كيف تُخفق الفردانية في تحقيق جوهر الفرد؟
العقل المستقل لا يُبنى إلا بتسليم واعٍ للحكمة الراسخة في إرث السلطة
التعلم، في حقيقته وجوهره، فليس إلا أن يسلم الطالب أمره إلى معلم يثق به، أو إلى نص يُقدّر أنه يحمل بين سطوره كنوزًا من المعرفة، فيمضي في رحلته تلك دون أن يكون مسلحًا بيقينيات تبرر هذه الثقة، بل إنه يتخذها على سبيل التسليم أولًا، حتى تتكشف له الحقائق رويدًا رويدًا. وما أشد ما يظهر هذا المعنى حين يكون الأمر متعلقًا بنصوص من عصور خلت، أو بتقاليد ثقافية لا تمت إلى بيئته القريبة بصلة، فيقف أمامها موقف المتردد، الذي يشعر بالغموض، ولكنه في الوقت ذاته يدرك أن وراء هذا الغموض حقيقة تنتظر من يفك أسرارها.
ولكن هذه الثقة، التي هي شرط لا غنى عنه في مسيرة التعلم، لم تعد تحتل في زماننا المنزلة التي تليق بها، بل أصبحت أمرًا موضع شك، وربما إنكار. وليس ذلك إلا لأن النزعة الفردية الحديثة قد فرضت نفسها على العقول، وأوحت إلى أصحابها بأن الإنسان قادر على تحقيق الاكتفاء المعرفي بنفسه، ما دام يعتمد على ما يُسمى بـ"مهارات التفكير النقدي"، وما دامت المعلومات مبذولة بين يديه لا يحتاج في الوصول إليها إلا إلى جهد يسير. وهكذا، أصبح التعلم في نظر كثير من الناس عملية سطحية، لا تتطلب خضوع الطالب لسلطة معلم أو نص، بل تكفيه أدوات جاهزة يحاكم بها ما يلقى إليه من معارف. وليس هذا كله إلا مظهرًا من مظاهر التوتر العميق بين المجتمع الحديث وبين كل ما ينطوي على سلطة أو تراتبية معرفية.
على أن الحقيقة التي ينبغي أن نتأملها مليًا هي أن استقلال العقل، الذي ينادي به دعاة النزعة الفردية، لا يتحقق إلا من خلال رحلة طويلة من الامتثال والخضوع للسلطة المعرفية. وهنا تبدو المفارقة جلية، فإن المجتمع الديمقراطي الذي يقوم بنيانه على استقلال الفكر لا يستطيع البقاء إلا إذا كان تعليمه قائمًا على أسس أرستقراطية، تجعل من المعلم سيدًا في ميدانه، ومن الطالب تابعًا يتلقى عنه، حتى يبلغ مرحلة يصبح فيها قادرًا على الاستقلال برأيه، لا لأنه رفض السلطة من البداية، بل لأنه سار في ظلالها حتى اشتد عوده.
وهذه الفكرة نجدها واضحة عند مايكل بولاني، ذلك العالم والفيلسوف الذي خبر من الحياة تجارب شتى، فقد شهد اضطهاد النازيين في بلاده المجر، وذاق مرارة الاستبداد الشيوعي، فكان له من هذه التجارب وعيٌ بحدود الحرية، وإدراكٌ لمزالقها. ولقد انتهى به النظر إلى أن التصورات الخاطئة عن طبيعة الاكتشاف العلمي قد تؤدي إلى كوارث، إذ قد يتحول العلم من أداة لاستكشاف الحقيقة إلى أداة تُسَخَّر لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية محدودة. ولم يقف بولاني عند هذا الحد، بل أشار إلى أن الديمقراطية الليبرالية ذاتها، على ما تتيحه من حرية، قد تكون خطرًا على التعليم العلمي، لأنها قد تجعل من العلم وسيلة لتحقيق المنفعة المباشرة، بدلاً من أن يكون سعيًا مجردًا وراء الحقيقة.
وقد كان بولاني يرى أن التعليم الحق لا يكون إلا على غرار التلمذة الصناعية، حيث يتعلم الصانع الصغير على يد أستاذه، فيقلده في عمله، قبل أن يدرك سبب صواب هذا العمل أو خطئه. فليست العلاقة بين الطالب والمعلم، في جوهرها، علاقة سيطرة، بل هي وسيلة إلى الفهم العميق، الذي لا يُدرك إلا بعد طول ممارسة وتأمل.
ولعلنا نجد أوضح بيان لهذا المعنى في كتابه المعرفة الشخصية (1958)، حيث يتناول في فصل "العيش المشترك" شروط نقل الثقافة، ويحلل العوامل التي تجعل الحقيقة محفوظة في صدور الأجيال المتتابعة. وهو يبدأ من أبسط أشكال التعلم، ذلك الذي نراه في الحيوان حين يقلد أفعال غيره، ثم ينتقل إلى ما هو أرقى من ذلك، فيبين أن المعرفة لا تُنقل إلا حين يشارك الكائن الحي في الجهد العقلي لكائن آخر، لا على سبيل المحاكاة السطحية، بل من خلال انخراط وجداني في هذا الجهد.
ولإيضاح هذا المعنى، يضرب لنا بولاني مثلًا بالشمبانزي الذي يراقب آخر وهو يحاول حل مشكلة ما، ثم يُظهر بإيماءاته أنه يشاركه في هذا السعي. وما كان هذا الرأي الذي أورده بولاني إلا حدسًا فلسفيًا حين قاله، ولكنه وجد تأييدًا بعد ذلك في الاكتشافات العلمية الحديثة، إذ كشفت الأبحاث عن وجود الخلايا العصبية المرآتية، التي تثبت أن التقليد ليس مجرد محاكاة فارغة، بل هو جزء جوهري من آليات التعلم. كما أظهرت الدراسات النفسية أن ما يُعرف بـ"الانتباه المشترك"، أي استخدام الجسد في تقليد حركات الآخرين، ليس مجرد إضافة عرضية إلى التعلم، بل هو في حقيقته عنصر أساسي من عناصر الإدراك. وهكذا، نجد أن الفكرة التي طرحها بولاني، والتي بدت للبعض مجرد تأمل فلسفي، قد أثبتت الدراسات الحديثة أنها تمثل إحدى الركائز العميقة للمعرفة البشرية.
تأمل، إذن، هذه الظاهرة العجيبة، التي تربط بين الجسد والعقل برباط وثيق، وتجعل من التقليد عملية معقدة، تتشابك فيها أوجه التبعية المختلفة. وقد كان مايكل بولاني من بين أولئك الذين فطنوا إلى خطورة هذا الأمر، فأشار إلى أن "جميع الفنون تُكتسب من خلال تقليد ذكي لما يمارسه الآخرون، ممن يضع المتعلم ثقته فيهم." ولو تأملنا هذا القول حق التأمل، لوجدناه ينطبق لا على الفنون وحدها، بل على أبسط أشكال التعلم، كاكتساب الطفل للغة، وتشكُّل مداركه الأولى عن العالم من حوله. والركيزة التي يقوم عليها هذا التقليد ليست إلا الثقة، تلك الثقة التي بدونها لا يمكن لثقافة أن تُنقل، ولا لمعرفة أن تُتوارث بين الأجيال. يقول بولاني:
هذا النوع من التواصل لا يمكن أن يتم إلا إذا وضع شخصٌ ما ثقته المطلقة في شخص آخر، كتلميذ يوقر معلمه، أو طالب يتلقى عن أستاذه، أو جمهور ينصت إلى خطيب مفوَّه، أو قارئ يتتلمذ على كتب المفكرين العظام. فهنا تنشأ علاقة من الإيمان المتبادل، تكون فيها كلمة المعلم أشبه بالعهد، وقول المفكر أقرب إلى الوحي، لا من حيث القداسة، بل من حيث ما يقتضيه من تسليم أولي، لا يلبث أن يُراجع ويفحص بعد حين.
ومن هنا ينشأ ما يسميه بولاني "الانتماء"، ذلك الشعور العميق الذي يملأ وجدان الطفل حين يجد نفسه في قلب مجتمع، يضع ثقته في أساتذته ومفكريه، كما وضع هو من قبل ثقته في والديه حين نطق كلماته الأولى. وهذا الطقس الأساسي، الذي يتكرر في كل جيل، هو الذي يضمن بقاء الثقافة، ويُعيد إنتاجها عبر الزمن. ويُضيف بولاني:
فكما يتعلم الطفل أن الكلمات التي يسمعها تحمل معاني، وإن كان لا يدركها كلها في اللحظة ذاتها، فإن المتعلم البالغ يوقن بأن ما يسمعه من أساتذته يحمل دلالات خفية، لن يدركها إلا بالمثابرة والصبر، فإذا ما كشفها له الزمن، وجد فيها من الرضا العقلي ما يفوق ما كان يتوقع.
ولكننا اليوم نعيش في زمن صاغت معالمه النزعة التنويرية، التي جعلت من الفردانية مبدأ لا يُناقش، وصوَّرت المعرفة البشرية تصويرًا ذاتيًا محضًا. وبهذا المنظور، تبدو الثقة في شهادة الآخرين ضربًا من الاستسلام غير المبرر، حتى لقد رأى بعض المفكرين أن الأخذ برأي الغير لا يعدو أن يكون استبدالًا للإشاعة بالمعرفة. وكان جون لوك من بين الذين أكدوا هذا المعنى، فقال في كتابه "مقالة عن الفهم البشري": "لا جدوى من الاعتماد على آراء الآخرين واعتبارها معرفة، أكثر من الاعتماد على عيون الآخرين لرؤية ما نراه بأنفسنا." ولو تأمل القارئ هذا القول، لوجد فيه رفضًا صريحًا لكل ما يُفرض على العقل من خارج ذاته، حتى وإن كان حقًا.
وكان لوك في هذا الرأي يستهدف غرضين: أحدهما معرفي، والآخر سياسي، فقد أراد أن يهدم بذلك دعوى الكنيسة في احتكار الحقيقة، وأن يضعف من سلطانها على العقول. وقد لاحظ الفيلسوف تشارلز تايلور أن كتاب لوك بأسره ليس إلا هجومًا على أولئك الذين يتذرعون بالمبادئ المطلقة للهيمنة على غيرهم، ويسعون إلى إحكام قبضتهم على الفكر بحجة امتلاكهم للحقيقة التي لا تقبل الجدل.
ومن هنا، نجد أن الليبرالية الجديدة التي كان لوك أحد أبرز روادها قد ربطت الحرية السياسية بالاستقلال الفكري، فلا حرية بلا استقلال، ولا استقلال لمن يأخذ معارفه عن غيره دون تمحيص. وهذه الفكرة، التي أبهرت الأوروبيين، أدهشت كذلك ألكسيس دو توكفيل وهو يتجول في أمريكا، حيث وجد أن الأمريكيين جميعًا "ديكارتيون دون أن يقرأوا ديكارت"، أي أنهم قد تبنوا منهج الشك والتجربة، دون أن يدرسوا فلسفة ديكارت نفسه.
ولم يكن ديكارت، في هذا المقام، إلا امتدادًا لنهج لوك، فقد دعا كلاهما إلى الاكتفاء الذاتي في المعرفة، وإلى نبذ كل رأي لم يتشكل في ذهن الفرد بعد اختبار دقيق. وهكذا، أصبحت المعرفة الحقة عندهما هي التي تنبع من الذات وحدها، وأما تلك التي تُنقل عن الغير، فهي، في أحسن الأحوال، معرفة مشكوك فيها، إن لم تكن زائفة من أصلها.
ولكن، رغم أن هذا التصور للحرية كان يرمي إلى تحرير العقول من ربقة السلطة، فإنه لم يخلُ من مفارقة مزعجة، فقد وضع الأفراد أمام معضلة لم يحسبوا لها حسابًا، وهي: كيف يمكن للمرء أن يكون مستقلاً فكريًا، ومع ذلك يتيقن من صحة معارفه؟ فإذا كان كل ما لم يستنبطه العقل بنفسه موضع شك، فأين اليقين إذن؟
وقد أدى هذا الرفض المتشدد لشهادة الخبراء التقليديين، مقترنًا بالنزعة البروتستانتية في رفض السلطة الدينية، إلى نشوء أزمة الشك، التي لاحظها توكفيل في المجتمع الأمريكي. فقد وجد أن الأمريكيين، بعد أن هدموا السلطة التقليدية، قد لجأوا إلى سلطة جديدة، هي سلطة الجماعة. فصار الفرد، الذي ينشد الاستقلال الفكري، ينظر حوله، ويراقب ما يعتقده أقرانه، ويستمد من إجماعهم نوعًا جديدًا من اليقين. وهكذا، ينتهي به الأمر إلى أن يصبح تابعًا للجماعة، بعد أن ظن أنه تحرر من كل سلطة.
ولكن، ترى، كيف يحدث ذلك؟
إذا نظرنا في الأسس الفكرية التي قامت عليها فلسفة جون لوك وديكارت، والتي اعتنقها الأمريكيون بلا وعي مباشر، وجدناها تُخضع التقاليد لهجوم لا هوادة فيه، تغذّيه نزعة شك صارمة، ترى في الحكمة الموروثة قناعًا يُخفي وجوهًا شتى من القمع، وتُقدّمها، بحيلة بارعة، في ثوب المعرفة. غير أن هذا الانفصال الحاد عن الماضي، وإن بدا في ظاهره حرصًا على التحرر من الوهم، يترك الفكر الإنساني معلقًا في فراغ، لا يجد فيه مرتكزًا يقاوم به طغيان الأكثرية. وهكذا، نجد أنفسنا، من حيث لا نشعر، أسرى الحاضر، مسجونين في حدوده، محرومين من امتداد الزمن وتراكم الثقافة. وليس هذا إلا ضربًا مما يمكن أن نسميه "الثقافة المضادة"، إذا ما فهمنا الثقافة على أنها كيان ينمو ويتراكم، ويستمد قوته من صلته العميقة بالماضي.
وكان هذا الافتقار إلى العمق التاريخي في الحياة الفكرية الأمريكية موضع قلق شديد لدى ألكسيس دو توكفيل، فقد خشي أن يؤدي إلى نشوء ضرب جديد من "الاستبداد الناعم"، ذلك الاستبداد الذي لا يأتي في صورة قسرية، ولكنه يتسلل إلى النفوس برفق، حتى تتقبله طواعية، دون أن تشعر بأنها قد فقدت حريتها.
ولكن، كيف يحدث هذا؟
ذلك أن الناس، وهم يهربون من سلطان قديم، لا يلبثون أن يُسلِّموا أنفسهم إلى سلطان جديد، يتخفّى تحت قناع مناهض للسلطة، فيخدعون أنفسهم، ويتوهمون أنهم قد أصبحوا أحرارًا، وهم في الواقع أسرى صورة جديدة من القيد. خذ، على سبيل المثال، حركة اليسار الجديد في الستينيات. لقد كان خطابها في جوهره معارضة صريحة لكل أشكال "المنظومة"، بوصفها رمزًا للسلطة الجامدة. ولكن، حين تمكنت من اختراق المؤسسات التي وقفت ضدها، لم تتخل عن نبرة التحدي، بل ظل قادتها يرفعون شعار "قول الحقيقة للسلطة"، حتى وهم في مواقع القوة، بل وحتى وهم على متن الطائرة الرئاسية "إير فورس وان"! وهذه المفارقة جعلت الحركة، بدلًا من أن تنضج، تظل أسيرة مرحلة من المراهقة الفكرية، لا تبرحها ولا تتجاوزها. فقد بقي تصورها لذاتها على أنه معارضة، في الوقت الذي أصبحت فيه جزءًا لا يتجزأ من السلطة. ومن هنا، نشأ ذلك التناقض الذي سلبها الإحساس بالمسؤولية، وجعلها تعيش في وهم مزدوج: فهي في الظاهر تحكم، ولكنها في أعماقها لا تزال تعارض.
وفي هذا السياق، يبرز اسم مايكل بولاني، الذي عانى بنفسه من استبداد الشيوعية السوفيتية والنازية، ولم يلبث أن اكتشف أن خطر فقدان الاستقلال الفكري لا يقتصر على الأنظمة الشمولية التي فرّ منها، بل يمتد كذلك إلى تلك الفلسفات الليبرالية التي جعلت الفردانية غاية مطلقة، وطرحت تصورات للمعرفة تكاد تُسلبها كل يقين.
وقد رأى بولاني أن التعليم، بوصفه نشاطًا ثقافيًا، يشهد توترًا حادًا بين متطلبات التعلم ومقتضيات الديمقراطية، فإذا لم يكن للمعرفة سلطة مرجعية، فكيف يمكن نقلها عبر الأجيال؟ وقد لاحظ كثيرون أن التعليم العالي قد بدأ يتحول تدريجيًا إلى نشاط تجاري، يُقدّم كما تُقدَّم الخدمات، ويُباع كما تُباع السلع. وفي هذا المناخ الجديد، يُتوقع من الأستاذ أن يكون موفرًا للخدمة، يتودد إلى طلابه كما يتودد البائع إلى زبائنه، ويحرص على أن يكون ودودًا، مرحًا، حتى لا يُتهم بالتسلط والاستبداد.
ولم يكن هذا الاتجاه خافيًا على الفلاسفة القدماء، فقد صوّره سقراط منذ قرون في "الجمهورية"، حين حذر من أن الديمقراطية، إذا أُطلقت بلا ضوابط، قد تتحول إلى فوضى، فيفقد المعلم هيبته، ويخشى تلاميذه، ويجاملهم، حتى ينتهي به الحال إلى أن يصبح تابعًا لهم، لا قائدًا. وقد نقل لنا أفلاطون هذه الصورة بقوله:
كما يخشى المعلم تلاميذه ويُجاملهم، كذلك يستخف التلاميذ بمعلميهم. والكبار، في محاولة للتقرب، ينزلون إلى مستوى الصغار، يقلدونهم، ويتسمون بالجاذبية والسهولة، حتى لا يُعتبروا متسلطين أو مستبدين.
وأيّ قارئ ينظر في أحوال التعليم اليوم، لا بد أن يجد لهذا الوصف صدًى في واقعنا المعاصر. فقد أصبح من المألوف أن نسمع عن جامعات مرموقة تفخر بأنها تسمح للطلاب "بتعلم كل شيء من بعضهم البعض"، بينما يحرص الأساتذة على "الابتعاد عن طريقهم"! وهنا يبرز السؤال: إذا كانت العملية التعليمية قائمة على تبادل المعرفة بين الطلاب وحدهم، فلماذا يدفع الآباء هذه الرسوم الباهظة؟ وأي فرق يبقى، إذن، بين الجامعة والمقهى؟
لقد أصبحت الحياة الفكرية اليوم خاضعة لمنطق السوق، حتى لقد بات يُقال إن "الحقيقة" لا تحتاج إلى سلطة معرفية، بل ستظهر تلقائيًا، كما تظهر الأسعار العادلة في سوق حرة. وهكذا، حلّت "منافسة الأفكار" محل "سلطة المعرفة"، وأصبح الطلاب، الذين لم يتلقوا علمًا بعد، يُناقشون قضايا معقدة، كأن رأيهم فيها لا يقل وجاهة عن رأي أستاذهم.
ولكن، أيّ معرفة هذه التي تُبنى على التصويت؟ وهل يصبح الرأي صحيحًا لمجرد أن الأغلبية قد تبنّته؟ إن هذا التصور، مهما حاول أن يتقمص مظهر الحرية، ليس إلا ضربًا من الخضوع لرأي الأكثرية، وهو خضوع يختلف في شكله عن الاستبداد القديم، ولكنه يماثله في جوهره.
يؤكد بولاني أن التعلم الثقافي يبدأ بفعل انتماء أولي، يُعبَّر عنه بمنح الولاء الشخصي لشخصية ذات سلطة معرفية. ومع ذلك، في زمننا الحالي، لم يعد هذا الفعل يبدو تقليديًا أو مألوفًا. عندما يبحث الطالب عن أستاذ، قد يعتمد على مواقع مثل "Rate My Professor Dot Com"، حيث يخضع الأساتذة لتقييمات الطلاب بناءً على معايير سطحية كسهولة الامتحانات، أو الجاذبية الشخصية. وقد وصفت لورا كيبنيس كيف يمكن لبعض الطلاب استغلال هذا النظام، من خلال لعب دور الضحية في درامات ميلودرامية تحظى بدعم إداري، حيث تكون الأولوية لصورة المؤسسة أمام الرأي العام.
وفي مقابل هذه النزعة، كان بولاني يرى أن التعلم الحقيقي لا يبدأ إلا بفعل انتماء أولي، حيث يضع الطالب ثقته في شخصية ذات سلطة معرفية، يستلهم منها، ويتلقى عنها. غير أن هذا التصور، الذي كان في الماضي بديهيًا، لم يعد اليوم مفهومًا ولا مقبولًا. فقد تغيّر دور الأستاذ، ولم يعد الطالب يبحث عن معلمه في قاعات الدرس، بل على مواقع التقييم، كـ"Rate My Professor Dot Com"، حيث يخضع الأساتذة لتقييمات الطلاب، لا بناءً على علمهم أو مهاراتهم، بل وفق معايير سطحية، كسهولة الامتحانات، أو جاذبيتهم الشخصية!
وقد وصفت الكاتبة لورا كيبنيس كيف تحولت هذه التقييمات إلى سلاح في يد الطلاب، يستغلونه في افتعال درامات ميلودرامية، يُصورون فيها أنفسهم كضحايا، فيحصلون على دعم إداري غير مشروط، لأن المؤسسة التعليمية أصبحت تخشى على سمعتها أكثر مما تخشى على جوهر رسالتها.
ما بالنا نرى الأساتذة أنفسهم، وهم حملة العلم وحراس الفكر، قد أخذوا ينأون عن السلطة ويظهرون امتعاضًا منها، كأنهم في ذلك يسيرون على نهج الثائرين، لا على نهج المربين؟ وما بال هذه النزعة تتجلى على نحو أخص في مجالات العلوم الإنسانية، حتى لكأن التحدي للسلطة قد غدا جزءًا لا يتجزأ من هوية هذه التخصصات؟ في هذا السياق، تبرز الأستاذة ليزا روديك، فتشير في مقالتها الموسومة بـ "عندما لا يكون هناك شيء رائع" إلى هذا التحول العميق، فتصوّره بأنه:
وليد عقود من التمادي في مناهضة كل ما يمت إلى الإنسانية بصلة، حتى غدا الهدف الأسمى لدى بعض الأكاديميين هو هدم القيم التي تبدو، لأول وهلة، حيّةً متكاملة. أما برونو لاتور، فقد رأى أن هذا الميل الجامح إلى النقد قد انحرف عن مقصده، فإذا هو ينقلب إلى ضرب من الهمجية الفكرية، تُنكر القيم السامية، وتسخر من التجارب العظيمة، وتستهين بالمثل التي درج الناس، خارج أسوار الأكاديمية، على توقيرها. وليس ذلك فحسب، بل إن هذا النقد العدمي قد انسحب على الأعمال الكبرى للعقل البشري، حتى بات الطلاب يتعلمون كيف يستقبلونها بريب لا ينتهي وتأويل لا يرحم، وما يلبثون أن يوجهوا هذه النزعة عينها ضد أساتذتهم، وكأن التعليم قد بات معركة بين جيلين، لا تلمذة بين معلم ومتعلّم.
فإن صحّ قول بولاني بأن التعلم لا يقوم إلا على أساس التلمذة، وأن نقل الثقافة لا يتحقق إلا حيث يكون ثمة تفانٍ للحقيقة، فإن المؤسسات التي يُفترض بها أن ترعى هذا الهدف النبيل، قد أخذت تجنح إلى لون من "الثقافة المضادة"، لا تكتفي بالتشكيك في رموز الفكر العليا، بل تسعى إلى تقويضها وهدمها. فبينما يقف الطلاب في مواجهة أساتذتهم، نجد أن الأساتذة أنفسهم قد انصرفوا عن التعمّق في الأعمال العظيمة التي طالما أُعجبوا بها، ودرسوها، وأفادوا منها، ولو أنهم منحوها لحظة تأمل، لكان لهم فيها من الحكمة ما يغنيهم عن هذا الجدل العقيم.
ولكن، ما دلالة هذا الامتعاض؟ وما علته؟
إذا نحن رجعنا إلى نيتشه، ثم تبعناه إلى من تأثروا بفكره، ألفينا ماكس شيلر، الفيلسوف الألماني في مطلع القرن العشرين، قد تناول هذا المفهوم، فاستعان في بيانه بالحكاية الإيزوبية القديمة عن الثعلب والعنب. يحاول الثعلب، وقد مسّه الجوع، أن ينال عنقودًا من العنب المعلق، فيقفز بكل ما أوتي من قوة، ولكنه لا يلبث أن يعجز، ثم يدير ظهره للعنب ويقول في استخفاف: "إنه لم ينضج بعد! ولا حاجة لي به!"
هنالك تتجلى لنا طبيعة الامتعاض، فهو ليس إلا إنكارًا لما هو عظيم، لا لشيء إلا لأن المرء لم يستطع أن يناله. إنه موقف يُتخذ هروبًا من مواجهة الحدود الذاتية، وعجزًا عن الاعتراف بأن هناك مراتب في الحياة، وأن ثمة أشياء تسمو على الإنسان، ولا يسعه إدراكها إلا بالتواضع أمامها. على أن روح التعلم الحقيقية إنما تقوم على هذا التواضع نفسه، إذ لا يكون المتعلم متعلمًا حتى يسلّم بأن معلمه أرفع منه شأنًا، وأوسع منه علمًا. ولكن الامتعاض يقلب هذه العلاقة رأسًا على عقب، فإذا التلميذ متعالٍ على معلمه، وإذا هو، بدلاً من أن يسمو بعقله، ينكر أن يكون هناك ما يسمو عليه.
ومن هنا نشأ ذلك الإصرار على نسبية القيم، حتى صار من يقول بأن هناك شيئًا أرفع من شيء، أو أمرًا أحكم من آخر، يُعد في نظر هؤلاء رجعيًا متخلفًا، وكأن الاعتراف بالفارق بين المراتب يُعد ضربًا من الظلم. وهذه النزعة ليست إلا محاولة لحماية صورة ذاتية هشة، لا تقوى على مواجهة عظمة ما لا تستطيع بلوغه، فتسعى إلى هدم الفارق بين المراتب، كأنما تريد أن تهدم السلم كله، حتى لا يكون هناك من هو أعلى ولا من هو أدنى.
ولكن، ما أثر هذا على الديمقراطية؟
إنَّ الديمقراطية الليبرالية لم تكن يومًا قائمة على المساواة المطلقة، وإنما كانت توازنًا دقيقًا بين عناصر أرستقراطية وأخرى شعبية. فهي لا تقوم إلا حيث يتم حماية المساحات التي تنشأ فيها القيم العليا، كالعائلة، والمدرسة، والجامعة، وهي مؤسسات لا غنى لها عن الرتبة والسلطة، إن كانت تسعى إلى تربية مواطنين قادرين على تحمل المسؤولية. فإذا انهارت هذه الركائز، لم تعد الديمقراطية إلا مساواة سطحية، تُضعف المجتمع، وتُفضي به إلى تآكل مستمر، لا يلبث أن يذهب بروحه وكيانه.
هذا المقال قد ظهر أول مرة في موقع Archedelia Substack الخاص بماثيو بي كروفورد، وقد كُتب بدعم من صندوق البيئة الأخلاقية التابع لمعهد الدراسات المتقدمة في الثقافة، وسيظهر في مجلده المحرر، الموسوم بـ "ضرورة الشخصية: التكوين الأخلاقي والقيادة في عصرنا".