الديون و الإنهيار الإقتصادى و العالم القديم فى نظر مايكل هادسون
نحن هنا. لعطلتك في نهاية الأسبوع الطويلة، نقدم لك عرضًا مميزًا يتمثل في حديث الروائي المبدع روبنسون إيرهارد مع الاقتصادي الشهير مايكل هادسون. إن هذه النسخة المعدلة من المقابلة تقترب من أن تكون رؤية شاملة لأعماله التي امتدت على مدى عقود عديدة، مركزة بشكل خاص على الميل الطبيعي للديون في خلق أوليغارشيّات دائنة تؤدي إلى ضعف أداء الاقتصاد الحقيقي (كما في المجتمعات القديمة، حيث كانت القدرة على استدعاء الرجال للدفاع عن الدولة تمثل حجر الزاوية في الحفاظ على الأمن).
بواسطة روبنسون إيرهارد. إن هذا النص لمقابلة دامت 90 دقيقة في 25 يوليو 2024، قد خضع لتحرير وتنقيح كبيرين بغرض توضيح اللغة والأفكار التي تم التطرق إليها. وقد تم تقسيم النص إلى أجزاء وعناوين فرعية لتعميق المناقشة الأصلية، التي يمكن الاطلاع عليها خلال الفيديو التالي:
.روبنسون: مايكل، لقد انغمستَ في دراسة تاريخ الديون وانهيار الحضارات على مدى عقودٍ طويلة، منذ أيامك في متحف بيبودي بجامعة هارفارد. لكن ما يثير فضولي هو ما إذا كان اهتمامك بهذا الموضوع وليد التاريخ ذاته أم أن ما يدفعك هو تأثيره على الحاضر.
مايكل: حينما حللتُ بنيويورك في أوائل ستينيات القرن الماضي، وابتدأتُ في مجال الاقتصاد، كان شغفي الأول هو الديون. تأثرتُ بمعلمي تيرينس مكارثي، وشرعتُ بالعمل في وول ستريت في مجال الأبحاث المالية، فيما كنت أتابع دراساتي العليا في الاقتصاد. كانت البداية حين عملتُ كخبير اقتصادي للبنوك الادخارية لأتعقب كيف يتم منح الفائدة للمودعين وتدويرها في قروض الرهن العقاري. لم يكن خافيًا عليّ أن المدخرات كانت تقفز قفزات هائلة من ربعٍ إلى آخر، وأن البنوك كانت تستثمر ما تحصل عليه من خدمات الدين لإقراض مزيد من القروض. وكانت النتيجة أن حجم الدين كان يتضاعف بمعدلات تفوق بكثير ما ينمو به الاقتصاد.
في عام 1964 انضممتُ إلى بنك تشيس مانهاتن، وكانت مهمتي الأولى تحليل مدى قدرة دول أمريكا اللاتينية على تحمل الدين. كان المطلوب مني هو التركيز على الأرجنتين، البرازيل، وتشيلي. ولكي أقدر إمكانياتهم في الاقتراض، كان عليّ حساب قدرتهم على سداد الفوائد من عائدات صادراتهم. واكتشفتُ أن هذه الدول قد بلغت بالفعل حداً يصعب معها دفع مزيدٍ من الديون بالدولار.
ذلك لم يرق لضباط البنك في القسم الدولي، لأنهم كانوا يرغبون في توسيع القروض، تمامًا كما كانت أقسام العقارات والنفط تسعى لذلك. لكنني رأيتُ أن الإقراض الدولي قد اقترب من حدود الخطر في العديد من البلدان.
في اجتماع مع الاحتياطي الفيدرالي، أشار أحد المسؤولين إلى أن حساباتي أثبتت أن بريطانيا لم تعد قادرة على الاقتراض. وافقته الرأي، إذ كان عليها أن تستمر في الاقتراض فقط للحفاظ على سعر صرف الجنيه.
وكان لزاماً على بريطانيا أن ترفع أسعار الفائدة لاستقطاب القروض بهدف استقرار سعر صرف عملتها. ووافقت على هذا التحليل، لأنه هو ما كان يُمكنهم من تسديد ديونهم. ولكن لفت الرجل الانتباه إلى أن السبب في استمرارهم لم يكن إلا بفضل القروض الأمريكية التي كانت تُمنح لهم، وهذا ما كان يُبقيهم على قيد الحياة مالياً
ثم أضاف أن نفس الأمر ينطبق على دول أمريكا اللاتينية، إذ أن الولايات المتحدة كانت تدعمها طالما بقيت دولًا صديقة. وكانت المصارف الأمريكية تُقرضهم بناءً على هذه السياسة.
ثم أتت ذروة الإشكال حين أدركتُ أن الطريقة الوحيدة التي تمكن البنوك من الاستمرار في توسيع قروضها كانت بإتاحة الفرصة لهذه الدول للاقتراض من جديد لدفع الفوائد والأقساط. إنه كما لو كان مخطط بونزي، حيث يظل المدين واقفًا على قدميه بفضل اقتراضه لأموال جديدة لسداد الفوائد والديون.
الجزء الأول
تنسيق المحاسبة المالية الأمريكية بين التجارة والاستثمار والإنفاق العسكري
منذ أن عُهد لي بتحليل ميزان المدفوعات لصناعة النفط الأمريكية حين كنت خبيرًا في هذا الشأن لدى بنك تشيس، وجدت نفسي أمام إحصائيات معقدة، لا تترجم ببساطة للغة العوام. كان ذلك مدفوعًا بلقاءات عقدتها مع أمين صندوق شركة ستاندرد أويل، الذي كشف لي عن بعض ألغاز التسعير التحويلي، كما استدعتني هذه المهمة إلى رحلات متكررة إلى واشنطن للتشاور مع خبراء الاقتصاد في وزارة التجارة، لأتفهم كيفية استنباط الأرقام ذات الصلة. وفي تلك المحادثات، أصبح واضحًا لي أن تلك الحسابات لم تكن مجرد أرقام جافة؛ بل كانت تعكس واقعًا اقتصاديًا عالميًا أكبر من مجرد تدفق أموال، حيث أن تجارة واردات النفط الأمريكية لم تتضمن في أغلب الأحيان مدفوعات فعلية بالعملة الأجنبية. بل كان الأمر أشبه بتبادل غير منظور بين الواردات والصادرات، لتتناسب مع قواعد حساب الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة. ولم تكن المدفوعات إلا مجرد حركة داخلية، تذهب بالدولار إلى الشركات الأمريكية التي تزود النفط، في بنما أو ليبيريا، دون أن تخرج من النظام المالي الأمريكي.
عند هذا الحد، تبين لي أن النفط لم يكن مجرد سلعة تستهلكها الولايات المتحدة، بل كان أحد أركان قوتها الاقتصادية والدبلوماسية. وما يظهر على السطح كعجز تجاري، لم يكن سوى وهم إحصائي يخفي وراءه حقيقة أكبر، وهي أن العجز الظاهر في ميزان المدفوعات ليس عجزًا حقيقيًا في التدفقات المالية الفعلية. بل كانت الولايات المتحدة تجني أرباحًا من ذلك الهيكل المالي المعقد الذي أقامته.
لقد سعيت لتوسيع هذا التحليل ليشمل ميزان المدفوعات الأمريكي بأكمله، حيث قررت أن أحقق في التدفقات الفعلية لصادرات الولايات المتحدة واستثماراتها الخارجية والإنفاق العسكري. وعندما طلب مني آرثر أندرسن في عام 1968 تحليل الوضع، وجدت أن العجز الكامل في ميزان المدفوعات كان يعود بشكل أساسي إلى الإنفاق العسكري في الخارج. أما القطاع الخاص فقد حافظ على توازنه منذ الخمسينيات، بل كانت "المساعدات الخارجية" في كثير من الأحيان تحول العجز إلى فائض أمريكي، بدلاً من أن تعني تدفقًا للأموال إلى الخارج كما قد يوحي الاسم.
وحين عُرضت نتائج تحليلي على الحكومة، اشتعل غضب وزارة الدفاع، حيث أبدى مكتب السيد ماكنمارا امتعاضًا ووجه تهديدات واضحة تجاه آرثر أندرسن إذا ما نشرت النتائج. لكنني لم أكن لأخضع لمثل هذه الضغوط، فنشرت نتائج أبحاثي من خلال كلية إدارة الأعمال بجامعة نيويورك.
كانت تلك التجربة بمثابة نافذة على مقاومة السلطات الاقتصادية العالمية للاعتراف بالاختلالات المتفاقمة في النظام المالي الدولي. وعلى الرغم من أن تحليلي بشأن العائدات المرتفعة بشكل مذهل على الاستثمارات الأجنبية في صناعة النفط الأمريكية قد لاقى ترحيبًا في الأوساط المالية، إلا أنه كان يشير إلى شيء أكثر تعقيدًا: كيف استطاعت الولايات المتحدة أن تفرض سيطرتها على تجارة النفط العالمية وتجني أرباحًا هائلة من تلك السيطرة. ولقد بلغ بي الأمر أنني كنت واثقًا من أن هذه الحقيقة ستؤدي إلى تغيير جذري في النظرة الاقتصادية العالمية، لكن، ويا للعجب، لم يتحرك أحد من دول العالم الثالث ليتبنى تلك النتيجة.
لم يكن الأمر قاصرًا على النفط فقط؛ ففي عام 1972، حينما أصدرت كتابي "الإمبريالية الفائقة"، كان هذا الكتاب يُعد بمثابة مرآة تعكس كيف استفادت السياسة الخارجية الأمريكية من التخلي عن الذهب وتحويل الدولار إلى العملة الرئيسية التي تحتفظ بها البنوك المركزية في العالم. وكانت هذه الاحتياطيات الأجنبية تسهم في تمويل الإنفاق العسكري الأمريكي في الخارج، مما جعل الولايات المتحدة تمضي قُدمًا في سيطرتها الاقتصادية دون أن تثير حفيظة أحد. احتفل الجناح اليميني بهذه النتيجة ، في حين لم ينتقد الجناح اليساري ولا الضحايا الأجانب دولرة النظام المالي العالمي.
كانت تحذيراتي من العجز الكبير الذي كانت تواجهه دول أمريكا اللاتينية بمثابة جرس إنذار، لكنه قوبل بإنكار واسع النطاق.
وفي أواخر السبعينيات، أصبحت مستشارًا لميزان المدفوعات في كندا، ومستشارًا لمعهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث (يونيتار)، ونشرت هناك أبحاثي حول العجز في سداد ديون دول العالم الثالث. وعندما قدمت هذه الأبحاث في اجتماع في مكسيكو سيتي، كان التصوير الزائف لكلامي من قبل بعض المقررين الأمريكيين محاولة للتقليل من شأن التحذيرات التي أطلقتها. لم أكن أقول إن تلك الدول يمكنها سداد ديونها بالمساعدات الأمريكية، بل على العكس، كنت أحذر من أن هذا الطريق سيقود إلى استقطاب وإفقار عالمي. وقد وقفت أمام الحضور، وطالبت بتصحيح هذا التشويه العمدي لكلامي، لكن تلك التحذيرات بقيت غير مرغوب فيها في أوساط "الصحبة المهذبة". ومع مرور الوقت، انهارت المكسيك في عام 1982 وعجزت عن سداد ديونها، لتنفجر قنبلة الديون في أمريكا اللاتينية، كما كنت قد حذرت.
بعد تلك الأحداث، وجدتني أتوجه إلى دراسة أعمق لمسألة الديون و إلغائها عبر التاريخ فى العالم القديم.
عندما كتب ويليام شكسبير مسرحياته عن المؤامرات الاجتماعية والسياسية التي كانت تدور في إنجلترا، كان غالبًا ما يُسقط أحداثها على أرض أجنبية، مثل إيطاليا، حتى لا يُثير القلق في محيطه المحلي. وها أنا أجد في نفسي حاجة مشابهة عندما سعيت لإبراز مشكلة الديون عبر تاريخ طويل، مُدركًا أن التعامل معها بهذه الطريقة سيمكن الناس من استيعاب فكرة أن إلغاء الديون ليس مجرد حل مؤقت، بل ضرورة حتمية لتجنب الاستقطاب الاقتصادي والإفقار العالمي. إن دراستي للتاريخ، التي بدأت في بداية ثمانينيات القرن العشرين، لم تكن إلا محاولة للفت الأنظار إلى كيف كانت المجتمعات عبر العصور تتعامل مع هذه المشكلة عندما تصبح الديون أكبر من أن يستطيع الاقتصاد تحملها.
فالحقيقة التي لا يمكن إغفالها هي أنه في كل عصر، وعندما تتراكم الديون بشكل يفوق قدرة جزء كبير من الاقتصاد على السداد، كان لا بد من تدخل سلطة تُعيد التوازن بإلغاء تلك الديون، وإلا فإن الأقلية الدائنة ستزداد ثراءً وسيتمزق النسيج الاجتماعي والاقتصادي للأمة. وهذا ما نراه بوضوح في عالمنا الحديث. فإذا لم تقم الحكومات اليوم بتخفيف ديون دول أمريكا اللاتينية، ستُجبر تلك الدول على اللجوء إلى مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ووزارة الخارجية الأمريكية، والتي ستطالب بتثبيت أسعار الصرف من خلال بيع الأراضي وحقوق المعادن والبنية التحتية العامة للمستثمرين الأجانب. وهذا الإجراء، وإن كان يُحقق استقرارًا مؤقتًا، فإنه في الحقيقة يُجرد الدول المدينة من أصولها وثرواتها.
وليس هذا بالأمر الجديد في التاريخ. فقد شهدنا في القرن التاسع عشر كيف أدى تراكم الديون إلى تدمير اقتصاديات بلاد فارس ومصر بسبب الديون التي تراكمت لصالح المصرفيين الأوروبيين. وقد سجل التاريخ كيف أن حروبًا مثل الحروب الصليبية أعادت إحياء ديون الحرب، تمامًا كما كان يحدث في روما واليونان القديمة مع إصلاحات سولون الشهيرة عام 594 قبل الميلاد، وحتى في الكتب المقدسة حيث نجد الإشارة إلى سنة اليوبيل في الكتاب المقدس. وكلما تعمقت في دراسة هذه الأدبيات، وجدت إشارات متفرقة إلى إلغاء الديون في الشرق الأدنى القديم.
وكانت رحلتي العلمية تتطلب مني أن أقرأ الكثير عن حضارات بلاد ما بين النهرين، رغم أن معظم الأدبيات كانت مكتوبة بالفرنسية والألمانية. ولم يكن لدي إلمام بالكتابة المسمارية، رغم دراستي لعلم اللغويات في جامعة شيكاغو، إلا أنني اعتمدت على الترجمات لقوانين حمورابي وملوك بابل الآخرين، وبالأخص إعلاناتهم التي تتعلق بإلغاء الديون أو ما يمكن أن نُطلق عليه "التصفير".
وهنا أدركت أن قراءتي لترجمات هذه النصوص كانت في حد ذاتها تجربة غنية، حيث لاحظت تباينًا كبيرًا في التفسيرات بين اللغات المختلفة. كان لكل مترجم رؤيته الخاصة عن مقاصد الملوك عندما كانوا يُصدرون إعلاناتهم لإعادة النظام. فالمؤرخ الأمريكي سامويل كريمر، على سبيل المثال، رأى أن هذه الإعلانات لم تكن سوى تخفيض للضرائب، مستندًا في ذلك إلى تجارب قديمة مثل ما فعله أوركاجينا - الملك السومري- في 2350 قبل الميلاد. تم بالفعل إلغاء العديد من الديون الضريبية لبلاد ما بين النهرين ، لأن الديون الرئيسية في العصر البرونزي كانت للقصر ومسؤولي المعبد ، وهاتان المؤسستان الكبيرتان في تلك الفترة. في حقيقة الأمر أن هذه الإعلانات كانت أكثر من مجرد إلغاء لضرائب مستحقة؛ فقد كانت تلك الأفعال تعني إعادة تنظيم شاملة للاقتصاد.
وفي بريطانيا، كانت هناك رؤية مختلفة تمامًا، إذ رأى بعض الباحثين أن هذه الإعلانات الملكية كانت تُعبر عن روح التجارة الحرة. وفي إحدى اللقاءات العلمية التي حضرتها، ناقشت هذا الموضوع مع ويلفريد لامبرت، وكان اهتمامه تجاه كلمة "أندوراروم" البابلية، التي كانت تعني إلغاء الديون. كان يرى أن إلغاء بعض الضرائب الملكية على الواردات في تلك الفترة يُمثل نوعًا من التجارة الحرة، ولكنني رأيت أن الأمر أعمق من ذلك؛ إذ أن إعلانات "التصفير" تلك لم تكن سوى وسيلة لإعادة توزيع الثروات وضمان عودة التوازن الاجتماعي.
ولقد تعلمت من هذه الدراسات أن "الأندوراروم" كان يعني حرفيًا "التدفق الحر"، حيث كان العبيد والخدم المدينون يُمنحون الحرية للعودة إلى منازلهم الأصلية. كانت تلك الإعلانات تعني أيضًا استعادة الأراضي التي كانت قد صودرت للدائنين، وإعادتها إلى أصحابها المدينين. وكان هذا المفهوم مشابهًا للكلمة العبرية "درور" التي وردت في سفر اللاويين للإشارة إلى سنة اليوبيل.
وأخيرًا، كان لدى الباحثين الألمان الفهم الذي كنت أبحث عنه؛ حيث كتب الباحث ف. ر. كراوس دراسة مُفصلة عن إلغاء الديون في بلاد ما بين النهرين. ولكن كان لعالم الآشوريات الفرنسي دومينيك شاربان التفسير الأقل انحرافًا عن روح العصر، إذ رأى في هذه الإعلانات "استعادة للنظام"، أو عودة إلى "الحالة الأم" التي تنهي الفوضى. وحقًا، كان جذر المصطلح السومري "أمارجي" هو كلمة "أم"، التي تعبر عن العودة إلى الأصل. عندما قال الرئيس العراقي صدام حسين إن حربه ضد الغزو الأمريكي من قبل جورج دبليو بوش ستكون "أم كل الحروب"، كان يقصد الحرب النموذجية. أمارجي هو التوازن الاجتماعي النموذجي الذي اعتقد مجتمع العصر البرونزي أنه يجب أن يكون القاعدة.
علاقتي مع جامعة هارفارد لإنشاء مجموعة علمية لتحليل اقتصادات الشرق الأدنى:
كتبت مسودة لما اكتشفته، وأرسل صديقي ألكسندر مارشاك، عالم الآثار الرائد في عصر الجليد وعضو هيئة التدريس في جامعة هارفارد، ما كتبته إلى رئيس متحف بيبودي، كارل لامبرغ-كارلوفسكي. وما أسرع ما دعاني إلى جامعة هارفارد، فأشار علي بأن أصبح زميلًا بحثيًا في هيئة التدريس، وذلك في مجال "علم الآثار البابلي". كان بذلك يود أن أغوص أكثر فأكثر في بحثي الأكاديمي، وألا أكتفي بما دونته من ملاحظات سطحية، بل أن أتناول الموضوع من أعماقه، بما يتطلبه من تدقيق وتمحيص.
وسرعان ما تبين لي أنني، رغم ما كنت أظنه من قدرة على كتابة التاريخ وحدي، لا يمكنني أن أكتب هذا العمل بمفردي. فقد كانت القضية أبعد من ذلك بكثير، إذ لم يكن الحديث عن مجرد أحداث هنا أو هناك، وإنما عن سياق واسع وعميق هو الذي شكَّل انطلاقة بلاد ما بين النهرين الاقتصادية. في هذا السياق وُلدت الفائدة، وتشكلت فكرة المال، وظهرت الضرائب لأول مرة. ولم يكن بمقدوري أن أنجز مثل هذا العمل وحدي. فاستقر رأينا على أن ندعو أبرز علماء الآشوريات والمصريات، الذين يمكنهم قراءة نصوص العصر البرونزي، من إعلانات ورسائل وقضايا قانونية، ليشاركوا معنا في سلسلة من الندوات التي ستكون الأساس في وضع تاريخ مالي واقتصادي شامل للشرق الأدنى القديم.
حين شرعت في كتابة النسخة الأولى من كتابي الذي سيصبح فيما بعد بعنوان "... واغفر لهم ديونهم"، حاولت تقديمه لعدة دور نشر، منها جامعة كاليفورنيا، ولكن دون جدوى. إذ رفض الناشرون كلهم الكتاب، فقد عرضوه على محكمين رأوا فيه طرحًا مستحيلًا. فكيف يمكن لمجتمع أن يلغي الديون؟! أليست الديون ركنًا من أركان الحياة المالية؟! أليس ذلك يؤدي إلى توقف المقرضين عن إقراض الأموال؟! هكذا جادل المحكمون. حتى أن أحد علماء الآشوريات استشهد بحجة الحاخام هليل، الذي كان قد أنشأ بند "بروس بول" ليُبطل حق المدين في إلغاء ديونه في سنة اليوبيل. وكان ذلك من أجل حماية مصالح المقرضين في مواجهة سنة اليوبيل. وهكذا كان السياق السياسي الذي قاد فيه المسيح النضال من أجل إحياء سنة اليوبيل.
لكن ما غاب عن هؤلاء هو أن أغلب مزارعي العصر البرونزي لم يكونوا يقترضون الأموال، بل كانت ديونهم تتراكم من خلال المتأخرات الضريبية والالتزامات الأخرى التي تُدفع عند الحصاد.
ولعل هذا المثال الذي نحن بصدده يوضح الصورة. فنحن الآن نجلس في حانة، وكم هو مألوف أن نجد العمال يجمعون ديونًا بسيطة، تُدفع في يوم القبض. كان هناك شيء مشابه يحدث في بلاد ما بين النهرين. فالنساء اللواتي كنَّ يقدمن الجعة كنَّ جزءًا من "مرفق عام" مرتبط بالقصر أو المعبد. وكما هو الحال مع الحانات في بريطانيا اليوم، كان الزبائن يجمعون ديونًا تُدفع عند نهاية موسم الحصاد، حينما تُوزن الحبوب في أرضية الدراس وتُدفع للدائنين، على رأسهم القصر والمعابد.
ولكن ماذا يحدث إذا كان الحصاد سيئًا؟! كيف يمكن للمزارعين أن يدفعوا ما تراكم عليهم من ديون؟! هنا كان التحدي الأكبر للحكام، مثل حمورابي. فقد أدرك أن السماح للمدينين بالوقوع في العبودية مقابل التقدمات الزراعية أو الأموال التي قدمها لهم القصر أو المعابد أو الدائنون الخواص كان سيعني تدهورًا كبيرًا. وإذا سقط المواطنون في العبودية، فكيف يمكنهم أن يخدموا في الجيش أو يعملوا في بناء أسوار المدينة والمعابد وغيرها من المشاريع العامة؟!
ومن هنا لم تكن قدسية الدين مطلقة، بل كانت هناك قدسية أخرى، قدسية في إلغاء الدين، على الأقل فيما يخص الديون الشخصية. أما الديون التجارية، فقد كانت تُترك كما هي. وفي مواجهة هذا الوضع، كان الحكام يعلنون "تصفير الديون" للحفاظ على التوازن الاقتصادي، على عكس ما نراه اليوم من سياسات المؤسسات المالية العالمية، مثل صندوق النقد الدولي، التي فرضت على دول أمريكا اللاتينية ديونًا مرهقة بدلاً من إلغائها. وإخضاع البلدان المدينة وعمالتها "للشروط" الفقيرة.
أدركت أنا وزملائي في هارفارد أن ما نفعله لا يمكن أن يصل إلى العامة دون دعم كامل من علماء الآشوريات والمصريات. ومن هنا عقدنا أول ندوة لنا في عام 1994، وبحلول عام 2008، نشرنا خمسة مجلدات أعادت كتابة التاريخ الاقتصادي للشرق الأدنى. تناولنا فيها أصول حيازة الأرض، ونظام العمل الجبري، وأسس المحاسبة والمعايير النقدية، وكذلك أصول الديون وكيفية إعلان الحكام تصفيرها لمنع ظهور طبقة الدائنين.
ولكن للأسف، لم يحظَ الكثير من هذا العمل بالاهتمام الذي يستحقه خارج الدوائر الأكاديمية المتخصصة. فالتفكير الغربي الحديث المؤيد للمقرضين وجد صعوبة في تقبّل فكرة أن إلغاء الديون كان حجر الأساس في الحفاظ على التوازن الاقتصادي في المجتمعات القديمة.
خلال هذه الندوات، دعيتُ لكتابة مقالات في الموسوعات والمجلات الأثرية حول تطور المال والائتمان. ونشرت مؤخرًا مجموعة من مقالاتي في كتاب بعنوان "معابد المشاريع"، تناولت فيه كيف نشأت المشاريع الاقتصادية في العصور القديمة، وكيف تطور الائتمان، وكيف كانت الديون تُلغى دوريًا بأمر من الملوك. وحاولت أن أوصل هذه الأفكار إلى جمهور أوسع في كتابي "... واغفر لهم ديونهم".
وأدركت أن الطريقة المثلى لتوضيح مدى اختلاف العصر البرونزي عن العصر الحالي هي أن أُظهر ما لم يحدث. إذا بدأت بسرد تطور الحضارات القديمة، سيقول الناس إنه من المستحيل أن تكون تلك المجتمعات قد تصرفت بهذه الطريقة. فالعقلية الحديثة لا تتصور أن ما حدث في الماضي يمكن أن يكون صحيحًا، لأنه لا يشبه ما نفعله اليوم، وطريقتنا هي الأصلح.
ولكن ما لم يحدث هو أن السومريين والبابليين لم يسمحوا للسوق بالسيطرة على حياتهم كما نراها اليوم. فلو كان ميلتون فريدمان أو مارغريت تاتشر موجودين في زمن حمورابي، لكانا قالا له: "اترك السوق يفعل ما يشاء. دع المدينين يسقطون في العبودية." ولكن لو حدث ذلك، لما ازدهرت حضارتهم كما نعرفها اليوم.
وأدركت في النهاية أن ما نُدرّسه اليوم عن المال والفائدة، وكيف نشآ، هو تصور حديث نشأ في أواخر القرن التاسع عشر، وجرى تشكيله لخدمة مصالح الطبقات المالية وملاك الأراضي.
الجزء الثاني
أصل المال كوسيلة لسداد الديون، خاصةً للقصر والمعابد
لقد عارض أهل الاقتصاد النمساويون تدخل الحكومات في النشاط الاقتصادي، ورأوا أن الدولة لا ينبغي لها أن تبسط يدها في هذه المسائل التي تخص الأفراد والسوق. فقد كان في زعمهم أن الاقتصاد الأمثل هو ذاك الذي تسير فيه الأمور بحرية مطلقة، دون أن تتدخل الدولة لتقود الأمور أو تتحكم فيها. وكانت حجتهم في ذلك أنهم افترضوا أن الحضارات لم تقم إلا على أساس من حرية الأفراد في تحقيق المكاسب والثروات لأنفسهم، ومن دون عوائق تضعها الحكومات. فلقد رأوا أن الحكومة تأتي دائمًا في مرحلة لاحقة، ولا تظهر إلا لتفرض بعض القيود، في وقت كانت فيه الأمور تسير بطبيعتها دون حاجة إلى ذلك.
وفي هذا السياق، نُقل عن رونالد ريغان في 12 أغسطس من عام 1986، قوله: "أكثر خمسة كلمات مرعبة في اللغة الإنجليزية هي: أنا من الحكومة، وجئت لأساعد." ولم يكن هذا القول إلا انعكاسًا لفكر ليبرالي ساد، يسعى دائمًا إلى حفظ حقوق رجال الأعمال والمقرضين وأصحاب الأراضي، دون تدخل الحكومات، التي ربما تعرقل سعي هؤلاء لجني الأرباح، سواء عن طريق الإيجار أو الإقراض أو ما شابه ذلك من وسائل.
وكان هذا الفكر الليبرالي مستمدًا من مدرسة الاقتصاد النمساوي التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، ووقفت موقفًا معاديًا للإصلاحات الاشتراكية. وقد افترض الاقتصاديون النمساويون أن نشأة الحضارة جاءت بتفاعل الأفراد والأعمال الحرة، حيث اخترعوا المال وابتدعوا نظام الفائدة دون تدخل من الحكومة.
وقد انبثقت من هذه المدرسة النمساوية فكرة أن المال بدأ بالتبادل، حيث يقوم الفلاح بزراعة القمح، أو الحرفي بصناعة الأحذية، ويأتي التاجر ليوفر لهم المواد الخام مثل الفضة. ويُقال إن الناس فضلوا الفضة في ذلك الحين لأنها كانت لا تفسد، فظنوا (بالخطأ) أن الفضة متجانسة ويمكن تقسيمها بسهولة، وهكذا أصبحت الذهب و الفضة هما المال الذي يعتمد عليه الأفراد في التبادل والتجارة.
لكن عندما بحثت في أصل المال، وجدت أن هذا التصور غير دقيق. فالقول بأن الفضة متجانسة في جودتها، قول لا يتفق مع ما كان عليه الحال في تلك العصور. إذ كيف لهم أن يتأكدوا من نقاء الفضة؟ وهل كانت كل سبائك الفضة متساوية في القيمة؟ فهناك سبائك كانت تحتوي على سبعة أثمان في بابل، وكانت هناك درجات مختلفة من النقاء في اليونان وروما. ولم يكن التزوير أمرًا غريبًا، مما يعني أن الفضة لم تكن موثوقة في جميع الحالات. ولهذا كانت المعابد هي الجهة المعتمدة لضمان نقاء الفضة، وليس عمال المناجم الذين كانوا يستخرجونها ويتاجرون بها.
نعم، صحيح أن النقود المعدنية لا تصدأ وتدوم لفترة طويلة، لكن كيف كان يمكن للفلاح أو الحرفي أن يحدد كمية الحبوب التي تعادل قطعة من الفضة؟ لقد كان الأمر يتطلب موازين دقيقة لتحديد الوزن، ولكن حتى هذه الموازين لم تكن دائمًا دقيقة، وكثيرًا ما أدانت النصوص المقدسة التجار الذين كانوا يستخدمون أوزانًا غير دقيقة في معاملاتهم.
ومن هنا، نرى أنه كان لا بد من وجود نظام لقياس الأوزان في الشرق الأدنى خلال العصر البرونزي. فكانت مينا الفضة تُقسم إلى 60 وزن شيكل. إلا أن الاقتصادات الزراعية لم تكن تعتمد على الفضة في سداد ديونها، بل كانت تُسدد بالحبوب. وكان من اللافت أن الاقتصاديين النمساويين تجاهلوا هذا الجانب المهم من تاريخ الاقتصاد القديم، عندما تساءلوا كيف يمكن للفلاحين حمل الحبوب معهم دون أن تتعفن.
لم يكن الجهد الذي بذلوه كافيًا لفهم كيف كانت تجري المعاملات في العصر البرونزي، وحتى في العصور الوسطى. ففي أوروبا، لم تكن المدفوعات تُسدد على مدار السنة، بل مرة واحدة عند الحصاد. وكان الاقتصاد قائمًا على الائتمان طوال العام، وتسوية الحسابات كانت تتم مرة واحدة فقط لتسديد الديون المتراكمة.
خذ مثلًا الوضع في بابل، حيث كان الناس يرتادون الحانات، ويتراكم عليهم دين يتم تسديده عند موسم الحصاد. كانت هذه الديون موثقة، وكانت الإعلانات الملكية تشمل في بعض الأحيان قرارات بإلغاء تلك الديون. وكان ذلك يشمل أيضًا ديون النساء اللواتي يدين للقصر أو للمعابد بسبب توفير المشروبات.
لم يكن المال يُقرض للمزارعين فعليًا، ولم تكن النساء اللواتي يديرن الحانات يدفعن المال لمورديهن. كانت الموارد تقدم على شكل ائتمان، يُسدد عند اكتمال الحصاد. وكانت المجتمعات الزراعية تعتمد على الائتمان في جميع معاملاتها، ولم تكن هناك حاجة للتسويات النقدية الفورية. أما التجار، فكانت معاملاتهم بالفضة، أما عامة الناس، فكانت تسوياتهم تعتمد على المحاصيل.
وهكذا نجد أن الاقتصاد كان قائمًا على نوعين من المدفوعات: المدفوعات التجارية التي كانت تُسدد بالفضة، والمدفوعات الزراعية التي كانت تُسدد بالحبوب. ولذلك كان الحبوب والفضة أول وسيلتين رئيسيتين للدفع النقدي.
إعفاءات الديون الملكية عندما تكون الظروف غير مواتية للسداد
ولكن ماذا كان يحدث عندما يفشل الحصاد؟ كيف كان الناس يسددون ديونهم في تلك الحالة؟ كان ذلك دائمًا مسألة مربكة لأهل الاقتصاد الحديث، الذين لم يدركوا أن المجتمعات القديمة كانت تتعامل مع هذه الأمور بوسائل مختلفة. فكان هناك ما يُسمى بـ "الأعمال الإلهية"، التي تقتضي ضرورة إعفاء الديون عندما تقع الكوارث الطبيعية.
ولم يكن ذلك قاصرًا على بلاد ما بين النهرين. فعندما غزت شركة الهند الشرقية البريطانية الهند، أنهت ممارسة قديمة كانت تقوم على إلغاء الديون في أوقات المحن. كانت تلك الممارسة ضرورية لحماية المزارعين من فقدان أراضيهم والانزلاق إلى العبودية. وعندما لا تتخذ الحكومات إجراءات كهذه، كان رد الفعل الطبيعي هو هروب المدينين، وهي ظاهرة وُصفت منذ الألفية الثانية قبل الميلاد. ولم يستطع المدينون في العبودية الخدمة في الجيش. أو قد ينشقون وينضمون إلى المهاجمين الذين يعدون بإلغاء ديونهم وهي استراتيجية عسكرية يونانية شائعة يستخدمها الجنرالات لكسب السكان المحليين.
الحرية الاقتصادية على الأرض، هي تلك التي تمكن الإنسان من أن يكون سيدا في إنتاج وسائل دعمه الذاتي، سيدا في توفير احتياجاته الأساسية من دون اعتمادٍ على الغير. ولقد جاءت قوانين حمورابي لتؤكد على ضرورة الحفاظ على هذا الاستقلال، وإذا ما تعرض للاضطراب أو الخلل، فإن تلك القوانين تعمل على إعادته إلى نصابه. وكيف لا، وهي تقضي بأن الديون الناجمة عن الحبوب لا ينبغي دفعها إذا ما غمرت مياه الإله عداد الأرض، وكأن العدالة تتنزل من السماء لتغسل تلك الديون. ولم تكن الحروب أقل أهمية من الكوارث الطبيعية، فهي أيضا فرصة لتصفية الديون. وبالرغم من كل هذه الظروف القاهرة، فإن تراكم الديون كان، في نظر المجتمع، أمراً طبيعياً يرافق الحياة اليومية. ولذلك، كان من تقاليد الحكام، أن يبدأ كل منهم عهده بإعلان عفو عام يشمل الديون، وكأنهم يعيدون ترتيب الأمور ويحررون الناس من الأعباء التي تثقل كواهلهم. وكان هذا تقليدا راسخا لدى كل حاكم من سلالة حمورابي، وكذلك لدى حكام لجش والمناطق المجاورة.
الحذر من ظهور طبقة دائنين تهدد الحكام الأقوياء
وأما من الأمور التي كان الحكام الأقوياء يسعون إليها، فهي الحيلولة دون ظهور طبقة دائنين قوية تستغل نفوذها المالي لتحول ثروتها إلى سلطة سياسية، وتطيح بهم. أليس هذا ما حدث في أواخر الإمبراطورية الرومانية، عندما استغل الدائنون قوتهم لفرض نفوذهم؟ بل وتكرر المشهد نفسه في الإمبراطورية البيزنطية خلال القرنين التاسع والعاشر، حينما سعى النبلاء إلى السيطرة على الأراضي المرهونة، واتخذوا من العمال التابعين لهم جيشا يستخدمونه ضد القسطنطينية. ولكن، ها هنا، كان للسلطة المركزية رأي آخر؛ فقد انتصرت القسطنطينية، ودعا الإمبراطور البيزنطي الجنرال المنافس إلى وليمة تهدف إلى تثبيت السلام. وفي أثناء الوليمة، سأله الإمبراطور عن أفضل السبل لمنع النبلاء من إثارة المتاعب في المستقبل، وكيف يمكن العيش في سلام. وكان رد الجنرال واضحًا؛ ألا يسعى للانتقام من خصمه، بل يترك الأسر الثرية تحتفظ بأراضيها وثرواتها النقدية، ولكن، وهذا هو الأهم، ألا يسمح لهم بالاستيلاء على أراضي الفلاحين. فالفلاحون، في نظر الجنرال، هم عماد البلاد وحصنها ضد الغزاة الذين يهددون الإمبراطورية من الشرق، وكانت هناك حاجة ماسة إلى تعاون النبلاء والفلاحين في الدفاع عن المملكة.
وكان هذا الجنرال قد قدم نصيحة مشابهة لما قدمه الطاغية الإغريقي ثراسيبولوس لحاكم كورنث بيرياندر في القرن السابع قبل الميلاد. فحين أطاح بيرياندر بالأرستقراطية وألغى الديون التي كانت تقيد الفلاحين، وأعاد توزيع الأراضي، كان عليه أن يتدبر كيفية منع الأوليغارشية المخلوعة من استعادة سلطتها. فما كان من ثراسيبولوس إلا أن سار إلى حقل من القمح، وأشار إلى سنابل القمح التي تفاوتت في ارتفاعها، ثم قام بحركة سريعة بمنجل جعله في يده، ليجعل جميع السنابل في مستوى واحد. تلك الإشارة كانت واضحة: عليك أن تجعل النبلاء في مستوى واحد، متساوين، حتى لا يرتفع أحدهم فوق الآخر. وبالمثل، كان الجنرال البيزنطي يرى ضرورة فرض الضرائب على الأسر الثرية، ليمنعهم من الطمع في الاستحواذ والسيطرة، لكنه في الوقت ذاته ترك لهم أراضيهم ليعيشوا منها.
وهكذا، نرى كيف نجحت اقتصادات الشرق الأدنى القديم، بل وحتى الملوك والطغاة الإغريق والرومان الأوائل، في كبح جماح الأوليغارشيات ومنعها من السيطرة على اقتصاداتهم. ولكن، ما أن جاء القرن الرابع قبل الميلاد حتى بدأت الأوليغارشيات تسعى إلى إفقار الشعوب والإطاحة بالسلطة التنظيمية التي كانت ضرورية لحماية حاجات الناس ووسائل دعمهم.
والحق، إن الطمع في القوة الاقتصادية، وما يصحبه من رغبة في السيطرة على الآخرين من خلال استغلالهم كمدينين أو مستأجرين أو عملاء، قد كان ولا يزال موضوعا يستحق أن يكون في صلب التفكير الاقتصادي المعاصر. ألا نرى اليوم أن تلك النسبة الصغيرة من الأغنياء، التي لا تتجاوز الواحد في المئة، تفعل ما فعله نظراؤهم في الماضي؟ إنهم يحبون السيطرة على المدينين، ويعتبرون هذا الأمر طبيعيا. والقطاع المالي، الذي يسيطر على الثروات النقدية، يرتعد من فكرة تحرير المدينين من ديونهم، وكأن في ذلك تهديدًا لوجوده. ألا ترى أن هناك نوعًا من الاحتقار عند الحديث عن تاريخ الاقتصاد في العصر البرونزي والعصور القديمة؟ لقد كان هذا التاريخ ناجحًا في كبح ظهور الأوليغارشية، التي استخدمت الدين كوسيلة لإفقار الشعوب والاستيلاء على أراضيهم. كما عبر النبي إشعياء في الكتاب المقدس عندما قال إنه لم يعد هناك مكان للناس لأن الأغنياء وضعوا بيتًا بجانب بيت وقطعة أرض بجانب قطعة أرض.
وأما اليوم، فإننا نفتقد النقاش الحقيقي حول كيفية تحقيق اقتصاد متوازن بين العام والخاص. يتم تعليم الطلاب كيف يتركون السوق الحرة، التي يسيطر عليها الأثرياء، تعمل دون قيد أو شرط. لم تكن روما بحاجة إلى مارغريت تاتشر أو رونالد ريغان لتقديم المشورة في شأن الحرية الاقتصادية. فالحرية بالنسبة للأوليغارشية الرومانية، كانت تعني أن يفعلوا ما يشاؤون ببقية الناس.
وهذا هو الحال عندما نترك السوق الحر في أيدي الأقوياء. إنها حرية للدائنين وملاك الأراضي لفرض الإيجارات، وحرية للاحتكارات لتستنزف ضحاياها. ولكن، هذه الحرية، يا صاحبي، هي النقيض لما قصده آدم سميث وجون ستيوارت ميل وغيرهم من الاقتصاديين الكلاسيكيين. فقد كانوا ينشدون سوقا حرة من سيطرة ملاك الأراضي، ومن الإيجارات الاحتكارية، ومن قوة الدائنين التي تجرد الناس من استقلالهم.
إن هذا الصراع القديم لتحرير المجتمعات من "الريع الاقتصادي" وسيطرة الأوليغارشيات قديمٌ قِدَمَ العصور القديمة، وهو لا يزال مستمرًا إلى يومنا هذا.
الجزء الثالث
حرب الدائنين الخالدة ضد المدينين
إن مقالاتي عن أصول الائتمان، والمال، والفائدة تتشارك جميعها في هذا الإطار المرجعي، الذي يتكرر عبر الزمن وفي كل المجتمعات. فمنذ أن بدأ الإنسان بتأسيس المؤسسات الاقتصادية الأولى في الشرق الأدنى القديم، مرورًا بالعصور الكلاسيكية والوسطى في أوروبا، وحتى العصر الحديث، نجد أن الطبقات الثرية كانت تسعى باستمرار لتشكيل أوليغارشيات تتحكم في زمام الحكم والديّن معًا، لتحفظ ثرواتها وتبرر امتيازاتها في استخراج الإيجارات كدائنين أو محتكرين أو ملاك أراضٍ.
إن هذه الحقيقة تستدعي منا التفكير بعمق في كيفية رؤية كل حقبة زمنية للعالم من خلال عدسة اقتصادية، وفي أي "حرية" كانت الأسواق تعمل، وأي نوع من الحرية كان يُعزّز. لم يكن السؤال المطروح عبر العصور المختلفة سؤالًا عن الحريات الفردية بقدر ما كان سؤالًا عن تلك الحريات التي تتيحها الأنظمة الاقتصادية لحماية مصالح الطبقات المهيمنة. لقد تكرر هذا الصراع منذ عصر البرونز في الشرق الأدنى، حين كان الملوك يلجأون دوريًا إلى إلغاء الديون لاستعادة التوازن الاقتصادي ومنع تركز الثروة في أيدي القلة. واستمر هذا الصراع عبر الحروب الأهلية التي هزت الجمهورية الرومانية، كما في صراع يسوع المسيح مع الأوليغارشية الناشئة آنذاك، ليصل إلينا اليوم في شكل آخر؛ صراع بين الغرب، بقيادة الناتو، وأوليغارشياته الريعية، وبين الأغلبية العالمية التي تجتمع تحت لواء دول البريكس.
ونحن إذ نشاهد هذا الصراع المتكرر، نجد أن النخب المالية عبر العصور كانت تقف دائمًا في وجه أي سلطة حكومية تسعى لتقييد طموحاتهم الريعية. واليوم نراهم يفعلون الشيء ذاته من خلال المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بل وحتى الفكر النيوليبرالي الذي ينادي بتحرير الأسواق من قبضة الحكومات. الهدف هنا واحد: تركيز السلطة الاقتصادية في يد القطاع المالي، وجعل التخطيط الاقتصادي متمحورًا حوله، وليس حول الحكومات (باستثناء الحالات التي تسيطر عليها القطاعات الريعية).
ولكن، إذا أردنا أن نلقي نظرة على التجربة الصينية، فسنرى أن الصين قد نجحت في تمويل نهضتها الصناعية دون الحاجة إلى الوقوع في براثن الدائنين الخاصين. ففي وقت لم يكن فيه السكان المحليون يملكون المال الكافي لتمويل المشروعات الكبرى، قامت الحكومة بطباعة أموالها الخاصة دون الحاجة إلى الضمانات التقليدية من الثروة الشخصية. لم يكن هناك بعد من يملك العقارات الكبيرة أو السندات، ولذلك لم تكن هناك حاجة للجوء إلى الدائنين أو حملة السندات. لقد فعلت الصين ما تستطيع كل حكومة ذات سيادة فعله، كما فعل أبراهام لينكولن من قبل أثناء الحرب الأهلية الأمريكية؛ قامت بطباعة الأموال التي تحتاجها لتلبية احتياجاتها الداخلية.
هذا النهج الصيني ليس جديدًا في تاريخ الحروب، فقد اضطرت الحكومات عبر العصور إلى طباعة الأموال عندما كانت تخوض حروبًا كبرى. ولكن، رغم ذلك، نجد أن الفكر السائد بين الاقتصاديين في مطلع القرن العشرين كان يرى أن هذا الخيار غير متاح. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914، توقع المراقبون أن تنتهي الحرب سريعًا بسبب نقص المال والائتمان اللازمين لمواصلة القتال. ولكن، مرة أخرى، لجأت الحكومات إلى طباعة أموالها، رغم استياء الدائنين الذين يفضلون دومًا أن يكونوا مصدر التمويل.
ومع انتهاء الحرب وعودة السلام، عادت الطبقة المالية لتطالب الحكومات بالعودة إلى نظام يعتمد على حملة السندات الخاصة، ولتستعيد هيمنتها على السياسة الاقتصادية. شهدت الولايات المتحدة ذروة هذا الصراع في عام 1913 مع إنشاء نظام الاحتياطي الفيدرالي، الذي استولى على صلاحيات الخزانة الأمريكية في إدارة الائتمان وتحديد أسعار الفائدة. حتى ذلك الحين، كانت الخزانة الأمريكية هي التي تدير تلك الأمور، من خلال 12 منطقة محلية تنسق توفير الائتمان، وخاصة لتحريك المحاصيل في فصل الخريف.
لقد كان جي. بي. مورجان ومن معه من المصرفيين يسعون إلى منع الإدارة النقدية من أن تكون مرفقًا عامًا. وكان هدفهم هو تركيز السياسة النقدية في أيدي المراكز المالية الكبرى، مع إقصاء الحكومة من التحكم في هذا المجال الحيوي. حتى أن الاحتياطي الفيدرالي، الذي تمركز في نيويورك بدلاً من واشنطن، أصبح أداة بيد البنوك الخاصة التي فرضت سيطرتها عليه بشكل كامل.
هذا الانقلاب المالي، الذي شهده العالم الحديث، لم يكن انقلابًا عابرًا أو حدثًا عرضيًا، بل هو تحول جوهري في طبيعة السيطرة على المال والائتمان، إذ أصبح المصرفيون هم من يحددون من ينال القروض ومن يحرم منها، ولأي غرض يُخصص الائتمان. وكما نرى في واقعنا المعاصر، لم يعد هدف المصرفيين تمويل تكوين رأس المال الصناعي الذي كان فيما مضى محور الاقتصاد. بل نجدهم يفضلون إلغاء التصنيع ذاته، وتحقيق مكاسب مالية هائلة من خلال المضاربة على أسعار الأصول الرأسمالية التي ترتفع بفضل ارتفاع أسعار العقارات والسندات والأسهم. فالبنوك اليوم لا تمول الإنتاج، بل تمول شراء هذه الأصول، مما يؤدي إلى زيادة أسعارها نتيجة تضخم الائتمان.
وهذا التحول الجذري في الاقتصاد، الذي يعلي من شأن المكاسب المالية على حساب الإنتاج الصناعي، ينبع من اعتماد النظام المصرفي على الإقراض بضمان الأصول. ففي القطاع العام، القروض توجه لشراء الأصول، وغالبًا ما يكون الأصل المشتري هو الضمان الذي يُرهن للبنك مقابل التمويل. إن ما يقرب من 80% من القروض المصرفية في الولايات المتحدة تُخصص لقطاع العقارات، وتُمنح القروض أيضًا مقابل الأسهم والسندات. بل وتقوم شركات رأس المال الخاص باقتراض مبالغ ضخمة للاستحواذ على الشركات، باستخدام الشركات ذاتها كضمان للقروض. وهكذا، نجد أن السياسة القائمة على الضمانات توجه الائتمان المصرفي إلى الأسواق العقارية والمالية، لا إلى الإنتاج الصناعي.
وهنا نصل إلى جوهر الفقاعات المالية التي نراها تتشكل في مختلف الاقتصادات. فكلما زاد حجم الائتمان المقدم، زادت أسعار الأصول، مما يؤدي إلى تضخم مستمر في قيمة العقارات والأسهم، كما حدث مع سوق العقارات الأمريكية منذ عام 1945، ومع أسعار الأسهم منذ ظهور عمليات الاستحواذ بالرافعة المالية في الثمانينات. يمكن القول بأن نزع التصنيع المثقل بالديون الذي نراه في الولايات المتحدة وغيرها من الاقتصادات الغربية اليوم ليس إلا نتيجة طبيعية لهذا الاقتصاد القائم على الفقاعات المالية، والذي امتد لأكثر من ثمانين عامًا.
لكننا، إذا تأملنا التجربة الصينية، ندرك أن هذا المسار لم يكن حتميًا، فالصين، على سبيل المثال، مولت انطلاقتها الصناعية ليس من خلال تضخم أسعار الأصول أو المضاربة، بل من خلال خلق ائتمان عام لتمويل الاستثمارات الرأسمالية الحقيقية، وبناء العقارات لا بهدف تحقيق مكاسب مالية، بل بهدف إنشاء رأس مال جديد وبناء مبانٍ جديدة. كان الهدف هو التوسع في تكوين رأس المال، لا تحقيق أرباح من ارتفاع أسعار الأصول القائمة. هذا النهج الذي تبنته الصين يختلف تمامًا عن السياسة الغربية الحالية التي حولت الاقتصاد إلى اقتصاد مالي بحت، بعيدًا عن الرأسمالية الصناعية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر.
فالسياسة الاقتصادية الغربية، التي نراها اليوم، تنحرف انحرافًا بعيدًا عن تلك الرأسمالية الصناعية التي كان الهدف منها، في النظام المصرفي الألماني والأوروبي المركزي قبل الحرب العالمية الأولى، هو استخدام النظام المالي كأداة لتمويل تكوين رأس مال جديد. كانت هناك شراكة بين البنوك والحكومة والصناعة الثقيلة لخلق فرص إنتاجية حقيقية. ولكن الغرب اليوم قد حول هذه الصناعة إلى صناعة مالية، وأصبحت الأموال لا تذهب إلى الإنتاج الصناعي، بل إلى مضاربات مالية على الأصول القائمة.
وهذا التحول في طبيعة النظام المالي ليس إلا انعكاسًا بعيد المدى لما كانت تؤديه الائتمانات في الشرق الأدنى القديم، حين كانت مؤسسة المال وسيلة لاحتساب الديون التي كان السكان يتحملونها، وخاصة تجاه المؤسسات القصرية والمعبد. هذه المؤسسات كانت تجمع ديون الشعير الزراعية، أو تقدم المال أو البضائع للتجار، وكان تسديدها يُحتسب بالفضة. وها أنا أتتبع كيف تطور نظام المال والائتمان، حتى أصبح نظامًا ماليًا متكاملًا منذ بدايته في الشرق الأدنى القديم، مرورًا باليونان وروما، وصولًا إلى الحملات الصليبية وظهور الدول المالية في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
تحول البابوية عن موقفها المعارض للربا من أجل تمويل الحروب
في أواخر العصور الوسطى، كانت الحكومات حينذاك هي التي تقرض الأموال، لا تقترضها. لكن حالة المديونية الملكية لم تكن معروفة إلا عندما حاولت الكنيسة الرومانية أن تجمع حولها الممالك المسيحية وتضعها تحت سطوة البابا. وفي سبيل هذا المسعى، كانت القوة العسكرية ضرورية، وكما هو معلوم، لا قوة بلا مال، ولا جيش دون تمويل. فكانت الحملات الصليبية، وما أعقبها من الحروب التي شنتها البابوية، موجهة في الأساس ضد الممالك المسيحية الأخرى، مثل ألمانيا وفرنسا (ضد الكاثاريين)، وأيضًا ضد صقلية والبلقان والإمبراطورية البيزنطية. ولتأمين تمويل هذه الحروب، وُلدت الطبقة الجديدة من المصرفيين الدوليين، وهكذا بدأ التحول نحو مالية الغرب، حيث كانت هذه القروض تُقدم بفوائد، مما أدى إلى تراجع الموقف المسيحي القديم المعارض للربا.
منذ بداية الحملات الصليبية عام 1095 وحتى القرن السادس عشر، كانت الكنيسة الرومانية هي القوة الوحيدة التي هيمنت على أوروبا الغربية. وكان الباباوات ينظرون إلى الملوك العلمانيين كأتباع لهم، وشرعوا في السيطرة على بطريركيات العالم المسيحي الأربع: القسطنطينية، أنطاكية، الإسكندرية، والقدس، التي شكلت ما نعرفه اليوم بالكنيسة الأرثوذكسية الشرقية.
عندما نقترب من نهاية الألفية الأولى، كانت القسطنطينية هي القوة المسيطرة بلا منازع، وكانت تمثل "روما الجديدة"، ولذا كان إمبراطورها هو الإمبراطور الروماني الحقيقي. أما روما القديمة وبابويتها، فقد بدتا وكأنهما مجرد أثر من بقايا المسيحية الأولى. فقد انحدرت البابوية إلى مستوى متدنٍ حتى إن المؤرخين الكاثوليك لم يجدوا من الألفاظ ما يصفون به تلك الفترة سوى "حكم البغايا"، تعبيرًا عن الفساد الذي عمّ البابوية حينما كانت تحت سيطرة العائلات المتنفذة في تسكولوم، تلك التلال المحيطة بروما، والتي حولت البابوية إلى ملكية شخصية، بلا أبعاد دينية حقيقية.
ولكن هذه الانحطاط البابوي أدى إلى بروز حركة إصلاحية، كانت ألمانية في جوهرها، وسرعان ما تحولت إلى خطة إمبراطورية. فقد لم يكن الهدف مجرد إصلاح المسيحية في روما، بل السيطرة على كل العالم المسيحي، تحت لواء تحول نحو سلطة أحادية. وكانت البداية مع الانشقاق الكبير في عام 1054 الذي فصل المسيحية الرومانية عن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. ومن ثم جاء "إملاءات البابا" عام 1075، لتحدد خطوات هذه الخطة التوسعية.
لكن هذه الخطة الإمبريالية كانت تفتقر إلى الوسائل العسكرية والمالية. فالكنيسة، رغم امتلاكها لأراضٍ واسعة أكبر من الممالك الملكية، كانت هذه الأراضي تحت السيطرة المحلية، وكانت تُستخدم في الأعمال الخيرية والأنشطة الاجتماعية. أما ما كان لدى روما فهو السلطة لتعيين وتقديس الملوك الذين تختارهم، وحرمان المعارضين من هذا الشرف، وبالتالي من الدعم العسكري والمالي.
خلال القرن الحادي عشر، بدأ المرتزقة النورمان بالنزوح من فرنسا جنوبًا إلى إيطاليا، وعندما جاء العام 1061، جند البابا نيكولاس الثاني قائد الحرب روبرت جيسكارد، ووعده بجعله ملكًا إن استطاع غزو صقلية وجنوب إيطاليا، وتحويلها إلى إقطاعية بابوية. وجاء اتفاق مشابه مع ويليام الفاتح عام 1066، الذي قاد جيشًا من نورماندي إلى إنجلترا، متعهدًا بالولاء لروما. وفي المقابل، وافقت هذه الممالك على دفع الجزية للبابا، ومنح البابوية حق تعيين الأساقفة في أراضيهم، مما أتاح لروما التحكم في إيراداتهم.
غير أن ملوك ألمانيا كانوا مختلفين؛ فهم لم يكونوا جنرالات عينتهم البابوية. بل كانوا ينتخبون من قبل الأمراء الألمان، ويحملون لقب الإمبراطور الروماني المقدس وملك إيطاليا. وبعد محاولتهم لإصلاح البابوية في أواخر القرن العاشر، رفضوا سيطرة البابوية على الكنيسة الألمانية. كانوا يعينون أساقفتهم الخاصين ويحاولون دمج الكنيسة في الإدارة المدنية بدلًا من السماح لها بالاستقلال الثيوقراطي.
كان من القضايا المحورية في الصراع بين روما والملوك الأجانب، وكذلك بين الملوك ونبلائهم، مسألة السيطرة على تعيين الأساقفة المسؤولين عن الإيرادات المحلية للكنيسة. فقد كانت هذه الإيرادات تشكل مصدرًا هامًا للتمويل، وبطبيعة الحال، سعت البابوية الإمبراطورية إلى السيطرة عليها لتمويل حروبها الطموحة ضد الدول المسيحية الأخرى. ولم يكن هذا الصراع مقتصرًا على الخارج فحسب، بل امتد إلى الداخل أيضًا. ففي إنجلترا، جاء النبلاء في عام 1215 ليضعوا "الوثيقة العظمى" (Magna Carta)، تلك الوثيقة التي أرادوا من خلالها أن ينتزعوا لأنفسهم حق منع الملك من فرض الضرائب دون موافقتهم. لكن الملك جون، الذي وجد في هذا تحديًا لسلطته، لجأ إلى البابا إنوسنت الثالث، طالبًا منه أن يحرم النبلاء الذين وقفوا ضد حكمه الإلهي. لم يتأخر البابا في تلبية الطلب، فأصدر مرسومًا يبطل الوثيقة العظمى، وأكد دعمه للحق الإلهي للملوك في فرض الضرائب بلا قيود. غير أن هذا الإجراء البابوي لم يكن له أثر كبير في كبح جماح المقاومة الداخلية ضد الضرائب التي فرضها الملك.
ومع ذلك، فإن مسألة تمويل الحروب ظلت بحاجة إلى مصادر خارجية. إذ لم تكن الضرائب المحلية وحدها كافية لتمويل الجيوش، خاصة في ظل المقاومة الشرسة التي كانت تعترض فرضها. ولهذا، لجأ الملك هنري الثالث، ابن الملك جون، إلى الاقتراض من المصرفيين الإيطاليين، أولئك الذين كانت روما تدعمهم بشكل غير مباشر. قدم مبعوثو البابا للملك وثائق موقعة على بياض، كانت بمثابة سندات دفع، تلزمه بالاقتراض لتأمين الأموال اللازمة لدفع رواتب الجنود الذين كان عليهم مهاجمة الألمان ومقاتلة المسيحيين الآخرين، خصوصًا في المناطق الخاضعة للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية.
ولعل من أهم المحطات في هذا الصراع، كان قرار البابا إنوسنت الرابع عام 1227 بحرمان الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني من الكنيسة. وفي عام 1245، وجه البابا الملك هنري الثالث للاقتراض من المصرفيين في فلورنسا، بهدف تمويل حربه ضد السيطرة الألمانية على جنوب إيطاليا. وكان هذا القرار بداية الدعم البابوي المباشر للمصارف الإيطالية، مما أدى في نهاية المطاف إلى نشوب حرب أهلية في إنجلترا. حاول البرلمان تعزيز الوثيقة العظمى بوضع "أحكام أوكسفورد"، إلا أن البابا ألكسندر الرابع لم يتوانَ عن إلغائها، وأصدر مرسومًا بحرمان مؤيدي هذه الأحكام من الكنيسة. وبهذا الانتصار، تمكنت روما من منع البرلمان الإنجليزي من اكتساب سلطة تحد من ديون الحرب التي تكبدها الملوك العلمانيون، بناءً على أوامر البابا.
كما ذكرت آنفًا، كانت هناك خمس بطريركيات للمسيحية، غير أن روما كانت الأقل أهمية بينها، خصوصًا في مشارف القرن الحادي عشر. فقد كانت القسطنطينية هي المركز المسيحي الأهم، وكانت روما "الجديدة" أو "روما الشرقية"، وبهذا كانت قوة الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية تعادل - بل تفوق - نفوذ روما القديمة. ولم يكن غريبًا أن تسعى البابوية مرارًا وتكرارًا إلى حرمان بطريرك القسطنطينية من الكنيسة، في محاولة منها للسيطرة على هؤلاء البطاركة وعلى مواردهم المالية، التي كانت تشكل جزءًا من الهيمنة الروحية والمادية على العالم المسيحي.
إن البابوات أدركوا بجلاء أنه إذا كانت نيتهم المشاركة في الحروب، فكان لابد لهم من إيجاد طريقة لتنظيم تمويل هذه الحروب. وكما بينّا سابقًا، كان ذلك يستدعي تراجعهم عن أحد المبادئ المسيحية الأساسية، وهو رفض الربا. روما اضطرت لتغيير موقفها المعارض للربا بسبب ضغط العائلات التجارية، التي أصبحت بنوكًا ومولت الحروب البابوية، حيث أصرت على فرض الفوائد على القروض. ومن هنا، قام العلماء المسيحيون بالتمييز بين "الفائدة" و"الربا". أُعيد تعريف الربا ليصبح "فائدة" حينما يُفرض من قبل المسيحيين، وخاصة لأغراض مباركة من قبل روما، أبرزها تمويل الحروب. يمكننا مقارنة هذا بما قاله الرئيس الأمريكي نيكسون: "عندما يفعل الرئيس ذلك، فهو ليس جريمة".
كان لهذا الموقف أثر كبير في إضفاء الشرعية على تنامي الثروات العظيمة للعائلات المصرفية، التي ازدادت ثراءً من خلال إقراض الملوك لتمويل الحروب. ومع نهاية الحروب الصليبية في عام 1291، بدأ نفوذ البابوية في التراجع، إلا أن الآثار الناتجة عن هذا التغيير كانت عميقة؛ إذ أوجدت طبقة مالية قوية نمت تدريجيًا حتى أصبحت تتفوق على تأثير روما نفسها. وبذلك، أدى الإصلاح البابوي والحملات الصليبية إلى قلب المبادئ الأخلاقية المسيحية التي كانت تعارض الربا، بينما ولدت شكلًا جديدًا من المسيحية الإمبراطورية، التي اتسمت بعدم التسامح.
نشأة الولايات البرلمانية المالية الملتزمة بسداد ديون الحرب
أما عن نشأة الدول البرلمانية المالية، فقد ظهر ذلك في بدايات القرن الرابع عشر، عندما انفصل الملك فيليب الرابع ملك فرنسا عن الكنيسة، وبدأ في رعاية بابوات أفينيون، وصادر ثروات تنظيم فرسان الهيكل المصرفي التابع للكنيسة، وأيضًا ثروات اليهود واللومبارديين في فرنسا. ومع مرور القرنين التاليين، أصبح الملوك العلمانيون أكبر عملاء المصرفيين، حيث اقترضوا منهم لتمويل حروبهم. ومع حلول نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، واجه الملوك الأوروبيون نفس الأزمة التي واجهتها أمريكا اللاتينية في الثمانينيات وتواجهها اليوم: لم يستطيعوا سداد ديونهم التي تراكمت بفوائد مركبة. وهكذا، ظلت المصارف تمد الملوك بالقروض على أمل أن تحدث معجزة تنقذهم، وكان هذا الأمر ما يُعرف بـ"جنية الثقة".
كان الملوك يملكون ممتلكات شخصية فقط لسداد ديونهم، في حين أن باقي الأصول في ممالكهم لم تكن تحت سيطرتهم المباشرة. لم تكن الديون الملكية في ذلك الوقت تُعتبر "عامة" كما نفهمها اليوم؛ كانت تخص البلاط فقط. لم تكن هناك دولة بالمعنى الحديث، ولا ديون حكومية. لكن الملوك كانوا يفرضون الضرائب فقط بموافقة النبلاء، رغم أنهم كانوا يسيطرون على الضرائب المفروضة على التجارة الخارجية. ولهذا، تعاون الدائنون مع الملوك لإنشاء احتكارات تجارية تساعدهم في سداد الديون، إلا أن هذا لم يكن كافيًا لضمان الاستقرار المالي.
وفي مواجهة هذا الوضع، وجدت العائلات المصرفية أن الحل يكمن في النظر إلى النماذج السياسية لدى المدن الإيطالية والهولندية الصغيرة، التي كانت تُدار بشكل جماعي من قبل قيادات منتخبة. هؤلاء القادة كانوا يتمتعون بالسلطة اللازمة لاستخدام ثروات الكوميونات كضمان لسداد الديون الحربية التي اقترضوها للدفاع عن أنفسهم ضد الملوك الكاثوليك الفرنسيين وغيرهم الذين كانوا يحاولون احتلالهم. رأت المصارف في هذا النظام الجماعي الحل الأمثل لتقليل مخاطر الإقراض، حيث كانت الدولة قادرة على تحمل الديون وضمان سدادها على المستوى الوطني.
لقد أدرك المصرفيون في ذلك الترتيب الجديد الذي برز في إيطاليا وهولندا ما كانوا يسعون إليه طويلاً لتقليل مخاطر الإقراض. فقد وجدوا في الدولة، القادرة على المستوى الوطني على ما كانت تفعله تلك الكوميونات ذاتية الحكم في فلورنسا وجنوة، الحل الأمثل. وهكذا، بدأت هولندا في تحويل نفسها إلى كونفدرالية من تلك الكوميونات، ثم دُعيت إلى إنجلترا لتأسيس نظام من الدولة المالية البرلمانية التي تتمتع بسلطة لم تكن الممالك قادرة على توفيرها: ضمان القدرة المالية الوطنية لسداد الديون التي تراكمت.
وبذلك وُلدت الدولة المالية الحديثة، حيث توافقت تماماً مع المطالب التي رفعتها الطبقة المصرفية الدولية. لم تكن الإقطاعيات الملكية القديمة دولًا حقيقية، بل كانت مجرد إقطاعيات. أما الدولة المالية الحديثة، فقد اكتسبت سلطة فرض الضرائب الوطنية، وهي قوة تفوق بشكل كبير قدرة الملوك على رهن ممتلكاتهم الشخصية. فالدولة الحديثة تأسست في الأصل كتنظيم مالي، يقبل الدائنون إقراضه المال للدفاع عن نفسه. وهكذا حصلت الدول البروتستانتية الشمالية في أوروبا على الأموال التي مكنتها من مقاومة الممالك الكاثوليكية الأوروبية، حتى تحررت منها. وتحولت الهياكل السياسية التي نشأت لتحمل المسؤولية عن الديون إلى نظم ديمقراطية، وبالتالي لم تظهر فقط دول جديدة، بل نظام مالي فوق وطني، يعلو فوق سيادة الدول القومية. وكانت هذه الدول مجبرة على سن قوانين مالية تدعم الدائنين للحصول على القروض التي تحتاجها للبقاء أو لخوض حروبها التوسعية.
لقد تولت إنجلترا زمام المبادرة في تطوير النظام المصرفي الوطني، وذلك من خلال ابتكار نقدي عظيم تمثل في استخدام الديون الحكومية كأصول للبنوك لدعم الإقراض التجاري، وهو ما ساهم في توسيع اقتصادها بشكل غير مسبوق.
هذا كله يعني أن القطاع المالي أصبح لاعبًا سياسيًا رئيسيًا، حيث قام بتسخير قوته الاقتصادية لإنشاء نوع جديد من الدولة التي تخضع لقواعد تمليها مصلحة الدائنين. في العصور القديمة، كان ملوك الشرق الأدنى يتمتعون بسلطة إلغاء الديون، وشن الحروب، ومنع ظهور الأوليغارشيات. أما الدول الوطنية الحديثة، مثل هولندا وإنجلترا وشمال أوروبا، وكذلك الدول الغربية اليوم، فهي تملك القوة المالية، لكنها تفتقر إلى القدرة السياسية على كبح جماح الأوليغارشيات. فهذه الدول تدعم أوليغارشية مالية عالمية، وتصبح سلطتها مقيدة بمطالب الدائنين وأيديولوجياتهم. هذه الدول قوية، لكنها حين يقول الليبراليون مثل رونالد ريغان إنهم يعارضون الدولة، فإنهم في الحقيقة يريدون دولة قوية بما يكفي لسحق المدينين، لا دولة قوية بما يكفي لحماية الرفاهية العامة من مطالب الدائنين.
إن الدائنين يريدون دولاً قادرة على فرض الدفع لهم، دولًا تضع مصالح التحالفات بين الدائنين المحليين والأجانب فوق مصالح الاقتصاد المحلي. لذلك، يظل الصراع الأبدي قائمًا حول الأولوية: هل يستمر الاقتصاد في النمو بحرية، أم يسيطر الدائنون ليجعله تابعًا لأعباء الديون؟
إن المقالات الأكاديمية التي كتبتها حول ملكية الأراضي، والمال، والعمل، والفائدة، تتبع هذا الخيط المشترك، وهو كيفية تعامل الحضارة مع الائتمان والديون. وعندما ننظر إلى الحضارة كنتاج سياسي لعلاقات الائتمان والديون، نرى أن هذا العامل لا يقل أهمية في تاريخ البشرية عن أهمية الجنس في فكر فرويد.
الجزء الرابع
ابتكار العصر البرونزي للمال والفائدة ، ومرونة نظامها الاقتصادي
روبنسون: لدي العديد من التساؤلات التي تثيرها أفكاركم. فثمة مسائل عديدة طُرحت، وإن لم تكن متصلة بشكل مباشر بموضوع حديثنا، إلا أنها لفتت انتباهي. لقد ذكرتم في وقت سابق أن الترجمات الأولى للنصوص المسمارية كانت مختلفة بشكل كبير. ومنذ أيام قليلة، تحدثت مع الكاتبة والروائية والشاعرة جوي كارول أوتس في جامعة برينستون، وأخبرتها أن بعض قصائدي المفضلة والشعراء الذين أحبهم لا يكتبون بالإنجليزية. وأخبرتها أيضاً أنني عندما أقرأ قصيدة لكاتب في ترجمتين مختلفتين، أجد نفسي أكره الترجمة الأولى وأحب الثانية، حتى تصير القصيدة من مفضلاتي. وهذه نقطة جوهرية في موضوعنا، فالترجمة فن مهم في كل ما نقوم به. وأعود بكم هنا إلى تلك النصوص القديمة، حيث أعتقد أن من أبرز الدروس التي قد نستخلصها مما نحن بصدده اليوم هو ما يمكننا أن نتعلمه من انهيار حضارات عصر البرونز وغيرها من الحضارات القديمة وصولاً إلى يومنا هذا. وفي بداية حديثنا، أشرتم إلى حمورابي في بابل وسنة اليوبيل التوراتية. بالنسبة للمستمعين الذين لا يعرفون من هو حمورابي، أو ما هي سنة اليوبيل، هل لكم أن تشرحوا لنا من هما وكيف ساهما في ازدهار تلك الحضارات القديمة قبل انهيارها؟
مايكل: سأحاول الإجابة على سؤالك بطريقة غير مباشرة، إذ إنني كنت في وقت سابق من هذا اليوم منهمكاً في التعامل مع بعض الإشكالات التي تتعلق بالترجمة. فأحد أبرز الكتب المتعلقة بأصول النقود وتأثيراتها الاجتماعية، قد كتب في عام 1898 على يد عالم الأنثروبولوجيا الألماني هاينريش شورتز. كتابه "أصول النقود" كان دراسة للمجتمعات البدائية التي كانت تحت السيطرة الألمانية في جنوب المحيط الهادئ وأفريقيا.
وقد وصف شورتز في هذا الكتاب كيف أن ما تطور في تلك المجتمعات لم يكن نقوداً بالمعنى الذي نفهمه اليوم. لقد كانت النقود هناك شكلاً من أشكال الملكية، أي أنها كانت أصلاً وليس وسيلة للتبادل، على الرغم من أنها كانت ذات قيمة كبيرة. وما وُصف بأنه "نقود بدائية" لم يكن يشبه نقود بلاد ما بين النهرين. فقد كانت تلك النقود البدائية تأخذ شكل أشياء ذات قيمة اجتماعية، تُمنح بسبب المكانة، وغالباً ما كانت مستوردة بدلاً من أن تُنتج محلياً. وهكذا، كان الحصول على تلك الأشياء يعكس مكانة رفيعة داخل المجتمع، وكان يتم ذلك عبر التجارة الخارجية، التي كانت غالباً مواد غريبة وليست الفضة أو الذهب. وكانت تلك النقود البدائية قد تكون جواهر، أو أصداف، أو تذكارات غريبة أخرى، وربما كانت أيضاً قطعاً ثمينة من الملابس أو الأثاث التي كانت مملوكة لعائلات الزعماء. ولكن رغم تلك القيمة الكبيرة، لم يكن لهذه الأشياء قيمة موحدة مثل "النقود الحقيقية"، ولم تكن تستخدم في التبادل أو لسداد الديون بين الناس في المجتمع ككل.
أما في بلاد ما بين النهرين، فقد كانت الفضة تُستورد بجانب الحبوب، التي كانت الشكل الرئيسي للمدفوعات النقدية وتقدير الديون بين السكان الزراعيين. وعلى الرغم من أن الذهب لم يكن ذا دور كبير في التبادلات التجارية، إلا أنه كان ذا قيمة اجتماعية كبيرة، لا سيما عند الأثرياء الجدد الذين غزوا المنطقة في فترات لاحقة. لقد كانت الفضة تُعد رمزاً للقمر، بينما كان الذهب مرتبطاً بالشمس، وكان كلاهما يستخدم كتبرعات رمزية للمعابد. وكان اقتصاد بلاد ما بين النهرين يعتمد على التجارة بالفضة من أجل الحصول على المواد الخام مثل النحاس والقصدير، وهما العنصران اللذان شكّلا البرونز، المعدن الذي أطلق اسمه على ذلك العصر. كذلك كانت الأحجار، والخشب الصلب، والأحجار الكريمة جميعها مستوردة، وكان يتم تقييمها بالفضة.
لم تكن الفضة والذهب من أصل أجنبي في بابل فحسب، بل في معظم البلدان حتى عصرنا الحديث. لقد كانت الهند تُعرف منذ العصور القديمة وحتى العصور الحديثة بأنها "مستنقع الذهب"، وكانت الصين واليابان تشتهيان الفضة. وقد شرح شورتز أصل هذا الطلب في المجتمعات البدائية التي قام بدراستها. وطُلب مني من قِبل محرري الترجمة الإنجليزية كتابة مقدمة لهذه الترجمة. كنت قد استلمت هذه الترجمة منذ ستة أشهر، لكن بالأمس فقط أرسلوا لي بروفات الناشر. في تلك المقدمة، كنت قد استشهدت باقتباسات من كتاب شورتز، لكنني الآن وجدت أن الترجمة قد غيرت تقريباً كل فقرة اقتبستها من النص الأصلي.
أحد الكلمات التي غيروها كانت "الحكومة". أوضحوا لي أن استخدام هذه الكلمة غير ملائم لأن "الحكومة" كما نفهمها اليوم لم تكن موجودة في تلك المجتمعات البدائية. أرادوا تقديم الترجمة الأنثروبولوجية الدقيقة لتجنب أي تأريخ خاطئ. وقد استغرقني الأمر أربع ساعات لإعادة إدراج الترجمات الجديدة في النسخة النهائية من المقدمة لتُطبع.
لقد اكتشف شورتز أن تدفق "النقود البدائية" - أي تلك الأشياء التي تتمتع بمكانة وقيمة عالية - كان يؤدي إلى الاستقطاب داخل المجتمعات البدائية. وكان دور الزعماء يشبه دور الحكام في بلاد ما بين النهرين، وفي الحقيقة، كان هذا الدور شبه عالمي. فكان دورهم الرئيسي هو منع الاستقطاب الاقتصادي داخل المجتمع. وإذا سمحوا بحدوث هذا الاستقطاب، فإن مجتمعاتهم كانت ستنتهي كما انتهت روما في عصورها المتأخرة، حيث سيطرت نسبة صغيرة من السكان على معظم الثروات.
لقد سعت بابل وغيرها من مجتمعات عصر البرونز إلى تجنب هذا المصير، كما فعلت المجتمعات في أنحاء العالم الأخرى. ولكن المترجمين وجدوا أنه كما هو الحال في المجتمعات البدائية التي درسها شورتز، لم تكن هناك كلمات حديثة ملائمة لوصف نوع المجتمع الذي كانوا يمتلكونه. فقد كانت كلمة "دولة" تُستخدم لعقود طويلة لوصف تلك الممالك، ولكنها لم تكن في الحقيقة "دولاً" بالمعنى الحديث للمصطلح. فقد كانت القطاعات التابعة للقصر والمعابد منفصلة عن الاقتصاد العام. واليوم، قد نسمي هذه الهياكل "مؤسسات كبرى"، وليست "الدولة".
قوانين حمورابي كانت تتعلق بصورة رئيسية بالمعاملات التي تجري في ظل القطاع القصرى، بما في ذلك المعابد. وأما المجتمعات التي كانت تقوم على أساس العائلات الساكنة على الأرض، فقد ظلّت تخضع في أغلب الأحوال للقوانين العرفية التقليدية. ففي حالة إصابة فرد بضرر شخصي، كان يُلجأ إلى ما يشبه تعويضًا بالدين المعروف بـ "ويرغيلد"، كوسيلة للتعويض. بيد أن بعض الفئات، مثل الأرامل والأيتام والعاجزين الذين اعتمدوا في معيشتهم على القصر، وليس على المجتمع القائم على الأرض، لم يكن لديهم من يدفع عنهم هذا التعويض. ومن هنا، قرر حمورابي أن القصاص بالمثل هو الحل المناسب في مثل هذه الحالات: وبكل وضوح "عين بعين". ومع ذلك، عندما بحث علماء الآشوريات في القضايا القانونية التي تتعلق بإصابات شخصية من هذا النوع، لم يجدوا أي دليل على تطبيق فعلي لهذا القصاص. بل على العكس، كانت الغرامات تُدفع بدلاً من ذلك، وهذا كان النمط الشائع في أوروبا القديمة.
وإذا تساءلنا، ما هي "الحكومة" إذن؟ نجد أن الاقتصاد في تلك الأزمنة كان مقسّمًا إلى قطاعات متعددة ومتميزة، ولم يكن محصورًا في قطاع واحد. ولكن، لا يستخدم علماء الآشوريات مصطلحات حديثة مثل "العام" و"الخاص" للإشارة إلى هذه القطاعات، لأن تلك المصطلحات تشير في عصرنا إلى مؤسسات كبيرة وعائلات تُدير التجارة الخارجية أو إنتاج الحرف اليدوية للتصدير مقابل النقود الفضية. بينما كانت المجتمعات الزراعية القائمة على الأرض تدير اقتصادها المحلي بمقاييس الحبوب.
أصل النقود والفوائد في السداد داخل المؤسسات الكبرى في سومر
في الشرق الأوسط خلال العصر البرونزي، لم يكن للقطاع القصرى أي نية لاستعباد الاقتصاد بكامله. بل على العكس من ذلك، كان يُنظر إلى عدم المساواة في المجتمعات التقليدية كمصدر للفوضى. لكن الأغنياء، كما هو الحال في كل العصور، سعوا إلى تعزيز مكانتهم واستغلال المدينين والسيطرة على الأراضي. وهذا ما كانت تفعله الأوليغارشيات في الحضارات الكلاسيكية، وهي سمة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الدول الغربية، حتى أننا نستطيع القول بأنها جزء لا يتجزأ من الحضارة الغربية نفسها. وعلى مر العصور، كان هذا النمط من الديناميات يتكرر في المجتمعات الأصلية التي كانت تحتك بالغرب في القرن التاسع عشر، تمامًا كما حدث في العصور القديمة، وكما يحدث اليوم.
وكان الدين الأجنبي يمثل التهديد الأكبر للاقتصاديات الأوروبية قبل القرن الثامن عشر. حيث كانت الأموال المدفوعة لسداد تلك الديون تحت سيطرة المصرفيين الدوليين وليس الحكومات المحلية. وقد أصبحت الديون بالعملات الأجنبية سمة ثابتة في النظام الاقتصادي العالمي. إلا أن حكام بلاد ما بين النهرين تمكنوا من حل هذه المعضلة من خلال إقرار تسديد الديون الفضية بالحبوب وفقًا لسعر صرف ثابت ومستقر. أما في روما، فقد كانت الديون المستحقة للأوليغارشية تتطلب الدفع بالنقود الصعبة، مما جعل سدادها أمرًا يفوق قدرة أغلب المدينين. وكان هذا الاعتماد على الائتمان الأجنبي يؤدي إلى استقطاب أكبر في الاقتصاديات، حيث تُعطى الأولوية لسداد الديون على حساب حاجات النمو المحلي. وهذا الاعتماد على الائتمان الأجنبي هو ما أدى في النهاية إلى ظهور طبقة الدائنين العالمية التي أصبحت تتحكم في أقوى السلطات الحاكمة، متجاوزة حتى سلطة الدول نفسها. بل إن الدول الحديثة التي نشأت في القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت في الأساس أدوات لفرض الضرائب على شعوبها بهدف سداد هذه الديون، مما أدى إلى امتصاص هذه الطبقة لجزء كبير من الفائض الاقتصادي، خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وصعود الاقتصاد الرأسمالي المالي الذي يعتمد على الدولار.
عندما غزت الإمبراطورية الفارسية الإمبراطورية البابلية، لم تكن تلك السيطرة الفارسية شاذة عن مسار الإمبراطوريات التي سبقتها. فمنذ العصور القديمة وحتى زمن البابوية الإمبراطورية التي نشأت خلال الحروب الصليبية، كانت الإمبراطوريات تسير على مبدأ بسيط: دع للشعوب التي تغزوها الحرية في ممارسة دينها وعاداتها، ما دامت تدفع الجزية والضرائب. وحتى الإمبراطوريتان المغولية والعثمانية اشتهرتا بالتسامح. ما كان يهمهم هو الجزية. ولهذا، عندما غزا الفرس بابل ومن بعدها إسرائيل، أخذوا أغنى العائلات رهائن إلى بابل، لكنهم تركوا بقية الشعب على أرض يهوذا تحت إدارة قادتهم المحليين.
وكانت النتيجة أن اليهود البابليين اندمجوا في المجتمع البابلي. ولدينا اليوم رسائلهم، وصاياهم، وعقود زواجهم التي كتبها الكتبة البابليون، وهي محفوظة بما تحمله من ممارسات كانت في جوهر التطور الذي شهده الشرق الأوسط، حيث نشأت جميع عناصر المؤسسات والمشاريع العامة.
كانت بلاد ما بين النهرين ومصر تتمتعان بأراضٍ زراعية خصبة تمتد على طول نهري الفرات والنيل. وهذه الأراضي تكونت بمرور آلاف السنين بفعل ترسب الطين الغني الذي وفر تربة مثالية للزراعة. ولكن هذه التربة، رغم خصوبتها، لم تكن تحتوي على المعادن. فالأرض في تلك المناطق كانت تفتقر إلى الصخور اللازمة لبناء الجدران، مما اضطر السكان إلى استخدام الطوب الطيني لبناء الجدران، المعابد، والمنازل.
ولقد كان على بلاد ما بين النهرين، إذا أرادت أن تبقى قوية ومزدهرة، أن تحصل على العناصر التي تكوّن سبيكة البرونز، السبيكة التي نُسب إليها العصر البرونزي كما سبق القول. ولم يكن ذلك ممكنًا إلا بتطوير التجارة الخارجية، وهي تجارة تطلبت تنظيمًا دقيقًا للأعمال، وكان هذا التنظيم متمركزًا في القطاع القصرى. وأنيط بالتجار إدارة هذا التنظيم. ولقد وُضعت كل القواعد الأساسية للأعمال؛ من محاسبة ونقود وأوزان ومقاييس، إذ لا يمكن أن تقوم التجارة بلا أوزان ومقاييس موحدة، كما وضعت نظم الفائدة واتفاقيات تقاسم الأرباح. وكان الإنتاج كله والتجارة بأسرها تُدار على أساس الائتمان. وكانت القصور السومرية أو البابلية، أو الأسر الغنية التي ترتبط بها، تعهد بالأقمشة مثل الملابس والسجاد وغيره من المنسوجات إلى التجار الذين ينطلقون إلى الشمال أو الغرب، يصلون إلى أفغانستان أو باكستان ليبادلوا هذه الأقمشة بالفضة أو بالمواد الخام. وفي نهاية خمس سنوات، يكون عليهم أن يسددوا ضعف ما قدمه المرسلون. وهذه الخمس سنوات من زمن المضاعفة تعادل فائدة سنوية قدرها عشرون في المائة، أي خمس القيمة الأصلية في كل سنة.
ولقد كان لكل نسبة فائدة دلالة على زمن مضاعفة معين. ولقد ترك لنا البابليون تمارين استخدموها في تعليم كتبتهم. كانوا يسألون: كم يستغرق من الزمن لكي يتضاعف الدين إذا كانت الفائدة شيكل واحد في الشهر؟ (وكانت الستون شيكل تُعدّل وزنة المينا). وكانت الإجابة: خمس سنوات. كم يستغرق لكي يتضاعف أربع مرات؟ (عشر سنوات). كم يستغرق لكي يتضاعف أربع وستون مرة؟ (ثلاثون سنة). وكم تمنيتُ لو أن الجامعات الأمريكية التي تدرس الاقتصاد تطرح هذا السؤال على طلابها. إن معدلات الفائدة الحديثة أقل بكثير، باستثناء بطاقات الائتمان الشخصية، ولكن مبدأ النمو الأسي واحد لا يتغير. فإذا اقترض شخص ما قرضًا لشراء منزل بفائدة سنوية قدرها سبعة في المائة لمدة ثلاثين عامًا، فما الذي يحصل عليه البنك في النهاية؟ في غضون عشر سنوات فقط، وعند تلك النسبة من الفائدة، يحصل المقرض على مبلغ يساوي ما حصل عليه بائع المنزل نفسه. وكل ما كان على البنك أن يفعله هو إنشاء الائتمان لتمويل الصفقة. وفي عشرين سنة يتضاعف عائد الفائدة، وفي ثلاثين سنة يتضاعف أربع مرات.
ومن هنا، تستطيع أن تدرك كيف يتراكم الدين بسرعة فائقة. ولكن الاقتصادات لا تنمو بهذه السرعة. ولقد أدرك البابليون هذه الحقيقة الكبرى. ولذا، علموا كتبتهم كيفية حساب سرعة تراكم الديون بمعدل شيكل واحد في الشهر، كما علموهم كيفية حساب سرعة نمو قطيع من الماشية.
وكانت الماشية تنمو بطريقة تشبه نمو الاقتصاد الحديث، في منحنى "S" الذي يتباطأ مع الزمن. وعندما بدأ العلماء الأوائل في دراسة هذه التمارين، ظنوا أنها لا بد أن تكون تقريرًا عن نمو قطيع معين. ولكن السومريين كانوا قد أبدعوا معادلات تربيعية، وكان على كتبتهم أن يتعلموا رياضيات تفوق ما يتعلمه الطالب الثانوي الأمريكي اليوم. كانوا يتوقعون العلاقات الفلكية ويقومون بحسابات دقيقة. كانوا يدركون أن هناك منحنى "S" لنمو القطعان، وكانوا يدركون النمو الأسي للديون. وكان الفرق الكبير بين الاثنين هو أن الديون كانت تنمو أسرع بكثير من الاقتصاد الريفي المثقل بالديون.
ومن هذا كله، أدركوا أن الديون لا يمكن تسديدها. وإذا لم تُلغَ تلك الديون، فإن طبقة الأوليغارشية المحلية سوف تنمو وتستفحل. وهذا ما ينبغي أن يتعلمه كل طالب في أول دروسه في علم الاقتصاد. إن النماذج الرياضية التي أبدعها السومريون كانت تفوق كل ما لدينا اليوم من نماذج اقتصادية، سواء لدى المراكز الوطنية للبحوث الاقتصادية أو لدى البنوك المركزية، لأن هذه المؤسسات لا تريد الاعتراف بهذه الحقيقة الرياضية البسيطة: وهي النمو الأسي للفائدة.
الحرب الأبدية بين الدائنين والمدينين
لقد قيل إن أعظم ما أنجزه الشيطان هو إقناع الناس بأنه لا وجود له. كذلك، يحاول أنصار الأيديولوجية المدافعة عن الطبقة المصرفية والدائنين إقناع العالم بأن الديون لا قيمة لها، بحجة أننا "نَدِينُ لأنفسنا". ولكن، من هم "نحن" ومن هم "أنفسنا"؟ إن "نحن" هم الـ99 في المائة، المدينون الذين يتحملون عبء الضرائب، أما "أنفسنا" فلا تشملهم، بل تشير إلى الـ1 في المائة، القطاع المالي وحلفائه من الطبقات الريعية، كالعقارات والتأمين والاحتكارات. ومع ذلك، فإن النماذج الاقتصادية غالبًا ما تتغافل عن الديون بحجة أن الأصول تساوي الالتزامات. ولكن التزامات من وأصول من؟ فإذا نظرت إلى توزيع الثروة وتمعنت في استقطابها، لتبينتَ من يدين بماذا ولمن. وإذا تتبعت نمو الديون مقارنة بالنمو الاقتصادي البطيء، لتبين لك أن هذا النمو في الدين ما هو إلا مخطط بونزي لا يمكن استدامته. ومع ذلك، فإن هذا الخطر لا يُدرس اليوم كما ينبغي في مناهج الاقتصاد.
وكيف يستمر مخطط بونزي؟ إن البنوك، ما دامت مستمرة في تقديم المزيد والمزيد من القروض لشراء العقارات، يستخدم المقترضون هذه الأموال للمزايدة ضد بعضهم البعض لشراء المنازل أو المباني التجارية، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها نتيجة التوسع في الائتمان، أي نتيجة الديون. ثم تُرهن هذه المنازل والمباني المثقلة بالديون للبنوك، ليقوم المشترون الجدد بتكبد المزيد من الديون. وهكذا ترتفع أسعار العقارات، لكن الأجيال الجديدة من المشترين يجدون أنفسهم أكثر مديونية، ولكن مع ملكية أقل فأقل.
وإذا نظرنا إلى مسار الاقتصاد، لوجدنا أن الأسعار الأهم ليست أسعار المستهلك التي تتبعها مؤشرات أسعار المستهلك الرسمية، بل هي أسعار الأصول مثل العقارات والأسهم والسندات التي يتم تمويلها بالديون. وهذا هو ما تقرضه البنوك. فجزء صغير فقط من الائتمان المصرفي يُستخدم لشراء السلع والخدمات عبر ديون بطاقات الائتمان، والقروض الشخصية، وغير ذلك من الديون الاستهلاكية. أما الجزء الأكبر من الائتمان الذي تخلقه البنوك، فإنه لا يُستخدم لرفع أسعار السلع الاستهلاكية، بل لرفع أسعار الأصول – أسعار المنازل والأسهم والسندات.
وقد أدى إنقاذ البنوك من الرهون العقارية الرديئة في عهد أوباما عام 2009، والتيسير الكمي الذي أغرق الأسواق بالائتمان وخفض أسعار الفائدة، إلى خلق أكبر ازدهار في سوق السندات في التاريخ، مما زاد من ثراء ونفوذ الطبقة المالية التي تمتلك السندات، والأسهم، والعقارات. ولقد شهدت الطبقة العليا من المجتمع، خاصة الواحد في المائة، كيف أدت أسعار الأصول المدعومة بالديون إلى "خلق الثروة" لهم في قمة الهرم الاقتصادي، بينما لم تشهد الطبقة السفلى، خاصة الـ50 في المائة، أي تحسن في ثرواتها، وزادت ديون الـ20 في المائة الأدنى من المجتمع، الذين يزدادون فقراً لمجرد تغطية احتياجاتهم الأساسية.
وهذا التفاوت المتزايد بين الأغلبية المثقلة بالديون من السكان، والأقلية الدائنة، هو ما ينبغي أن يركز عليه علم الاقتصاد. لقد كان هذا هو ما حذر منه ديفيد ريكاردو عندما تحدث عن القيمة والإيجار، مشيرًا إلى أن زيادة دخل الريع ستستنزف الفائض الاقتصادي بالكامل، مما يترك مجالًا ضئيلًا لتحقيق الأرباح الصناعية. كان يتحدث عن الإيجار العقاري الذي يستنزف مصادر الدخل الأخرى، ولكن تحذيراته تنطبق على جميع أشكال الريع الاقتصادي، وخاصة الريع المالي.
إننا نواجه نوعين من مسارات الأسعار: أسعار المستهلك التي يدفعها العمال الذين يُضطرون إلى العمل بجهد أكبر لتلبية احتياجاتهم، وأسعار الأصول التي تزيد من ثروة الطبقة الريعية "أثناء نومهم". أما الطبقة الغنية، فهي تتحول تدريجيًا إلى طبقة وراثية. إنهم لا يكترثون بما يدفعونه في متاجر البقالة، بل يهمهم ما تفعله أسعار الأسهم والسندات، وما تفعله أسعار عقاراتهم. بالنسبة لهم، الأمر كله يتعلق بالثروة.
الجزء الخامس
هل يقدم لنا التاريخ الاقتصادي القديم نموذجًا لتجنب استبداد الديون؟
روبينسون: أتساءل عن مدى فائدة سياسة إلغاء الديون أو "سنوات اليوبيل" التي تشدد على أن تكون بمثابة دليل للزمان الحاضر؟ لعلي أرى أن علينا أن نضع أمامنا مشهد العصر البرونزي وتطبيق سنوات اليوبيل فيه، ونقابله بما حدث في اليونان وروما.
مايكل: إنما كان بداية الحضارة الغربية على غير مثال الشرق، إذ لم يكن للبحر الأبيض المتوسط في مطلع التاريخ حكام كُملوك الممالك الشرقية. وقد قلتَ سابقًا إن الميسينيين قد شهدوا انهيارًا، لكنه لم يكن انهيارًا بالمعنى الحرفي؛ لقد كان الطقس سيئًا في حدود 1200 قبل الميلاد، وقد حل جفاف حرك جموع الناس من مواضعهم. لم يجدوا ما يقتاتون به حيث كانوا، واضطروا للرحيل. وقع ذلك أيضًا في الهند قبل نحو 600 سنة من هذا، حين جفت حضارة السند الكبرى في العصر البرونزي. وعندئذ، قدم المتحدثون باللغة الهندو-أوروبية عبر فارس، وها هم علماء الآثار يصفونهم بأنهم أخذوا من عادات أهل السند ما أخذوا، فكان اليوغا ونظام الطبقات.
إن الانهيار عادة ما ينطوي على شئ خاطئ يقع بفعل هيكل المجتمع، يسقطه إلى الهاوية. ولعل تصوراتنا عن الانهيار تُبنى لتقدم لنا درسًا نستقيه في هذا العصر، لتحذيرنا مما قد نقترفه من خطأ أو انتحار حضاري. بيد أن التغيرات المناخية والجفاف عناصر خارجية على هذا. لقد كان القرن الثالث عشر قبل الميلاد فترة ازدهار متعدد الثقافات، حيث التجارة نشطة والنمو في أوجه. لم يكن لدى المجتمعات الناطقة باليونانية في الميسين ولا مجتمعات الشرق الأوسط في العصر البرونزي تلك التنظيمات الاجتماعية التي تقود للهلاك، بل كانت تحافظ على مرونتها. ومع ذلك، انتهت حضارة الميسينيين اليونانية. فشل المحاصيل أدى إلى انهيار الحكم القصرى، واحتفظ الحكام المحليون بالأراضي بأسمائهم الخاصة – وكان ذلك شبيهًا بخصخصة الأراضي في روسيا بعد الحقبة السوفيتية تحت حكم بوريس يلتسين.
يسمي علماء الآثار هذه الفترة، بعد عام 1200 قبل الميلاد، في اليونان والشرق الأدنى "بالعصور المظلمة"، حيث كان الناس يهاجرون من مكان إلى آخر طلبًا للبقاء. كانت القرون التالية مظلمة لأن الكتابة قد اختفت فيها. توقفت الكتابة الخطية المقطعية "B" للميسينية، إذ كانت تُستخدم في المقام الأول لأغراض الإدارة القصرية التي لم تعد قائمة.
في القرن الثامن قبل الميلاد، تطورت الكتابة الأبجدية، وبدأت تُستخدم لأغراض أوسع من تلك المقتصرة على إدارة القصور. استأنف التجار الفينيقيون والسوريون حركة التجارة والاتصالات باتجاه الغرب إلى اليونان وإيطاليا، حيث بدأ النمو السكاني يعود. وكما فعل تجار بلاد ما بين النهرين، أسس هؤلاء التجار معابد في الأراضي التي كانوا يتاجرون فيها، مثل غرفة تجارة محلية كجمعية عامة لتنظيم تجارتهم وتسوية النزاعات.
وغالبًا ما كانت التجارة تُجرى خارج المدن، حيث تكون مستقلة عن قوانين المجتمعات المحلية. فقد كان التقليد في بلاد ما بين النهرين أن تتم معظم التجارة في مناطق الأرصفة على طول النهر خارج أسوار المدن. وداخل المدن كانت القوانين المحلية تسري، أما خارج الأسوار فكان الأمر حرًا باتفاق متبادل، بعيدًا عن حكم المجتمع المحلي. وكانت التجارة مع حضارة وادي السند عبر جزيرة البحرين (المعروفة باسم دلمون من 2500 إلى 300 قبل الميلاد) مثالًا على هذه الفكرة. وفي إيطاليا، كانت جزيرة إسكيا مركزًا رئيسيًا للتجارة البحرية. وللتجارة اليونانية، أُنشأت مراكز تجارية على الجزر.
أدخل تجار الشرق الأوسط فكرة فرض الفوائد على الغرب. واعتمد زعماء القبائل المحليون في اليونان وإيطاليا هذا النهج في معاملاتهم مع بقية المجتمع. بيد أن الغرب لم يكن لديه حكام قصور لإلغاء الديون، وهكذا أدت ديناميكيات الديون إلى نشوء أرستقراطية تمتلك الأرض وتُثقل كاهل السكان بالديون. ولم تُحل تلك المشكلة إلا على أيدي الطغاة الذين ناقشناهم سابقًا، إذ أطاحوا بالأسر الأرستقراطية المستغِلة، وألغوا الديون، وأعادوا توزيع الأراضي التي تم احتكارها.
أدخل التجار السوريون والفينيقيون الأوزان والمقاييس الشرق أوسطية باعتبارها ضرورة لفرض الفائدة، بيد أن النظام الحسابي للكسور والعملات في الغرب اختلف وتفاوت بشكل ملحوظ. فالأسلوب المعتمد في بلاد ما بين النهرين، حيث وُضِعت "المينا" لقياس الوزن و"جور-بوشل" لقياس الحجم، كان مبنيًا على تقسيمات ستينية نشأت من الحاجة إلى تنظيم توزيع الغذاء للعاملين في المعابد من الأرامل والأيتام شهريًا. إذ يُقسَّم العام الإداري إلى شهورٍ من ثلاثين يومًا، بحيث يستهلك العامل يوميًا جزءين من الستين من حصة الطعام الشهرية، أي ما يعادل كوبين يوميًا حجمها بوشل، ليعود في الشهر التالي فيحصل على حصة جديدة.
وُضعت رسوم الفائدة أساسًا لتسهيل الحساب؛ إذ كانت تعادل شيكل واحد لكل مينا شهريًا وفقًا للنظام الستيني للتقسيمات الكسرية. أما اليونان، فقد اعتمدت نظامًا مختلفًا تحت تأثير كريت ومصر، اللتين استخدمتا النظام العشري، فجعلت معدل الفائدة واحدًا بالمئة شهريًا، أي ما يعادل 12% سنويًا، وأحيانًا عشرة بالمئة. بينما اعتمدت روما نظامًا كسريًا قائمًا على تقسيم السنة إلى اثني عشر شهرًا، واحتوى الرطل الروماني على اثني عشر أونصة. ومن هنا، كان معدل الفائدة السنوي محددًا بـ 1/12 أي ما يعادل 8.33% سنويًا.
إن هذه المقارنة تبيِّن لنا أن معدلات الفائدة لم تُبنَ على أساس الربح أو الإنتاجية كما تُصَوِّره النظرية الحديثة، بل كان المقصد الأسمى هو تيسير الحساب في النظام الكسري المحلي. لقد رسخت الأسطورة القائلة بأن اقتصاد السوق الحر يحدد معدلات الفائدة وفقًا لقوى السوق، كالربح أو الحاجة الاستهلاكية، متناسيةً أي دور للحكومة في تنظيم الأوزان والمقاييس. ووفقًا لهذا التفسير، فإن ارتفاع معدل الفائدة في بلاد ما بين النهرين، الذي بلغ عشرين بالمئة سنويًا، إنما كان انعكاسًا للمخاطر التجارية في العصر البرونزي. أما اليونان، التي بدت أكثر استقرارًا، فقد اعتمدت معدل فائدة أقل بنسبتي 10% أو 12%. ثم جاءت روما، رغم أرستقراطيتها القاسية، التي يصورها الاقتصاديون المؤيدون لهذه الأرستقراطية على أنها تمثل "الاستقرار"، مع معدل فائدة منخفض نسبيًا بلغ 8.33%. ومع ذلك، لم يكن لهذا التفسير أي أساس على قدرة المدين على السداد، بل كان قائمًا على سهولة الحساب الرياضي فحسب.
وحينما عرضتُ هذه الفكرة لأول مرة على "مجلة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للشرق"، ارتاب المحررون من بساطتها. واستغرق الأمر ست سنوات حتى وافقوا على نشر المقال في عام 2000. ولقد تقبل علماء الآشوريات اكتشافاتي باعتباري وافدًا جديدًا على مجالهم، إلا أنها بقيت غريبة على الأوساط الأخرى.
هذه التجربة تساعد في تفسير سبب تقبل علماء الآشوريات وغيرهم من المؤرخين الذين حضروا ندواتي في جامعة هارفارد على مدى عشرين عامًا. فقد رفض علماء الآشوريات، منذ العشرينيات، التعامل مع الاقتصاديين أو غير المتخصصين في علمهم، لأن الافتراضات الأيديولوجية حول نشأة الحضارة كانت تطغى. إذ كان الجميع يرغبون في إسقاط أيديولوجياتهم الخاصة على الماضي. فكتّاب الفاتيكان، الذين ترجموا الوثائق السومرية، أطلقوا على الدولة السومرية "دولة المعابد". كما تجاهل الاقتصاديون النمساويون الدور التنظيمي للقلاع والمعابد. أما الاشتراكيون، فقد رأوا في السلطة مفهوم "الملكية الإلهية". وكان لكل فئة أفكارها الأكاديمية حول كيفية تطور الشرق الأدنى القديم.
لقد ذهب بعض الاقتصاديين إلى حد افتراض أنه كان هناك نوع من "الكينزيين" في العصر البرونزي شيدوا الأهرامات المصرية بهدف ضخ الأموال في الاقتصاد وخلق الطلب الاستهلاكي، وتجد أن الذهنية السائدة تتجه نحو التفكير بما يمكن أن يقوم به الكاتب الحديث لو تمكن من العودة بالزمن إلى الوراء ليقدم النصح لحكام السومريين والبابليين حول كيفية إدارة الاقتصاد.
كنتُ غريبًا عن علم الآشوريات وعن الاقتصاد التقليدي كذلك، وكنتُ أعلم جهلي بآلية تنظيم المجتمعات القديمة، بيد أنني أدركتُ أن الأهم بالنسبة لي هو اكتشاف الكيفية التي تعاملت بها تلك المجتمعات مع المال وعلاقات الديون، فكنت أبحث عن قوانين الحركة المالية التي تحدثنا عنها.
ولقد كان علماء الآشوريات على استعداد للتعاون معي لأنني كنتُ أسأل عما يمكنهم إخباري به عن الوثائق الخاصة بفترة دراستهم حول الدين وحقوق الملكية والحسابات والنقود، بما في ذلك معدلات الفائدة في العقود والنقوش الملكية. كيف نظَّمت المجتمعات المبكرة، الموثقة، بناء أهراماتها وقصورها وأسوار مدنها؟
تمكنتُ من توفير تمويلٍ كافٍ لتغطية نفقات لقاءاتنا، التي تنقلت بين نيويورك وسانت بطرسبرغ ولندن وألمانيا، فاكتشفنا تقدمًا مذهلًا منذ بداية البحوث حول الكتابة المسمارية في العشرينيات. ومع ذلك، لم يكن التركيز منصبًا على المواضيع المالية، فكانت تظهر عَرضًا دون تركيز. المشكلة الرئيسية كانت في أن أسلوب التعامل مع الديَّن في الشرق الأدنى القديم، ونظامه الاقتصادي، كان بعيدًا تمامًا عن التصورات الحديثة حول الاقتصاد الحر الفردي والحكومة المركزية القوية.
لقد لاقت الاكتشافات التي خلصت إليها مقاومة شديدة، وكانت هذه المقاومة مفعمةً بالتحيز الأيديولوجي، الذي يعارض الرأي القائل بأن حكام العصر البرونزي كانوا مضطرين لاتخاذ التدابير اللازمة لمنع صعود الأوليغارشيات المالية. ومن المؤسف أن سائر التاريخ منذ الشرق الأوسط القديم ومرورًا باليونان وروما الكلاسيكيتين، يعدّ مستفزًا لأيديولوجيا سياسية واقتصادية حديثة يتشربها الطلاب في الجامعات، وتعيد هوليوود صياغتها في عالم الرومانسية والخيال. أما المناهج الجامعية، فتتجنب في الغالب دراسة التطورات الفعلية التي عرفتها الممارسات الاقتصادية للحضارة حتى حوالي العام 1700 ميلادية. وبذلك تُترك الأمور لتخيلات من لم يمارسوا الدراسة المتأنية، فلا يكون هناك سوى "الأحلام". أما علم الأنثروبولوجيا، الذي تقوم عليه غالبًا هذه التنظيرات، فهو لا يُعنى إلا بمجموعات السكان الأصليين الحديثة التي لم تصل إلى إبداع الحضارة الحديثة وقيمها السوقية الموجّهة نحو مصالح الدائنين.
ولا يوجد باحثون كافون لتدريس هذا التاريخ البعيد عن الحداثة بأي حال من الأحوال. ذلك أن إعداد مثل هذا المنهج سيستلزم وقتًا طويلاً وجهدًا مضنيًا. وكما أخبرتك، فقد بدأت في تكوين مجموعة هارفارد عام 1984، إلا أنني احتجت إلى عقد كامل، حتى عام 1994، لأتمكن من استيعاب الأدبيات ذات الصلة واستعدتُ المعرفة التي تسمح لي بالحديث مع علماء الآشوريات دون أن أبدو وكأنني من العوام. كأنني اضطررت إلى البدء من جديد والحصول على درجة الدكتوراه في تاريخ الشرق الأدنى القديم. لكن المؤرخين لم يكونوا ليضيفوا الكثير عن الديناميكيات الاقتصادية، بينما لم يكن لدى الاقتصاديين ما هو ملائم في مجال التاريخ.
واليوم، أستطيع أن أرى بوضوح كيف تمتد ديناميكيات الاقتصاد العالمي المستقطب اليوم إلى العصور القديمة. لقد أدرك حكام العصر البرونزي ما غاب عن فكر المجتمع المعاصر؛ وهو أنه إذا لم يتم إلغاء الديون، فإن جزءًا كبيرًا من السكان سيقعون في مستنقع عبودية الديون – فيصبحون أسرىً لأوليغارشية الدائنين، التي تؤول إليها الأراضي والثروات في النهاية. لم يعد التحكم في العمالة يُمارَس بقيادتها إلى عبودية الديون كما كان في العصور الكلاسيكية، أو بربطها بالأرض كما حدث عند انهيار نظام الحيازة الروماني إلى نظام القنانة. يمكن للمرء الآن أن يعيش حيث يشاء ويعمل أينما شاء، لكن في أي مكانٍ يُختارُ للعمل أو السكن، يجد الفرد نفسه مضطرًا إلى الاستدانة. ستضطر كل جيل لاستخدام جزء متزايد من دخله، يتجاوز ما يلزم للعيش الأساسي، لتسديد ديون الدائنين والمحتكرين ومالكي الأراضي البعيدين الذين يمولونهم ويحفظون حقوقهم. وهذه، في الجوهر، هي العبودية بعينها. إنه نظام الرهن بالديون، والتعارض بين الديناميكيات المالية والحرية هو قاسم مشترك استمر على مدى الخمسة آلاف عام الماضية.
وعند مراجعة تاريخ الحضارة من هذا المنظور المشترك، تتضح لنا تطورات طرأت على طريقة معالجة المجتمع لمسألة محورية، ألا وهي: هل يسعى المجتمع إلى تأييد مطالب الدائنين على المدينين حتى وإن أدى ذلك إلى إفقار وتقسيم الاقتصاد، أم يجب عليه خفض مطالب الدائنين لإفساح المجال لنمو الاقتصاد وتجنب التفتت وتآكل جودة الحياة؟ إن هذا الخيار هو ما يحدد ديناميكية الحضارة.
تدفع هذه الديناميكية اليوم الأغلبية العالمية ومجموعة بريكس إلى الابتعاد عن "حديقة" الغرب، كما أطلق عليها رئيس الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل. بالنسبة له، فإن "الأدغال" هي دافعٌ نحو الاستقلال والتعددية بعيدًا عن الليبرالية الجديدة وعن اعتماد الجنوب العالمي على الديون والتجارة، الأمر الذي يحول دون تحقيق الازدهار لشعوبهم. وقد صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطابه أمام الكونغرس الأمريكي يوم (25 يوليو 2024) وقال في جملة واضحة: "إنها ليست صراعًا بين الحضارات، بل هي صراع بين الهمجية والحضارة". هذا التعبير يذكّر بقول روزا لوكسمبورغ قبل قرن، إلا أنها كانت تقارن بين الهمجية والاشتراكية. والسؤال هنا هو: أي جانب من هذا الانقسام العالمي اليوم ما يمثل الهمجية، وأي جانب يمثل مستقبل الحضارة؟
إن الأمر العجيب هو أن لكل جانب دعاة أقوياء ومصالح متجذرة. حتى هؤلاء الذين يعتبرونهم "همجيين" يدّعون أنهم حضارة المستقبل، وهم مستعدون للموت في سبيل الدفاع عن قضيتهم ومصالحهم.
الدَّين وقدر الحضارة
روبنسون: إن هذا الكلام لمثير حقًا. أظن أن الجميع اليوم يعيشون في وهم مستقر، ويظنون أن الحضارة تسير قُدُمًا بلا انقطاع نحو التقدم، وذلك فقط لأننا نشهد التقدم في مجالات العلم، كالفيزياء والرياضيات، ونرى الثورة التكنولوجية والطبية تتطور أمام أعيننا. هذا الوهم يجعلهم يظنون أن كل جانب من جوانب الحياة يتقدم بشكلٍ منتظم. ولكنك تُشير إلى أن هناك جماعات ذات مصالح خاصة تُكرس عدم الرغبة في إلقاء نظرة نقدية على الماضي. وفي علم الاقتصاد، هناك فهمٌ عميقٌ كان موجودًا منذ آلاف السنين، لكن الناس اليوم يهملونه، وهذا ما يعوق تقدمهم نحو الأمام.
مايكل: هنا تكمن المشكلة. المسألة ليست مجرد تقدم، بل هي تحول حضاري، يتحول فيها المجتمع إلى شيء مختلف تمامًا، كعملية تشكل جديدة. لقد اكتسبتُ سمعتي في السبعينيات بوصفي مستشرفًا للمستقبل، حيث عملت مع هيرمان كان في معهد هدسون لمدة أربع سنوات، ثم مع ألفين توفلر، ومعهد المستقبل وآخرين. لكنني لم أعد أصف نفسي كاقتصادي، لأن الاقتصادي يُخبر الدول بأنها إذا أرادت أن تصبح أكثر ثراءً، فعليها أن تخفض أجورها ومستويات معيشتها كي تصبح أكثر قدرة على المنافسة، وهذا يعني، في نهاية المطاف، الفقر. لم يكن ذلك المستقبل الذي أرغب في رؤيته.
لقد كان من اليسير عليّ نسبيًا أن أتنبأ بمعدلات الفائدة وأسعار صرف العملات، وقد جبتُ العالم وأنا أقوم بذلك. ولكن ما كان أشد صعوبة هو فهم سبب اتباع الحضارات القديمة، والحضارة الغربية، ذلك المسار الذي اتبعته. كان ذلك أشد تعقيدًا من كونك باحثًا في المستقبل، لأن المجتمعات القديمة، والعصور القديمة عمومًا، كانت تختلف تمامًا عن أيامنا هذه، وكانت تحكمها قيم اجتماعية مغايرة. كان من الصعب عليّ فهم استقطاب الغرب إلى أوليغارشيات مالية، فلم أكن أتصور مدى اختلاف العصر الحجري الحديث المتأخر، والعصر البرونزي، وحتى العصور الكلاسيكية القديمة. كانت أنظمتهم الاجتماعية والسياسية ذات طبيعة مختلفة بشكلٍ جذري، وكانت تتغير بتغير الأسس المالية، وبحكم التوترات المالية المتزايدة بين الثروات الخاصة وقيم الإدارة التقليدية في المجتمع وسلطات الحكم.
ورغم هذا التحول، نجد عنصرًا مشتركًا ظل حاضراً، وهو الاختيار بين السماح بظهور أوليغارشية مالية، أو وجود قوة حاكمة تتسم بالقوة الكافية لمنع ذلك، مثل "الملكية الإلهية" في الشرق الأدنى، أو ما يُعرف بالطغاة اليونانيين الذين ألغوا الديون الشخصية وأعادوا توزيع الأراضي لتحقيق انطلاقة اليونان، أو الحكومات الاشتراكية الحديثة. وكأن هذا التحول تطورٌ من نوعٍ من النظم الاقتصادية إلى آخر.
إن النظرة الغربية التقليدية ترى الماضي كأنه يماثل واقعنا اليوم، فيُصوِّرنا كأننا ورثة الحضارتين اليونانية والرومانية. فإذا بقي ذلك هو تراثنا الجيني السياسي والاجتماعي، فإن الغرب سيحتفظ بالديناميكية ذاتها التي أدت إلى تدهور وسقوط الإمبراطورية الرومانية. لقد أخذت اليونان وروما، أي الحضارة الغربية، الابتكارات المالية للشرق الأدنى دون سياقها، ولم يكن لديهم حكام يتمتعون بالسلطة لإلغاء الديون الشخصية ومنع الأوليغارشيات من السيطرة على الأراضي واحتكارها، مما جلب العصور المظلمة.
يعتقد كثيرون أن اليونانيين والرومان كانوا ديمقراطيين، ولكن لم يكن الأمر إلا ديمقراطيات عابرة بنظم تصويت مؤقتة. حين درس أرسطو الدساتير اليونانية المختلفة، قال إنهم جميعًا يدّعون الديمقراطية، لكنهم في الواقع كانوا أوليغارشيات. لقد تغيرت الكلمات والخطابات بشكل جذري. علينا أن ننظر في هذا التحول العميق. التحدي اليوم ليس فقط أن نمضي قُدُمًا في مسارنا الحالي، بل أن ندرك حاجتنا إلى التحول الذاتي نحو مسار جديد لتطورٍ اجتماعي واقتصادي.
أما البديل فهو التدمير الذاتي. فكيف سيكون العالم الذي سنبنيه؟ إن هذا المستقبل لا يمكن التنبؤ به على نحو مؤكد. هل سيترك الغرب نفسه للاستقطاب وينتهي به المطاف كما حدث للإمبراطورية الرومانية؟ أم ستدرك أوروبا أنها أخطأت وتنضم إلى بقية أوراسيا؟ وهل ستتحرر آسيا حقًا من الليبرالية الجديدة التي يرعاها الغرب والتي أدت إلى تراجع الصناعات في عالم الناتو؟ هل ستمضي مجموعة بريكس والأغلبية العالمية نحو التقدم الاشتراكي، أم ستتراجع مع خصائص السوق الحرة الليبرالية للغرب؟
هل ينبغي على الحكومة أن تبدأ بإعفاء ديون الطلاب؟
روبنسون: لقد أتيتَ على ذكر بعض البلدان في مستهل حديثنا، وأشرت إلى أن عليها واجبًا ليس فقط في رفع مستويات المعيشة لشعوبها، بل أيضًا في تقليل أو إلغاء التكاليف الخارجية المرتبطة بالحياة، كالتعليم مثلًا. وبما أن ديون الطلاب باتت حديث الساعة - رغم أن الموضوع كان أكثر سخونة قبل عام أو عامين - فهل ترى أن إلغاء هذه الديون يجب أن يكون أحد الأهداف الأساسية؟ وهل ترى مسارًا يمكن أن يُفضي إلى تحقيق ذلك مستقبلًا؟
مايكل: لقد أشرتَ إلى جوهر المشكلة تمامًا. فعندما تُخصخص البنى التحتية العامة أو توفير الحاجات الأساسية، فإن تكلفة المعيشة ترتفع بشكل ملحوظ. في القرن التاسع عشر، أعلن رئيس وزراء بريطانيا المحافظ بنيامين دزرائيلي أن الصحة، صحة المجتمع، كانت جوهر الإصلاحات التي يسعى إليها حزبه، وكان المحافظون هم من أرادوا هذه السياسة. وفي الولايات المتحدة، وصف سايمون باتن، أول أستاذ للاقتصاد في كلية وارتون للأعمال، البنية التحتية العامة بأنها عنصر إنتاجي مميز. إن مطالبة مالك الأرض بالإيجار ليست عاملًا من عوامل الإنتاج، بل هي مطالبة ريعية، استغلالية. وعلى عكس أجور العمال أو رأس المال الصناعي، فإن الاستثمار في البنية التحتية العامة وتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية لا يهدف إلى الربح. إن دور البنية التحتية العامة والرعاية الاجتماعية يشبه دور قناة إيري والبنى التحتية الأمريكية الأخرى. الهدف هو تخفيض تكلفة المعيشة وتكلفة ممارسة الأعمال.
فإذا كان بالإمكان توفير الاحتياجات الأساسية - كالرعاية الصحية والتعليم وخدمات الاتصالات والنقل - من خلال البنية التحتية العامة، وإذا أمكن جعل خدمات البريد والمياه والصرف الصحي وظائف عامة تُقدم مجانًا أو بأسعار مدعومة، فإن الاقتصاد سيكون قادرًا على العمل بتكلفة أقل بكثير من لو كانت هذه الخدمات مخصخصة أو محتكرة كمجالات لاستخلاص الريع، ويتم استغلالها ماليًا. إن مهمة الحكومة ليست تحقيق الربح، بل يُفترض أن توفر الحاجات الأساسية كحق اقتصادي للمواطن.
وقد وصف باتن هدف البنية التحتية العامة بأنه تخفيض التكلفة الإجمالية للمعيشة وتكلفة ممارسة الأعمال في الاقتصاد، بحيث لا يضطر الصناعيون لدفع أجور مرتفعة تكفي موظفيهم، على سبيل المثال، لدفع تكاليف تعليمهم بأنفسهم - والتي تبلغ اليوم 50,000 دولار سنويًا - أو لتغطية تكاليف الرعاية الصحية التي تمثل 18 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وسيكون هناك دعم في النقل بدلًا من السماح باحتكاره وتدويره ماليًا، كما حدث في بريطانيا تحت قيادة مارغريت تاتشر وفي عهد حزب العمال مع توني بلير وجوردون براون.
لقد أدى تخصيص هذه الخدمات العامة إلى إدارتها بهدف تحقيق الربح، بل وأكثر من ذلك، لتحقيق أرباح رأسمالية لأسهمها ورسوم الإدارة. وكل هذا يؤدي إلى رفع تكلفة المعيشة وتكلفة ممارسة الأعمال. إن تجنب هذا المصير كان وما زال هو الميزة الكبرى للاقتصادات الاشتراكية. ففي القرن التاسع عشر، اعتبر الجميع تقريبًا أن هذا النوع من البنية التحتية العامة يُعتبر اشتراكية، ولم يكن ذلك محصورًا فقط على الماركسيين. بل كان هناك اشتراكيون مسيحيون، واشتراكيون ليبرتاريون من أنصار هنري جورج، وأشكال متعددة من الاشتراكيين. وكان ما يجمع بينهم هو رؤيتهم لمستقبل الرأسمالية الصناعية كاقتصاد عام متزايد، مع استثمار عام نشط يدعم قدرة الصناعيين والعمال على المنافسة مع الدول الأخرى عبر خفض التكلفة العامة.
أما هدف الخصخصة ورأس المال التمويلي، فهو تحقيق الأرباح عبر رفع تكلفة المعيشة واستخلاص الريع الاقتصادي. وهذا بدوره يؤدي إلى رفع تكلفة ممارسة الأعمال، عبر استخلاص الريع الاقتصادي. إذا كان لديك اقتصاد مخصخص للرعاية الصحية والتعليم والمياه وغيرها من الحاجات الأساسية، مع جهات تشغيل تفرض أقصى ما يمكن أن يتحمله السوق غير المنظم (وتسمي ذلك "سحر السوق")، فكيف يمكن للأمريكيين أو الأوروبيين الغربيين الذين أصبحوا ليبراليين اقتصاديًا أن يتوقعوا التنافس مع البلدان التي تصف نفسها بأنها اشتراكية، وتعيد اكتشاف السياسات التي كان الرأسماليون الصناعيون الأمريكيون والألمان يطبقونها في القرن التاسع عشر.
روبنسون: وعلى هذا الأساس، مايكل، أعتقد أنني ذكرت في بداية حديثنا أن هذا هو اللقاء الثالث لنا في هذا البرنامج. لقد كان من الممتع إجراء هذا الحوار شخصيًا، وأتمنى أن يكون هناك لقاء رابع في المستقبل. شكرًا مجددًا، كان حوارًا ثريًا.
مايكل: كان حوارًا ممتازًا بالفعل. وكما ترى، توقعت أن يستمر حديثنا ثلاث مرات أطول من ذلك.