تحدى تكوين صديق جديد خلال شهر : ما تعلمته من تجربتي
أصبحنا فظيعين في تكوين الصداقات والحفاظ عليها. ولكن يجب أن يكون هناك شخص ما يريد أن يأخذ معي كوب قهوة
في مطلع العشرينيات من عمري، كانت لي صديقة ذات طبع عجيب. اعتادت أن تظهر عند باب منزلي بلا سابق دعوة، حاملة معها علبة من مشروب "ريد سترايب". كانت تعمل في وظيفة بغيضة، وترتبط بعلاقة أسوأ من عملها، حتى إذا ضاقت بها الحال، هرعت إلى الأريكة البرتقالية التي ورثتها شريكتي في السكن عن عمتها الكبيرة، جلست عليها وفضت لنا ما في قلبها من شكوى وهموم. ثم كان عام 2017، حين قررت تلك الصديقة الانتقال إلى مونتانا. وأحسب، إن كان لي أن أحدد لحظة بعينها بدأت فيها متاعبي مع الفراغ، أن تلك اللحظة كانت حين غادرت.
ثم جاء يوم لم يعد فيه من الممكن أن أتغافل عن هذا الفراغ الذي صار يحيط بحياتي، لا سيما في مجال الصداقة. لم يكن الأمر أنني فقدت أصدقائي فجأة أو بسبب شجار محتدم أو كارثة تفسد العلاقات. لم تكن هناك منافسات في الحب أو خلافات في السياسة تبعدهم عني. بل لم يختفوا بالمعنى الكامل للكلمة؛ كنت أعرف أين ذهب كل منهم. لكن مع انتقال صديقتي صاحبة مشروب"ريد سترايب" إلى ميسولا، غادر صديقاتي اللذان كنت أشاركهما أمسيات شواء النقانق في شرفتهم إلى فيرمونت. وفي ذات الوقت، بدت لوس أنجلوس وكأنها مغناطيس يجذب أصدقائي، واحدًا تلو الآخر. أما الذين بقوا منهم، فقد انشغلوا بحياة أخرى: بعضهم برعاية أطفالهم الذين يصرخون بلا انقطاع، والبعض الآخر بمشاريع مرهقة لتجديد منازلهم. عندها، اعترفت لنفسي بأنني كنت شريكة في هذا الانقطاع؛ فأنا لم أغير مدينتي منذ أربعة عشر عامًا، ولم أبدل عملي منذ خمس سنوات.
لست وحدي في ذلك. (رغم أنني ربما أكون كذلك بمعنى ما.) فقد أصبحنا عاجزين عن تكوين الصداقات والاحتفاظ بها. يشير الخبراء إلى أسباب شتى لهذا الضعف: شقق بلا غرف طعام، و جائحة كوفيد-19، و هيمنة التكنولوجيا، و الأطفال، وقلة الرحلات المشتركة. مهما يكن السبب، نحن جيل مثقل بهذا العبء، والرجال بوجه خاص هم الأكثر معاناة. إن كنت لا تستطيع تسمية صديق مقرب واحد، فلست وحيدًا؛ إذ يعاني 20% من الرجال العزاب من هذه المشكلة، التي يُطلق عليها الخبراء "ركود الصداقات". وفي عام 2023، أعلن وزير الصحة الأمريكي أن الوحدة والعزلة صارتا "وباءً". أما أنا، فقد بدأت أشعر بالأعراض المقلقة لهذا الوباء. لدي زوج وطفل وكلب ومهنة، ولكن لا أحد تقريبًا أقضي معه وقتًا ممتعًا خارج نطاق العائلة.
غير أني لم أدرك جسامة هذه المشكلة إلا في أمسية ربيعية هادئة. حين أرسلت رسالة في مجموعة الدردشة المشتركة بعد أن أبلغ أحد الأعضاء عن "يوم مليء بالمشاكل". عرضت أن نتناول وجبة معًا ونتحدث. لم يقل أحد "نعم". بل، بدلاً من ذلك، قوبل اقتراحي بالسخرية. كان الرد: "أنتِ تحبين الخطط اللحظية هههه."
كنت أعلم في قرارة نفسي أن لي أصدقاء، من حيث التعريف النظري للأمر، غير أن الحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها كانت أن أحدًا منهم لم يُظهر رغبة في الخروج معي. وإن بقيت صديقتي، صاحبة "ريد سترايب"، على العهد القديم ولم تغادر بروكلين، فلدي شعور قوي بأنها الآن، وقد باتت أمًّا لطفل صغير، لن تستطيع أن تعود إلى زياراتها المفاجئة التي كانت تطبع علاقتنا قبل عشر سنوات. أما الرسائل النصية التي تبدأ بـ"ماذا تفعلين الليلة؟" فقد نسيت آخر مرة استقبلت فيها واحدة منها.
روت كاثرين سميث، كاتبة في مجلة "ذا أتلانتيك"، تجربتها عندما انتقلت إلى مدينة جديدة في الأربعين من عمرها، تحمل معها قائمة طويلة من الأشخاص الذين رشحهم أصدقاؤها لتكوين علاقات جديدة. ومع ذلك، كتبت بأسى: "للأسف، لم يكن هؤلاء المعارف متحمسين كما كنت أنا لفكرة الصداقة الجديدة."
وليس من الصعب فهم السبب الذي يجعل تكوين الصداقات بعد منتصف الثلاثينات أمرًا بالغ الصعوبة. فقد أوضحت الدكتورة ماريسا فرانكو، عالمة النفس ومؤلفة كتاب Platonic: How the Science of Attachment Can Help You Make—and Keep—Friends، هذا الأمر ببساطة خلال حديث أجرته مع محطة إذاعية في بوسطن. تقول فرانكو إن هناك شرطين أساسيين لتكوين صداقة بشكل طبيعي: "التفاعل المستمر غير المخطط له، والمشاركة في الضعف."
وجدت تفسيرها منطقيًّا للغاية. لدي أصدقاء، كما أكرر دائمًا، بل أصدقاء مقربون، لكنهم، مع استثناءات قليلة، أشخاص التقيتهم في مراحل مبكرة من حياتي: في المدرسة الثانوية، أو الكلية، أو تلك السنوات الأولى التي تلت التخرج، حين كانت "المشاركة في الضعف" جزءًا طبيعيًّا من الحياة اليومية، و"التفاعل المستمر غير المخطط له" هو القاعدة، لا الاستثناء. عندما تكون في الكلية، فإن التفاعل العفوي مع الآخرين يصبح طابعًا للحياة، وعندما تعيش مع رفقاء السكن، يصبح الأمر أكثر وضوحًا. أما "المشاركة في الضعف"، فهي تكاد تكون أمرًا مفروضًا على الجميع في تلك الزيارات المنزلية.
هذا الفهم جعلني أقل شعورًا بالحرج من حقيقة أنه، رغم وديّتي الظاهرة مع زملائي في العمل، لا أستطيع التفكير إلا في شخص واحد قد يصفني كصديق أمام طرف ثالث. في المكتب، يتوفر "التفاعل المستمر غير المخطط له" بكثرة، لكن الضعف نادرًا ما يتجاوز مستوى الشكاوى المشتركة حول مستوى المرتبات أو تجاوزات المدير. أما خارج العمل، فإن مجرد تنظيم ساعة واحدة للقاء يتطلب جهدًا هائلًا حتى مع أصدقاء العمل.
لقد أثارني وصف الدكتورة فرانكو للصداقة لدرجة أنني اشتريت كتابها. ولكن منذ البداية، واجهتني عقبة مزعجة، حيث استهلت الكتاب بهذه العبارة: "أنا فخورة بك، أيها القارئ، لأنك بدأت هذه الرحلة." شعرت بالإهانة. كيف تكون فخورة بي؟ ألم تسمعيني عندما قلت إن لدي أصدقاء بالفعل؟ هم فقط مشغولون الآن، هذا كل شيء!
تداركت نفسي، وعدت إلى القراءة. وأشارت فرانكو إلى أن الخوف من الرفض يُعد من أكبر العوائق التي تحول دون تكوين صداقات جديدة. كنت مذنبة بهذا الأمر، بلا شك. وأكدت على أهمية الأصالة والضعف. أحيانًا كانت نصائحها تبدو بديهية إلى درجة الإزعاج، كأن توصي القراء بـ"مشاركة معلومات مفيدة مع الأصدقاء" كطريقة للتعبير عن الكرم، لكن أغلب ما ذكرته —ولخيبة أملي— كان صحيحًا للغاية. كنت أعلم أن تنفيذ نصائحها سيكون مؤلمًا، لأنني سأضطر إلى مواجهة خوفي من الرفض، وأبدأ بتحية الآخرين.
و أخذت قرارًا جريئًا: سأمنح نفسي شهرًا واحدًا لتكوين صديق واحد.
كان هذا كل شيء، ولم يبقَ من الأمر إلا أن يُحسم في شهرٍ واحد، فإن فشلتُ في ذلك، فربما لن أنجح فيه أبدًا. ولم أجد وسيلة تُلزمُني بالجدّ في هذا السعي إلا أن أكتب عن تجربتي تلك. فأخذتُ أبدأ بوضع قائمة من القواعد.
أول ما واجهني كان تحديد معنى "الصديق" لأغراض هذه المهمة. ولعلّ هذا أصعب مما يبدو في ظاهره. أيمكن اعتبار من شربتُ معه قهوة واحدة صديقًا؟ بالطبع لا. وماذا إن اجتمعنا أربع مرات؟ أو شاركنا نشاطًا أعمق، كحضور حفلة موسيقية أو دورة لتعلّم الطهي؟ ثم تذكرت أن الصداقة تتطلب أشياء أبعد من مجرد لقاءات. إنها تحتاج إلى تلك النكات المتكررة التي لا تُفهم إلا بين طرفيها، وإلى ذكريات مشتركة، بل وإلى أعداء مشتركين أيضًا. كما أن الصداقة تستدعي قاعدة من المعرفة بالشخص: أيمكن أن تزعم أنك صديق لشخص وأنت تجهل اسم شقيقه أو وظيفة شريكه؟ ثم تساءلت: أيكفي أن يكون الإنسان صديقًا، أم أن عليه أن يكون صديقًا جيدًا؟ فأجهدت نفسي في التفريق بينهما حتى كدتُ أن أُثقل على نفسي قبل أن أبدأ المشروع. وأخيرًا قررت أن أكتفي بأن أبحث عن شخص أستمتع حقًا بصحبته، شخص أستطيع أن أتحمّل أعباء مشاكله كما لو كانت مشاكلي، وشخص يقبل أن يحمل معي أعبائي.
ثم وضعتُ مزيدًا من الإرشادات. رأيتُ أن دخول شخص جديد كليًّا إلى حياتي ليُصبح صديقًا هو أنقى أشكال هذه المهمة، لكنني قبلتُ أيضًا بترقية معارف ودودين إلى مرتبة الأصدقاء. وسمحتُ بالترتيبات المسبقة والأنشطة الترفيهية، لكن الصداقات البعيدة لم تكن مقبولة. كان على الصديق أن يكون في المدينة نفسها، دون أن تكون لديه نية الانتقال إلى مدينة أخرى، خصوصًا لوس أنجلوس. كذلك، لم يكن إحياء علاقة قديمة مع صديق سابق كافيًا. (وكان هذا القرار مؤلمًا حين قضيتُ وقتًا ممتعًا مع صديقتي المفضّلة من المدرسة الابتدائية – التي لم أتحدث إليها منذ عقدٍ كامل – وزوجها المهووس. لم يستغرق الأمر ساعةً حتى كنّا نتبادل عبارات مثل: "لا، بل كنتِ أنتِ الرائعة في الثانوية").
ثم جاءت مسألة الكيفية. وكانت النصيحة الأكثر شيوعًا أن أجد لنفسي هواية. لكنني كنتُ أدرك أن لدي شهرًا واحدًا فقط، ولم أعتقد أن في استطاعتي تعلّم مهارة جديدة وأثناء ذلك تكوين صداقات. تخيلت نفسي أنضمّ إلى معسكر لتعلّم ركوب الأمواج للكبار، لكن الفكرة وحدها أثارت في نفسي الرعب. فكّرتُ أن أعتبر كلبي هوايةً بحد ذاته، وأحاول أن ألتقي بأشخاص في حديقة الكلاب. لكنني تذكرتُ المحاولة السابقة ونتائجها المختلطة. فقد انتهى الأمر حينها بأنني قضيت وقتًا أطول مع كلب صديقتي المفترضة أكثر مما قضيتُ معها، إذ كانت تترك كلبها عند باب منزلي كلما سافرت، وهو ما بدا أنه يحدث بشكل مريب ومتكرر.
ثم جاءتني نصيحة من صديقة – وهي، للأسف، تعيش في لوس أنجلوس، حيث يبدو أن لديها حياة اجتماعية ناجحة. قالت لي بحكمة: "أظن لأنني كنتُ أواعد كثيرًا في الثلاثينيات من عمري، أصبحتُ أنظر إلى الأمر بطريقة مشابهة. عليك أن تعاملين الأمر كأنه هواية تتطلب وقتًا وجهدًا. وفي أفضل حالاته، أعتقد أنك تتعلمين الكثير عن نفسك، لأنك تتعلمين كيف تروي قصتك لأشخاص لا يعرفون سياقك، وتتعلمين من قصصهم أيضًا."
لذا، قررت أن أترك مسألة الهوايات جانبًا. ستكون هذه المهمة هي هوايتي. وكل من يهمه أمري كان يعرف قصتي بالفعل عن ظهر قلب، تلك القصة التي لم أعد أحكيها منذ سنوات. بل لم أعد متأكدة من أنني أعرف ما هي قصتي بعد الآن.
دخلتُ هذا المشروع على هيئة حصان حديث العهد بالحياة، ممتلئًا بالبهجة لمجرد وجودي في هذا العالم، غير أنني كنتُ أشعر بارتباكٍ عظيم، لا أدري إلى أي اتجاه ينبغي أن أتوجه. ولأن الخجل كان يهيمن على مشاعري، قررت أن أُثقف نفسي بالنظرية قبل أن أخوض غمار التطبيق العملي. وبدأتُ بقراءة كتاب ديل كارنيجي الكلاسيكي الصادر عام 1936 بعنوان كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس. ورغم أن هدفي الأساسي كان كسب الأصدقاء، وليس التأثير في الناس، إلا أنني لم أكن لأمانع تحقيق بعض التأثير العرضي أثناء هذه المحاولة.
ولكنّ الكتاب، كما تبين لي، يخاطب جمهورًا مختلفًا عنّي. فهو موجّه بالدرجة الأولى إلى أولئك الذين يجدون أن التعامل مع الناس هو أعظم مشكلة تواجههم، خاصة إذا كانوا يعملون في مجالات الأعمال. أما أنا، فقد كنتُ أبحث عن شيء أكثر بساطة، كرسالة نصية ودودة تصلني يوم الخميس تدعوني لتناول بوريتو بعد ساعتين. ومع ذلك، وجدت في الكتاب بعض الأفكار القيمة.
كان كارنيجي يؤكد أن الناس يتوقون إلى التقدير كما يتوقون إلى الطعام. وطرح بعض العبارات المُلهمة مثل: "دعونا ندرك أن الانتقادات تشبه الحمام الزاجل، فهي دائمًا ما تعود إلى المنزل." وكان جوهر رسالته بسيطًا ولكنه عميق: ابذل جهدًا صادقًا لملاحظة الأمور الجيدة فيمن حولك، وأخبرهم بأنك لاحظتها. وكن أقل انتقادًا، لأن الانتقاد مكروه من الجميع.
أخذتُ الكتاب معي خلال الأسبوع الأول من المشروع، آملًا أن يلفت انتباه أحدهم في الحافلة فيسألني عن سبب قراءتي له. لكن أحدًا لم يفعل ذلك. فقررت أن أتولى زمام المبادرة، وبدأت أخاطب أشخاصًا غرباء يرتدون سماعاتهم قائلة: "أنا أقوم بمشروع أحاول فيه تكوين صديق خلال شهر، لذا أقرأ هذا الكتاب السخيف." (وأظنك لا تحتاج مني إلى إخبارك بأن هذه المحاولة لم تُثمر شيئًا).
تخلّيتُ عن الكتاب، لكنني لم أتخلّ عن الحافلة. وفي يوم من الأيام، وجدتني جالسة أمام أب يحاول إقناع طفله بأكل موزة كان الطفل يصرّ على أنها مقززة. فقلتُ له متعاطفة: "يبدو أن الموز دائمًا ما يثير الدراما." ثم سألته عن عمر طفله، وهو سؤال يكاد يكون دعوة عالمية بين الآباء لفتح حديث ودّي. قال إن طفله يبلغ من العمر ثلاث سنوات، فأخبرته أن طفلي عمره سنة واحدة، واكتشفنا أننا نتجه إلى الحضانة نفسها. قلتُ لنفسي: "تصرفي بهدوء، فقد يكون هذا صديقًا محتملًا."
تحدثنا لبضع محطات عن حبه لفريق "نيويورك نيكس"، وأخبرني عن وظيفة زوجته في منظمة غير ربحية. واتفقنا على أن العمل من المنزل له مميزاته. وعند تسليم الأطفال في الحضانة، اقترحتُ عليه أن نلتقي يومًا ما. لم أطلب رقمه، إذ ظننت أنني سأراه غدًا وهو يخوض معركة جديدة مع موزة أخرى. لكنني لم أراه مرة أخرى.
لم أشعر باليأس. لقد تعلمتُ من هذه التجربة أن الأصدقاء لن يظهروا لي بمحض الصدفة، بل ينبغي أن أسعى إليهم بنيةٍ صادقة. وربما كان وجود الأطفال سببًا في اختفاء أصدقائي القدامى، لكنه قد يكون أيضًا جزءًا من الحل.
حين أنجبتُ ابنتي، قال لي كثيرون إن الأطفال يجعلون تكوين الصداقات أكثر سهولة. فقررت أن أجعلها فرصة. سجلتُ ابنتي في فصل سباحة للأطفال وآبائهم يُعقد صباح كل يوم سبت في مدرسة ثانوية. وذهبتُ مبكرًا لاستطلاع إمكانية تكوين صداقات جديدة.
كانت طفلتي تجلس على فخذي ملفوفة بمنشفة ذات ذيل ديناصور وهي تمص إبهامها. اقتربتُ من أم لطفل كان على وشك البكاء وسألتها: "هل فعلتِ هذا من قبل؟" لكن قبل أن تجيب، بدأ طفلها في الصراخ. أما الفصل نفسه فلم يكن أفضل حالًا. كنا ننقل الأطفال في الماء بينما نغني أغاني عن الماء، وهو ما تطلّب منا تركيزًا كبيرًا.
حاولتُ مجددًا وقلتُ لأم بجواري أثناء استراحة: "لا أصدق كم أن الماء دافئ هنا." لكنها لم تسمعني بسبب ضجيج رش الماء. كررتُ كلامي، لكنها لم تفهمني مرة أخرى. ثم بدأنا جميعًا نغني بأصوات لطيفة: "نود أن نرحب بفيليكس في حوض السباحة." وحينها أدركت أن خطة تكوين صداقات عبر الأطفال قد لا تكون مُجدية كما توقعت.
كانت الإهانات تتراكم علي فوق بعضها كحجارة تُلقى بلا هوادة. ولم يكن أشدها وقعًا ما يأتيني من الغرباء فحسب، بل ما كان يصدر عن أولئك الذين كنت أظنهم أصدقائي. فقد كان بعضهم، بعد سماعهم عن مشروعي، يعرضون عليّ أن يصبحوا أصدقائي، وكأنما لم نكن أصدقاء من قبل. وأذكر أن هذا حدث لأول مرة، ولم يكن بالأخيرة، في حفلة عيد ميلاد لطفل بلغ عامه الأول. كنتُ قد قصدت أن أطلب من صديقة أن تعرّفني على أحد أصدقائها. ولكن، وقد أدركت هي سوء فهمها، راحت تطمئنني بحماس شديد أننا أصدقاء بالفعل. مضت نصف ساعة وهي تؤكد هذا بينما كنت أتناول كعكة العيد في حزن صامت. ثم وعدتني بأن تصلني بصديقة لها عبر الرسائل النصية. ولم يمضِ سوى أسبوع حتى دعتني إلى مباراة كرة سلة قائلة: "بما أننا أصدقاء بالفعل ... إلخ"
أما صديقة أخرى، فقد استجابت لطلبي أن تعرّفني على أحد معارفها. وهنا، كان للمواعيد العمياء أثر إيجابي من حيث الفاعلية، إذ كانت بالتأكيد أفضل من حمل كتاب ديل كارنيغي في الحافلة. غير أنها كانت تزيد من شعوري بالغرابة. في إحدى هذه المواعيد، وقبل اللقاء، أرسلت رسالة نصية أشرت فيها إلى حي "كارول جاردنز" باسم مختصر "ك. ج"، وهو لقب لا يستخدمه أحد مطلقًا. وصلت إلى الموعد قبل عشر دقائق، وجلست أقرأ مذكرات سلمان رشدي عن حادثة طعنه في العين. وفي موعد آخر، ادّعيت أنني أصغر بعام مما أنا عليه، واضطررت لمواصلة الكذبة عبر قصة طويلة عن سنتي الثالثة في الجامعة. ولا أجد تفسيرًا لما فعلته في هذه اللحظات.
المشكلة لم تكن في المواعيد نفسها فقط، بل في مدى اهتمام الأشخاص بمشروعي. وهو اهتمام كان متوقعًا لكنه كان يستهلك الكثير من الوقت. في إحدى المرات، انخرطتُ في حديث عن نفسي مخالفة بذلك تحذير ديل كارنيغي الذي يؤكد أن الناس يهتمون بما إذا كنت تهتم بهم أكثر مما يهتمون بك. إحدى صديقاتي المحتملات، التي اكتشفت أنني كذبت بشأن عمري، قالت لي صراحة: "هذا المشروع غير طبيعي تمامًا."
ولأنها كانت قد صادقت مؤخرًا مجموعة من كبار السن في مكتبتها المحلية يلعبون "سكرابل" كل أسبوع، أخذت تنقل لي نصائحهم بحماس: "ينبغي أن تذهب غدًا!" قالت لي. بل إنها أصبحت قريبة من هذه المجموعة لدرجة أنها بدأت تكتب رواية رومانسية مع باربرا، البالغة من العمر 74 عامًا. وما إن وصفت لي هذه التفاصيل حتى شعرت بأنها ليست عالمي، وقلت لها إنني لن أفعل ذلك أبدًا. رفعت كتفيها في لامبالاة قائلة ضمنيًا: "ربما لهذا السبب لا تملكين أصدقاء."
ورغم أنني كنت أفضل أكل وعاء من قطع "سكرابل" على أن أطلب الانضمام إلى مجموعة باربرا، إلا أن قصتها أثارت داخلي رغبة شديدة في أن أكون صديقًا لشخص يفعل ذلك. عندها، خطر لي أنني ربما كنت مخطئة في البحث عن أشخاص يشبهونني. فصداقاتي الحالية، رغم أمانها وسهولتها، لم تكن تقدم لي تحديًا أو تجربة جديدة.
أدركت أن تفاعلي مع هذه الشخصيات المختلفة كان يجعلني أرى نفسي بوضوح أكبر. كنت أتعلم كيف أحكي قصتي لأشخاص لا يعرفون سياقي، وأتعلم قصصهم في المقابل. تذكرت كلمات إحدى صديقاتي العازبات: "في أفضل حالاتها، الصداقة تُعلّمك الكثير عن نفسك، لأنها تُجبرك على أن تكون أكثر وضوحًا بشأن هويتك." وهذا ما كنت أفعله.
اقترحت عليّ صديقتي المحتملة، كطريق مختصر إلى الألفة، أن نشارك أسرارًا لم نخبر بها أحدًا من قبل. كان سرّي غريبًا بما يكفي ليجعلني أبدو مجنونة، لكن سرّها جعلني معجبة بها أكثر. خلال الجولة الثانية من المشروبات، كنت أعرف عن كتب أختها الكبرى وعن تفاصيل طلاق والديها. وهي الآن تعرف عن وفاة كلب أخي وعن طلاق والديّ أيضًا.
لكن هذا السحر انكسر حينما نظرت إلى ساعتها. قسمنا الحساب، وقلنا كلمات المجاملة المعتادة: "سنفعلها مرة أخرى قريبًا!" ثم انطلقنا في طريقنا بينما كانت الأمطار تتساقط. كانت ليلة ممتعة، لكنها انتهت بإحساس مألوف. وأنا أراها تختفي حول الزاوية، كنت أعرف في قرارة نفسي أنها لن تأتي يومًا إلى منزلي بعلبة ريد سترايب بعد يوم عمل سيء.
كان مشروعي ذائع الصيت بين زملائي في المكتب. في كل اجتماع صباحي، اعتادوا أن يسألوني إن كنت قد كوّنت صديقًا جديدًا بعد. في بداية الأمر، كان السؤال يُطرح بعفوية وبساطة، لكنه سرعان ما تحول إلى نظرات متفحصة وأصوات قلقة كلما أجبت بالنفي. كانت الحواجب المرتفعة والطاولات المائلة تُظهر شعورًا يتزايد بين الحاضرين، وكأنهم يحملون عبء هذا المشروع معي. وفي صباح يومين فقط قبل نهاية الشهر الذي حددته لنفسي، شعرت بضغط الزمن يتسلل إلى صدري، فقمت بتنزيل تطبيق يُسمى "Bumble for Friends".
ما دفعني إلى التردد قبل الإقدام على هذا الفعل كان واضحًا؛ إذ بدا لي كأنني أنزل إلى ميدانٍ يعج بالتجارب العابرة. ولكن الوقت لم يكن لصالح أحد. بحذر بالغ وببساطة تُظهر شيئًا من الحياء، كتبت الملف الشخصي التالي: "أكتب لمجلة رجالية، أم لطفل صغير، ومالكة لكلب سيء جدًا. أحاول دائمًا تقريبًا أن أشرب مشروبي تحت الشمس."
لا أود أن أخبركم كم من الوقت قضيت في صياغة تلك الكلمات، ولكن يكفيني أن أقول إن إحدى المسودات المبكرة كانت تتضمن العبارة البائسة: "أحب أن أبقى هادئة." وكم من وقت استنزفته في التفكير فيما إذا كنت سأضمّن آرائي السياسية في هذا الوصف! هل يمكن أن أكون صديقًا لشخص لا يشاطرني تلك الآراء؟ تذكرت اللحظة التي شعرت فيها بالسعادة لدى سماعي حكايات صديقة "سكرابل"، وقررت أن أحاول على الأقل، الوصف الشخصي كامل وخالي من أي ذكر لآرائي حول كارل ماركس.
بعد أن أكملت الملف الشخصي، بدأت في استعراض الصور، واحدة تلو الأخرى، لأشخاص يبدو أنهم قد انتقلوا من أمستردام، وقضوا أوقاتهم في الخبز واستكشاف المدينة. كانوا ممرضات يعشقون موسيقى الهاوس، وأصحاب كلاب إنقاذ تركوا أصدقاءهم في أوستن، وأشخاصًا يمارسون اليوجا كما لو أنها دين حياتهم.
كنت أستهزئ بمن يكتب في ملفه الشخصي: "أنا مستعد لأي شيء، خاصة استكشاف المطاعم الجديدة والمغامرات 😉"، وكأنني لم أكن أستمتع بتلك الأشياء ذاتها. وشيئًا فشيئًا، بدأت ألاحظ صفات سطحية كنت أميل إلى حبها أو كرهها في الآخرين، وأدركت أنني لم أكن راضية عن هذا الجانب من نفسي. امتلاك القطط، على سبيل المثال، بدا لي علامة تحذير، رغم أن بعض أصدقائي المقربين كانوا يمتلكونها. أما من يصف يومه المثالي بأنه مخصص لـ"الحرف اليدوية"، فكان ينال مني نفورًا عجيبًا.
ورغم أنني، بحكم وضعي، لم أكن أفضل ممن كنت أحكم عليهم، فإنني كنت أقسو في حكمي، مبتعدة كل البعد عن تعاليم ديل كارنيغي. هؤلاء الأشخاص كانوا يعترفون، في ملفاتهم، بدرجة من الوحدة ويحاولون جاهدين ملء فراغاتهم بفصل فخار أو لقاء ودود. كلما استمريت في التصفح، زاد شعوري بالكراهية تجاه نفسي، وتجاه عجزي عن تقدير هذا الانفتاح القلبي على من يحتمل أن يكونوا أصدقائي.
وفي الوقت ذاته، شعرت بالندم على قلة تعاطفي مع أصدقائي الذين خاضوا هذه التجارب في الماضي بحثًا عن الحب. كم كنت أستخف بالألم الذي يشعر به الإنسان حين يُختزل إلى سيرة قصيرة، وكم كنت أجهل الرعب البسيط الذي يكتنف فكرة أن تحرك الشاشة باتجاه خاطئ قد يعني فقدان فرصة عظيمة.
لكن أسوأ ما شعرت به لم يكن في تخيلي لنفسي أشارك أحد هؤلاء الأشخاص فصلًا في الكيك بوكسينغ، بل كان في التفكير بما قد يلي ذلك. هل سنصبح شخصين عالقين في عالم ضيق من الفطور والحدائق وحفلات الهواء الطلق والهدوء الزائف؟ هذا التفكير أغرقني في وحدة أعمق مما بدأت به.
وفي تلك اللحظة، لم أستطع سوى أن أرسل رسالة نصية لأصدقائي الحاليين: "لا أصدق أنني اعتقدت أن هذا سيكون مهمة ممتعة." كانت الساعة الثالثة صباحًا، ولكنهم كانوا مستيقظين؛ إذ يعيشون على الساحل الغربي.
لم يكن الأمر، كما تبين لي، أنني كنت أبحث عن صديق واحد فحسب، بل كنت أبتغي جماعة من الأصدقاء. أردتهم أن يكونوا قريبين، كأن يجتمعوا لتناول البوريتو في ظهيرة خفيفة، أو أن نجد بعضنا بعد العمل حين نفقد وظائفنا، أو حين تنقطع أواصرنا مع أحبائنا، أو حتى حين نحظى بوظيفة جديدة. أردتهم أن يكونوا شركاء في تفاصيل الحياة الصغيرة، أن يتحققوا من شامات مشبوهة على جلدي، أن يأخذوا طفلي حين أتعثر في العمل، أن يظهروا في لحظة صدفة يحملون كعكة الباجل ويسألون إن كنت أريد مشاركتهم إياها. لم يكن ما أطلبه شيئًا يمكن لشخص واحد أن يوفره، بل كان رغبة في حياة أفضل، في العيش بطريقة لا تتيحها لنا حياتنا المعاصرة.
ما أردته حقًا كان شيئًا أشبه بما منعته مجتمعاتنا دون سبب معقول: أن نقضي أوقاتنا معًا بعفوية، حين نشاء، مع أشخاص يعرفوننا حق المعرفة، ويحبوننا رغم كل عيوبنا.
وقد كتبت الدكتورة فرانكو أن "الكهنة في العصور الوسطى كانوا يرتابون من الصداقة، خشية أن يُعمي حبها قلوبنا عن حب الله." ومن ذا الذي يلومهم؟ فالذي لا يملك أصدقاء حقيقيين لا يجد من يخبره، بهدوء يشبه الحكمة، أن تلك الرقائق التي نخشاها هي مجرد رقائق، وأن الحياة ليست دائمًا كما تبدو. الرأسمالية ذاتها تقوم على هذا النقص في الثقة. فمن دون أصدقاء حقيقيين، لا تجد الجرأة لتقول: "هذا العمل مرهق." و مكان العمل، حيث نقضي معظم ساعات يقظتنا، يستمر في استفادة أربابه من عزلتنا؛ فهو يعمل بشكل أفضل حين تكون علاقاتنا حميمة مع أنفسنا فقط، لا مع الآخرين.
وفي اليوم الأخير من الشهر، واجهت زملائي بالحقيقة: لم أجد صديقًا جديدًا. ويا للمفارقة، كان هذا الاعتراف نوعًا من الراحة. فقد تيقنت أن العالم الأفضل الذي كنت أحلم ببنائه يحتاج أكثر من شهر لتحقيقه. بعبارة أخرى: فشلت. وقد بدا لي أنني قد رضيت بحياة مليئة بالقهوة السريعة، والعلاقات الباهتة، ودوريات الكرة التي يشارك فيها الكبار. أخبرت نفسي أن قبول هذا الواقع يتطلب شجاعة ونضجًا.
لكن جماعة الأصدقاء الذين حلمت بهم لن يظهروا فجأة أمام بابي يحملون سلة من الكعك وقصصًا عن ذكريات مشتركة. لن يقولوا: "كنتِ الشخص الذي ينقصنا لنكمل دائرة أرواحنا." لن يدخلوا منزلي كأنهم وجدوا فيه بيتًا آخر لهم. لتحقيق هذا الحلم، كان عليّ أن أبدأ بصديق واحد. كان عليّ أن أفعل ما نصحت به الدكتورة فرانكو: أن أتحمل ذلك الشعور الهائل بعدم الراحة، ثم أعيد الكرة مرة تلو الأخرى.
وحين انتهيت من سرد حكايتي، أومأ زملائي برؤوسهم باحترام، ثم انتقلوا إلى البند التالي في جدول أعمالهم.
تكوين صديق، كما أدركت، يتطلب شجاعة عظيمة، وجهدًا لا يستهان به، وطاقة هائلة. وقد ظننت أنني أفتقر إلى كل ذلك. غير أن أفكاري المظلمة قُطعت فجأة برسالة نصية، أضاءت هاتفي. كانت صديقة مجموعة "سكرابل"! أرادت أن نلتقي من جديد. أرادت أن تسمع مني أسرارًا أخرى. وأنا أيضًا كنت أرغب في سماع المزيد من أسرارها.
أدركت حينها أن ترتيب موعد جديد معها قد يبدو صعبًا، لكنه بدا لي أكثر صعوبة أن أترك هذه الفرصة تضيع. أن أعد نفسي لحياة لا أسمع فيها أسرارها بدا لي ثِقلاً لا أستطيع حمله. فجأة، لم يعد صعبًا أن أبذل المزيد من الطاقة، و أن أستحضر المزيد من الشجاعة.
نعم، كنت أرغب في أن نقضي الوقت معًا. كنت مستعدة لأن أحرج نفسي مجددًا، لأن أنفق وقتي وطاقتي التي كنت أظنني أفتقر إليها. كنت مستعدة لأن أخاطر، وربما لأن أعاني. كنت أرغب في أن نصبح أصدقاء.
مترجم بتصرف من مجلة esquire بقلم Kelly Stout
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي