخة من الأمر العسكري الذي يدّعيه، فأجاب: "سيأتي لاحقًا." وأخبرني أنه متمركز في يتسهار "منذ البداية"، أي منذ أكتوبر 2023، ثم أضاف: "نحن هنا للتعامل مع هذا الهراء، لأنهم يستفزوننا."
وسرعان ما عاد بولاك، وقال لنا بهدوء: "لا يوجد أمر عسكري هنا. استمروا في العمل."
فواصلنا العمل. لكن ما إن مضت دقائق حتى ظهر جنديان آخران، ثم تبعهما ثلاثة آخرون، جميعهم يحملون بنادق M4. صاح قائد الوحدة، وكان وجهه مغطى بوشاح أسود: "توقفوا حالًا! اجمعوا أدواتكم وغادروا!" ثم دفع الجنود بولاك وناشطًا إسرائيليًّا مسنًّا أرضًا، وسحبوا نمر عيسى من على الشجرة، وركلوا ساقيه حتى سقط.
اقترب القائد الإسرائيلي مني، ومدّ إليّ هاتفه المحمول، يُريني صورة لوثيقة قال إنها أمر رسمي يمنع وجود المدنيين في هذا التلّ حتى بداية العام الجديد. ولم تمضِ دقائق كثيرة حتى اعتُقل نمر عيسى، وبولاك، وناشط إسرائيلي آخر، وكان لزامًا علينا جميعًا أن نغادر المكان.
جمعنا ما تبقى من ثمار الزيتون، والخيام، والسُّلَّم الخشبي، ثم انسحبنا بهدوء نحو أسفل التل، حيث كان عميرة واقفًا بانتظارنا، تتملّكه رغبة ملحة في التحرك سريعًا.
عدنا في السيارة تحت وطأة صمت ثقيل، لا يقطعه إلا تلك اللافتات الإعلانية التي أخذت تتوالى على جانبي الطريق، تروّج، دون مواربة، لوحدات سكنية جديدة تُبنى في المستوطنات. وكأنها تبشّر بعض الناس بميلاد حياة جديدة، فيما تعلن لآخرين نهاية موطن. وقبيل وصولنا إلى رام الله، تلقّى عميرة رسالة على هاتفه المحمول: لقد أُفرِج عن نمر عيسى والناشط الإسرائيلي، أما بولاك فلا يزال محتجزًا. ولم أسمع أي خبر منه إلا عند حلول المساء، حين أُبلغت أن الجنود أبقوه معصوب العينين، مقيد اليدين، طيلة ست ساعات، داخل إحدى القواعد العسكرية، ثم أطلقوا سراحه في نهاية المطاف. لم يُسجن أحد، لم يُصَب أحد، ولم يُقتل أحد. وكان ذلك، وفق منطق هذا اليوم المليء بالاحتمالات الثقيلة، يُعدّ انتصارًا صغيرًا.
وفي اليوم التالي، استأجرت سيارة وانطلقت بها نحو أقصى جنوب الضفة الغربية، إلى قرية "أم الخير" الصغيرة، التي تقع على تخوم مستوطنة تُدعى "كارمل". وما إن وصلتُ حتى تبيّن لي أن الوضع ازداد سوءًا، كما هي الحال في كل مرة أزورها فيها: مزيد من البيوت قد جُرّف، ومزيد من الأراضي صودرت، فيما كانت مستوطنة "كارمل" تتمدّد تدريجيًا، مثل بقعة زيت تنساب ببطء فوق ثوب أبيض، لا يكاد أحد يوقفها. لكنّ هذه المرة، بدا التغيّر أكثر فداحة، وأكثر قسوة.
وما إن وقعت عين بلال الهذالين عليّ، حتى صاح كمن يحدّث السماء:
"كل شيء يتغيّر، كل شيء إلا الله! ما إن يطلع الصباح حتى ينقلب ليلًا، ويأتي بعده يوم جديد. لا شيء ثابت في هذا العالم سوى التغيّر."
ثم قال لي ابن عمه، معتصم، بنبرة يشوبها الحذر واليأس:
"نحن لا نسير نحو الهاوية، نحن نتدحرج من أعلاها فعلًا. ولم يعد السؤال: هل سنسقط؟ بل: ماذا سيكون بعد السقوط؟"
كنا نجلس حينها على وسائد بسيطة مفروشة فوق أنقاض خيمة من خيام القرية، خيمة من قماش بني خشن، تستند إلى أعمدة من الحديد، قائمة على أرضية من الإسمنت المصبوب. ولأن القرية صغيرة وفقيرة، كانت هذه الخيمة تقوم مقام المجلس الذي يستقبل الزوّار، ومقام الملتقى الذي يجتمع فيه أهل القرية مع الغروب. لكنها لم تكن تبعد عن السياج الفاصل بينها وبين مستوطنة كارمل إلا بضع خطوات. ولهذا كانت أول ما هاجمه الجنود الإسرائيليون حين جاؤوا، بجرافاتهم، يوم السادس والعشرين من يونيو، في عملية سموها هم "إزالة بناء غير مرخص"، بينما سماها عيد، شقيق معتصم، اسمًا أكثر مطابقة للواقع: "مجزرة البيوت الكبرى".
بعد ذلك، قام رجال القرية بما استطاعوا: نظّفوا الركام، وسوّوا الأرض بما تيسّر، حتى كوّنوا فسحة ضيّقة لا تزيد على أربعة أمتار مربعة، جلسوا فيها، يتحدّثون، ويشربون الشاي، حتى تغيب الشمس، فينهضون ليبسطوا سجاجيدهم، ويؤدوا صلاة المغرب في نفس المكان الذي صار، رغم فقره، رمزًا لصمودهم.
وفي صباح اليوم التالي، التقيت بـعيد. كان رجلًا تخطّى عمر الشباب، لكن عزيمته بدت كأنها لا تضعف. قال لي بنبرة صلبة:
"أريد أن أريك كيف يضيّقون علينا."
أخذني إلى أطراف البلدة، وأشار بيده إلى التلال الجرداء الممتدة غربًا، ثم قال: "تلك الأرض اشتراها جدي سنة 1952، بعد النكبة."
والنكبة، كما هو معروف، تشير إلى العام 1948 حين طُرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من أرضهم وأُعلن قيام دولة إسرائيل. لكن، كما قال عيد، فإن كل ما كنا نراه أمامنا الآن بات تحت سيطرة رجل واحد من المستوطنين، يُدعى يساخر مان.
في عام 2021، بنى هذا الرجل حظيرة ماشية في الطرف الجنوبي من مستوطنة كارمل، ومنذ ذلك الحين، أصبحت مئات الدونمات — وهي وحدات قياس تُستخدم في الأرض الزراعية — ممنوعة على الفلسطينيين. قال إن أغنامه تحتاج إلى مساحة للرعي، وهو ما استُخدم ذريعة لمنع السكان الأصليين من الاقتراب من أرضهم. وبعد فترة قصيرة، جاء مستوطن آخر يُدعى شمعون عطية، وكرّر الأمر نفسه في الطرف الشمالي من القرية.
وطوال سنوات زيارتي لأم الخير، كنت أرى هذا التوسّع يحدث على مهل: منزل هنا، حيّ هناك، حتى تحوّل الزحف الاستيطاني التدريجي إلى سياسة واضحة، لا مجال لإنكارها. وكلما قال المستوطنون إنهم يحتاجون الأرض للرعي، كانت سلطاتهم تمنحهم الغطاء القانوني للاستيلاء عليها. وهكذا، بما فعله مان وشمعون خلال بضعة أيام، تحقق ما كان المستوطنون يعملون على تحقيقه منذ عقود. أما قرية أم الخير، فكانت تختفي ببطء، وكأنها تمحى من الوجود، حجرًا بعد حجر، بيتًا بعد بيت.
لم تكن المقاومة في "أم الخير" تُشبه ما يجري في القرى الشمالية، تلك الممتدة على طول الجدار الفاصل، والتي اعتادت على أشكال محددة من التظاهر والاحتجاج. لكنها، وإن اختلفت في الشكل، لم تكن أقل وعيًا أو تنظيمًا. بل لعلها، في جوهرها، كانت التعبير الأصدق عن روح المقاومة الفلسطينية. فقد كان أهل "أم الخير"، كما قال عميرة، متمسكين بأرضهم، لا يغادرونها، ويدعون جيرانهم من القرى الأخرى، والمتعاطفين من الإسرائيليين المناهضين للاحتلال، بالإضافة إلى النشطاء القادمين من بلدان أجنبية، ليقفوا إلى جانبهم.
ولهذه الغاية، اعتاد عيد ــ أحد أبناء القرية ــ السفر إلى العاصمة الأمريكية، واشنطن، مرة بعد مرة. وكان هناك قبل زيارتي بشهر، التقى بمسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية، وبعض أعضاء الكونغرس. كان يدرك تمامًا أن هذه اللقاءات، إلى جانب سنوات طويلة من التنظيم المحلي داخل القرية، هي ما حال دون أن تُمحى "أم الخير" من الخرائط. ومع ذلك، فإن موجات العنف المستمرة، التي يمارسها الجنود والمستوطنون على حد سواء، كانت ــ كما عبّر عيد ــ تخنق أي محاولة للمقاومة السلمية، وتخنق معها روح "أم الخير" نفسها، ببطء، إلى أن تختنق تمامًا.
وفي الأيام التي تلت السابع من أكتوبر، تلاشت تلك الحدود الواهية التي كانت تفصل، ولو نظريًا، بين الدولة الإسرائيلية والمستوطنين المتطرفين. فقد عمدت الحكومة إلى تشكيل ما سمّته "وحدات الدفاع الإقليمية"، وهي مجموعات من المستوطنين الاحتياطيين، لا يكاد المرء يفرّقهم عن الجنود. وفي غضون أسابيع قليلة، نزل بعض هؤلاء إلى "أم الخير"، يرتدون زيّ جيش الاحتلال، وجمعوا رجال القرية، ووجّهوا إليهم تهديدات صريحة تحت تهديد السلاح.
ولم يتوقف الأمر عند أولئك، بل تتابع قدوم الإسرائيليين في زيّ رسمي، منهم الجنود، ومنهم المستوطنون، ومنهم رجال الشرطة، يداهمون أم الخير، يوقفون السيارات، يتحرشون بالناس، ويفتشون البيوت. حتى رعاة المستوطنين، الذين كثيرًا ما يخفون وجوههم بأقنعة، أخذوا يسوقون قطعانهم وسط القرية، كأنها أرضهم التي ورثوها. وفي فبراير، دهم الجنود بيت عيد، وبعد أن نبشوا فيه ووجدوا بعضًا من مدخراته، زعموا أنها دليلٌ على اتجارٍ بالمخدرات أو الأسلحة، فسلموه للشرطة. ولم يُطلق سراحه إلا بعد سلسلة من الاتصالات، جاءت من حلفاء إسرائيليين، ومنظمات غير حكومية، وحتى من السفارة الأمريكية. ثم، في يونيو، جاءت الجرافات. أعطوه ثلاثين دقيقة فقط ليُفرغ بيته، ثم هدموه، ولم يبقَ منه إلا قطعة من الحائط، زاوية كانت إحدى غرف بناته، لا تزال رسوم الزهور الصغيرة تظهر عليها بالألوان الفيروزية والبنفسجية والوردية. كان ذلك البيت واحدًا من أحد عشر مبنى دمرها الجنود في ذلك اليوم. ومنذئذ، صار عيد وأسرته يقيمون في سقيفة خشنة، لا نوافذ لها، ولا عزل، كان أخوه قد بناها يومًا لتخزين الشعير.
وكانت المحطة التالية في جولة عيد هي زيارة قبر والده. وقد كنتُ أعرفه، نعم، أعرف الحاج سليمان الهذالين، ذاك الرجل النحيل الجسد، القوي النظرات، الوقور في صمته وكلامه. لم يكن يخشى جنديًا مدججًا بالسلاح، ولا مسؤولًا سياسيًا صاحب نفوذ، وكان لا يتوانى عن التنقل بين قرى الضفة الغربية ليقف إلى جانب الناس، ويساندهم في محنهم. ولم ندرك تمامًا قيمة حضوره إلا حين رحل. لقد كان، في حياته وبعد رحيله، روح المقاومة في "أم الخير".
وفي يناير من عام 2022، وصلت الشرطة الإسرائيلية إلى القرية، برفقة شاحنة مخصصة لسحب السيارات غير المسجلة. ومثل هذه المركبات شائعة في الضفة الغربية، لأن تسجيلها الرسمي مكلف للغاية، ولا يقدر عليه كثير من السكان. حينها تجمهر الناس، ووقف الحاج سليمان أمام المركبة، صلبًا كالعادة، رافضًا أن تتحرك. لكنها لم تتوقف. بل صدمته وسحلته لمسافة تزيد على عشرة أمتار، ثم تركته ينزف على الأرض. وعندما نُقل إلى مستشفى الخليل، قال الأطباء إن جسده توقف عن العمل بالكامل، ولم يكن ينبض فيه إلا القلب. وبعد اثني عشر يومًا، أسلم روحه.
قبره هناك، فوق التلة الجرداء، قد وُضعت عليه كومة من الحجارة، وأحيط بسياج من الأسلاك الشائكة، حتى لا يعبث به المستوطنون. قال لي عيد، وهو يلهث من شدة الإرهاق والانكسار:
"لم نعد نحتمل. نحن منهكون، منهكون جدًا، يا أخي."
ثم انتقل الحديث إلى قرية "النبي صالح". وكنت، حين كنت مقيمًا في رام الله، أركب كل صباح جمعة سيارة تقلّني إلى هذه القرية الواقعة على بُعد خمسة عشر ميلًا إلى الشمال. لم أكن قد التقيت بمنال التميمي منذ سنوات، لكنها حين استقبلتني بسيارتها في ساحة رام الله المركزية، رحّبت بي وكأن لقاءنا الأخير لم يكن إلا قبل أيام.
كان ابنها، حمادة، جالسًا إلى جوارها، صامتًا، منحني الرأس. جلستُ في المقعد الخلفي، أتأمل ملامح منال، وتلك الابتسامة التي كانت، في الماضي، ملتهبة بالحياة. لكنها بدت هذه المرة خافتة، كأنها فقدت بريقها تحت وطأة التعب، أو الحزن، أو كليهما معًا.
الطريق التي كان يُفترض أن تُقطع في خمسٍ وعشرين دقيقة، استغرقت ساعة كاملة بسبب الحواجز والإغلاقات. وأخيرًا، اجتزنا البوابة التي نصبتها قوات الاحتلال عند مدخل القرية. وبعد أمتار قليلة، مررنا بالمكان الذي قُتل فيه طفل لا يتجاوز الثانية من عمره، حين أطلق عليه جندي النار وهو جالس داخل سيارة متوقفة. ثم انعطفنا نحو الطريق الذي سقط فيه مصطفى التميمي، بعدما أصابته قنبلة غاز مباشرة في وجهه قبل ثلاثة عشر عامًا، ليُسجَّل اسمه كأول شهيد للمقاومة السلمية في القرية.
لقد تغيّرت رائحة قرية النبي صالح. لم تعد كما عرفتها في الماضي. كانت قوات الاحتلال، كلما اندلعت المظاهرات الأسبوعية، تجلب معها ما يُعرف بين السكان بـ"شاحنة الظربان"، وهي مركبة ترشّ سائلًا كريه الرائحة، لا يُعرف مصدره، لكنه يخترق النوافذ، ويفسد الأثاث والسجاد، ويبقى أثره في المكان لعدة أشهر. كانت رائحته أشبه بروث الحيوانات أو جثة متحللة. أما اليوم، فقد اختفت تلك الرائحة المميزة، ولم تبقَ إلا رائحة التلال اليابسة، والغبار، ودخان عوادم السيارات.
أوقفت منال سيارتها أمام منزلها. وكان هذا البيت، في ما مضى، عامرًا بالنشطاء، من فلسطينيين وإسرائيليين وأجانب. أذكر أن أول زيارة لي إلى النبي صالح كانت في يوم اعتُقل فيه زوج منال، بلال، ووُضع في مؤخرة مركبة عسكرية، بينما جلس النشطاء على الأرض، محاولين منع انطلاق السيارة. فما كان من أحد الضباط إلا أن رفع ذقن كل واحد منهم، واحدًا تلو الآخر، ورشّ في عينيه غازًا حارقًا.
رغم الخطر الدائم، كانت المقاومة في النبي صالح تحمل طابعًا مميزًا، فيه شيء من الغرابة المحببة، كأنها تشبه كرنفالًا صغيرًا ضد الظلم. ولهذا كنت أعود إليها، وأبقى فيها لأسابيع، أمشي وأركض مع بلال ومنال، أشاركهم المظاهرات، أراوغ قنابل الصوت، وأستنشق الغازات المسيلة للدموع.
لقد اعتُقل بلال ومنال عدة مرات، واعتُقل أيضًا اثنان من أبنائهما. أما الآن، فقد خفَتَت الأصوات، وسكنت الشوارع، وأصبح البيت شبه خاوٍ، إلا من قلة.
كانت القصة، مثل كل قصة في هذه البلاد التي تنزف، قد بدأت من قطرة ماء. ففي عام 2009، استولى المستوطنون على نبع صغير يقع عند سفح التل، وبدأوا بمنع الفلسطينيين من الوصول إليه. لم تكن قرية النبي صالح كبيرة، بل لا يتجاوز عدد سكانها ستمئة نسمة، لكنها تحولت، رغم حجمها، إلى رمز عالمي للمقاومة السلمية. للم يكن النبع هو الغاية في ذاته، بل كان الشرارة؛ أما الغاية الحقيقية، فكانت الكرامة، كانت وقفة الإنسان الذي لا يريد أن يُمحى، فوقفوا، وكان وقوفهم رسالة إلى الأرض وإلى الناس: نحن هنا، ونحن بشر. وقد أرادوا من خلال هذا أن يرى العالم قسوة الاحتلال، وأن يلهموا غيرهم من الفلسطينيين أن ينهضوا، كما نهضوا.
وقد ساعدتهم عوامل الزمن. جاءت انتفاضتهم في وقت كان فيه العالم يتغير، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي قد وصلت إلى معظم الأيدي، في كل هاتف محمول. صار بلال مصور القرية، يلتقط الصور ومقاطع الفيديو كل يوم جمعة، وينشرها على الإنترنت. وفي فترة وجيزة، صار وجوه الأطفال الذين أعرفهم من النبي صالح ترفرف على جدران لندن، وتظهر في مظاهرات نيويورك، وعلى لافتات الاحتجاجات في أماكن بعيدة لا تخطر على البال.
لقد وقفوا بلا سلاح أمام واحد من أقوى الجيوش تجهيزًا، وصوّروا وقوفهم ذاك، فحوّلوا ضعفهم إلى مصدر قوة. لكن الثمن كان فادحًا. كان مصطفى أول من سقط قتيلًا، ثم تبعه آخرون، حتى بلغ عدد الفلسطينيين الذين قُتلوا في النبي صالح عشرة. كما أُصيب المئات، وسُجن عدد كبير من الشباب والقيادات، لمددٍ طويلة. ومع مرور الوقت، بدأت العزائم تضعف، وتراجعت المشاركة، حتى توقفت المظاهرات تمامًا في صيف عام 2016.
جلست أنا ومنال نتحدث لساعة من الزمن. ثم عاد بلال إلى البيت. كان شعره قد اشتعل شيبًا منذ آخر مرة التقيته فيها، لكنه ظل كما عهدته: ساخرًا، خفيف الظل، حاضر البديهة. سألتهما إن كانا يفتقدان أيام المظاهرات. لم يُجب بلال بسرعة، بل فكّر قليلًا، ثم قال:
"ليس من السهل أن تجلس في بيتك صامتًا."
أما منال، فقد أجابت فورًا، وقالت:
"أفتقد شعور المقاومة. كنت تشعر أنك موجود، أنك تفعل شيئًا، لست عاطلًا، لست ميتًا، بل حيّ."
العجز، في نظرهما، هو أشد ما يؤلم. ثم أضافت منال، بنبرة يختلط فيها الذهول بالحزن:
"أحيانًا، حين نتذكر الماضي، لا نصدق أننا لم نُقتل جميعًا." ثم استدركت قائلة:
"الآن، الناس خائفون."
ومنذ أن خمدت المظاهرات في النبي صالح، ازدادت يد الاحتلال قسوة على أي شكل من أشكال الاعتراض. ففي مظاهرات "مسيرة العودة الكبرى" التي خرجت من غزة عامي 2018 و2019، أصيب أكثر من ستة وثلاثين ألف فلسطيني، وقُتل ما لا يقل عن مئتين وأربعة عشر شخصًا. وفي قرية بيتا، التي ما زالت تنظم احتجاجات منتظمة، سقط قتلى في أربع سنوات بعدد يزيد عن ضحايا النبي صالح في خمسة عشر عامًا.
أما بعد السابع من أكتوبر، فقد أصبحت القوة المفرطة سياسة معلنة. تفاخر ضابط كبير في جيش الاحتلال، في حديث إلى موقع إسرائيلي، قائلًا:
"نحن لا نسيطر على المظاهرات بعد الآن، نحن نحطمها." ثم أضاف:
"لم نعد نستخدم وسائل تفريق الحشود."
وقد أفادت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير صدر في مايو، أن جنود الاحتلال في الضفة الغربية ينفذون عمليات إعدام بحق فلسطينيين لا يشكلون أي تهديد، وبمستوى عنف غير مسبوق في السنوات الأخيرة.
والآن، لم يبقَ من أشكال المقاومة إلا بعض الحضور الرمزي في أماكن متفرقة. في بيتا، وفي كفر قدوم، وفي قرى قليلة ما زالت تحافظ على طقسها الأسبوعي في الاحتجاج. أما شباب النبي صالح، الذين استمروا في رشق العربات العسكرية بالحجارة بعد انتهاء المظاهرات، فقد خفَت صوتهم، وانطفأ آخر أشكال المقاومة الرمزية في القرية.
لكن منال أكدت أن جيش الاحتلال لا يزال يقتحم القرية مرتين أو ثلاث مرات أسبوعيًا. غير أن ما يؤلمهم أكثر من كل ذلك، هو ما يأتيهم من أخبار غزة. هناك، تُدمّر مدن كاملة، وتُكتشف مقابر جماعية، وتنتشر صور الأطفال الممزقين على كل شاشة وفي كل هاتف.
قالت منال، وقد غلبتها المرارة:
"صار كل احتجاج يبدو بلا معنى. كل واحد فينا يعرف أن ما يحدث في غزة، سيحدث في الضفة."
لم يعد أحدٌ يتحدث عن «اللاعنف». من ذا الذي يملك الجرأة على النطق بهذه الكلمة بعد كل ما وقع؟ قال لي أحد النشطاء المخضرمين، بمرارة لا تخطئها الأذن:
"كلها أوهام. حقوق الإنسان، القانون الدولي، العدالة… لا وجود لشيء منها على أرض الواقع."
ففي عامي 2018 و2019، حين سالت دماء الآلاف من المتظاهرين العُزّل في غزة، لم تُحرّك الحكومات الغربية ساكنًا. وبعد عام من حربٍ أزهقت أرواح ما يصل إلى سبعين ألف إنسان، من بينهم أربعة عشر ألفًا وخمسمئة طفل على الأقل، وهي حرب وصفها بعض خبراء الأمم المتحدة والمختصين في قضايا الإبادة الجماعية بأنها تمثل «إبادة فعلية»، لم يصدر عن الغرب سوى بياناتٍ جوفاء، تعرب عن "القلق"، لكنها لا تمنع موتًا ولا توقف نارًا.
"إذا لم تكن هذه إبادة جماعية في غزة، فما الذي يمكن أن يُعدّ إبادة إذًا؟" — هكذا تساءل الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي في مقالٍ له بصحيفة هآرتس.
نعم، استمرت التصريحات الرسمية في ترديد عبارات الحذر والقلق، لكن في الواقع كان السلاح يتدفق إلى إسرائيل، والمعلومات الأمنية تُنقل دون انقطاع، والدعم السياسي داخل مجلس الأمن لا يتزعزع. فمنذ سنوات، وقبل أحلام دونالد ترامب التي تحدث فيها عن «الاستحواذ على غزة»، كانت هذه الحرب، من وجهة النظر الواقعية، حربًا أمريكية بقدر ما كانت إسرائيلية، وكان معظم قادة أوروبا يمدونها بالغطاء السياسي والدبلوماسي.
لم تكن النتائج التي تكشفت إلا خطأً فادحًا في الحساب، لا يقل خطرًا عن كوارث السياسات الكبرى. ففي الهند التي عانت من الاحتلال البريطاني، وفي جنوب الولايات المتحدة زمن قوانين التمييز العنصري، وفي فلسطين التي ما زالت تُسفك فيها الكرامة كما يُراق الماء، وُلدت فكرة المقاومة السلمية كي تجعل من التضحية وسيلة لردع الظلم، ومن الوقوف بوجه القمع دعوة لضمير العالم أن يستيقظ.
وعلى هذا الأساس، حققت المقاومة شيئًا من أهدافها. فالتعاطف الشعبي مع الفلسطينيين، خصوصًا بين الشباب الأمريكي، بدأ يتزايد عامًا بعد عام. بل حتى الدعم السياسي التقليدي لإسرائيل في الداخل الأمريكي صار يتآكل شيئًا فشيئًا. ولكن، ما قيمة هذا التعاطف، إن كانت الشرطة تُقمع المظاهرات الطلابية في كل جامعة؟ وما نفع أن تُظهر استطلاعات الرأي رغبة أغلب الأمريكيين في تقييد المساعدات العسكرية لإسرائيل، إذا لم تنعكس هذه الرغبة في برامج أي حزب سياسي حاكم؟
لقد أدّى بلال ومنال، ومن سار على دربهم في النبي صالح، ما استطاعوا أداءه. وكان ذلك الوعي الأخلاقي، الذي بُني عليه حلم المقاومة السلمية، قد تحقق فعلًا. لكن شيئًا في الواقع لم يتغير. فهناك شيءٌ لم يكن في الحسبان: غياب الديمقراطية الحقيقية في بلاد كانت، من الناحية النظرية، تُعد منارات للحرية.
ولم أنسَ تلك القصة التي روتها لي ناشطة شابة قبل سنوات. كانت قد شاركت في مظاهرة، فاقتحمها جنديان وانتزعوها من وسط الجموع وانهالا عليها بالضرب. وبعد أن تركاها ملقاة على الأرض، وجدت نفسها تحدق في بندقيتيهما، وقد تُركتا للحظة بلا رقابة، وفي عنقيهما المكشوفتين. فكرت، لثوانٍ، أن تهاجمهما، أن تنتقم. هل تستطيع؟ هل تجرؤ؟ هل تملك سرعة الحركة؟ لكنها، في لحظة خاطفة، طردت الفكرة من ذهنها. لم تكن ترغب بأن تصير مثلهم. لم ترد أن تنحدر إلى مستواهم. وعندها فقط، شعرت أنها انتصرت، لأنها لم تفقد إنسانيتها. أدركت حينها أن اللاعنف ليس مجرد أسلوب مؤقت، بل طريق طويل، يحفظ الروح من التوحش، ويمنع القلب من التيه.
وقد التقيت بهذه المرأة ذاتها مرة أخرى، قبيل زيارتي إلى النبي صالح. كانت الأوضاع حينها ملتهبة: القصف متواصل، ومدن الضفة الشمالية — جنين، نابلس، طولكرم — تحت الحصار العسكري. أصبحت الهجمات التي يشنها المستوطنون على المدنيين جزءًا من الحياة اليومية، والمجازر في غزة لا تتوقف.
جلست أمامي، شاحبة الوجه، واجمة النظرات. لم تعد تتحدث عن السلم، ولا عن الحلم. بل قالت، بهدوء يشبه اليقين:
"على كل فلسطيني، رجلًا كان أو امرأة، كبيرًا أو صغيرًا، أن يتعلم كيف يقاتل، أن يحمل السلاح، أن يتقنه."
لم تكن كلماتها نابعة من غضبٍ أعمى، ولا من رغبة في الانتقام، بل كانت أقرب إلى صوت من حُوصر، فلم يعد يفكر إلا في البقاء.
ثم جاء أغسطس، وجاء معه اجتياح جديد من جيش الاحتلال لمدن شمال الضفة. أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتز، عزمه على "مواجهة الإرهاب الإسلامي الإيراني" في الضفة الغربية، كما يفعل في غزة، على حد وصفه. فكانت طولكرم وجنين هما الهدف. دُمّرت المحال، اقتُلعت الشوارع، طُوّق مستشفيان في طولكرم، وأُضرمت النيران في سوق جنين المركزي. انقطعت المياه والكهرباء عن المدينتين، وحُوصر السكان في بيوتهم لأيام، بينما حاولت مجموعات المقاومة صدّ الهجوم. في تلك الأيام، قُتل ما لا يقل عن ستة وثلاثين شخصًا، كثير منهم من المدنيين العُزّل، لم يحملوا سلاحًا في حياتهم.
وقبيل نهاية رحلتي، توجهتُ نحو طولكرم، برفقة صحفي فلسطيني وآخر كندي. رتبنا لقاءً مع أفراد من "كتيبة طولكرم"، وهي إحدى المجموعات المسلحة التي ظهرت مؤخرًا في مدن الشمال. كان المطر قد بدأ أخيرًا، يهطل بغزارة ونحن نقترب من المخيم. كانت الجرافات العسكرية قد دمرت الطريق الرئيسي قبل شهور، وأتلفت بنيته التحتية الخاصة بالماء والصرف الصحي. ومع هطول الأمطار، تحوّل الطريق إلى نهر طيني، لا يُدرى عمقه.
قدت السيارة بحذر وسط الماء، حتى بلغنا طرف المخيم. كنت أرجو أن يمنع المطر تحركات الجيش، وأن تبقى السماء خالية من الطائرات المسيّرة.
وصلنا إلى منزل عبد الفتاح صلاح الدين جبارة، ذلك الشاب الذي قُتل في شهر حزيران، وهو في طريقه لتنفيذ عملية على حاجز عسكري. استقبلتنا والدته، وقد جلست في انتظارنا، بيدٍ ترتجف، وقدمت لنا بسكويتًا صنعته بيديها. كان وجهها شاحبًا، لا يعرف النوم منذ أن خرج ابنها ذات صباح ولم يعد. لم تكن تعلم، قبل مقتله، أنه كان أحد مقاتلي "كتيبة طولكرم"، يقاتل في صفوفها منذ سبعة أشهر، دون أن يبوح لها بشيء.
كتيبة طولكرم، تلك الجماعة المسلحة التي نبتت من أرض الغضب في عام 2022، بدأت في الأصل كفرعٍ محلّي يتبع الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي. لكنها، مع مرور الوقت، تحوّلت إلى مظلة تشمل مقاتلين من خلفيات وفصائل مختلفة. وكان عبد الفتاح، على الرغم من نشأته داخل حركة "فتح"، وهي حركة سياسية ذات طابع غير ديني، قد انضم إليهم. لم يكن ذلك بدافع الانتماء الفكري، بل لأن العلاقات الإنسانية، والصداقة، وما يفرضه الحصار، هي التي رسمت له هذا الطريق.
لم تكن هذه الكتيبة كثيرة الهجمات، لكنها كانت حاضرة في الميدان. ففي مايو 2023، نفذ عناصر منها هجومًا بإطلاق النار من سيارة مسرعة قرب إحدى المستوطنات، فقُتل إسرائيلي. وفي مرات أخرى، أطلقوا بضع رصاصات عبر السياج الحدودي باتجاه بلدة إسرائيلية مجاورة لطولكرم. (يومها، خرج وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، ليهدد بتحويل المدينة إلى "جزيرة من الخراب"، كما قال إنهم يفعلون في غزة).
لكن الكتيبة لم تُنشأ في الأصل من أجل الهجوم، بل للدفاع، وكان هدفها حماية مخيمي اللاجئين في المدينة، فنصبوا الكمائن للجنود عند الاقتحام، وفجّروا عبوات ناسفة، محاولين إبقاء المخيمين خارج سيطرة الاحتلال، كمساحة أمان ولو مؤقتة.
وكان عبد الفتاح يخفي أمر انخراطه في العمل المسلح عن عائلته، باستثناء شقيقه مصطفى. وكان هذا الأخير جالسًا في ركن الغرفة، يشبه ملامحه تمامًا صورة عبد الفتاح التي وُضعت في شهادة "الاستشهاد" فوق الطاولة. قال مصطفى، بابتسامة فيها مرارة، إنه كان كلما سمع بدخول الجنود إلى المخيم، يُسرع إلى قفل باب غرفة عبد الفتاح عليه ليمنعه من الخروج، لكنه دائمًا كان يجد طريقًا للهروب.
ومع ذلك، كان مصطفى يعلم تمامًا لماذا اختار أخوه هذا المسار. فقد شاهد كثيرًا من أصدقائه يُقتلون، وكان يعلم، كما يعلم أهل طولكرم جميعًا، ما يجري في غزة. قال: "وماذا كان في يده أن يفعل؟ لم يبقَ إلا السلاح."
أما والدته، فقد سيطر عليها الغضب والحزن في آنٍ واحد. كان ابنها قد تزوج وأنجب أربعة أطفال، أكبرهم ولد ذو عينين واسعتين، كان يلهو عند قدميها مرتديًا سترة تحمل شعار "كابتن أمريكا". كانت تهمس بين حين وآخر: "غفر الله له." لا لأنها تعترض على حمله السلاح، بل لأنها شعرت بالخذلان، لأنه رحل وتركهم وحدهم في وجه الحياة.
ثم بلغنا أن المقاتلين على استعداد. فودعنا الأم، والأخ، والطفل، وخرجنا لنجدهم بانتظارنا. ساقونا إلى تقاطع بين زقاقين ضيّقين، يحرس طرفيه شابان، وكان أحدهما، وهو الأطول، يخفي بندقية "إم 16" تحت معطف شتوي من الفرو الصناعي. الذي تكلّم معنا قال إن اسمه "غيث"، لكنه سرعان ما أوضح أن هذا ليس اسمه الحقيقي، بل اسم رفيقه الذي قُتل في غارة جوية قبل ستة أسابيع.
كان غيث الحقيقي يجتمع مع رفاقه في مقهى وسط المخيم، حين استهدفتهم غارة إسرائيلية فجائية، دمرت المبنى وقتلت 18 شخصًا، بينهم ثلاثة أطفال.
أما غيث الذي كان أمامنا، فكان شابًا في السادسة والعشرين من عمره، حسن الهيئة، يرتدي معطفًا أخضر فضفاضًا، تتلفّت عيناه مع كل صوت، يمنة ويسرة. قال إنه شاهد أول مشهد موت في حياته حين كان في الثامنة من عمره، حين قُتل رجل أمامه. ترك المدرسة وهو في الخامسة عشرة، وذهب للعمل في إسرائيل لسنوات، حيث اشتغل في أحد فنادق تل أبيب. وهناك، رأى بعينيه التفاوت الكبير بين نمط الحياة الفاخر في الجانب الآخر، والبؤس الذي يعيشه أهله، فشعر بالإهانة. قال: "أدركت أننا نعيش تحت ظلّهم، لا في نور."
وبعد السابع من أكتوبر، انضمّ إلى كتيبة طولكرم. وحين سألته إن كانت هناك لحظة بعينها جعلته يحمل السلاح، هز كتفيه وقال: "رأيت أطفالًا رُضّعًا يُقتلون، رأيت شيوخًا، نساءً..." لم يعد يرى في المفاوضات ولا في اللاعنف سوى خيبات متكررة. قال: "لقد حان الوقت لنكون أحرارًا. نحن نقاتل من أجل ذلك."
أُصيب غيث في شهر يناير الماضي، خلال اجتياحٍ عسكري استمر يومين لمخيم طولكرم. اخترق جسده أربع رصاصات في البطن. قال لي، وهو يبتسم تلك الابتسامة المتألمة التي نراها على وجوه الجرحى الذين لا يجدون وقتًا للأنين: "حرفيًّا، حملت أمعائي بيدي، وركضت." قُتل أحد أصدقائه بجواره، وسقط ستة آخرون في ذلك اليوم وحده.
قلت له إن هذه المقاومة المسلحة لم تجلب لهم إلا الخسائر، وإن تسليحهم وعددهم لا يُقارن بقدرات العدو، لا في السلاح ولا في العدد. لكنه كان يعرف هذا قبلي، ولم يكن فيما قلت له جديد. لم يكن يستطيع مغادرة أزقة المخيم، إذ يخشى أن يُستهدف من الجو، بواسطة طائرات الاستطلاع. الذخيرة قليلة، والتمويل محدود، والضغط مستمر. لكنه لم يكن يهتم. قال لي:
"المهم هو أن نقاتل."
وقبل أن نودّع "غيث"، باح بما يثقله منذ زمن. قال إن مدينة جنين وحدها تنال التقدير، وإن ما فعله مقاتلو طولكرم لا يُذكر. وكان محقًّا في قوله. فقد أصبحت جنين، أكثر من أي مدينة أخرى في الضفة الغربية، رمزًا للمقاومة المسلحة، بكل ما تحمله الكلمة من دلالة على التحدي والصمود.
قبل أسبوع من مغادرتي فلسطين، رافقت ثلاثة صحفيين إلى جنين، حيث رتبنا لقاءً مع بعض رجال الكتائب المسلحة هناك. وما أن دخلنا المدينة حتى رأيت صور الشهداء تملأ المكان. كانت معلقة على الجدران، في المحلات، وحتى على زجاج الدراجات النارية. أما في السوق، فقد عُلّقت تلك الصور على حبال سوداء، كما تُعلّق أعلام الدول أو أقمشة الأمل. في الماضي، كانت تلك الصور تُعلّق على صدور الأمهات الثكالى وحدهن. أما اليوم، فشهداء كتيبة جنين صاروا ينتمون للجميع.
مررنا ببائع ذرة مشوية، خاطبني بلهجة مرنة فيها نبرة أمريكية، وقال: "يا أخي!" وناولني كأسًا من الذرة الحارة، وأصرّ أن أتناولها مجانًا. كان كشكه مزينًا بصور أولئك الشبان الذين قال إنه عرفهم زبائن دائمين، واحدًا تلو الآخر، وإنه لم يبقَ منهم أحد منذ عام 2022.
اتجهنا بعدها غربًا، على شارع يُعرف بـ"شارع حيفا"، وهو الطريق الذي كان يصل ذات يوم إلى مدينة حيفا على الساحل، المدينة التي يحمل الشارع اسمها. أما اليوم، فهو يتوقف عند حاجز عسكري. وفوق مخيم جنين للاجئين، حامت أسراب من طيور الزرزور، تطير فوق أكثر من أربعة وعشرين ألف فلسطيني، أكثرهم من أبناء وأحفاد من طُردوا من حيفا وقراها عام 1948. هذا المخيم لا تزيد مساحته عن نصف ميل مربع، وكان له مدخل يعلوه قوس حجري عليه مفتاحان ضخمان باللون الأسود، رمزًا للأمل في العودة إلى الديار. لكن ذلك القوس، وتلك المفاتيح، أزالتهما الجرافات العسكرية الإسرائيلية في خريف العام الماضي. لم يبقَ هناك سوى الأنقاض: أنقاض بيوت، أرصفة محطمة، وبقايا سيارة "كيا" بيضاء تكسّر هيكلها في غارة لطائرة بدون طيار. وعلى ما تبقى من غطاء محركها، وُضعت أوعية صغيرة بها زهور، وكأنها تحية لركّاب رحلوا بلا وداع.
وفي النهاية، رفض المقاتلون الحديث مع الصحفيين الأجانب، واكتفوا بمقابلة الصحفية الفلسطينية التي رافقتنا، زميلتي "مريم البرغوثي". فذهبت إليهم، وعادت بعد ساعتين. قالت إنهم أخذوها إلى زقاق ضيّق، وهناك قابلت قائد كتيبة جنين. وصفته بأنه رجل قوي البنية، بدا عليه التعب، لحيته يشوبها الشيب رغم أنه لا يزال في الثلاثينيات من عمره. كان جالسًا على فراش بسيط، يدخن سجائر من نوع "بارلمنت" بشراهة، وقد وقف رفاقه حوله صامتين. أجاب على الأسئلة بالفصحى، بنبرة قاسية لا تخلو من نبرة الحماسة. قال لها: "طريق الحرية طريق الدم." وأضاف: "سنقاتل حتى نحرر فلسطين من النهر إلى البحر، ولو قُتل جميع الفلسطينيين، يكفي أن ينجو واحد ليعيش حرًّا على هذه الأرض." وكان واضحًا أنه مُنهك.
بعد عشرة أسابيع، في شهر كانون الثاني، بعثت لي مريم رسالة تخبرني أن الرجل الذي قابلته قد قُتل. كان اسمه الحركي "أمير أبو حرب". وبعد يومين فقط من إعلان وقف إطلاق النار في غزة، شنّ الجيش الإسرائيلي أعنف هجوم على جنين منذ سنوات. أُخلي المخيم، وتشرّد عشرات الآلاف من سكانه، وامتد الهجوم ليصل إلى طولكرم، حيث اضطر الناس هناك إلى الرحيل أيضًا. فرّ معظم المقاتلين، لكن "أبو حرب" بقي، وواصل القتال حتى النهاية.
ثم عدنا إلى أطراف المخيم، ووقفنا عند المكان الذي سقطت فيه الصحفية شيرين أبو عاقلة، التي قُتلت برصاصة جندي إسرائيلي في مايو 2022 أثناء تغطيتها اقتحامًا عسكريًّا. لم يبقَ شيء من النصب التذكاري الذي أُقيم لها. وعلى الجهة المقابلة، بُنيت "مقبرة الشهداء الجديدة"، حيث يُدفن كل من قُتل على يد الجيش. كانت أقدم القبور تعود إلى يوليو 2023، والنصف الآخر قد امتلأ. وكان الضوء الخافت من أحد أعمدة الإنارة يسقط على الشواهد البيضاء، بينما تملأ الجدار الخلفي صور ضخمة لأولئك الشبان الذين رحلوا. جميعهم ماتوا.
كان هناك شيوخ يجلسون على كراسٍ صدئة في الحديقة، يدخنون في صمتٍ لا يقطعه إلا وميض نار السجائر. اقتربت منهم، فوافق اثنان على الحديث، بشرط ألا أسأل عن أسمائهم. أطولهما قامة، ذو لحية بيضاء ووجه مجعد كأوراق ذبلت من كثرة الزمن. أشار بيده نحو صف من القبور القريبة وقال: "هناك يرقد أبناؤنا. نحن نأتي لنزورهم." أما رفيقه، فكان نحيفًا، صامتًا، يجلس وكأنه يحمل على صدره أعوامًا من البكاء المكتوم.
قال الرجل الطويل إن ابنه قد قُتل في غارة لطائرة مسيّرة يوم الثامن والعشرين من أغسطس، وكان ذلك أول أيام حصار استمر عشرة أيام. لم يكن الابن سوى شاب في الحادية والعشرين من عمره، "شاب عادي، بأحلام بسيطة"، قالها كأنما يعتذر عن رحيله. كان يعمل خبازًا، قبل أن ينضم إلى كتيبة جنين عام 2023. ثم ناولني الرجل النحيف هاتفه، وفيه صورة شاب ممدّد، وجهه غارق في الدم، وعيناه مغمضتان كمن نام نومًا أبديًّا.
سألته: ما الذي دفع ابنك لحمل السلاح؟ فأجاب أن صديقين له قُتلا في غارة جوية عام 2021، كانت من أوائل الهجمات بعد سنوات الهدوء. رأى أجسادهما ممزقة بعينيه، "كما نرى في غزة"، قال. وأضاف: "كيف تتوقع أن يشعر بعدها؟" وذكر أن الجيش اقتحم بيته ذات مرة، وضربه هو نفسه أمام ولده. "كيف تتوقع أن يتصرف؟" ثم استدرك قائلًا إن المسألة ليست في هذه المواقف وحدها، بل في كل ما يعيشه هؤلاء الشبان. فهم، كما قال، يعتقدون أن الموت يلاحقهم على أية حال، سواء حملوا السلاح أو لم يحملوه. فسألوا أنفسهم: "لماذا ننتظر حتى يُقتلونا؟"
ثم حدثني عن ولدَيه الآخرين، أحدهما في السجن منذ عام بلا محاكمة، ولم يُسمح له حتى بمكالمة هاتفية واحدة. ثم روى عن نفسه كيف اعتُقل أول مرة وهو في الثالثة عشرة، خلال الانتفاضة الأولى، ثم مرة ثانية وهو في السادسة عشرة، وسُجن لأربع سنوات. وقال إن تلك التجارب كبّلت أحلام أبنائه، وكأن الحلم الفلسطيني يُورَّث ناقصًا، مكسورًا، من جيل إلى جيل.
وخلال حديثه، ظلّ الرجل النحيف صامتًا، لا يتكلم، يدخن فقط، وعيناه لم تدمعا، بل امتلأتا بألم لا يُحتمل. حتى إذا انتهى الرجل الطويل من الكلام، صمت لحظة، ثم قال بهدوء: "سأكون صادقًا. من قُتل ليس ابني، ومن في السجن ليس صديقي، بل أخي. ابن أخي هو الذي استُشهد، وابن أخي هو الذي اُعتُقل. كل ما قلتُه صحيح، لكنه يخصّه لا يخصّني. أخي لا يستطيع أن يتكلم دون أن يبكي، فقلتُها نيابة عنه. فقط انظر إلى عينيه."
فأومأ الرجل النحيف برأسه. ثم مدّ هاتفه من جديد، لكن هذه المرة لم تكن صورة، بل مقطع فيديو. كان فيه ابنه يهتف وسط مظاهرة، صوته يهزّ الهواء: "نحن من يحمل العلم"، وكان يعدّ بأن العلم سيرفرف في القدس وحيفا ويافا وعكا. وعدهم أن ذلك اليوم قريب.
لكن لم يكن هناك وقت للمزيد. فقد أضاءت السماء فوقنا نوران، أحدهما أبيض والآخر أحمر، يحومان بصمت مرعب، على ارتفاع منخفض لا يزيد عن ثلاثين أو أربعين قدمًا فوق المقبرة. كانت طائرة مسيّرة، ترصد المكان.
تصافحنا بسرعة، وودّعنا بعضنا بكلمات مختنقة، ثم مضى كل منا في طريقه، رؤوسنا منحنية، كأنما الانحناء قد يحجبنا عمّا قد يأتي.
مترجم من harpers بقلم بن إرينريتش