لماذا يجب ألا ننقي الحكايات الخرافية من واقعها؟
من خلال الحكايات الخرافية، يتعلم الأطفال بشكل أفضل أن العالم مليء بالشر والعنف والمخاطر.
امتلكت فلانري أوكونور في طفولتها موهبة في اختيار صحبة الطفولة التي تناسب روحها وتماشي نزعتها. اختارت والدتها لها من تراهم من علية القوم وأهل الاحترام، أما أوكونور فقد اختارت وسيلة فريدة لاختبارهم، إذ كانت تجلس مع أولئك الرفاق وتقرأ عليهم بصوت جهير قصص الأخوين جريم، تلك الحكايات التي ملأتها الظلال والخوف وألوان من العنف. بعضهم لم يتحمل وقع الكلمات، فلا يعود أبدًا إلى بيت عائلتها في سافانا، وهذا ما كان يُرضي مضيفتهم غاية الرضا. أما الفتيات اللاتي استطعن الاستماع دون وجل، فقد كنّ يجدن في أوكونور رفيقة روح، واختبارها كان هو علامة صدق تلك الصداقة.
ليست الحكايات الخرافية الكلاسيكية لأصحاب القلوب الضعيفة؛ وهذا ما يمكن رؤيته بجلاء في أدب فلانري أوكونور الذي امتلأ برؤى من الرعب الجنوبي المظلم. تلك القصص الحافلة بالموت، حيث ينتظر قتلة على جوانب الطرق الريفية ليغتالوا الجدات الطامعات، كانت انعكاسًا لما حفظته ذاكرة طفولتها من حكايات جريم: رجال يقطعون النساء إربًا، وآباء يزجون شهواتهم الآثمة نحو بناتهم، وشخصيات تعقد مواثيقها مع الشيطان نفسه. لكن أطفال اليوم يعرفون نُسخًا من هذه الحكايات قد جرى تلطيفها وتخفيف عنفها.
وإذا انتقلنا إلى حكايات هانز كريستيان أندرسن، نجد أنها خضعت هي الأخرى للتعديل لتتناسب مع جمهور أكثر رهافة. يوم وقعتُ على نسخة أندرسن من “حورية البحر الصغيرة” في المكتبة، وكان ذلك حينما كنت طفلة، أذهلني الفرق الشاسع بينها وبين نسخة ديزني التي عهدتها. ففي نسخة أندرسن، لا تنتهي الحكاية بزواج الحورية من الأمير؛ بل يتزوج الأمير من أخرى، والحورية تواجه خيارًا مأساويًّا: إما أن تموت مع شروق الشمس بعد ليلة زفافه أو تقتل محبوبها بسكين في غرفته. إن المشهد حيث الحورية تمسك السكين وتصارع بين قتل حبيبها أو فناء نفسها كان مشهدًا يفيض بالرعب الذي يليق بعوالم الحكايات الأصلية. أما ديزني، فقد غيبت مثل هذه اللحظات تحت طلاء زاهٍ، فكيف تتصور أريل الحيّة بخصلات شعرها الحمراء وهي تحمل سكينًا ماضٍ بيد مرتجفة؟
تستمر ديزني في تخفيف حدة الحكايات حين تقدم لنا “سندريلا” دون أن تذكر التفاصيل القاسية التي وردت في نسخة الأخوين جريم، حيث تقطع الأخوات أصابعهن وكعوبهن ليلائمن الحذاء الزجاجي الذي يبحث الأمير عن صاحبته، ثم تأتي النهاية بعقوبة تقف العين إزاءها مرتعدة حين تُفقأ أعينهن بواسطة الطيور. وهنا يتجلى سؤال مهم: هل هذه النسخ الملطّفة من الحكايات تقدم نفعًا أم ضررًا؟
الحكايات الخرافية هي عالم عجيب من القصص التي تُنسج للأطفال، عوالم تعج بالسحر والخيال. وكما عبّرت أنيماري فاختَر في كلماتها البليغة: لا يمكن فصل الأطفال عن الحكايات — أحدهما لا يُتصور دون الآخر. فما الذي يجذب الطفل إلى هذه الحكايات؟ إنها القصص التي تمتلئ بالأحداث لا بالمشاعر وحدها؛ فهي تتحرك على إيقاع السؤال الأبدي: ماذا سيحدث بعد ذلك؟ ويعيش الطفل مغامرة البطل حتى النهاية التي يعاد فيها ترتيب الكون ويُعيد العدل نصابه. تقول فاختَر: الحكايات قد تكون قاسية — أناس وحيوانات يموتون — لكن رغم كل شيء، تنتصر قوى الخير في نهاية المطاف. ولا يمكن أن تكون النهاية إلا كذلك.
تُقدِّر الحكايات الخرافية مفهوم الخير والشر بجدية لا تعرف الهزل، وهذا ما يجعلها صادقة. وقد أشارت مادلين لانغل إلى هذا المعنى بقولها: إن عالم الحكايات والأساطير يقف على طرفي نقيض مع العالم الدنيوي؛ إذ لا يهتم بالبراهين العلمية بقدر ما يعنى بالحقيقة. إنها الحقيقة التي تصارع الظلام وتنتصر في النهاية. لكن يبقى السؤال: هل نحن مستعدون لرواية هذه الحقيقة لأبنائنا، كما فعلت فلانري أوكونور، أم أننا نتراجع ونغير ملامحها؟ إما عن طريق تخفيف اللحظات المظلمة في القصة، أو، كما نرى في الكثير من أدب الشباب، برفض إمكانية السعادة الأبدية.
إننا نعيش في زمن غريب. نحن نخضع أطفالنا لتدريبات تهيئهم لمواجهة مسلحين في مدارسهم و خاطفين فى الطرقات، ونرى فيهم هشاشة تمنعهم من الاستماع إلى قصص تأخذ الشر والموت على محمل الجد. هل ما نفعله حقًا هو حماية، أم أننا نحرمهم من الأدوات التي تجعلهم قادرين على مواجهة العنف الذي يزحف في عالمهم؟
الحكايات الخرافية تعترف بواقع يُزعج الكبار: الآباء لا يحبون دومًا أبناءهم كما ينبغي، الأحبة يموتون ويتركوننا وحدنا في الحزن، الشر حقيقة، والعنف والخطيئة يحيطان بنا. نحن، الكبار، نهرع إلى طمأنة الطفل بكلمات ناعمة، قائلين: لا تقلق، لن يحدث لي شيء. لكن الطفل يعلم أن هذا العالم لا يخلو من الموت، وأن الأمهات يمتن. الطفل ذكي بما يكفي ليخاف مما هو مخيف.
وهنا يبرز سؤال جوهري: هل نسمح له بأن يواجه هذه المخاوف مواجهة صحيحة؟ قال ج. ك. تشيسترتون ذات مرة: الطفل يعرف التنين جيدًا منذ أن بدأ يتخيل. لكن الحكاية تمنحه القديس جورج ليقتل التنين. فإذا كنا نحاول إقناع الطفل بأن تنانين الحياة لا تؤذيه، فإننا لا نخونه الحقيقة فحسب، بل نحرمُه من رؤية أن النصر ممكن، وأن الظلام ليس الكلمة الأخيرة. الطفل يريد أن يكون جاهزًا لمواجهة الوحوش التي تخيفه، سواء كانت تنانين أو الموت.
في حين أن الحكايات الخرافية الكلاسيكية تتعرض لانتقادات بعض النقاد الذين يرون فيها واقعية مزعجة بسبب اعترافها الصريح بوجود الشر، إلا أنها تُنتقد أيضًا لكونها غير واقعية نظرًا لنهاياتها السعيدة التي تنبض بالأمل. يقول لي بعض الآباء القلقين لن أقرأ لابنتي الحكايات الخرافية!. قد تظن أن الأمير الجذاب قادم لينقذها، وستُصاب بخيبة أمل حين تكتشف حقيقة العالم. هؤلاء المنتقدون مستعدون للإبقاء على التنين في القصة، ولكنهم يرغبون في إزالة القديس جورج، ذاك الذي يمثل القوة الخيرة التي تواجه الظلام، ويرون في وجوده اختلالًا في توازن القصة، حيث يتمنون بقاء التنانين دون أن يكون هناك بطل يتصدى لها. فالنهايات السعيدة التي تتميز بها الحكايات الخرافية الكلاسيكية يُنظر إليها على أنها مفرطة في التفاؤل بحيث لا تلائم الأطفال. وربما يؤدي حرمان الأطفال من مواجهة الوحوش التي يخشونها في عالم الخيال إلى تصحيح مفرط لاحقًا، كما يُشير إلى ذلك انتشار أدب الشباب البائس. فكثير من هذه الكتب تنظر إلى العالم من زاوية اليأس والهزيمة وانعدام الثقة، حيث تكتظ بالوحوش دون أثر للقديس جورج. الإيمان بأن اليأس هو الاستجابة الوحيدة الواقعية لطبيعة العالم يخلق سرديات مثل صراع العروش، حيث لا يوجد خير أو شر، بل شهوة لا تشبع للسلطة تحرك كل نفس.
حتى في القصص الموجهة للأطفال الأصغر سنًا – مثل "سلسلة الأحداث المؤسفة" – نجد أن الحكاية الخرافية مقلوبة رأسًا على عقب. في هذه السلسلة، لا ينال أطفال بودلير الأيتام النهاية السعيدة التي يستحقونها. في حكايات الأخوين غريم، قد يلتقي الأبطال بمساعدين على طول الطريق، أو يواجهون محتالين وكاذبين. وهذا يعكس واقعية الحكاية. هناك فهم ضمني بأن العالم ليس مظلمًا بالكامل؛ الخير والشر يتواجدان معًا، وهناك من يستحق الثقة. لكن أطفال بودلير لا يستطيعون الوثوق بأي أحد. البالغون الذين يقابلونهم إما ضعفاء أو يحاولون إيذاءهم سرًا. اتجاه آخر في إعادة تفسير الحكايات يتمثل في محاولة تقديم مبرر للأشرار، كما في فيلم ديزني "ماليفيسنت"، حيث تصبح الساحرة الشريرة ضحية تستحق التعاطف. في هذه القصص، يتم تبرير الشر وإزالة الخير، ويتحول البطل إلى شخصية مزيفة.
ومع ذلك، بالرغم من الشعبية التي تحظى بها هذه القصص، من الجدير بالملاحظة أن السلسلة التي أسرت خيال الأطفال (والكبار أيضًا) في الآونة الأخيرة هي حكاية خرافية حديثة تتناول الشر والموت، ولكنها تنتهي بنهاية سعيدة: سلسلة "هاري بوتر" لج. ك. رولينغ. وهي قصة تحمل إطارًا مسيحيًا واضحًا، مثل حكايات غريم.
كل إنسان يفهم العالم ومكانه فيه من خلال السرديات. الله خلقنا لنتشكل بالقصص. لذلك من المهم للغاية أن نفكر في القصص التي نرويها لأطفالنا. ما نوع الشخصية التي يرون أنفسهم فيها في قصة حياتهم؟ وما نوع العالم الذي تدور فيه قصتهم؟ هل هو عالم ينتصر فيه الجشع والسلطة؟ أم عالم يسوده الحب والخير؟ هل الخوف الذي يعاني منه الشباب مجرد رد فعل على كسر العالم، أم أنه نتيجة لفشلنا في إيصال رسالة الأمل التي تعد بها الحكايات الإنجيلية والخرافية؟ كما قال اللاهوتي فيجن جورويان في كتابه "تربية قلب الفضيلة": الحكايات الخرافية تقودنا إلى الإيمان بشيء، لولا غموضه، لكان الحس السليم يؤكده: إن كانت هناك قصة، فلا بد أن يكون هناك راوي قصة. وهنا يكمن أعمق أمل لدينا.
لمواجهة القلق الذي يصيب الأطفال المحرومين من مساحة لمواجهة الشر، واليأس الذي يعتقد أن الهزيمة هي الفصل الأخير في قصة البشرية، علينا أن نقدم قصصًا أكثر صدقًا. يحتاج الأطفال منذ سن مبكرة إلى التشبع بحكايات لا تتغاضى عن الجوانب المظلمة والقبيحة للعالم. الأطفال حكماء؛ يرفضون الوهم بالتفكير الإيجابي الزائف لصالح الأمل الذي يُنتزع بشق الأنفس. ولكي تصل رسالة الأمل، يجب أن يكون أملًا يضيء في الظلام، أملًا يكسر تعويذة الساحرة. وكما كتب ج. ر. ر. تولكين في مقاله "عن الحكايات الخرافية": من علامات الحكاية الجيدة، مهما كانت أحداثها جامحة ومغامراتها خيالية أو رهيبة، أنها تمنح الطفل أو الرجل الذي يسمعها، عند اللحظة الحاسمة، نفَسًا متسارعًا وخفقة قلب مرفوعة، وربما دموعًا. ولكن لكي نروي مثل هذه القصص، يجب أن نؤمن بأنها حقيقية. إذا لم نؤمن نحن البالغين بوجود فرح يتجاوز حدود العالم كما يسميه تولكين، فلن يصدقنا أطفالنا عندما نشاركهم الحكايات التي تنتهي بالأمل. وإذا قدمنا سرديات لعالم بلا أمل، فإن قصصنا لن تكون أفضل من الحكايات المُخففة التي تتجاهل الموت والشر. إنها مجرد طريقة أخرى للفشل في قول الحقيقة كاملة.
ولكن النهايات السعيدة قد تكون صعبة التصور دون منظور أبدي؛ إذ إنها ترتبط غالبًا بإيمان يتجاوز حدود الحياة المادية، حيث تتضح قيمتها في ظل مفهوم الحياة الأبدية. في نهاية قصة أندرسن، تفقد الحورية الصغيرة حياتها ويتحول جسدها إلى زبد البحر فوق الأمواج. لكن تضحيتها من أجل من تحب تكافأ بمنحها فرصة لامتلاك روح إنسانية وبالتالي نيل الحياة الأبدية. هذه النهاية لا تبعث على الأمل إلا إذا رافقها إيمان بالحياة بعد الموت، تمامًا كما تنتهي قصة فلانري أوكونور رجل صالح يصعب العثور عليه بنعمة خلاصية إذا رأينا فيها رجاءً أبديًا للجدة المقتولة. ربما فقدان هذا المنظور الأبدي هو ما يمنعنا من رؤية الأمل وراء الظلام.
يحذر الفيلسوف ألسدير ماكنتاير بقوله: احرموا الأطفال من القصص، وستتركونهم دون توجيه، متلعثمين في أفعالهم وأقوالهم. مثلما ترك هانسل وجريتل حصوات بيضاء صغيرة على طريقهم عبر الغابة المظلمة، تحتاج الأجيال القادمة منا إلى تقديم علامات ترشدهم في رحلتهم عبر ظلمات الحياة وتعقيداتها، علامات تكشف لهم عن وجود التنانين المختبئة في كهوف الوجود، وتضيء لهم الطريق نحو العودة إلى ديارهم، حيث يتعلمون أن الخير لا بد وأن ينتصر في النهاية، حتى عندما يبدو أن الأمل قد تلاشى. وتساعدهم على العودة إلى الديار. وهذه العلامات هي القصص التي نرويها لهم – قصص تنير الظلام، تكشف عن وجود التنانين المختبئة في كهوف الحياة، وتذكرنا بأن القديس جورج سينتصر في النهاية، حتى عندما يبدو أن الأمل قد تلاشى.
مترجم من plough بقلم Haley Stewart
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي