كيف أصبحت التشخيصات النفسية مرايا لهوياتنا؟
اكتشاف ذاتك عبر التشخيصات النفسية يكشف هشاشة نظام معني بتحديد هويتك ومعنى وجودك.
ليس من شك في أن تسمية الأشياء فعل عظيم الشأن، فهو أول خطوة يخطوها العقل الإنساني نحو الفهم والسيطرة. ذلك أن الإنسان، مذ خلقه الله وأقامه في الأرض، لم يكتفِ بأن يرى الأشياء أو يتعامل معها، بل أراد أن يسميها، فيحصرها في نطاق لفظي يجعلها مستقلة عمّا يحيط بها، ويحدد لها كيانًا خاصًا. وهذا ما نجد جذوره الأولى في قصة الخلق كما وردت في الكتب السماوية، حين فصل الله النور عن الظلمة، ثم سمّى الأول "نهارًا" والآخر "ليلًا". وحين وضع آدم في الجنة، لم يكن عمله مقصورًا على الاستمتاع بخيراتها، بل كان عليه أن يهب الأسماء للمخلوقات من حوله، فإذا نطق باسمٍ لشيءٍ ما، صار ذلك الاسم له، وأصبح جزءًا من نظام الوجود.
ولو قُدّر لآدم أن يكون كأبناء زماننا، لربما نظر إلى الأسماء نظرةً أخرى، فربطها بما يُعرف الآن بالأنواع الطبيعية، التي يُظن أنها قائمة على خصائص ثابتة لا تتغير. فحين يطلق الإنسان اسم "الخنازير" على فئة من المخلوقات، فهو بذلك يوحي بأن هذه الكائنات تتشارك في صفات محددة تميزها عن سائر المخلوقات. وهذا الميل إلى تقسيم العالم إلى فئات واضحة المعالم ليس مقصورًا على الطبيعة فحسب، بل يتعداها إلى المشاعر الإنسانية والأعراق والجماعات المختلفة، وكأن البشر جميعًا يتعاملون مع الأشياء وفق التصور القديم الذي عبّر عنه أفلاطون حينما قال إن المعرفة الحقة تقتضي "تقطيع الطبيعة عند مفاصلها".
ولكن العلم هو المجال الذي أظهر أشد الاهتمام بقضية التسمية، فهو لا يرضى بالحدس والتخمين، بل يسعى إلى وضع حدود دقيقة وواضحة لكل نوع من أنواع الكائنات والظواهر. وقد رأينا كيف انشغل علماء الطبيعة عبر العصور بتنقيح مصطلحات الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، حتى توافقت هذه المصطلحات مع ما أملوا أن يكون "النظام الطبيعي". ومن بين العلوم التي سارت على هذا الدرب، يبرز الطب النفسي، الذي اجتهد علماؤه في تصنيف الاضطرابات النفسية وترتيبها في إطار واضح، فجاءت ثمرة هذا الجهد في صورة الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، الذي أصدرت الجمعية الأمريكية للطب النفسي نسخته الأولى قبل نحو سبعين عامًا، ولا يزال حتى يومنا هذا المرجع الأهم في هذا المجال. فقد قسّم الاضطرابات إلى فئات مثل "اضطرابات القلق" و"الاختلالات الجنسية" و"اضطرابات الشخصية"، محددًا لكل منها معايير علمية وأوصافًا دقيقة، يحدد بها مدى انتشارها، والعوامل التي تزيد من احتمال وقوعها، والأمراض التي قد تصاحبها. وعلى الرغم من أن الأطباء والباحثين يدركون أن هذا الدليل ليس سوى مشروع دائم التطور، فقد عقدوا الأمل على أن تكشف الدراسات المستقبلية عن أنماط بيولوجية وجينية واضحة، تجعل هذه الفئات أقرب إلى "الأنواع الطبيعية"، كما تنبأ الأستاذ جيرولد ماكسمن عام 1985.
ولا غرو أن هذا الدليل التشخيصي أصبح المرجع الذي يحدد نظرة المجتمع الحديث للأمراض العقلية وطرق التعامل معها. فهو الذي يضبط المصطلحات التي يتداولها الأطباء والمرضى، ويضع الأسس التي تقوم عليها مناهج كليات الطب، ويرسم الخطوط العريضة للعلاجات الدوائية التي تعتمدها المؤسسات الصحية الكبرى. وهو الذي يقرر، في كثير من الأحيان، مَن يستحق العلاج، ومَن يمكنه الحصول على تأمين صحي أو تعويض مالي بسبب العجز. وبذلك، لم يعد مجرد وثيقة علمية، بل صار أداة تُشكّل السياسات الصحية في مختلف الدول.
غير أن الدليل التشخيصي، في صورته الحديثة، لم يتبلور على النحو الذي نعرفه إلا مع صدور نسخته الثالثة عام 1980، إذ جاءت هذه النسخة بمناهج أكثر دقة، ومعايير أشد وضوحًا من تلك التي اعتمدتها الإصدارات السابقة، التي كانت تميل إلى التصنيفات العامة المستمدة من التحليل النفسي. وكان مؤيدو هذه المنهجية الجديدة يأملون أن تؤكد الاكتشافات العلمية الحديثة صحة هذه التصنيفات، وأن يظهر بجلاء أن لكل اضطراب نمطًا جينيًا خاصًا، أو علامة بيولوجية مميزة. ولكن، وقد مضى على ذلك نحو نصف قرن، لم تأتِ النتائج كما كان يُرجى. فقد تبين أن الاضطرابات النفسية لا تخضع لحدود صارمة، بل تتداخل في مظاهرها وأسبابها. ولم يظهر جين محدد مسؤول عن مرض معين، بل تبين أن الجينات التي ترتبط بالأمراض العقلية غالبًا ما تكون مشتركة بين حالات مختلفة. وكشفت دراسة موسعة استندت إلى مئات التحاليل الدماغية، أن وسائل التصوير الحديثة، على الرغم من قدرتها على كشف بعض العلامات الدالة على المرض العقلي، لا تستطيع أن تميز بشكل قاطع بين الفصام والاضطراب ثنائي القطب والاكتئاب الحاد وسائر هذه الحالات، كما كان يؤمل.
لم يعد خافيًا أن المنهج الذي اعتمده الدليل التشخيصي والإحصائي بات يُنظر إليه بعين الريبة، فقد بدا لكثير من الباحثين تعسفيًا متقادِمًا، لا يواكب ما تكشف عنه العلوم الحديثة من تعقيد في الطبيعة البشرية. وقد وصفه ستيفن هايمان، الذي تولى إدارة المعهد الوطني للصحة العقلية بين عامي 1996 و2001، بأنه "كابوس علمي مطلق"، تعبيرًا عن مدى ما رآه من قصور في أسسه ومنهجه. وحينما كان العمل جاريًا على إعداد النسخة الخامسة من الدليل، أعرب بعض كبار الباحثين عن أملهم في أن يفضي هذا الإصدار إلى تحديث شامل للتصنيفات، بحيث تعكس على نحو أدقّ المتلازمات النفسية التي تظهر في الطبيعة. ولكن حين صدر الإصدار في أبريل 2013، وجد الباحثون أنه لم يأتِ بما كانوا يتطلعون إليه، بل اقتصر على تعديلات طفيفة لا ترقى إلى إحداث ثورة علمية. ولهذا، لم يكن غريبًا أن يعلن توماس إينسل، الذي كان مديرًا للمعهد آنذاك، أن الوقت قد حان لإعادة توجيه الأبحاث، بحيث تتحرر من التصنيفات الجامدة للدليل التشخيصي، وتنفتح على فهم أعمق وأكثر مرونة لتعقيد النفس البشرية.
وفي كتابه "DSM: تاريخ الكتاب المقدس للطب النفسي"، الصادر عام 2021، يقدم عالم الاجتماع الطبي آلان ف. هورويتز تحليلًا دقيقًا لهذا الإخفاق الذي رافق تطوير الإصدار الخامس من الدليل التشخيصي. فهو يرى أن ما جرى لم يكن أمرًا عارضًا، بل كان نتيجة لصراعات داخلية بين مجموعات العمل، فضلًا عن تهميش الأطباء الذين كان ينبغي أن يكونوا في قلب عملية المراجعة. ولكن القضية أعمق من ذلك، إذ إن تحديث هذا الدليل لا يعني مجرد إعادة تصنيف بعض الاضطرابات النفسية، بل يستتبع إعادة تشكيل المفاهيم التي يحملها المجتمع حول أنماط معينة من البشر. وهذا ما أشار إليه الفيلسوف إيان هاكينج، حينما أوضح أن تصنيف الكائنات البشرية يختلف اختلافًا جوهريًا عن تصنيف الجسيمات الذرية أو الكائنات الدقيقة، فهذه الأخيرة تظل غير مبالية بما يطلقه العلماء عليها من أسماء، بينما يؤثر التصنيف النفسي في الأفراد أنفسهم، فيعيد تشكيل نظرتهم لأنفسهم، وقد يغير سلوكهم بمرور الزمن.
وخير مثال على ذلك ما حدث مع ما يُعرف بـ"اضطراب الشخصية المتعددة". ففي أوائل السبعينيات، كان عدد الحالات المشخَّصة بهذا الاضطراب لا يتجاوز العشرات، ولكن بحلول عام 1986 قفز الرقم إلى ما يقرب من ستة آلاف حالة. ولا شك أن هذا التحول المفاجئ يثير التساؤل: هل كان هذا الاضطراب موجودًا من قبل، لكن لم يكن يلقى الانتباه الكافي؟ أم أن مجرد إدراجه ضمن التصنيفات النفسية هو الذي أتاح له أن يُصبح واقعًا معترفًا به؟ لقد أطلق هاكينج على هذه الظاهرة مصطلح "الاسمية الديناميكية"، تعبيرًا عن أن التصنيفات النفسية لا تكتفي بوصف الواقع، بل تشارك في صناعته وتوجيهه.
ومن هنا، يمكن أن نفهم كيف تؤثر هذه التصنيفات في حياة الأفراد، لا بوصفها مجرد أدوات للتشخيص، بل باعتبارها قوالب تعيد تشكيل الهوية البشرية ذاتها. وهذا ما تتناوله ثلاثة كتب حديثة، تسلط الضوء على الكيفية التي يُعيد بها التشخيص النفسي صياغة إدراك الأفراد لأنفسهم. أولها كتاب "لكن الجميع يشعر بهذه الطريقة: كيف أنقذ تشخيص التوحد حياتي" لبيج لايل، والثاني "المعتل اجتماعيًا: مذكرات" لباتريك غاني، أما الثالث فهو "Borderline: سيرة اضطراب الشخصية الحدية" لألكسندر كريس. وتكشف هذه الأعمال كيف أن التصنيفات النفسية لا تحدد فقط طبيعة المرض، بل تمتد لتشكيل أنماط سلوكية، ورؤى ذاتية، وحتى تفسيرات للتجارب الحياتية. فهي، بعبارة أخرى، أدوات معرفية تقدم للفرد إجابة عن أسئلته الوجودية، وتساعده على فهم ذاته في إطار جديد.
وكما يلجأ بعض الناس إلى اختبارات الشخصية أو الأبراج الفلكية للبحث عن معنى لحياتهم، نجد أن التشخيصات النفسية تقوم بوظيفة مشابهة، لكنها أكثر عمقًا وأشد تأثيرًا. فقد عبّرت بيج لايل في كتابها عن لحظة التحول التي عاشتها عندما أخبرها طبيبها، وهي في الخامسة عشرة من عمرها، بأنها مصابة باضطراب طيف التوحد. لقد كان وقع هذه الكلمات عليها أشبه بالتحرر، فقد أدركت أنها ليست "مجنونة"، كما كانت تخشى، بل هناك تفسير علمي لما تمر به. كانت تلك اللحظة، التي جاءت في منتصف سرديتها، بمثابة مفترق طرق، إذ أعادت تشكيل نظرتها لنفسها، وأضفت معنى على ما كان يبدو لها من قبل كأنه محض فوضى واضطراب.
ويكشف سرد بيج لايل عن أن التشخيص لم يكن مجرد تصنيف طبي، بل كان بمثابة إطار جديد لفهم ماضيها. فقد ظلت منذ طفولتها تشعر بأنها مختلفة، وكانت ترى نفسها طفلة غريبة، كثيرة البكاء، تعاني من قلق دائم، حتى إنها رغبت في الموت أكثر من مرة. ومع ذلك، لم يمنعها ذلك من تحقيق نجاح أكاديمي لافت، وإن كانت تجد صعوبة دائمة في فهم "ما بين السطور" في النصوص الأدبية، كأنها تعيش في عالم له منطقه الخاص، الذي لم يكن أحد يدركه سواها.
في عام 2020، قررت بيج لايل أن تخوض معركتها ضد المفاهيم المغلوطة بطريقتها الخاصة، فاختارت منصة TikTok ساحةً لطرح أفكارها. لم تكتفِ بأن تروي تجربتها، بل واجهت مباشرة أولئك الذين يستخدمون كلمة "توحد" مرادفًا للغباء. بابتسامة واثقة ونبرة لا تخلو من تحدٍّ، قالت: "مرحبًا، أنا مصابة بالتوحد، وأنا أيضًا أذكى شخص قابلته على الإطلاق." لم يكن هذا مجرد رد على إساءة استخدام مصطلح، بل كان انقلابًا على الصورة النمطية التي حصر بها المجتمع الأشخاص التوحديين لعقود. ومع مرور الوقت، تحولت لايل إلى واحدة من أكثر الأصوات تأثيرًا في التوعية بالتوحد، مستغلة منصتها في إعادة تعريف ماهية التوحد باعتباره طيفًا متنوعًا لا يقبل القوالب الجاهزة.
ولكن، هل يقتصر الأمر على مجرد مصطلحات؟ أليس الخلاف بين من يفضلون قول "شخص مصاب بالتوحد" ومن يصرون على استخدام "شخص توحدي" خلافًا لغويًا بسيطًا؟ الواقع أن الأمر أعقد من ذلك بكثير. فالكلمات هنا ليست مجرد عبارات حيادية، بل تعكس نظرة عميقة إلى الهوية ذاتها. بالنسبة إلى لايل، التوحد ليس مرضًا عارضًا ولا صفة يمكن فصلها عن الإنسان، بل هو جزء لا يتجزأ من كيانها. قالت بوضوح: "إزالة التوحد تعني إزالة شخصيتي بأكملها." إنها ليست مجرد مسألة تعريف علمي، بل قضية وجودية تمس جوهر الفهم الذاتي للإنسان.
ولكن، ماذا يعني أن يكون المرء مصابًا بالتوحد؟ هذا السؤال ذاته يتغير مع الزمن. فمنذ عشرين عامًا فقط، كانت نسبة انتشار التوحد في الولايات المتحدة أقل بكثير مما هي عليه اليوم. ووفقًا لمركز السيطرة على الأمراض، فقد تضاعف هذا المعدل أربع مرات. فهل ازداد عدد المصابين فعلًا، أم أن التعريف نفسه قد توسع ليشمل حالات لم تكن تُعتبر من قبل جزءًا من الطيف التوحدي؟ هنا ينقسم الباحثون إلى فريقين: هناك من يرى في ذلك تقدمًا علميًا يعكس قدرة أكبر على استيعاب التنوع العصبي، وهناك من يخشى أن يؤدي هذا الاتساع إلى تمييع المفهوم وجعله بلا معنى. وكما قال تمبل غراندين، الأكاديمي البارز والمتحدث الشهير عن التوحد، فإن "الطيف أصبح واسعًا جدًا، لدرجة أنه بات بلا معنى."
والواقع أن تجربة لايل الشخصية تعكس هذا الجدل بوضوح. فقد أخبرها طبيبها ذات يوم أنه لو جاءت إليه قبل عامين فقط، لما شخّصها بأنها مصابة بالتوحد، بل كانت ستُصنف ضمن فئة "متلازمة أسبرجر". لكن هذا المصطلح لم يعد موجودًا في النسخة الجديدة من دليل التشخيص DSM-5، بعدما تم دمجه في اضطراب طيف التوحد. بالنسبة إلى لايل، لم يكن هذا مجرد تغيير أكاديمي، بل كان بمثابة محو لهويتها. لم تكن وحدها في هذا الشعور، فقد أصيب مجتمع "متلازمة أسبرجر"، الذي كان يضم آلاف الأفراد الذين شُخّصوا سابقًا بمتلازمة أسبرجر، بصدمة مماثلة. قال أحد هؤلاء، وهو رجل بريطاني وجد نفسه فجأة خارج التصنيف الجديد: "إنه لأمر غريب أن تُلغى تسمية واضحة وموجودة بهذه الطريقة." ثم أضاف بمرارة: "أشعر وكأنني نوع منقرض."
وهكذا، لا يتعلق الأمر بمجرد تغيير في الأسماء أو التعريفات، بل بإعادة رسم الحدود بين من يُعتبر ضمن الطيف التوحدي ومن يُستثنى منه. عندما ظهر مصطلح "أسبرجر" لأول مرة في DSM-IV عام 1994، كان ذلك بمثابة فتح جديد في فهم الاختلافات العصبية. نشأت حوله مجتمعات كاملة، مثل "Aspies for Freedom"، التي جمعت في عام 2013 خمسين ألف عضو. لم تكن هذه المجموعات مجرد فضاءات اجتماعية، بل حركات تدافع عن هوية أعضائها وتطالب المجتمع بالاعتراف بهم كما هم. وعندما جاء الإصدار الجديد من الدليل ليطمس هذا التصنيف، كان الأمر أشبه بزلزال ضرب تلك الهوية المكتسبة.
من جانب آخر، يقدم كتابها "لكن الجميع يشعر بهذه الطريقة" صورة صادقة عن معركة فهم الذات في سياق اضطراب طيف التوحد. في هذا النص، تعبر لايل عن أملها بأن يصبح المستقبل أكثر وضوحًا مع تقدم العلم، مؤكدة على أهمية أن يكون التشخيص في يد متخصصين في النمو العصبي، وليس مجرد قرارات تعتمد على مقاييس متغيرة من الأطباء النفسيين. لكنها تُقر بأن هذه الأبحاث قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار الحالي للطيف ذاته.
كان الأمر بالنسبة إلى باتريك غاني أشبه بلغز محير منذ الطفولة، إحساس غامض يرافقها بأن هناك ما يميزها عن الآخرين، لكنها لم تكن تعرف ماهيته على وجه التحديد. كانت في السابعة من عمرها حين جمعت في صندوق صغير أشياء لم تكن لها، ولم تكن ترى في ذلك سرقة بل هواية لا تخلو من متعة. وفي ليلة من الليالي، بينما كانت تقضي وقتًا مع زميلاتها في حفل للمبيت، وجدت نفسها تنسلّ خارج المنزل، تمشي وحدها في شوارع سان فرانسيسكو كما لو أن العالم كله ملعبها الخاص. وفي واقعة أخرى، اشتد بها الغضب فطعنت زميلة لها بقلم رصاص، وكادت الحادثة أن تنتهي بما لا تحمد عقباه لولا أن القدر كان أكثر رأفة من اندفاعها.
في مذكراتها معتلة إجتماعياً: مذكرات، تعترف غاني بأن الغضب والفرح كانا مشاعر مألوفة لديها، لكنها لم تفهم قط معنى التعاطف أو الإحساس بالذنب. كان العالم بالنسبة لها قائمًا على ردود الفعل المباشرة، بلا تأنيب ضمير أو تساؤلات أخلاقية.
وحين دخلت الجامعة، لم تتوقف رغبتها في المغامرة، لكنها اتخذت منحى مختلفًا. لم تكن تسرق السيارات بالمعنى المتعارف عليه، بل أقنعت زملاءها المخمورين بإعارتها مفاتيح سياراتهم، ثم كانت تعيدها وكأن شيئًا لم يكن. وفي إحدى المحاضرات، سمعت للمرة الأولى عن مصطلح "الاعتلال الاجتماعي"، فكان أشبه بإجابة انتظرتها طويلًا. تقول: "لطالما شعرت بأنني مختلفة، لكن الآن أدرك أن هناك آخرين يشبهونني، وأن هناك فئة كاملة تعكس تجربتي."
ولكن، هل الاعتلال الاجتماعي مفهوم واضح في علم النفس؟ ليس تمامًا. فقد ظهر المصطلح أول مرة في الطبعة الأولى من دليل التشخيص والإحصاء للاضطرابات النفسية (DSM) ليشمل مجموعة واسعة من الأشخاص، من المنحرفين أخلاقيًا إلى المدمنين، لكنه اختفى لاحقًا في الطبعة الثانية، وحلّ مكانه "اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع". ومنذ ذلك الحين، ظلّ المصطلح متداولًا في الأحاديث العامة، لكنه غائب عن التصنيفات الرسمية. بعض الباحثين ربطوه بإصابات في الدماغ تؤدي إلى سلوكيات اندفاعية، بينما رآه آخرون امتدادًا لشخصيات لا تكترث بالقواعد الأخلاقية. وفي كتابها المعتل الاجتماعي المجاور، عرّفته مارثا ستاوت ببساطة على أنه غياب الضمير. أما غاني، فترى أن المصطلح، رغم غيابه عن DSM، يعبر عن واقع حقيقي، وتعتبره بديلًا أكثر دقة من "معاداة المجتمع"، الذي ترى فيه التباسًا لا يخدم حالتها.
لكن هل يمكن الوثوق بشهادتها؟ هنا يتسلل الشك. ففي مقدمة كتابها، تصرّح بكل وضوح أن "القصة التي ستقرأها حقيقية"، لكنها سرعان ما تضيف: "أنا كاذبة"، بل وتصف نفسها بـ"المتلاعبة". هذا التناقض ينسحب أيضًا على ادعاءاتها العلمية، إذ تزعم في أكثر من موضع أنها حاصلة على درجة الدكتوراه وأجرت أبحاثًا موسعة، لكنها لا تقدم أي استشهادات علمية تدعم ذلك. ورغم صحة حصولها على الدكتوراه، فإن عدم العثور على أي من أوراقها البحثية في قواعد البيانات العلمية أثار تساؤلات حول مصداقيتها.
إذا سلّمنا بروايتها، فإن غاني تعيش في حالة من الاغتراب الدائم، لا هي تنتمي إلى فئة "اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع" وفق DSM-IV، ولا هي تندرج ضمن تعريف "الاعتلال النفسي" وفق مقياس هير. ومع ذلك، ترفض غاني أن تُحصر في قالب واحد، فهي تجمع بين لامبالاتها التامة برأي الآخرين، وبين حاجتها العميقة إلى رضا والدتها. تتحدث عن الحب وكأنه شعور لا تفهمه، لكنها تعترف بأنها تشعر بشيء يشبهه تجاه عائلتها وحيوانها الأليف. تنكر اهتمامها بالأخلاق، لكنها تضع لنفسها قاعدة منذ المراهقة: "لا تؤذِ أحدًا."
هذا التناقض هو جوهر مذكراتها. فهي تلجأ إلى التصنيفات السريرية لتفهم نفسها، لكنها تجد صعوبة في التوفيق بين طبيعتها وهذه القوالب العلمية. تشعر بالإحباط لأنها لا تختبر العواطف كما يفعل الآخرون، لكنها ترى في ذلك فرصة لإعادة تعريف ذاتها، فتبتكر مفهومًا جديدًا: "اضطراب الطيف الاجتماعي المعتل"، حيث تجد في هذه التسمية اعترافًا بوجودها، ومكانًا مشروعًا لها في عالم تحاول أن تفهمه ويفشل هو في فهمها.
ولئن كان الاعتلال الاجتماعي قد أثار الجدل في تصنيفه، فإن اضطراب الشخصية الحدّية (BPD) يزيد الأمر التباسًا وتعقيدًا، إذ يتجاوز حدود التصنيفات التقليدية التي وضعها الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM). فهو اضطراب لا يستقر على حال، يتموج كما تتموج الأمواج الهائجة في يوم عاصف، فتجده يتبدّى في تقلبات حادة للمزاج، واضطراب في الصورة الذاتية، وتوتر دائم في العلاقات الشخصية. ولعل عالمة النفس مارشا لينهان لم تبالغ حينما وصفته بأنه "حروق نفسية من الدرجة الثالثة"، حيث يصبح أي احتكاك، مهما بدا طفيفًا، مصدرًا لألم لا يُطاق.
ولعل القارئ يتساءل: من أين جاء هذا المصطلح؟ ومن الذي صاغه لأول مرة؟ الحق أن هذا الاسم لم يظهر اعتباطًا، وإنما يرجع إلى المحلل النفسي أدولف ستيرن، الذي استخدمه عام 1937 ليصف حالات استعصت على التصنيف، فلم تكن تندرج بوضوح تحت العصاب، ولم تكن تنتمي بشكل قاطع إلى الذهان. ثم، بعد عقود من الزمن، وجدت لجنة DSM-III نفسها في مأزق، إذ حاولت تمييز هذا الاضطراب عن غيره من الاضطرابات المشابهة، كاضطراب الشخصية النرجسية والمسرحية، فوجدت نفسها أمام شبكة متداخلة من السمات والتشخيصات. وهنا يتدخل دونالد كلاين، أستاذ الطب النفسي بجامعة كولومبيا آنذاك، ليشير إلى أن المصطلح لم يكن يومًا ذا حدود واضحة، بل ظل يُستخدم، على مدار الزمن، ليصف طيفًا واسعًا من الاضطرابات. ولا عجب في ذلك، فكيف لاضطراب كهذا أن يُحاصر في تعريف جامد وهو بطبيعته مراوغ، ينأى عن الحدود القاطعة، ويأبى إلا أن يكون متحولًا متغيرًا؟
وفي هذا السياق، يطل علينا آلان هورويتز، الباحث في تاريخ الطب النفسي، في كتابه اضطرابات الشخصية: تاريخ قصير من النرجسية والحدّية والمعادية للمجتمع (2023)، متسائلًا عن السبب الذي يدفع DSM إلى التعامل مع اضطرابات الشخصية بوصفها كيانات مستقلة، رغم أن اضطراب الشخصية الحدّية يتسم بعدم الاستقرار العاطفي، وهو ما يتناقض مع الجمود الذي يميز اضطرابات الشخصية الأخرى.
أما ألكسندر كريس، فقد قرر أن يخوض غمار هذا العالم الغامض في كتابه Borderline: The Biography of a Personality Disorder، فنجده يتتبع جذور اضطراب الشخصية الحدّية منذ العصور القديمة، حيث رأى أبقراط في بعض الحالات الهستيرية بدايات لهذا الاضطراب، ومرورًا بالقرون الوسطى حيث وُصمت بعض النساء بالسحر، وصولًا إلى العصر الحديث حيث تُطرح اليوم تشخيصات أكثر حداثة مثل اضطراب ما بعد الصدمة المعقد (P.T.S.D). وكريس، رغم خلفيته المسرحية قبل أن يلتحق بمجال علم النفس، ظل مشدودًا إلى أفكار فرويد، لا يجد في النظريات الحديثة ما يغنيه عن تلك الرؤى التحليلية العميقة.
لكن كريس لا يطلق الأحكام جزافًا، ولا يركن إلى التفسيرات الجاهزة، بل يتأمل طويلًا في محاولات البشر عبر العصور لتسمية هذا الاضطراب، ومعالجته، أو حتى شيطنته. وهو يرى أن DSM، رغم مكانته في الطب النفسي، قد فقد الكثير من عمقه التحليلي، وصار أشبه بكتاب مقدس تُؤخذ أحكامه على محمل التسليم دون تمحيص، حتى إن الأمراض النفسية تُعرّف فيه لا لشيء إلا لأن الكتاب قال بذلك. ولذا، يتساءل كريس في لحظة تأمل: "أليس الأجدر بنا أن نتحرر من هذا العالم المصطنع من الفئات الجامدة، ونبحث عن رؤى أكثر اتساعًا؟"
غير أن كريس، وهو العارف بدهاليز هذا العالم، لا ينكر أن التصنيفات النفسية لم تعد محصورة في الكتب والأبحاث، بل امتدت إلى الفضاء الرقمي، حيث تتشكل مجتمعات على الإنترنت، مثل subreddit r/BPD، لتصوغ من هذه التشخيصات هويات فردية واجتماعية، فيدفع ذلك كثيرًا من الناس إلى تشخيص أنفسهم بأنفسهم. لكنه يخشى أن يتحول هذا الأمر إلى تبرير لسوء السلوك، حيث يستغل البعض هذه التسميات للاحتماء من المسؤولية، تمامًا كما فعل الموسيقي آبي ويمز حين استخدم تشخيصه الشخصي ليبرر تصرفاته المؤذية.
لكن أعجب المفارقات، كما يرى كريس، أنه، رغم اعتراضاته على نظام DSM، لا يستطيع الفكاك منه. فهو، في نهاية الأمر، متخصص في اضطراب الشخصية الحدّية، والطلب على هذا التخصص قائم، والمجال المهني لا يعترف إلا بالتسميات الرسمية. وإذ يواجه هذه الحقيقة، يقول كريس متأملًا: "أدرك تمامًا أن اضطراب الشخصية الحدّية ليس سوى انعكاس لحالات إنسانية شائعة، لكنه، رغم ذلك، ظلّ يجذبني، وظللت أرغب أن أكون مرجعًا يُستشار فيه." وهكذا، يجد نفسه، كغيره من الباحثين، أسيرًا للفئات التي طالما اعترض عليها.
ولكن إذا كان التصنيف الحالي قاصرًا، غارقًا في الفوضى، فماذا يكون البديل؟ لقد كان هذا السؤال مطروحًا في الأوساط العلمية، حتى جاء عام 2015 بما فيه من خيبة أمل صاحبَت إصدار DSM-5، فاجتمع ثلاثة من علماء النفس – ديفيد واتسون، وروبرت كروجر، ورومان كوتوف – وقرروا أن يضعوا حدًّا لهذه الفوضى. لم يكن اجتماعهم لمجرد النقاش أو تبادل الآراء، بل خرجوا بمقترح لنظام جديد، أطلقوا عليه اسم التصنيف الهرمي لعلم النفس المرضي (HiTOP)، كأنهم أرادوا أن يبنوا هرمًا جديدًا ينظم عالم الاضطرابات النفسية بعد أن ضاقوا ذرعًا بحدوده القديمة.
لم يكن هذا النظام مجرد إعادة ترتيب للفوضى السابقة، بل كان قفزة نوعية، إذ رفض التقسيمات الحادة التي اتسم بها DSM، وسعى إلى بناء هيكل مرن، تتداخل فيه الأعراض والسمات، لتكوّن متلازمات متشابكة، تصعد في تدرج هرمي من "عوامل فرعية" إلى "أطياف"، ثم إلى "أطياف فائقة"، حيث يصبح القياس مستمرًا لا متقطعًا، فتُلغى الحدود الصارمة بين الحالات، ويُستعاض عن التصنيفات الجامدة بأبعاد متحركة. وهكذا، لم يعد القلق والاكتئاب مجرد اضطرابين منفصلين، بل انضويا تحت طيف "الاستيعاب"، ولم يعد التثبيط والعدوان سوى تفرعين ضمن طيف "الخارج"، بينما وجد "اضطراب التفكير" مكانه حيث تجتمع الأعراض الذهانية ببعض سمات الاضطراب ثنائي القطب.
وربما كان أعظم ما يقدّمه HiTOP، كما يقول مبتكروه، أنه لا يقف عند حدود التصنيفات الموروثة، بل يعيد رسم الخريطة النفسية على نحو يعكس حقيقة الحالات لا على نحو يسطّحها. فكم من مريض وجد نفسه عالقًا بين تصنيفين، فلا هو يستوفي شروط هذا، ولا يندرج تمامًا تحت ذاك، فيظل يعاني، غير قادر على الحصول على تشخيص دقيق. وها هو HiTOP يفتح له الباب ليُفهم على حقيقته، دون أن يُسحق بين شقّي رحى التصنيفات التقليدية. ثم إن أنصار هذا النظام يدّعون أن بنيته أكثر انسجامًا مع آخر الاكتشافات في علم الوراثة وعلم الأعصاب، وهو ما جعل هذا النظام يلقى اهتمامًا واسعًا، حتى استُشهد بمقاله التأسيسي نحو ثلاثة آلاف مرة في غضون سبع سنوات، بينما ازداد عدد داعميه أربعة أضعاف.
ولكن، كما هي حال كل فكرة ثورية، لم يَسلَم HiTOP من النقد. فهناك من يرى أنه، رغم ما يدّعيه من شمولية، ليس إلا محاولة أخرى لرسم خريطة للنفس البشرية اعتمادًا على قواسم سطحية لا تغوص إلى الأعماق. وهناك من يعترض على اعتماده، في جزء كبير منه، على التقارير الذاتية للأعراض، وهي بطبيعتها مشوبة بالتحيز والغموض. أما أشد الانتقادات، فهي تلك التي تقول إن هذا النظام، رغم طموحه، ليس إلا استبدالًا لتجريدات قديمة بأخرى جديدة، فلا هو كسر القوالب، ولا هو أعاد تعريفها بصدق.
غير أن المسألة هنا تتجاوز الجدل الأكاديمي. فالنفس البشرية، كما يرى بعض الباحثين، قد تتشكل أحيانًا وفق التصنيفات التي تُلصق بها. وقد لاحظت والدة "لايل" – وهي فتاة شُخّصت باضطراب طيف التوحد – أن ابنتها، بعد التشخيص، صارت تتصرف بمزيد من سمات التوحد، فقالت لها ذات مرة: "لقد أصبحتِ أكثر توحدًا منذ أن أخبرك الطبيب بذلك!" لم يعجب هذا التعليق "لايل"، بل رأت فيه سوء فهم صارخًا، فكتبت في مذكراتها: "أكره أن يظن أحد أنني أختلق الأمر." لكن هذه الظاهرة ليست مقصورة على حالتها، بل تمتد إلى البشر جميعًا، إذ ينغمس المرء في الصورة التي تُرسم له، حتى يجد نفسه، بوعي أو دون وعي، متقمصًا الدور الذي منحه إياه التشخيص.
وليس التاريخ ببعيد عن هذه الأمثلة. ففي عام 2006، أصيب مئات من طلاب مدرسة مكسيكية بألم غامض في الساق، انتشر بينهم بسرعة مذهلة، دون تفسير طبي واضح. وفي القرن الخامس عشر، ظهرت في أحد الأديرة الألمانية راهبة راحت تعضّ زميلاتها، ثم سرعان ما انتشر هذا السلوك في أديرة أخرى امتدت من هولندا إلى إيطاليا. وليس هذا سوى مثال على ظاهرة تحدث على مر العصور، حيث تتخذ الاضطرابات النفسية أشكالًا تتناسب مع السياقات التي تُوضع فيها. ويشير الفيلسوف إيان هاكينغ إلى أن هذا قد يفسّر تفشي اضطراب الشخصية المتعددة خلال أواخر القرن العشرين، بل إنه يرى أن انتشار اضطراب الهوية الانفصامية اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي ليس سوى إعادة إنتاج لنمط قديم، حيث يجد بعض الأفراد أنفسهم مدفوعين إلى تبني شخصيات متعددة، لا لأنهم يتظاهرون، بل لأنهم ينغمسون في الفكرة حتى تصير جزءًا منهم. وهذا ما لاحظه كريس في أحد مرضاه، وهو شاب اكتشف اضطراب الهوية الانفصامية أثناء زيارة إلى هاكو، ثم بدأ، تحت إغراء الفكرة، في تبنّي شخصيات متعددة. يعلّق كريس قائلًا: "لم أعتقد أنه كان يدّعي الأمر؛ بدا وكأنه يريد بالفعل أن يصبح لديه ذوات متعددة، حتى لو اضطر لإقناع نفسه والآخرين بحقيقتها."
إن كل تصنيف جديد ينشأ في ظل التصنيفات القديمة، ويحمل معها ظلالًا من الماضي، شاء مبتكروه ذلك أم أبوا. فالناس الذين اعتادوا أن يُفهموا وفق أنماط محددة، يجدون صعوبة في إعادة تعريف أنفسهم وفق مفاهيم جديدة. ولذلك، فإن أنظمة مثل HiTOP، إذا لم تدرك هذا البعد الإنساني العميق، فقد لا تكون أكثر من محاولة أخرى لإعادة إنتاج قيود الماضي بقالب حديث. فالتشخيص النفسي ليس مجرد تصنيف علمي، بل هو أيضًا خطاب قوي، يحمل في طياته سلطة أخلاقية، ويعيد تشكيل هوية من يُمنحونه. وكما تساءلت "لايل" ذات مرة: "كيف لي أن أميّز بين ما أكونه فعلاً، وما أقنعني التشخيص بأنني عليه؟"
مترجم من newyorker بقلم Manvir singh