السلام كما نراه فى وجهة نظرنا
في عام 1975، دُعي رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحاق رابين، إلى مكتب البيت الأبيض للاجتماع بالرئيس الأمريكي جيرالد فورد ووزير الخارجية هنري كيسنجر. وكان من المقرر أن يتناول الاجتماع فرص تحقيق سلام دائم في منطقة الشرق الأوسط، وهو الهدف الذي دأبت الولايات المتحدة على السعي إليه وقتها. بدأ رابين حديثه موضحًا موقف بلاده:
من منظورنا، فإن العودة إلى حدود 1967 وإنشاء دولة فلسطينية يعني استحالة بقاء إسرائيل. فبالنظر إلى استعداد إسرائيل لتحقيق سلام نهائي، ومتطلبات أمنها، فإن حدود عام 1967 فيما يخص مصر وسوريا لا تتيح ترتيبات أمنية تضمن حماية دولة صغيرة تعدادها ثلاثة ملايين نسمة، في مواجهة دول يبلغ مجموع سكانها بين 60 و65 مليونًا. نحن مستعدون للسعي نحو السلام، ولكن الفجوة في هذه القضايا لا تزال شاسعة. لم نشعر بعد بوجود استعداد عربي يقترب من جوهر السلام كما نراه فى وجهة نظرنا.
من "وجهة نظرهم"، منذ عام 1948، كانت إسرائيل تواجه بحرًا عميقًا من عداء جيرانها "الذي لا يمكن تفسيره!". ومن وجهة نظرهم، كان من البديهي أن تجد إسرائيل نفسها بثلاثة ملايين نسمة في مواجهة ستين مليونًا. ومن ثم، وباعتبار أن الصهاينة كانوا دائمًا يرون أنفسهم أقلية تواجه الغابة العربية، وبما أن القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها أعداؤهم، كان لا بد لإسرائيل من اللجوء إلى وسائل العنف لتأمين تفوقها غير المتوقع، وذلك بمساندة قوة عظمى. والحل الأمثل في نظرهم كان توسيع الحدود لضمان الأمن. فلابد من ضمان أمن إسرائيل على أرض مسلوبة بإعتبار ذلك السبيل الوحيد لتحقيق السلام المنشود.
بعد أن أعاد كيسنجر التأكيد على التزام أمريكا بإسرائيل، طرح سؤالًا مألوفًا على رابين:
هنري كيسنجر: في إطار هذا المفهوم للأمن والسيادة، هل ترغبون في تعديل الحدود وكذلك تحديد خط انتشار مختلف؟
إسحاق رابين: سيكون خط الانتشار [مشيرًا إلى الخريطة] قابلًا للدفاع إذا ما اقترن بخط سياسي يكون هو الحدود النهائية. نحن لا ندّعي حقنا في شرم الشيخ [وهي جزء من مصر كانت إسرائيل قد احتلته]، لكننا نريد فقط أن نبقى هناك إلى أن نرى التزامًا قويًا بالسلام.
“نحن لا ندّعي حقنا في شرم الشيخ، فقط نريد البقاء هناك”. إسرائيل ستظل تحتل الأرض - لحمايتها من أهلها - إلى أن يحل السلام. رابين، الذي اعتبرته القوى الغربية حمامة سلام رغم أنه أمر قواته الإسرائيلية بكسر عظام الفلسطينيين حرفيًا، سينتهي به الأمر مقتولًا على يد أحد مواطنيه بسبب سعيه لتحقيق سلام من "وجهة نظر إسرائيلية".
♦♦♦
منذ بداية الانتداب الفرنسي على لبنان والبريطاني على فلسطين، وحتى أواخر الثلاثينيات، كانت الحدود بين فلسطين ولبنان مجرد خطوط بالحبر على الخرائط الاستعمارية. وفي عام 1938، حاول البريطانيون بناء سياج للفصل بين المنطقتين. في ذلك الوقت، كان واضحًا للكثير من الفلسطينيين أن الحركة الصهيونية تحمل في طياتها نوايا استعمارية واضحة. ردًا على ذلك، قام الفلسطينيون بتصعيد مقاومتهم المسلحة، مما لفت أنظار البريطانيين. وفي الوقت نفسه، كانت الميليشيات الصهيونية تتحرك بخطوات مدروسة. ففي أكتوبر من عام 1935، أثناء قيام العمال الفلسطينيين بتفريغ شحنات الأسمنت في ميناء يافا، انفجرت إحدى البراميل، ليتفاجأوا بوجود أسلحة وذخائر بداخلها. في النهاية، صادرت السلطات البريطانية مئات البنادق ومئات الآلاف من الطلقات، كانت موجهة لمنظمة "الهاجاناه"، وهي منظمة شبه عسكرية صهيونية شكلت نواة الجيش الإسرائيلي فيما بعد.
وفقًا لمقال نُشر في صحيفة "فلسطين بوست" (التي تعرف الآن بـ"جيروزاليم بوست")، وبالرغم من "التحقيقات الجادة والنشطة... حول الجريمة البالغة الخطورة المتمثلة في تهريب الأسلحة... بدعم مكثف من سلطات [الانتداب]"، لم يُعثر على التاجر اليهودي الذي كانت الأسلحة موجهة له في تل أبيب. هذا الحادث، إلى جانب التدفق الكبير للمهاجرين اليهود الأوروبيين إلى فلسطين في تلك الفترة، وبالرغم من التطمينات البريطانية بأن "كل الجهود تُبذل لكشف الجناة وتقديمهم للعدالة"، أدى إلى تعميق الشكوك المتزايدة لدى الفلسطينيين بأن الحركة الصهيونية، بمساعدة القوى الاستعمارية، كانت تسعى لبناء قوة إستيطانية وعسكرية تمكنها من الاستيلاء على الأرض.
رأت بريطانيا في الفلسطينيين الذين تحكمهم نوعًا من الغرابة وعدم العقلانية. فقد عبر مقال نُشر في صحيفة "واشنطن بوست" عن شكوى مفادها أن السلطات البريطانية كانت متسامحة إلى حد كبير مع "الاضطرابات التي يقودها زعماء العرب عمدًا"، تم وصف هذه الاضطرابات بأنها "خالية من أي دليل" و"مبالغ فيها إلى حد يجعلها تبدو كتمثيل مسرحي لا يمت إلى الواقع بصلة". وأشار المقال إلى أن العرب لم يكونوا سوى جماعة ساخرة، ينشرون دعايتهم ضد ضد من يحكمونهم دون أن يصدقوا هم أنفسهم ما يقولونه، "فقد كان الكثير منهم يحرّض على الكراهية بلسانٍ ماكر". وفي ختام مقاله، يصرّ الكاتب على أن "الأغلبية العربية في فلسطين – هل هناك حاجة للتكرار؟ – ليس لديهم ما يخشونه من هجوم المستوطنين اليهود"، الذين وصفهم في موضع آخر بأنهم "أقلية يهودية في فلسطين"، مشددًا بذلك على مبالغة العرب في ردود أفعالهم وما اعتبره الكاتب عدم منطقية موقفهم الذي يصعب فهمه! فالحقائق على الأرض لم تكن، كما يزعم، تدعم مخاوفهم. وربما، كما أضاف، كانت حساسية الفلسطينيين المفرطة تجاه هذا الأمر إشارة إلى أنهم بحاجة إلى التحليل النفسي، إذ إن "الاحتجاجات المبالغ فيها التي تصل إلى أقطار العالم قد تخفي ضميرًا مذنبًا".
وفي نوفمبر من عام 1935، استشهد الشيخ عز الدين القسام، القائد النضالي المناهض للإمبريالية، على يد القوات البريطانية. وكان القسام قد قدم إلى حيفا من مدينة جبلة السورية، حيث وُلد. وكما وصفه رشيد الخالدي، كان القسام "أول رسول علني للمقاومة المسلحة الريفية في فلسطين". ويُقال إن جنازته كانت الحدث السياسي الأكبر خلال فترة الانتداب البريطاني. فالغضب الذي انفجر في الشوارع عقب اغتياله، إلى جانب السخط الاقتصادي المتصاعد عبر الفئات الفلسطينية المتعددة، وحالات التهجير المبكرة، كان بداية لاندلاع الثورة العربية الكبرى التي امتدت بين 1936 و1939. ومع انتشار أخبار الثورة شمالاً، سارع العرب من لبنان وسوريا، وهما منطقتان خاضعتان للانتداب الفرنسي، للمشاركة في دعم أشقائهم الفلسطينيين في مقاومتهم.
ومن منظور بريطانيا، كانت هذه الوحدة في الصفوف تشكل خطرًا على سياستها الاستعمارية القائمة على "فرق تسد". وفي ديسمبر من عام 1937، وصل السير تشارلز تيجارت، الذي قد خدم في قوات الشرطة الاستعمارية البريطانية في الهند ثم في مجلس المستشارين الاستعماريين في لندن، وقد قدم الآن إلى إلى فلسطين كمستشار لحكومة فلسطين بشأن قمع "الإرهاب". كانت مهمته تقييم مدى خطورة التمرد ووضع التوصيات اللازمة للتعامل معه. فقام بجولات تفقدية لمراكز الشرطة، والتقى مع المسؤولين الاستعماريين، وقدم توصياته، التي شملت بناء العشرات من مراكز الشرطة المحصنة، والحصون والنقاط العسكرية في أنحاء فلسطين، بالإضافة إلى بناء سياج ضخم يفصل بين فلسطين ولبنان وسوريا الخاضعتين للانتداب الفرنسي. وسُمي هذا السياج "جدار تيجارت"، وكان يُعتقد أنه سيمنع تسلل المسلحين وتدفق الأسلحة من الشمال. بلغت تكلفة هذا المشروع حوالي 450,000 دولار. وتم تكليف شركة "سوليل بونيه"، وهي شركة صهيونية للبناء، ببناء جزء من هذا الجدار، بينما تم استيراد الأسلاك الشائكة من إيطاليا الفاشية بقيادة موسوليني.
وفي أغسطس من عام 1938، اكتمل بناء الحاجز المكون من أسلاك شائكة معززة بارتفاع تسعة أقدام، والذي تم بناء أجزاء كبيرة منه على أراضٍ خاصة، مما أدى إلى تقليص القدرة على الزراعة، وتقييد التجارة، وانتهاك حقوق الناس في التنقل. وفقًا لما ذكرته مجلة "تايم" (والتي ادعت في نفس المقال أن "الكثير من العرب الأقوياء في فلسطين" هم من أصول لبنانية وسورية) فإنه ما إن تم الإعلان عن إقامة هذا السياج في لجنة الانتداب الدائمة التابعة لعصبة الأمم في جنيف، حتى هاجمت مجموعة من "الإرهابيين العرب" أحد أجزاء السياج... وقاموا بتمزيقه ونقله عبر الحدود إلى لبنان. لكن، لم يدم الحاجز طويلاً، إذ سقط في العام التالي، وعادت الحدود لتذوب مرة أخرى، إلى أن جاء عام 1948.
إلى عام 1948. ففي الأيام والشهور التي تلت بداية النكبة، كان أولئك الذين حاولوا العودة إلى فلسطين لدفن جثث أحبائهم الذين أُجبروا على تركهم خلفهم، أو للصلاة على سجادهم الذي بقي مفروشاً في منازلهم، أو لإنقاذ ما تبقى من عالمهم المفقود، يُعتبرون "متسللين" ويُطلق النار عليهم من قبل دوريات إسرائيلية مكلفة بحماية الحدود الشمالية الأولية لدولتهم التوسعية. وفي نهاية المطاف، قام الإسرائيليون، كما فعل أسلافهم الإستعماريون، بتشييد سياج معدني على طول خط الحدود.
لكن السياج لا يصنع حدودًا. فالناس على الأرض رفضوا الحدود، وكانوا يجدون دائماً وسيلة لعبور السياج. وإسرائيل، فى الماضي كما هي الآن أيضاً، ترفض الحدود، ولكن لأسبابها المختلفة: فكل حد هو قيد صارم، سواء في المعنى أو في الجمال، على رؤية المستوطن. ومع ذلك، وفي مواجهة شعب يطالب بالعودة، قامت إسرائيل بتحديث أسوارها إلى جدران خرسانية، لتقليل أي احتكاك قد يعيق ما تسميه "السلام". ولكن أهل الأرض ظلوا مصرون على أن الجدران، كالسياج، يجب أن تُتَجاوَز. ولذا، قررت إسرائيل أنها يجب أن تُنهي وجود أهل الأرض.
♦♦♦
خطة تقسيم فلسطين التي وضعتها الأمم المتحدة في عام 1947 لم تكن إلا بداية لمستعمرة إستيطانية جديدة. ففي نوفمبر 1948، صرّح وسيط الأمم المتحدة بين إسرائيل و"العرب" بأنه "ليس في وضع يمكنه من 'الضغط' لتحقيق أي تسوية". كان هذا الوسيط قد شغل منصب مساعد الوسيط السابق، قبل أن يُغتال على يد مجموعة مسلحة إسرائيلية تُدعى "عصابة شتيرن"، التي اندمجت لاحقًا في الجيش الإسرائيلي. وقد أثارت صحيفة نيويورك تايمز في ذلك الوقت مخاوفها في عنوان واضح يفيد بأنه "لا توجد أي احتمالات لتدخل جاد من قِبّل الأمم المتحدة في المستقبل القريب—هناك شعور متزايد بين المراقبين هنا بأن الأمم المتحدة لن تقوم بأي خطوة جادة تجاه فلسطين على الإطلاق—ومع قبول وقف إطلاق النار، هدأت الأمور لفترة مؤقتة".
وفي أكتوبر 1948، غزت إسرائيل لبنان فيما بدا محاولة لبسط نفوذها واحتلال دائم للأراضي اللبنانية. وفي السياق ذاته، جاء في عنوان فرعي للمقال نفسه أن " أحدث أوامر وقف إطلاق النار في فلسطين، حيث كان الإسرائيليون يقاتلون اللبنانيين، أصبحت فعّالة في النهاية". "فعّالة" بمعنى أنها سارية المفعول نظريًا: كجزء من الهدنة،: حيث "أمرت الأمم المتحدة الجيش الإسرائيلي... بسحب القوات التي كانت قد تجاوزت الحدود اللبنانية إلى عمق يتراوح بين ميلين إلى ثلاثة أميال على طول الجبهة الشمالية. إلا أن الحكومة الإسرائيلية رفضت ذلك". وعلّق متحدث إسرائيلي قائلاً إن الجيش الإسرائيلي لم يتلقَّ أي أمر من الأمم المتحدة بشأن الانسحاب، مضيفًا في نفس الوقت أنه حتى لو صدر هذا الأمر "فإننا نحتفظ بحقنا في احتلال الأراضي التي تم الاستيلاء عليها قبل الهدنة الثانية". وبحلول 15 نوفمبر، جاء في عنوان آخر لنيويورك تايمز: "المزيد من التأخيرات حول حدود إسرائيل". وكان "عدم اليقين" الأمريكي حول مستوى الضغط المناسب على الدولة الناشئة عاملاً رئيسيًا في تلك التأخيرات. ورغم ذلك، فإن فرض عقوبات على إسرائيل بسبب انتهاكاتها الحدودية اعتُبر غير مستحسن، خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى دفع الدولة الجديدة للبحث عن المساعدة من الشرق.
وفي 10 ديسمبر، استنكر القنصل العام لإسرائيل "الإدعاءات" التي تشير إلى انتهاكات إسرائيل للحدود مع جيرانها، واصفًا هذه الادعاءات بأنها "سخيفة ولا أساس لها [وتهدف بوضوح مرة أخرى إلى تعقيد وتشويه موقف الحكومة الإسرائيلية أمام الأمم المتحدة]". رغم أن الدولة الصهيونية لم يمر عليها عام بعد، إلا أنها كانت قد بدأت بالفعل في التذمر من مطالبتها بأخذ الآخرين في الإعتبار.
ويكشف هذا الرد عن جانب أساسي من العقلية الصهيونية: إذأن مجرد ذكر سيادة دولة أخرى أو الإشارة إلى اعتداءات إسرائيلية، بغض النظر عن مدى عدوانيته، يُعتبر دائمًا من قِبل الصهيونية محاولة لتشويه سمعتها. (أما جوهر الاتهامات الموجهة—اليوم، إبادة جماعية—فهو أمر لا يبدو ذا أهمية في نظرهم). وفي تلك الفترة، أدان القنصل الإسرائيلي أيضًا مقالين نُشرا في "الإيكونوميست"، لمجرد أنهما قدمتا "أفضل تقرير حتى الآن عن وضع اللاجئين العرب." "وضع" اللاجئين "العرب"، تلك العبارة التي تحمل في طياتها استخفافًا: وكأن لا أحد يعرف كيف حدث ذلك.
وفي 23 مارس 1949، وقّعت إسرائيل ولبنان اتفاقية هدنة ترسيم الحدود تلزم إسرائيل بالانسحاب من تسع قرى لبنانية محتلة "إضافة إلى خمس قرى أخلتها مؤخرًا كإشارة لحسن النية". وعلّقت صحيفة نيويورك تايمز على ذلك، مرة أخرى بلغة مبهمة ترفض تسمية الطرف المسؤول، مشيرة إلى أن هذا الانسحاب "سيخفف من مشكلة اللاجئين في لبنان". وقد دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ بعد تبادل للأسرى: سبعة إسرائيليين مقابل 38 لبنانيًا.
وأثناء التوقيع، أكد رئيس الوفد الإسرائيلي أن "إسرائيل لم يكن لها نزاع مع لبنان في الماضي"—وهو تصريح يثير الدهشة، إذ كيف لدولة لم تتجاوز عامها الأول أن تدّعي عدم وجود خلافات سابقة، في حين أن كل تاريخها القصير كان -وما زال- مليئًا بالحروب المستمرة مع كل من حولها. واستطرد قائلاً إن إسرائيل "لا ترى أي سبب لنزاع في المستقبل". لم تر إسرائيل أي سبب للنزاع في المستقبل لأنها لم تعترف أصلاً بوجود الفلسطينيين، مئات الآلاف منهم قد لجأوا إلى لبنان في العام الأخير فقط منذ بداية النكبة. ولأن الإسرائيليين لم يقبلوا بفكرة أن الشعوب الأصلية للأرض قد يكون لها التزامات تجاه بعضها البعض يوفون بها، ولم تعترف بأن عدوانها على لبنان قد يحمل عواقب. والأهم من ذلك، كما ستبين الأيام، أنهم لم يتوقفوا عن هذه الاعتداءات تحت أي مسمى لحسن النية. واحتفل رئيس الوفد الإسرائيلي بالقول: "الاتفاقية التي تم توقيعها للتو تمثل نهاية فصل مؤلم". وفي عام 1951، نشرت صحيفة نيويورك تايمز خريطة تصنف البلدان العربية المحيطة بإسرائيل بناءً على "عدائها" لها، تحت عنوان لتذكيرنا بأن أوروبا وفروعها هي التي تحاول جعل الدولة الصهيونية مركز عالمنا ("الإسرائيليون وجيرانهم العرب"). وقدمت الخريطة تقديرات سكانية لهذه البلدان، وقسمتها إلى ثلاث درجات من العداء، من الأعلى إلى الأدنى، وكان لبنان يُصنف في ذلك الوقت ضمن الأقل عداءً.
♦♦♦
السياج المعدني الذي أقيم لفصل فلسطين عن الفلسطينيين، لم يكن إلا عائقًا هشًا تم اختراقه بسهولة. ومع مرور الأشهر بعد عام 1948 وتحولها إلى سنوات، أخذت الآمال المعقودة على القانون الدولي الوليد تتلاشى تدريجيًا. وليس ذلك بعجيب، فقد نشأ هذا القانون من قوى كانت نفسها المسؤولة عن تسليم أرض ليست ملكًا لها إلى قوم لا يحق لهم إمتلاكها. ومن هنا، شهدنا تصاعد العمليات العسكرية الفلسطينية التي انطلقت من لبنان نحو فلسطين المحتلة، وذلك بقدر ما تسمح به الإمكانيات المتاحة لهؤلاء المقاومين. وفي منتصف الستينيات، قامت منظمة التحرير الفلسطينية، التي اشتد عودها بعد نكسة 1967، بتكثيف عملياتها ضد الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية عبر الأردن. وفي عام 1968، شنّت إسرائيل غزوًا على الأردن، بحجة وقف تلك الهجمات، لكنها اضطرت في نهاية المطاف إلى التراجع والانسحاب. وفي عام 1970، استغل الأردن تفشي الفساد في منظمة التحرير ورضخ للضغوط الخارجية المتزايدة، ليهاجم الفصائل الفلسطينية فيما سيُعرف لاحقًا بأحداث "أيلول الأسود"، والتي انتهت بطرد المنظمة إلى لبنان.
وفي عام 1978، لم تتوانَ إسرائيل عن غزو لبنان مرة أخرى، هذه المرة مدعية أن وجود منظمة التحرير الفلسطينية يمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها. وقد طالبت بإنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح في جنوب لبنان، تمتد بقدر ما يصل إليه مدى صواريخ المقاومة الفلسطينية. ولكن هذا المطلب كان يخفي وراءه نوايا أخرى؛ إذ أطلقت إسرائيل على غزوها اسم "عملية الليطاني"، نسبة إلى نهر الليطاني الذي كانت الصهيونية تطمح إلى ضمه لدولتها. فالليطاني، وهو أطول نهر في لبنان، يغذي بعضًا من أخصب الأراضي الزراعية في المنطقة، وقد كان منذ زمن هدفًا للاستعمار. ففي أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، وقعت معركة شهيرة سُمّيت باسم النهر، جمعت بين القوات الفرنسية المتحالفة مع المحور معركة ضد القوات البريطانية والأسترالية. وقبل ذلك بعقدين من الزمن، وبعد أن وقّع اللورد بلفور على إعلانه الشهير، قدم دافيد بن غوريون وحاييم وايزمان، وهما من مؤسسي الدولة الصهيونية، خريطة لدولتهم المنشودة في مؤتمر باريس للسلام عام 1919. تلك الخريطة كانت تشمل، بحسب تصورهم المثالي، نهر الليطاني الذي كانت بريطانيا وفرنسا قد اتفقتا على ضمه لأراضي الإنتداب الفرنسي.
وفي عام 1982، وبعد فشل عملية "الليطاني"، أقدمت إسرائيل على غزو لبنان مرة أخرى، لكن هذه المرة أطلقت على غزوها اسم "سلام الجليل". وكانت خطتها تتلخص في إفراغ بيروت من المقاتلين الفلسطينيين واحتلال جنوب لبنان بشكل دائم، إما مباشرة أو عبر قوات وكيلة. وقد بدأت إسرائيل منذ سنوات بتأسيس ميليشيا تُدعى "جيش لبنان الجنوبي"، وفي بداية ما سُمّي بالحرب الأهلية اللبنانية، أعلن هذا الجيش أن هدفه الرئيسي هو السيطرة على الأراضي التي "يسيطر عليها" الفلسطينيون الذين تمركزوا في جنوب لبنان. جيش لبنان الجنوبي، وهو قوة انفصالية تديرها القوى المحتلة لفلسطين، رفع ثلاثة أعلام في مقره: علمين لبنانيين يحتضنان بينهما العلم الإسرائيلي.
ومع اشتداد الحرب الأهلية اللبنانية، اضطرت الفصائل الفلسطينية إلى تحويل جزء كبير من مواردها، التي كانت موجهة في الأساس لمواجهة إسرائيل، نحو الداخل اللبناني. وقد اندلعت تلك الحرب نتيجة سلسلة من الأحداث، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير فيها هي المجزرة التي ارتكبتها جماعة مسلحة تُدعى "الكتائب" ضد حافلة مليئة باللاجئين الفلسطينيين في طريقهم إلى مخيم تل الزعتر. جماعة الكتائب، التي استلهمت أفكارها من الفكر النازي، كانت ترى في نفسها امتدادًا لأوروبا، معتقدة أنها تشترك مع الأوروبيين في أصل مزعوم من جبال القوقاز، فضلاً عن عداء مشترك تجاه العرب. (مؤسسها،، بيار الجميل، كان قد سافر إلى برلين لحضور دورة الألعاب الأولمبية عام 1936، وتأثر بالنموذج القومي العسكري هناك، ثم صاغ نموذجًا مشابهًا مزودًا بلمسة مسيحية عنيفة، واعتبر أن "الانضباط"، الذي رآه في النظام النازي، هو أكثر ما يحتاجه الشرق الأوسط).
وعلى غرار حلفائهم في جيش لبنان الجنوبي، كانت ميليشيات الكتائب تتلقى دعمًا ماليًا وعسكريًا من إسرائيل. وتعود جذور هذه العلاقة إلى عام 1948، حين طلبت الكتائب من إسرائيل مساعدتها في الإطاحة بالحكومة اللبنانية. (وهذا رغم أن "إسرائيل لم يكن لها خلاف مع لبنان في الماضي"). بل إن علاقة إسرائيل بالموارنة اللبنانيين، وهم الطائفة التي ينتمي إليها كل من الكتائب وجيش لبنان الجنوبي، تمتد إلى أبعد من ذلك، إلى عام 1920 على الأقل، حين وقع الطرفان "اتفاقية تعاون". وقد كان الهدف من هذا التحالف، بحسب وزير خارجية إسرائيل الأول، هو "إخراج لبنان من الدائرة العربية... وانضمامه إلى [إسرائيل] يمثل خطوة تبعث على الارتياح وتفتح الباب لإعادة ترتيب شاملة في بنية الشرق الأوسط". (نسمع أصداء لهذا في تصريحات كوندوليزا رايس حول "آلام ولادة شرق أوسط جديد"، والتي استخدمتها لوصف مجزرة المدنيين اللبنانيين على يد إسرائيل في عام 2006).
وفي أغسطس من عام 1976، قام رئيس مكتب صحيفة "تايم" في القدس بجولة في المناطق الحدودية بين لبنان وإسرائيل، وكتب قائلاً:
بالقول والفعل، تفعل إسرائيل كل ما في وسعها—باستثناء الغزو الشامل—لتحييد حدودها اللبنانية. ولهذا الغرض، أقامت علاقات مع وحدات الجيش اللبناني المتمردة، وهي القوة الوحيدة شبه الحكومية المتبقية في المنطقة، وتسعى إلى كسب ود سكان القرى الحدودية، إن لم يكن قلوبهم و عقولهم أيضاً. ويبدو أن سياسة إسرائيل تؤتي ثمارها—حتى الآن. المنطقة هادئة
طلقت إسرائيل على حدودها مع لبنان في تلك الفترة اسم "السياج الطيب"، ذلك الحاجز الذي أقامته بين أراضيها وأراضي لبنان، لكنها لم تُقمّه للحماية فحسب، بل لتفتح من خلاله قنوات تُشرف فيها على حياة من يقيمون خلف هذا السياج. وكان أعضاء جيش لبنان الجنوبي وأسرهم يقضون عطلاتهم ويبحثون عن عمل في إسرائيل. ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأت البضائع الإسرائيلية تغزو المتاجر اللبنانية في الجنوب، أو تُشحن من الموانئ اللبنانية لإعادة تصديرها. ومع ذلك، رفضت إسرائيل دفع الرسوم الجمركية، رغم احتجاجات حلفائها اللبنانيين. وعلى الجانب الآخر، كانت البضائع اللبنانية محرومة من دخول الأسواق الإسرائيلية، وكأنَّ هذا الحاجز لم يكن سياجًا للتجارة، بل أداة تحكم وتسلط. وقد أشارت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور في عام 1982 إلى أن "بعض الإسرائيليين يأملون—وفقًا لما تظهره الأدلة حتى الآن—أنه سواء تم توقيع معاهدة سلام أم لا، فإن لبنان سيصبح ليس فقط سوقًا متنامية للتصدير، بل أيضًا معبرًا للصادرات الإسرائيلية إلى العالم العربي."
وفي عام 2000، جاء التحالف الذي قادته المقاومة اللبنانية، بقيادة حزب الله، ليُرغم إسرائيل على سحب قواتها من لبنان، تاركة وراءها عملاءها في جيش لبنان الجنوبي دون سابق إنذار. وفي تلك اللحظات، كان قائد الجيش، أنطوان لحد، في باريس، يحاول تأمين الدعم لقواته من المستعمر السابق للبنان. وقد عبَّر عن أسفه العميق لتخلي إسرائيل عن قواته، بل وتوسل إليها أن تبقي الحدود مفتوحة، كي يتمكن رجاله من تلقي الرعاية الطبية والدعم المادي الذي يمكّنهم من مواصلة القتال. ولكن، رغم استغاثاته، تم إغلاق ما كان يُعرف بـ"السياج الطيب". فرّ لحد بنفسه إلى إسرائيل، حيث حُكم عليه بالإعدام غيابيًا في لبنان بتهمة الخيانة. عاش حياته في المنفى حتى مات بسلام في باريس عام 2015.
وعندما أُعلن عن تحرير جنوب لبنان في مايو 2000، رأينا مشهدًا نادرًا يثير في النفس أحاسيس مُتضاربة: الفلسطينيون، من جانبي السياج، يندفعون نحو بعضهم البعض، وكأنهم يستعيدون زمنًا مضى لم يلتقوا فيه لعقود. وفي لقطات مسجلة من تلك الأيام، نرى الناس يتبادلون الكلمات والقبلات، وتمد الأيادي عبر الفجوات في الأسلاك الشائكة، وكأن هذه اللحظات تجمع ما فرقته سنوات الاحتلال والشتات. وفي مشهد مؤثر، نرى أحد الوالدين ينقل طفله، الذي ربما وُلِد في لبنان، عبر صفين من الأسلاك الشائكة إلى فلسطين، ليقابل أهله وأرضه. وفي زاوية أخرى، يجلس الجنود الإسرائيليون بلا حراك في سياراتهم العسكرية، وكأنهم يشهدون على عجز هذه الأسلاك عن منع هذه اللحظات الإنسانية.
وفي عام 2021، قامت إسرائيل بتدشين نصب تذكاري "لذكرى من سقطوا من جيش لبنان الجنوبي"، ووزعت ميداليات على أعضاء المنظمة الذين قاتلوا إلى جانبها، وهي المرة الأولى في تاريخ إسرائيل التي تُمنح فيها ميداليات لمقاتلين من خارج الجيش الإسرائيلي. وقد حلَّ هذا النصب محل النصب الأصلي الذي بُني قبل عام 2000 داخل الحدود اللبنانية، والذي دمره حزب الله بعد تحرير لبنان. وخلال الحفل، تمت تلاوة صلاة خاصة باللغة العربية، في إطار مبادرة لتعزيز التنوع، التي لاقت استحسان وسائل الإعلام الإسرائيلية. ويحمل النصب نقشًا باللغتين العربية والإنجليزية يقول: "سنتذكر جنود جيش لبنان الجنوبي الذين سقطوا دفاعًا عن بلدات جنوب لبنان وشمال إسرائيل." يقع هذا النصب في مستوطنة تدعى "مطلة"، وهي مستوطنة بُنيت على أنقاض قرية "المطلة" اللبنانية، التي كانت تعني "النقطة العالية". وقد أخذ الإسرائيليون الاسم من العربية. وكانت القرية قائمة على جانبي الحدود التي تغيرت عدة مرات خلال فترة الانتداب. خلال أيام "السياج الطيب"، كان أنصار جيش لبنان الجنوبي يمرون عبر القرية في طريقهم للمشاركة في القوة العاملة الصهيونية. ولكن منذ أكتوبر 2023، تم إخلاء مطلة، وصرح ربع سكانها على الأقل بأنهم لن يعودوا، مشيرين إلى عجز حكومتهم عن ضمان أمنهم.
♦♦♦
وفي لحظة نادرة من التأمل الذاتي، كتبت صحيفة جيروزاليم بوست في عام 2012 أن “مصطلح "السياج الطيب" هو بطبيعته تناقض في المصطلحات، لأن الأسوار تفصل وتفرق”. ولكن هذا الاعتراف لم يدم طويلاً، حيث أفسد المقال نفسه في السطر التالي بأن إسرائيل كانت تأمل أن يكون هذا السياج وسيلة للتعايش مع المسيحيين والقرى في جنوب لبنان. ما لم يقصدوا "التعايش" حرفيًا—بمعنى أنني أعيش هنا وأنت تعيش هناك، حتى وإن لم نلتق أبدًا مثل خطين متوازيين—فأنا لا أعرف وقتًا عكس فيه السياج الذي فرضه مستعمر على مستعمره أي رومانسية مفرطة في الأمل.والأهم من ذلك، حتى استعارة الخطوط المتوازية هي سخية للغاية، لأن إسرائيل تفتقر إلى القدرة الأيديولوجية لاستيعاب أي شيء من حولها على نفس المستوى—فهي تفضل دائمًا التبعية على المساواة. فعنصريتها المتأصلة، كوسيلة للبقاء، تجعلها ترفض الاعتراف بأنداد لها في الجوار.
إن إسرائيل لا تزال تصر على أن حدودها مع لبنان يجب أن تشمل أراضي لبنانية، وأن يكون الجنوب منطقة "منزوعة السلاح". وتكرر إسرائيل دعوتها لهذه المنطقة باسم السلام، ولكن بنبرة من الاستعلاء المتوتر وكأنها الشخص البالغ الوحيد في الغرفة. ولكن بالطبع، نزع السلاح لا يمكن أن يكون متبادلاً، لماذا يجب على إسرائيل أن تتخلى عن حقها في "الدفاع" عن نفسها؟ في النهاية، لا يمكن الوثوق بأعداء إسرائيل للحفاظ على "السلام النهائي" الذي تحدث عنه رابين -من وجهة نظرهم-.
في مقالة حديثة نشرتها نيويورك ريفيو أوف بوكس يتناول الكاتب سياسة إسرائيل في اغتيال قادة أعدائها في الدول الأجنبية، مشيرًا بحق إلى أنها سياسة لم تُحقق النجاح المنشود. بل إنها، بدل أن تضعف حركات المقاومة، لم تكن سوى وسيلة لإرضاء شعور الإسرائيليين بالتفوق الآني، تلك المشاعر التي يعيشونها لحظاتٍ عابرة من التفوق الزائف، بدلا من تقويض حركات المقاومة مادياً. السؤال الذي قلما يُطرح هو: بأي حق تستمر إسرائيل في تجاهل سيادة الدول الأخرى؟
الحدود تهدف إلى تحقيق غايتين: ترسيم الأراضي السيادية وضمان الأمن. بيد أنَّ إسرائيل قد قلبت هذا المفهوم رأساً على عقب. إذ إنها لا تستطيع أن تحدد حدودها—بمعنى تلك النقاط التي يصبح تجاوز طائراتها المسيرة ومقاتلاتها لها عدوانًا—دون أن تضمن الأمن أولًا. فإسرائيل لا تمتلك حدودًا معترفًا بها دوليًا مع لبنان، بل لديها فقط خط هدنة يعرف بخط "الأزرق"، الذي حددته الأمم المتحدة، وأُعززت حدوده بجدران خرسانية سميكة منذ عام 2006. أما على خرائط غوغل، فتظهر الخطوط المتقطعة بين إسرائيل وغزة والضفة الغربية، التي تطلق عليها إسرائيل الاسم التوراتي "يهودا والسامرة"، كمناطق متنازع عليها. وهي كذلك، حرفيًا، لأن إسرائيل تعمل على السيطرة عليها، متبعة منطق "القوة هي الحق".
وعلى هذا المنوال، نجد الجدران قد أُقيمت على طول الخط الأخضر الفاصل بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية، فأصبحت هناك جدران بلا حدود. وأينما وُجد الجدار، حلّت فكرة زواله في يومٍ من الأيام، حين يتحقق الأمن المزعوم بعد إفراغ الأرض من أهلها من أجل السلام الذي طالما تحدّثوا عنه -من وجهة نظرهم-.
إنإسرائيل، بطبيعتها، مشروع توسعي، وككل المشاريع التوسعية، تفضل وجود آفاق متسعة بلا حدود واضحة. فالمستوطنون الإسرائيليون، الذين تدعمهم الدولة وتسلحهم، يزحفون نحو الأحياء الفلسطينية في الضفة الغربية، ويدفعون "العرب" إلى جيوب صغيرة تُضيَّق يومًا بعد يوم. واليوم، نرى حركةً متنامية داخل هذا الكيان المستوطن تطالب بتحقيق "إسرائيل الكبرى"، تلك الدولة التي تضم أراضي تمتد من نهر مصر إلى الفرات. وإن كان الإعلام الغربي يقدّم هذه الرؤية على أنها تطرف هامشي، فماذا نقول حين نجد وزير الأمن الإسرائيلي نفسه، إيتمار بن غفير، من بين مؤيديها؟ وما الذي يُميز الموقف الآخر، الذي يُسمى بالمعتدل، حينما نجد قادة مثل رابين قد احتفظوا لإسرائيل بالحق في التوسع بالقدر الذي تراه ضروريًا، باسم الأمن؟ أليس جوهر هذه المواقف واحدًا، سواء أكان باسم الدين أو باسم الدولة؟
الحدود غير المستقرة لإسرائيل ليست خللًا ينبغي حله، بل هي جزء من طبيعة الدولة الصهيونية. وهي التي تمنحها الحصانة الذاتية المضمونة من قبل الولايات المتحدة. فكما هو الحال مع الدول الاستعمارية الأخرى، تعطل الحرب القانون. وإسرائيل، التي تعيش في حالة حرب دائمة (والتي كما كتبت سابقًا هي دولة عدوان في جوهرها)، تعيش أيضًا في حالة قانونية فوضوية دائمة، حيث تُستخدم كلمة "الأمن" كشعار يُخفى وراءه مآربها الحقيقية.
من وجهة نظر إسرائيل، فإن أعداءها لا يملكون الحق في الدفاع عن أنفسهم، بل يُنظر إلى وجودهم ذاته كتهديد وجودي. وعليه، فإن السلام في أعين إسرائيل لن يتحقق إلا بزوال الفلسطينيين ومن يناصرهم. أما "الأمن" لإسرائيل، فهو ليس إلا وسيلة لتبرير حقها التأسيسي في القتل والهيمنة والمذابح ونزع الملكية دون حسيب أو رقيب. إن التأكيد المستمر على هذا الحق هو الوسيلة الرئيسية للدولة الصهيونية للحفاظ على قوتها.
في مقالة نشرت في جيروزاليم بوست، أعرب كاتبها عن قلقه من أن “إسرائيل باتت تُحيط نفسها بالأسوار دونما تفكير أو تخطيط”. ففي إسرائيل، بات هنالك إجماع على أن "الجيران" هم من يجب عليهم أن يُسجنوا داخل الأسوار، لا "نحن". وإن هذه الجدران، كسائر جدران المستعمرين في تاريخ البشرية، تُفرض على الأرض والسكان الأصليين. ولكن هل تستطيع الأسوار "الذكية" أن تنكر الحقيقة؟ هل يستطيع الجدار أن يُخفي ما اقترفته الدولة الصهيونية بحق فلسطين؟
في السابع من أكتوبر، انهارت هذه الحسابات المعقدة، تلك الحسابات التي سمحت لإسرائيل ببناء أسوار مؤقتة على أرض تعتبرها كلها ملكًا لها، على أن تُبقي سكانها الأصليين خارجها ولكن تحت مراقبتها وضمن مدى أسلحتها. اليوم، تُشكل تكنولوجيا الأسوار الذكية التي أقامتها إسرائيل حول غزة نموذجًا لتطوير سياجها الذكي في جنوب لبنان. بيد أن لا هذا ولا ذاك يُرسم حدودًا آمنة، بل إنهما لا يرسمان حدودًا على الإطلاق. فالأسوار مهما بلغت من الذكاء لا تستطيع محو الماضي، ولا تستطيع محو شعب لن يغفر ولن ينسى. واليوم، للمرة الأولى، نجح اللبنانيون في إنشاء منطقة عازلة داخل إسرائيل. ومع ذلك، يستمر السور الذكي في أن يصبح أكثر ذكاءً، لكنه يتهرب "بغباء" من مواجهة السؤال المستحيل.
مترجم من مجلة proteanmag بقلم Mary Turfah