في كتابه "إنسان مفرط في إنسانيته" (1878)، نرى فريدريك نيتشه يشير إلى غياب الحس التاريخي بوصفه الخطيئة الأولى التي وقع فيها جميع الفلاسفة. في هذا الاتهام، كان نيتشه يصوغ رؤية تتجاوز رؤيته الخاصة، إذ يعكس بذلك ميلاً متصاعداً في الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر. فالقرن الثامن عشر عُرف بأنه "قرن فلسفي" بامتياز، حيث ساد التركيز على مبادئ العقل والشمولية، بينما جاء القرن التاسع عشر ليُعرف أحيانًا بـ"قرن التاريخ"، حيث تلاشت تلك النظرة الشمولية للعقل لصالح دراسة المسارات التاريخية المحددة وتأثيرها في اللغة والثقافة والأخلاق.
وقد اكتسب القرن التاسع عشر لقب "قرن الفيلولوجيا" أو علم اللغة التاريخي. فمصطلح الفيلولوجيا، الذي يستدعي في أذهاننا اليوم صوراً لمجلدات غارقة في الغبار، مليئة بالنقد الحذر والمصادر المدققة، كان في تلك الحقبة تعبيرًا عن دراسة نقدية عميقة للمصادر المكتوبة، متضمنةً خصائصها اللغوية وتاريخ تلقيها وسياقها الثقافي. هذه الفيلولوجيا لم تكن مجرد تخصص أكاديمي، بل كانت في أوج تطورها، إذ شكّلت واحدة من المجالات الفكرية الرائدة في ألمانيا القرن التاسع عشر، وأدت تلك التطورات المنهجية إلى قلب فهم النصوص القديمة والمقدسة رأساً على عقب. فظهرت أساليب صارمة للتحقق من صحة النصوص، وحُجبت الافتراضات التأملية، وتوسعت الدراسات المقارنة للغات بدقة أكبر. ورغم أن هذه الأساليب كانت علمية بطبيعتها، بل وربما قريبة من الأسلوب الجدلي المدرسي، إلا أن تطبيقاتها تركت أثراً ثقافياً بعيد المدى، حيث تجاوزت حدود المجلات الأكاديمية لتصل إلى أذهان العامة.
تعمق نيتشه في تلك التيارات الفكرية منذ شبابه؛ فكان طالباً مميزاً باستثناء الرياضيات، وقُبل في سن الرابعة عشرة في مدرسة شيلبفورته، التي كانت واحدة من أرقى المدارس الإنسانية في ألمانيا، ومركزاً لتخريج العلماء والمعلمين. وتخصصت هذه المدرسة في دراسة الكلاسيكيات، حيث نال نيتشه تعليمًا صارمًا في اللغتين اليونانية واللاتينية، وقرأ أعمالاً تاريخية لمؤلفين أمثال فولتير وشيشرون، وكتب أبحاثًا لغوية حول مواضيع متنوعة، مثل ملحمة إيرماناريك والشاعر اليوناني ثيوغنيس.
وقد انعكس هذا التعليم الفيلولوجي على أعمال نيتشه المبكرة، التي تناولت الحضارة الإغريقية بشكل مباشر، مثل "مولد المأساة" (1872)، وامتد تأثيرها إلى كتبه اللاحقة حول الأخلاق وعلم النفس الأخلاقي. إن فهم هذا التأثير الفيلولوجي يشكل حجر الأساس لاستيعاب القيمة الفلسفية لكتابه الأهم، "أصل الأخلاق" (1887)، والمنهج الفلسفي "الأنسابي أو الجينولوجي" الذي ألهمه هذا العمل.
يعد كتاب "أصل الأخلاق" نصًا فلسفيًا معقدًا؛ إذ يتناول قضايا كلاسيكية في الفلسفة الأخلاقية، مثل مفهوم الخير، والإرادة الحرة، والمسؤولية الأخلاقية، والشعور بالذنب. لكنه لا يتناول تلك القضايا بالطريقة الفلسفية التقليدية، كطرح الأسئلة المباشرة مثل "ما هو الخير؟" أو "هل نمتلك إرادة حرة؟"، بل يتبنى منهجاً تاريخيًا ويطرح سؤالًا مختلفًا: "من أين جاءت أفكارنا حول الخير، أو الإرادة الحرة، أو الذنب؟"
إجابات نيتشه على هذه الأسئلة التاريخية، رغم أهميتها، أثارت الكثير من الجدل، وما زالت تفعل ذلك حتى اليوم. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يصف نيتشه نفسه بأنه "ديناميت". فقد رأى في الافتراضات السائدة في الغرب حول المساواة والإيثار شكلاً من "أخلاق العبيد" التي نشأت من مشاعر الإحباط وضغينة كهنوتية. كانت هذه "أخلاق العبيد" ردة فعل على ما أسماه نيتشه "أخلاق السادة"، وهي منظومة أخلاقية قديمة تُعلي من شأن الفضائل المرتبطة بالتفوق والصحة واحترام التسلسل الهرمي الاجتماعي. هذه الأخلاق تحتفي بالقوة وتزدري التواضع والنزوع الفكري الذي تتبناه نخب رجال الدين. ووفقًا لنيتشه، فقد اخترع هؤلاء القادة الدينيون إطارًا تقييميًا يضعهم في القمة، حيث أصبح العدوان "شرًا"، في حين تم اعتبار التواضع والإيثار "خيرًا"؛ وهو ما يشكل إعادة تقييم للقيم القائمة. فتبنت الطبقات الدنيا من العبيد هذه القيم الأخلاقية، إذ وجدت فيها وسيلة لتمجيد مكانتها المتواضعة وإعادة تفسير ضعفها كخيار مبدئي. باختصار، يرى نيتشه أن العديد من افتراضاتنا الأخلاقية الأساسية قد انبثقت من تنافس قديم حول المكانة الإجتماعية.
ولعل أكثر ما أدهش قراء "أصل الأخلاق" هو التساؤل حول كيفية ارتباط تلك الادعاءات التاريخية بالأسئلة الفلسفية حول الأخلاق. يصرح نيتشه بأن هدفه النهائي يتمثل في تقييم "قيمة ما نؤمن به"، بيد أنه ليس من الواضح كيف يمكن أن تساهم ادعاءاته التاريخية في هذا التقييم، أو حتى كيف ينبغي لها أن تفعل ذلك. قد يُخيل إلينا، من خلال التوجه نحو التاريخ، أن نيتشه يقوم بتغيير موضوع الفلسفة الأخلاقية، متبعًا مقولة "إذا لم تعجبك المحادثة، فغيّر موضوعها". فالسؤال حول أصول قيمنا يبدو مغايرًا للأسئلة الفلسفية حول طبيعتها، وقيمتها، وسلطتها. وإن كان نيتشه يسعى لاستخدام هذا التاريخ للإجابة عن هذه الأسئلة الفلسفية، فقد يبدو كما لو كان يرتكب مغالطة "مغالطة الأصول" أو ما نسميها "مغالطة المنشأ".
مغالطة المنشأ هي ما يُعد خطأً شائعًا عند محاولة تقييم أمر ما استنادًا إلى أصله أو سماته الماضية. تأمل مثلًا، حين يأتيك صديق ويقول إنه لا ينبغي عليك ارتداء خاتم الزواج لأن هذا الخاتم كان في الأصل رمزًا لأغلالٍ في الكاحل كانت ترتديها النساء لمنعهن من الهرب من أزواجهن (كما جاء في كتاب "مهاجمة التفكير الخاطئ" للمؤلف ت. إدوارد دامر، الطبعة السابعة، 2012). حتى وإن كان لخواتم الزواج هذا الماضي المشكوك فيه، فلا يدل هذا الماضي بأي حال على أن ارتداءها الآن سيء أو مرفوض. وحين يقترح نيتشه إعادة النظر في الأخلاق المسيحية بناءً على هذا الأصل، قد نشك في أن نيتشه ينحو في ذلك منحى مشابهًا لهذا النوع من التفكير المعيب.
إن افتقار الفلسفة الأخلاقية للإحساس بالتاريخ يعود جزئيًا إلى التخوف من الوقوع في شراك مغالطة الأصول. فإثبات أن لشيء ما أصلاً سيئًا ليس كافيًا لإثبات سوءه، كما تُظهر الأمثلة السابقة. وفضلًا عن ذلك، لا يبدو أن فحص أصول قيمنا أمر ضروري لتقييمها. فلتقييم معتقداتنا وممارساتنا الأخلاقية، يكفي غالبًا النظر إلى الأسباب المؤيدة والمعارضة لها، وليس إلى أسباب نشأتها. فمثلًا، لانتقاد مبدأ المساواة، ينبغي علينا أن نأخذ في الاعتبار الاعتراضات المحتملة على المواقف التي تدعو للمساواة، كأن يقال إنها تشجع على الهبوط بالمستوى، أو تعيق تحقيق التميز الإنساني، أو ترفض الاعتراف بالاستحقاقات الأخلاقية المتفاوتة. ومهما كانت آراء المرء حول هذه الانتقادات، يبدو أن طرحها وتقييمها لا يستلزم النظر في التاريخ الذي تقف خلفه قيمنا. فإذا كانت هذه النقاط صحيحة، يمكننا أن ندرك السبب الذي يجعل الفلسفة الأخلاقية تسير دون التعلق بالتاريخ: فإذا كانت الفلسفة الأخلاقية تسعى إلى التدقيق في قيمة قيمنا، وكانت القصص الأصلية غير ضرورية ولا كافية لهذا الغرض، فإنها تُصبح غير ذات صلة بالفلسفة الأخلاقية.
أما نيتشه، فقد رأى أن هذا المنطق مخطئ، رغم أن سبب رؤيته تلك كان موضع جدل بين الأكاديميين. وعادةً ما يتم تفسير نقده التاريخي بطرقٍ متعددة؛ منها أنه اعتقد أن المعلومات التاريخية ترتبط بشكل مباشر بسلطة أو تبرير المعايير الأخلاقية، أو ربما اعتقد أنها ترتبط بها بطريقة غير مباشرة من خلال تقديم أدلة على أن المواقف الأخلاقية مدفوعة بالضغينة، أو أنها تعيق إنجازات الإنسان العظيمة.
إذا أردنا أن نفهم كيف يمكن للتاريخ أن يكون مرتبطًا بشكل مباشر بمكانة قيمنا، فقد نبدأ بالاعتراف بأن قيمة العديد من الإنجازات الإنسانية تعتمد على تاريخها؛ فكثيرون يعتبرون لوحات بيكاسو أكثر قيمة من النسخ المقلدة المثالية، لأنها تحمل بصمة بيكاسو نفسه وليس صانع تقليد. وبالمثل، يحمل الإرث العائلي قيمة خاصة لارتباطه التاريخي بأسرتك. ولعل هذا الأمر يكون صحيحًا أيضًا بالنسبة لقيمنا.
فعلى سبيل المثال، إذا كانت قيمنا تتضمن أوامر معينة، فقد يكون تاريخها مرتبطًا بسلطتها وما يمليه علينا من واجب إطاعتها. فالكثير من الأوامر تستمد سلطتها من سلطة مصدرها، ولا يبدو أن رجال الدين الذين تُحركهم الضغائن والقلق بشأن مكانتهم هم مصدر يمكن اعتباره صاحب سلطة مؤهلة. وربما يرى البعض أن سلطة الأوامر الأخلاقية تعتمد على كونها صادرة عن الله أو عن العقل الخالص، ولذا، بقدر ما تكشف التحقيقات التاريخية أنها نشأت من مصدر دنيوي "إنساني، مفرط الإنسانية"، قد يصبح التاريخ هنا عاملاً مهدداً لسلطتها. فإذا اتضح أن القيم المسيحية كانت وليدة الضغينة، فإن هذا، واستنادًا إلى هذا المنطق، يُضعف من قيمتها لنا في الوقت الراهن. وبطريقة مماثلة، قد تؤدي الدراسات الفيلولوجية التي تتبع الكتاب المقدس إلى أصول دنيوية إلى إضعاف سلطة التعاليم الأخلاقية التي يحتويها من خلال تقويض الادعاء بأنها صادرة عن الله أو المسيح.
وثمة طريقة أخرى قد تعتمد فيها مكانة قيمنا بشكل مباشر على تاريخها، وهي حين تتضمن القيم أو تعبر عن معتقدات حول ادعاءات القيم، فالمعلومات التاريخية يمكن أن تؤثر في مدى تبرير معتقداتنا. إذ يمكن أن يصبح الاعتقاد غير ثابت حين نعلم أن العملية التي اكتسبنا بها هذا الاعتقاد كانت غير موثوقة. فمثلًا، لو افترضنا أنني أصدق شائعة مفادها أن جدي كان يسرق المال من صندوق الكنيسة، وقد اكتسبت هذا الاعتقاد من والدي. ولكنني أكتشف لاحقًا أن والدي قد سمع هذه الشائعة من شقيقه، الذي يشتهر بالكذب ويحمل ضغينة نتيجة نشأته الدينية الصارمة. وبما أن هذا الاعتقاد يستند إلى مصدر غير موثوق، فإن من المنطقي أن أشك في صحة هذا الاعتقاد.
وبالمثل، قد نكون قد ورثنا معتقداتنا الأخلاقية من والدينا (ومن الثقافة الأوسع)، الذين ورثوها بدورهم من آبائهم (ومن الثقافة الأوسع)، وصولاً إلى رجال الدين الانتقاميين كما يراهم نيتشه. وإذا لم يكن رجال الدين الانتقاميون مصدرًا موثوقًا للحقيقة الأخلاقية، فربما ينبغي لي أن أشك في تعاليم والديّ، وبالتالي في معتقداتي الأخلاقية. ولذا، قد تساعدنا القصة التاريخية لنيتشه على التحرر من الأوهام عبر كشف معلومات تضعف ثقتنا في افتراضاتنا العزيزة، التي غالبًا ما تكون غير مبررة.
تتناول هذه النقاط المتعلقة بالسلطة والتبرير موضوعات غالباً ما يطرحها الفلاسفة حول علاقة التاريخ بالفلسفة الأخلاقية، وربما يكون نيتشه قد تعمق في مثل هذه المواضيع. لكن هذا التفسير قد لا يعبّر عن ما يعتبره العديد من المعلقين والقراء العاديين ألا و هو رؤية نيتشه الجوهرية. فعندما يقرأ طلاب المرحلة الجامعية كتاب "أصل الأخلاق"، غالبًا ما يخرجون بفكرة أن تاريخ نيتشه يُظهر أن كثيراً من الالتزام المُعلن بالفضيلة والصواب والعدالة ليس نبيلاً كما يبدو، بل هو محركه خليط من الانتقام الصغير، وتضخيم الذات، والحقد ضد الأفراد الأقوياء وذوي المكانة العالية. وهنا تبرز أهمية ما يزعمه نيتشه عن المصالح والدوافع الخاصة بالكهنة والمحاربين والعبيد، وليس فقط في أن هؤلاء ليسوا آلهة أو مصادر جديرة بالثقة.
كيف يمكن أن تتجلى هذه المصالح والدوافع في نقد نيتشه للأخلاق؟ ربما يفترض نيتشه أن المعايير الأخلاقية، إن كانت قد نشأت بدافع الضغينة، فإنها تصبح مثاراً للاعتراض عن طريق "تشويه" معناها، حتى وإن كان من يلتزمون بها الآن غير مدفوعين بالدوافع ذاتها. لكن ليس من الضروري أن يعتمد نيتشه على هذا الافتراض المباشر. بل يُرجح أن نيتشه يعتبر قصته التاريخية دليلاً غير مباشر على استمرار هذه الديناميات النفسية في المجتمع المعاصر. فبناءً على هذا الفهم، يصبح علم الأنساب أداة لنقد الأخلاق، لأنه يقدم دليلًا على أن الأخلاق المعاصرة تحتوي على سمات قابلة للنقد، مثل الدوافع السيئة، التي لا ترتبط بالضرورة بالماضي فقط.
فكرة أن بعض الآراء الأخلاقية قد تكون مشكوكًا في دوافعها ليست بعيدة المنال، خاصةً في ظل ثقافة الإنترنت المعاصرة. لذا قد يتساءل المرء: لماذا العودة إلى التاريخ للوصول إلى مثل هذه الملاحظة؟ يكمن السبب في نقطتين أساسيتين: أولاً، أن التاريخ لدى نيتشه يوضح هذه الديناميات من خلال عرض قصة تاريخية تتجلى فيها هذه الديناميات بوضوح وبدون تزيين أو تجميل. بينما تبدو الأخلاق المعاصرة محاطة بتعقيدات وتبريرات، يتيح لنا العودة إلى الماضي رؤية ديناميات نفسية أصبحت الآن خفية. وهكذا، يُستخدم التاريخ كأداة لتعريّة الحاضر وكشف ما يخفيه من أبعاد.
ثانيًا، لأننا أقل ارتباطًا عاطفيًا بالماضي، يمكننا النظر إلى الوقائع التاريخية بموضوعية أكبر، بعيدًا عن تأثيرات الرغبة. فرغم أننا قد نشعر بالاستياء من فكرة أن بعض معتقداتنا السياسية مدفوعة بالضغينة، نميل إلى رؤية هذا الديناميك لدى شخصيات التاريخ، مما يُمكننا من التعرف عليه في أنفسنا بسهولة أكبر. وبذلك، يتيح لنا المنظور التاريخي فهماً أعمق وأكثر واقعية، بعيداً عن التشوهات الرغائبية.
تشكل هذه الأفكار جانباً أساسياً من فكر نيتشه. لكن من التحديات التي تواجه قراءتنا لنيتشه باعتباره يستخدم التاريخ بشكل غير مباشر كدليل، أن مثل هذه التفسيرات تتعامل مع الماضي بوصفه مجرد نسخة مبسطة من الحاضر، تختلف عنه في بعض التفاصيل فقط. وبهذا، يُغفل هذا النهج التغيرات التاريخية العميقة والاحتمالات التي تتماشى مع النظرية التاريخية لفهم ممارساتنا الاجتماعية. فإذا كان هذا التحليل لعلم الأنساب لدى نيتشه يعبر عن القصة كاملة، قد يبدو أن نيتشه نفسه يفتقر إلى الحس التاريخي. وإذا أردنا أن نفهم كيف يمكن أن dحترم "أصل الأخلاق" لدى نيتشه هذه الفرضيات التاريخية، فعلينا العودة إلى تاريخ الأسلوب الأنسابي ذاته عند نيتشه، وهذا يعيدنا إلى علم فقه اللغة أو الفيلولوجيا.
في زمن نيتشه، كان العديد من الأبحاث الفيلولوجية مهتماً بكشف كيف أن النصوص القديمة والمقدسة هي عبارة عن تركيبات معقدة من عناصر متباينة، تم جمعها من مصادر متضاربة. على سبيل المثال، أوضح يوليوس فلهوزن أن "التوراة"، أو الكتاب المقدس العبري، هو نتاج بشري يمكن تقسيمه إلى أربعة مصادر مستقلة، لكل منها أصل يعود إلى زمن بعد موسى، الذي كان يُعتقد سابقًا أنه المؤلف الوحيد، وكأنه كاتب يتلقى الإلهام الإلهي. هذا النقد المصدر يتيح لنا رؤية الكتاب المقدس العبري ليس كعمل موحد، بل كتركيب من عناصر مختلفة بتواريخ متباينة. وبهذا، يشجع هذا النقد على النظر إلى الكتاب بعيداً عن المنظور اللاهوتي الموحد.
عندما كان نيتشه مراهقًا في مدرسة شلبفورته، تعلم هذا النهج الفيلولوجي تجاه النصوص القديمة. فعلى سبيل المثال، اقترح عليه معلمه فريدريش أوغست كوبيرشتاين، الذي كان عالماً ومؤرخاً مرموقاً، أن يبحث في قصيدة تتناول قصة ملك القوط الشرقيين في القرن الرابع، إيرماناريك. تثير هذه القصيدة حيرة، حيث يصف بعض أجزائها إيرماناريك كبطل نبيل، بينما تصفه أجزاء أخرى كجبان ومتورط في قتل زوجته. وهنا، من منظور تاريخي، جادل نيتشه الشاب بأن هذه التناقضات تعود إلى أن القصيدة ليست من تأليف فرد واحد، بل هي بناء متعدد الطبقات استمد عناصره من مصادر متنوعة – بعضها يعود إلى الشرق الأدنى، وأخرى من ألمانيا، وكذلك من الدنمارك وبريطانيا.
نهج نيتشه العميق في استكشاف النصوص ليس مجرد عملية تحليلية تقليدية، بل هو انعكاسٌ لطرحه الفلسفي للأخلاق المعاصرة، حيث يصورها في مقدمة "أصل الأخلاق" بأنها "كتابة هيروغليفية طويلة يصعب فك شفرتها". هذا الوصف يعكس رؤيته إلى القيم الراهنة كنسيج معقد يحوي بين خيوطه تناقضات ظاهرة؛ فالبعض يؤمن بأن الإنجازات البشرية الباهرة تستحق الثناء الخاص والمكافآت الفريدة، وفي الوقت ذاته يرى أن العدالة تقتضي أن تُعطى المكافآت على ما يستحقه المرء بجهده الشخصي. إلا أن العديد من الإنجازات الإنسانية تعتمد، جزئيًا على الأقل، على مواهب فطرية لم يسع المرء لتحصيلها، فيولد ذلك توترًا ضمنيًا في هذه الرؤى. ويتضح أن الفلسفة الأخلاقية تسعى من خلال أدواتها إلى تحليل مثل هذه الأحكام البديهية، والتعرّف على التوترات الكامنة فيها، واستكشاف السبل الممكنة للتوفيق بينها، تمامًا كما يُسعى في قراءة النصوص الدينية إلى كشف المقولات اللاهوتية الصريحة والضمنية، والبحث في تناقضاتها، والنظر في سبل التوفيق بينها.
ومع ذلك، فإن مقاربة نيتشه الفيلولوجية تتمايز بنحو جوهري؛ فهي، مثل التحليل التاريخي الذي قدّمه فيلهوزن للتوراة العبرية، تتبع العناصر المختلفة في منظومتنا الأخلاقية إلى مصادرها المتباينة. تأتي عناصر الكمالية من طبقة المحاربين، بينما تعود العناصر المساواتية إلى طبقة الكهنة وطبقة العبيد، أما عناصر أخرى كاحترام السلف فتأتي من مصادر مغايرة. وهكذا، لا يقتصر الأمر على تمازج خيوط متباينة في سياق واحد، بل نجد "وثيقة" تمت إعادة كتابتها وإعادة تأويلها مرارًا على مر الزمن، بأيدي أولئك الذين يحملون دوافع معقدة ومتضاربة. ومن خلال هذا النهج الفيلولوجي، تُفهم الأخلاق ككيان معقّد، لا كإطار تقييمي موحد.
إن هذا النهج التاريخي يبتعد عن الاتجاهات التقليدية في الفلسفة الأخلاقية لأنه لا يفترض وجود إجابة واحدة محددة لأسئلة مثل "ما هو الخير؟"، لاسيما إن كان المطلوب أن تتناغم هذه الإجابة مع أحكامنا البديهية المتنوعة. بدلاً من ذلك، يسلط الضوء على التيارات المتضاربة في تفكيرنا الأخلاقي، موضحًا أن وجودها يشير إلى استحالة التوفيق بينها؛ فعلى نحوٍ مشابه للمنهج الفيلولوجي الذي قد يقوّض الافتراضات اللاهوتية في قراءة الكتاب المقدس – تلك الافتراضات التي تتوخى بناء لاهوت موحد يتماشى مع النصوص المقدسة – تأتي الفيلولوجيا الأخلاقية لتقوّض افتراضات فلسفية أخلاقية شبيهة، والتي تبحث عن نظرية أخلاقية موحدة قادرة على تفسير الافتراضات والممارسات الأخلاقية. بهذا المنظور التاريخي، تبدو الفلسفة الأخلاقية كأنها تعمل ضمن مشروع تبريري ميؤوس منه، يحاول التوفيق بين ما لا يمكن التوفيق بينه، حيث لا وجود لتسوية عليا بين طبقة السادة والعبيد.
إذا كان نهج نيتشه الفيلولوجي مقتصرًا على المنهجية الفلسفية، فقد يبدو ذا أهمية ضئيلة خارج النقاش الأكاديمي. غير أن هذا المنظور الأخلاقي لا يكشف عن ثغرات الفلسفة الأخلاقية المعاصرة فحسب، بل يكشف أيضًا عن إشكاليات نحن أنفسنا معنيون بها. فحقيقة أن منظومتنا الأخلاقية الحديثة مجزأة وغير متناسقة، تفرض علينا تحديات، حيث إنها تجعل من الصعب التصرف بفاعلية وثبات؛ إذ لا يوجد إطار شامل قادر على التوفيق بين الاعتبارات المتنافسة في اتخاذ القرارات العملية. كما أن ذلك قد يدفعنا إلى تقييم أنفسنا وفقًا لمعايير متناقضة، ما يؤدي إلى حالة من عدم الرضا حيال عدم تحقيق المعايير التي نضعها بأنفسنا. هذا الصراع الداخلي يجعلنا في مواجهة مع ذواتنا، وهي حالة اعتبرها نيتشه مرضًا يُصيب المجتمع الحديث.
وبمجرد أن ندرك كيف يمكن لأدوات الفيلولوجيا أن تُطبق على الأخلاق، يصبح من السهل تصوّر تطبيقاتها على جوانب أخرى من الثقافة المعاصرة. فعند دراسة تاريخ المعايير التي تشكل هويات اجتماعية مختلفة، نتمكن غالبًا من إظهار أشكال من الصراعات الداخلية الكامنة في الحياة اليومية. فعلى سبيل المثال، عند دراسة تاريخ المعايير المتعلقة بالجنس، يمكننا بوضوح أكبر أن نرى التوترات داخل التصورات المعاصرة للجنس؛ مثل التوقع من المرأة أن تكون في آنٍ واحد ملاكًا للمنزل ومديرة ناجحة، أو من الرجل أن يكون قائدًا قويًا مع الحرص على عدم الوقوع في مصيدة "الذكورة السامة". غالبًا ما تخلق هذه المعايير المتنافسة صراعات في دواخل من ينتمون لهذه الهويات، ويتيح فهم هذه الصراعات تجنب محاولات التوفيق العقيمة والمحبطة بين هذه العناصر المتضاربة.
ومع ذلك، لا ينبغي للتجزئة والتوتر أن يكونا سلبيين بالضرورة؛ فقد تحمل التوترات أحيانًا فرصًا للإنتاجية، كما أدرك نيتشه. وغالبًا ما سعى المنظّرون الذين رغبوا في تطبيق هذا النهج الفيلولوجي على المجال الثقافي إلى التأكيد على إمكانياته التحررية. على سبيل المثال، فإن فهم التاريخ الوطني بوصفه نسيجًا من روايات متعددة الجوانب، يتيح لنا تصور مجتمعات سياسية معقدة التركيب بدلاً من ثقافات موحدة، ما يسمح لنا بتقدير ديناميكية الثراء الثقافي وتحدي التصورات الساذجة للتجانس الثقافي. فـ"الوحدة" ليست فضيلة في كل سياق.
وعندما نتأمل هذه الرؤية من زاوية أوسع، يظهر لنا لغزٌ مركزيٌ حول نيتشه، وهو: لماذا ينبغي لـ"فيلسوف المستقبل"، كما يسمي نفسه، أن ينشغل بالماضي؟ ومن خلال فحص النزعة التاريخية لدى نيتشه، نتمكن من استشفاف إجابة. فإذا ما استخدمت الفيلولوجيا على نحو نقدي، فهي ليست مجرد أداة لاستكشاف الماضي، بل هي أيضًا وسيلة فعّالة لتشكيل المستقبل.
مترجم من Aeon بقلم ألكسندر بريسكوت و هو أستاذ مشارك في الفلسفة في جامعة أكسفورد.